![]() |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
أطفال بيت لحم الشهداء بدأ العهد الجديد بشهادة فاخرة للمسيح يسوع، تزامنت مع ميلاده الإلهي، إنها شهادة شُهداء بيت لحم الأطفال الذين استُشهِدوا من أجل المسيح دون أن يدروا وهم لم يعرِفوا أن يتكلموا بعد، وذويهم يبكون موتهم كشُهداء، والمسيح جعلهم خليقين بأن يكونوا له شهودًا، مُتسربلين بالثِياب البِيض كجيش... أي هبة عظيمة هذه!! وبأي استحقاقات فاز هؤلاء الأطفال بالنُّصرة؟ إنهم وهم لم يعرفوا أن يتكلموا بعد صاروا شهود إيمان للمسيح وإذ أعضاؤهم لم تَزَل غضَّة لم تكن كُفئًا لخوض المعارِك بعد، إلاَّ أنهم فازوا بإكليل النَّصر.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
مفهوم كلمة "شاهد" استُعمِلت كلمة ”شاهِد“ في العهد الجديد كما يتضح في (مر 14: 63 ؛ مت 26: 65)، بمعنى الشهادة أمام القضاء والمُحاكمات لذلك صاح رئيس الكهنة قائِلًا: ”ما حاجتنا بعد إلى شهود“، كذلك الحال في أعمال الرسل (6: 13) عن شهادِة الزور التي أُقيمت ضد إستفانوس رئيس الشمامِسة، وكذلك جاء لكلمة ”شاهِد“ استعمال هام في رسالِة بولس الرسول ”أمسِك بالحياة الأبدية التي إليها دُعِيت أيضًا واعترفت الاِعتراف الحَسَن أمام شهودٍ كثيرين“ (1تي 6: 12)، وهو اعتراف المعمودية وربما الرسامة التي قَبَلَهَا تيموثاوس وبُناءًا عليها استلم التقليد. ولكن لوقا البشير أعطى كلمة ”شاهِد“ بُعدًا جديدًا عندما ذكر قول السيِّد المسيحلتلاميذه ”وأنتم شهود لذلك“ (لو 24: 48)، وعاد في سِفر الأعمال يُؤكد نفس الحقيقة ”ستنالون قُوَّة للشهادة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شُهودًا“ (أع 1: 8)، فشهادِة التلاميذ تبدأ من أورشليم حتى أقصى الأرض وهي عن وقائِع حياة المسيح وآلامه على الأرض، كما اتضح من أول كرازةلبطرس الرسول بعد حلول الروح القدس مُخاطِبًا الشعب ”يسوع هذا أقامه الله ونحن جميعًا شُهود لذلك. ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامهُ الله من بين الأموات ونحن شُهود لذلك“ (أع 2: 32 ؛ 3: 15). فكان شرط التلمذة للرب يسوع هو ”الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا يصيرُ واحد منهم شاهِدًا معنا بقيامتهِ“ (أع 1: 21 – 22). لقد صار الواقِع الإنجيلي إعلان روحي، فليست الشهادة شهادة لعقائِد ولا لأساطير ولا لتأمُلات ولا لفلسفات بل لأحداث أخذت واقِعها في ظِل التاريخ. فأصبحت الكرازة الإنجيلية شهادة، والشهود لهم صِفة مُميزة إذ عاصروا الأحداث واختيروا خصيصًا لهذا الغرض، واُعطوا كل الإمكانيات التي تُهيِّئ لهم الشهادة بها (لو 24: 48 ؛ أع 5: 32)، وقُوَّة الشهادة رهن لموعِد الآب من السماء لذلك عليهم أن يلبثوا في أورشليم حتى يلبسوها. وبحلول الروح القدس يوم الخمسين انطلقت الشهادة بقوَّة، فالجماعة الرسولية شهود رؤية عاينوا ولمسوا ”يسوع الذي من الناصرة..جَالَ يصنع خيرًا.. نحن شُهود بكل ما فعل“ (أع 10: 38 – 39)، وللتأكيد على المغزى الخلاصي لهذه السيرة مُجمله ”أوصانا أن نكرِز للشعب ونشهد بأنَّ هذا هو المُعيَّن من الله ديَّانًا للأحياء والأموات له يشهدُ جميع الأنبياء أنَّ كل من يُؤمِن به ينال باسمِهِ غُفران الخطايا“ (أع 10: 42-43). ونتقابل مع معانٍ أخرى كثيرة عن الشهادة في حقبِة العهد الجديد، فقد استمرت آلام المسيح الرأس في حياة المُؤمنين به أعضاء جسده المُمجد السِّرِّي، فهم أنبياء العهد الجديد ”فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم“ (مت 5: 12)، وكان لابد لأعضاء جسد المسيح (الكنيسة) أن يُعدُّوا لحَمْل الصليب كشرط للتلمذة والتَّبعيَّة لهم (مر 8: 34 ؛ مت 6: 29 ؛ لو 9: 23)، لكي يحيوا بحسب الروح والإيمان الذي سُلِّمَ إليهم مرة (يه 3). ركِّزِت الأناجيل دومًا على مصير التلاميذ وما ينتظرهم من ألم واضطهاد اقتداءً بالسيِّد والمُعلِّم (مر 13: 9 – 13 ؛ مت 24: 9 – 13 ؛ لو 21: 12 – 19)، وكان بطرس ويعقوب أول مثالين، وإذ ليس التلميذ أفضل من مُعلِّمه لذا كان من الحتمي أن يتألم تلاميذ المسيح كما تألم هو ”إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم“ (يو 15: 20)، فليس للمسيحي على الأرض سوى الآلام والموت ويُؤكد التلميذ بولس أنه سيقوم ويحظى بمجد المسيح ”مُتمثلين بنا وبالرب“ (1تس 1: 6)، وفي سِفر الأعمال وكذا في الرسائِل البولُسيَّة Pauline epistles أي رسائِل بولس الرسول، يتضح الجانِب الكفاري في آلام الإنسان المسيحي، فلم يعُد الاضطهاد سبب حزن أو خوف بعد، بل غدًا متوقعًا كسِمة أساسية للعصر المسيحي الذي يحيونه، بعد أن صار الألم بركة ومجد، والاضطهاد من أجل المسيح فرح وسرور.. ونرى التلاميذ فَرِحين مُتهللين عند بِدء اضطهاد هيرودس أغريباس سنة 44 ميلادية، كما فَرِحوا عندما حُسِبوا مُستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه (أع 5: 41، قابِل 9: 16). كلمة ”شاهِد“ في كتابات القديس يوحنا الرَّائي: ونظرة إلى الاستعمال الخاص لكلمة ”شهادة“ في كتابات القديس يوحنا الإنجيلي نرى كيف تطور مفهوم كلمة ”شهادة“ حتى انتهى إلى إعلان المضمون الأساسي للإنجيل الذي اعتُبِر من وجهة نظر الإيمان واقِع عملي أسَّسهُ الله، واقِع على أعلى مستوى يستحيل التحقُّق منه على مستوى الحدث الأرضي. وقارِئ إنجيل يوحنا ورسائِله يحِس أنَّ كاتِبها شاهِد عيان للأحداث ومُتلامِس معها ”قد رأينا ونشهد ونُخبِركم“ (1يو 1: 2)، فالشهادة للمسيح بحسب فِكْر يوحنا الإنجيلي تعتمِد على الإيمان به ”من يُؤمِن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه“ (1يو 5: 10). |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
القديس إسطفانوس أول الشهداء نتقابل مع كلمة ”شهيد“ لأول مرة بمعناها الكنسي التقليدي ”شهيد“ في قول الرسول بولس عن إستفانوس ”وحين سُفِكَ دم إستفانوس شهيدك كنت أنا واقِفًا وراضيًا بقتله“ (أع 22: 20)، لقد شهد إستفانوس للحق الإنجيلي وقدَّم بُرهانًا على الإيمان المسيحي أقوى من كل شهادة الرؤية والحِس واللمس. فإستفانوس لم يكن ضمن التلاميذ لكن لمَّا اختير ضمن السبعة شمامسة ظهرت قوَّة شهادته في محاورته مع اليهود، وكيف كان يفحمهم حتى امتلأوا حقدًا مُفترين عليه، وفي لحظِة استشهاده ”شَخَصَ إلى السماء وهو مُمتلِئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائِمًا عن يمين الله“، ومن فَرَحه بهذه الرؤية الفريدة صاح للجموع الحاقِدة ”ها أنا أنظُر السموات مفتوحةً وابن الإنسان قائِمًا عن يمين الله“ (أع 7: 55 – 56)، نعم لقد شاهد المسيح في المجد فصار بعد ذلك شهيدًا. وموت المسيح في منظور إستفانوس الشهيد، يُمثِّل ذروة آلام الأنبياء في العهد القديم ”أي الأنبياء لم يضطهدهُ آباؤُكم وقد قتلُوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مُسلِّميهِ وقاتليهِ“ (أع 7: 52)، وامتثالًا بمسيحه صلى رئيس الشمامسة إستفانوس من أجل أعدائِهِ طالِبًا لهم الصفح (أع 7: 60)، لذلك مُنِح أن يرى مجد المسيح في لحظات استشهاده الأخيرة (أع 7: 56)، وكما في رؤيا حزقيال، رأي ابن الإنسان قائِمًا عن يمين الله، فاستفانوس شهيد ونبي، وكان يُلقب ”بالشهيد الكامِل The perfect martyr“ في تقليد الكنيسة في القرن الثاني. وكثيرًا ما أشار الدارِسون إلى مغزى ودلالِة الآيات التي تصِف استشهاد إستفانوس، فعندما بدأ يتحدث مع السنهدرين Senhedrin صار وجهه كوجه ملاك (أع 6: 15)، وهكذا أعلن مجد الله المحفوظ للأبرار الذين سيشتركون في الحكم يوم الدينونة. ونرى في القديس إستفانوس سِمات ثلاث حدَّدها بعض الشارحين فيما بعد تُميِّز الشُهداء وتجعل للكنيسة الحق في إطلاق هذا اللقب عليهم:- 1. الامتلاء من الإيمان والروح القدس (أع 7: 5)، فالشهادة للمسيح ليست بالعقل والذاكرة أو بالكلام إنما بالروح القدس روح الحق الذي من عند الله ينبثِق ويشهد للمسيح ويذكُر بكل أقواله وأعماله ”هو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضًا“ (يو 15: 26 – 27)، لأنه لا يقدِر أحد أن يقول أنَّ يسوع رب إلاَّ بالروح القدس (1كو 12: 3)، لذلك لم يحظَ إستفانوس بمجرد رؤية لما لا يُرى بل قدَّم دليلًا على انسكاب الروح القدس الذي كان بدوره يُعلِن نهايِة الدهر بحسب التقليد. 2. الكرازة بالمسيح والمُجاهرة العلانية بالإيمان، والدعوة للتوبة ونوال نعمة المعمودية على اسم المسيح (أع 7: 37، 51). 3. تقديم الحياة بالكامِل كبرهان على صِدق الشهادة بالصلاة والصفح وطلب الغُفران وعدم التذمر ورؤيِة المجد العتيد بفرح (التجلي الرؤيوي)، تلك هي الشهادة لآلام المسيح وشَرِكَة المجد العتيد أن يُعلن. الكرازة الإنجيلية والشهادة في بدايات المسيحية: ارتبط تحمُّل الآلام من أجل الإيمان والكرازة في ذهن القديس بولس بعمل الشهادة witnessing للإيمان، فلكلٍ منهما نفس الدرجة من الأهمية وهما مُتحايكين معًا لا ينفصِلا عن بعضِهما البعض. فبعد صعود السيِّد المسيح، استمرت الشهادة خلال الروح القدس الذي يشهد للمسيح (يو 15: 26)، ويتكلم على أفواه المسيحيين عندما يقفون أمام الوُلاة والملوك، تمامًا مثلما تكلم قديمًا على أفواه الأنبياء. وقد كان المجيء الثاني، في فِكر المسيحي الأول، يتضمن استعلان المسيح كقاضي المسكونة كلها، الذي سيأتي إلى العالم في نار لهيب ويُجازي لأنَّ له النقمة على الذين لا يعرفونه، يسكُب سخطه ونقمته على الأمم التي لم تعرِفه (أر 10: 25). وقُرب نهايِة القرن الأول، عندما كان الاضطهاد قد بدأ فعلًا، كتب الرسول بولس رسالته إلى العبرانيين، وكتب يوحنا الرائي رؤياه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى).وهو منفي في بطمُس، وكلاهُما (أي العبرانيين والرؤيا) يُلخِص ويُقدِّم لنا رؤيِة الكنيسة الأولى للاستشهاد، بعد أن اصطبغا بالصبغة المجيئية الانقضائية (الأسخاتولوچية). |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين يتضح في رسالِة بولس الرسول إلى العبرانيين الارتباط المُباشِر بين آلام وموت المسيحيين وبين طبيعة وموت المسيح الكفارية ويستهِل بولس الرسول رسالته بأنَّ المسيح قد مات (عب 1: 3) لأنه بدون سفك دم لا تحصُل مغفرة (عب 9: 22)، والمسيح ربنا المُصارِع العظيم الذي غلب الشيطان وسحق رأسه إلى الأبد وجعلنا نتحارب مع عدو مهزوم بعد أن انتزع الغلبة لحسابنا وطرحه أرضًا هو ذبيحة كل الذبائِح.. لقد صار المسيح كمال الذين يشهدون للحق بالإيمان، فسدُّوا أفواه الأُسود (11: 33)، ورُجِموا ونُشِروا (11: 37) (إشعياء النبي)... إنها إشارة إلى المسيح رئيس الإيمان ومُكمِّلهُ الذي احتمل الآلام من أجل السرور الموضوع أمامه.. وتلك هي دعوتنا أن نُحاضِر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا (12: 1) وأن نُقاوِم حتى الدم مُجاهدين ضد الخطية (12: 4)، لأنَّ الارتداد هو دوس دم ابن الله (10: 29)، هو خطية جميع الخطايا وأفظعها. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في سفر الرؤيا يكتُب لنا القديس يوحنا في سفر الرؤيا من منظور مَنْ عاين نهايِة الدهر، ورأى ملكوت الله قد أتى فعلًا، لقد كان هو نفسه منفي من أجل كلمة الله ومن أجل شهادِة يسوع المسيح (1: 2)، لذا فقد كانت له شَرِكَة في مصير هؤلاء الذين شهدوا فعلًا (6: 9 ؛ 12: 17 ؛ 20: 4)، وفي نظرته إلى حِفْظ وصايا الله وإلى الشهادة ليسوع المسيح كان يراهُما شيئًا واحدًا (12: 17)، وكانت الشهادة Witness بالنسبة له، هي السبيل إلى الاستشهاد Martyrdom. ورأى تحت المذبح نِفوس الشُهداء (6: 9)، وأنتيباس الأمين الذي اضطهده أوچين ففاز بإكليل الشهادة (12: 13)، بدم الخروف وبسبب كلمة الشهادة حتى الدم. لقد طالب الشُهداء بالانتقام ”حتى متى أيها السيِّد... لا تقضي وتنتقِم لدمائِنا“، لكن هناك العتيدين أن يقتلُوا مثلهم وهكذا امتدت الشهادة وستمتد إلى مجيء المسيح عندما يشترِك معه الشُهداء في القضاء فيُلقي عَبَدِة الأوثان في البُحيرة المُتقِدة بالنار والكبريت الذي هو الموت الثاني (21: 8). |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في المنظور الكنسي إنَّ الشُهداء تابِعون للمسيح ربنا الشهيد الأول الذي أطاع حتى الموت موت الصليب، ووضع نفسه طواعية باختياره وإرادته ”لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخُذها أيضًا“. لذلك قَبَل الشُهداء الآلام بإرادتهم محبة فيمن مات من أجل خلاصِهِم فبكَّروا إلى ساحات العذاب باختيارِهِم وقبولهم ”التكريس والاختيار“، إنه التعبير عن المحبة الصادِقة المُكرسة والمُخصصة للمسيح، التي هي ركيزة حمل الشهادة لمُخلِّصنا الصَّالِح، إنه تقديس النَّفْس وتقديمها إيجابيًا بالموافقة والقبول الكامِل، لأنَّ الشهادة أولًا وقبل كل شيء مُشاركة واتحاد مع المسيح الذبيحة الكاملة الحقيقية والتي بدونها لن تُقبل أيَّة ذبيحة، إنه الاتحاد الكياني والصميمي بشخص المسيح ربنا وإلهنا ومُخلِّصنا ومَلِكنا كلنا. هؤلاء الشُهداء غلبوا الشيطان بدم الحمل وبكلمة شهادتهم ولم يحبُّوا حياتهم حتى الموت، وحفظوا لنا وديعة الإيمان مع كل سحابِة المُعترفين، وديعة نقية بلا عيب أو انحراف، لذلك لاقوا الكثير من الأهوال والأتعاب لأجل ثباتِهِم في الإيمان المُسلَّم مرَّة للقديسين.. وفي الوقت الذي كان فيه الوُلاة والحُكام يتفننون في تعذيبهم، كانت الكنيسة ثابتة صامدة غير مُتزعزِعة... وبالرغم من نهش الذئاب لها، كان الحِملان في السراديب تحت الأرض يصلُّون ويتقدمون للأسرار، ويصومون (جماعيًا) من أجل هذه الذئاب!!! فالكنيسة في مُستودع الشُهداء وأُم الشُّهداء جميعًا، التي أعدَّت من أولادها قديسين وجعلت من أعضائها شهود وشُهداء، غرست فيهم التلمذة على الإنجيل ورضَّعِتهم لبن العقيدة العديم الغِش، ودرَّبِتهم على النُسك والبتولية والأصوام، وعلَّمتهم المحبة والصلاة والسلوك بوداعِة الحِملان، وجعلتهم يُمارِسون الشَرِكَة والأغابي والتسبيح ورعايِة المُحتاجين ومُساندة الأعضاء الضعيفة والمُرتدَّة... لذلك اجتمع شعب إسنا كله مع أسقفه، وتناولوا من الأسرار الإلهية استعدادًا لمعركِة الاستشهاد، فدم يسوع المسيح هو الذي أعطى للشهادة قُوَّة وجسارة عجيبة، دم المسيح المسفوك في كأس التناول هو الذي يُعطي للشُّهداء القُدرة على سفك دمائِهِم، جسد المسيح المكسور على المذبح من أجل خلاصنا في الصينية، هو الذي يهِبهُم النعمة والقوَُّة والمعونة والغلبة وشَرِكَة الحياة الأبدية وعدم الفساد وغُفران الخطايا... |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الاستشهاد سرّ كنسي تعتبِر الكنيسة شهادِة الدم معمودية، فهي سِر من أسرارها يُعادِل سِر المعمودية، والموعوظ الذي يُسفك دمه قبل أن يتعمَّد يُحسب استشهاده عِمَادًا (حسب تعبير المُدافِع ترتليان). فالاستشهاد صبغة أي (بابتِزما) معمودية، لذلك يقول العلاَّمة ترتليان في مقال (ترياق العقرب) الذي كتبه ضد الغنوسيين الذين يُسميهم بالعقرب لأنهم كانوا يستهينون بالاستشهاد: ”إنَّ الاستشهاد ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية“. ويقول العلاَّمة أوريجانوس السكندري عن الاستشهاد بسفك الدم باعتباره واسِطة للنعمة، إنه ”واحد من سبع طُرُق لمغفِرة الخطايا“، ويقول أيضًا ”عالمين أنَّ خطايانا التي اقترفناها بعد المعمودية يرفعها استشهادنا بالدم فهو معمودية الدم الثانية“. ويعتبِر العلاَّمة أوريجانوس الاستشهاد امتدادًا لصلاة جحد الشيطان التي نُصليها في ليتورچيا المعمودية، فيقول: ”فإذا كنا قد جحدنا آلهة الأوثان والشيطان، كيف نحنِث ذلك مرة أخرى؟..... وإذا أنكرنا المسيح على الأرض، فسيُنكرنا حتمًا في السماء، أمَّا الذين يعترفون به علنًا، فسيأخذهم معه في الفردوس“. وأكَّد القديس كبريانوس على سرائِرية الاستشهاد عندما قال: ”في استشهاد الموعوظين بسفك الدم تقوم الملائكة بطقس التعميد، لأنَّ عِمَاد الماء هو مغفرة الخطية وعِمَاد الدم هو إكليل الفضائِل...“. ويقول أيضًا القديس كيرلُس الأورشليمي ”أي إنسان لم يقبل المعمودية ليس له خلاص إلاَّ الشُهداء، الذين يدخلون الملكوت بدون الماء، لأنَّ المُخلِّص في تقديمه الخلاص للعالم على الصليب طُعِن في جنبه فأفاض منه دم وماء، فالذين يعيشون في وقت السلام يلزمهم أن يعتمِدوا بالماء، والذين في وقت الاضطهاد يعتمِدون بدمِهِم، لأنَّ الرب اعتاد أن يدعو الاستشهاد عِمَادًا، قائِلًا ”أتشربان الكأس التي أشربها أنا وتصطبِغان (تعتمِدان) بالصِبغة (بالمعمودية) التي أصطبِغ بها أنا“ (مر 10: 38)“. وهناك علاقة سِريَّة حميمة بين سِر الافخارستيا والاستشهاد، فالشهيد إذ يرى في التناوُل السِر الذي تتحقق بواسطته الشَرِكَة مع الله في المسيح يسوع، لأنَّ كل من يأكل منه يحيا به وتكون له الحياة الأبدية ”يُعطَى عنَّا خلاصًا غُفرانًا للخطايا وحياةً أبدية لكل من يتناول منهُ“.يُقبِل على الموت بيقين عدم الموت ورجاء الحياة الأبدية التي لا يقوى عليها الموت، وأيضًا لا تكمُل احتفالات الكنيسة بتذكارات الشُهداء إلاَّ بالافخارستيا. ولأنَّ الاشتراك في سِر الافخارستيا هو شَرِكَة في موت المسيح، وقيامته بالأكل من جسد الرب المكسور ودمه المبذول المسفوك، لذا فمسيرة الشهيد مُتماثلة تمامًا مع وليمة العشاء الرباني، فهي تستمِد كل قيمتها من آلام المسيح ربنا، فيُصبِح المسيح بالنسبة للشهيد ليس الإله الصامِت المُمتلِئ غموضًا بل هو ذاك الذي أدركناه، الذي هو غايِة الطريق، الألفا والأوميجا، الذي بالرغم من أنَّ طبيعته واحدة إلاَّ أنها تطلب كثيرين، ليتمتعوا بغِناه ومجده وشَبَعه وقُوَّته اللانهائية والغير موصوفة. والاستشهاد ذبيحة افخارستيَّة اختبرها القديس أغناطيوس الأنطاكي الذي وصف الاستشهاد وصفًا ليتورچيًا:- ”الشهادة ضحية كفَّارية أُقدِّم نفسي ذبيحة، حِنطة تصير خُبزًا“ لذلك قدَّم الشهيد أغناطيوس نفسه ذبيحة وقُربانًا للذي قدَّم نفسه ذبيحة وقُربانًا من أجلِنا. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في المبنى الكنسي والمذبح في المبنى الكنسي أصبح دعوة للاستشهاد، والتناوُل هو الدُّعامة الروحية لمواجهة تجرُبة الاستشهاد، ومن عصر الاستشهاد المجيد تأتي صلاة تكريس رائِعة، في خدمة ليتورچية سِر المعمودية الخاصة بكنيستنا القبطية أُم الشُهداء، فقبل التغطيس مباشرةً: ”باسم الآب والابن والروح القدس... عبيدك الذين قدَّموا أبنائهم على مذبحك المُقدس الناطِق السمائي رائِحة بخور تدخل إلى عَظَمَتِكَ“. فالوالِدان يُقدِّما أبناءهم ذبيحة للرب، وتُقدَّم كل نفس ذبيحة للمسيح منذ اليوم الأول لولادِتها وعضويتها في الكنيسة، من خلال رَحِم الكنيسة التي هي المعمودية.. فهل نحن نعيش السِّر؟ وهل نعي طقوس كنيستنا ونُدرِك أعماقها المُذهِلة؟ وهل نحن بحق ذبائِح ومذابِح مُقدسة للسيِّد؟ رائِحة بخور تدخل إلى عَظَمَتِهِ.. ويُقدِّم التاريخ الكنسي القبطي المُمارسة العملية لهذه الصلاة، عندما يُحدِّثنا عن الأُم دُولاجي التي قدَّمت أولادها الأربعة ذبائِح حيَّة لله، والشهيدة رِفقة التي استشهدت مع أولادها الخمسة، وكذلك الشهيدة يوليطة التي قدَّمت ابنها كيرياكوس شهيدًا للمسيح، وزكريا الطفل الشهيد الذي من أخميم، الذي أُحرِقَ هو وأبوه وبسببهما آمن كثيرون. ولأنَّ الكنيسة كنيسة شهادة شُيِدَت على دِماء الشُهداء، أي الجماعة الحيَّة، لذلك احتفظ لنا القديس إيرينموس چيروم باسم جميل لمبنى الكنيسة وهو ”مجمع الشُهداء أو Conciliabula Martyrum“، الذي كان يُزيِّن بالزهور وأغصان الشجر في المناسبات الخاصة بتذكارات الشُهداء.. واحتفظ لنا المُؤرِخون المسيحيون في القرن الرابِع بحقيقة هامة وهي إكرام الشُهداء، وكانت الكنيسة الجامِعة في كل مكان تشعُر بجِراح الاضطهاد، ولكنها كانت ترفع رأسها في اعتزاز، فقد خرجت من حمَّام الدم مُعترِفة بالإيمان الرسولي، ولذلك عندما جاء السلام بمشور ميلان سنة 317 م، الذي سمح للمسيحيين بممارسة عبادتِهِم، سارعوا بالبحث عن أماكن استشهاد الرُّسُل والآباء الذين ماتوا تحت التعذيب، وأقاموا عليها كنائِس كانت تُسمَّى Martyrium، وهكذا سجَّل لنا المُؤرِخ الكنسي أڤاميا في مدينة خلقدونية، أنه قد دُفِنَت شهيدة في نفس الكنيسة التي عُقِد فيها مجمع خلقدونية 451 م، بل سجَّل لنا يوسابيوس المُؤرِخ أنَّ كنيسة القيامة التي بناها الإمبراطور قسطنطين الكبير كانت تُسمَّى ”شهادِة المُخلِّص Martyrium Salvatoris“ لأنَّ رأس الكنيسة وعريسها الذي اقتناها له بالدم الكريم، أكمل عمله الخلاصي بالاستشهاد والشهادة. وهكذا اجتهد الإمبراطور قسطنطين بإقامِة عدد من الكنائِس في القسطنطينية جمع فيها ما أمكن الحصول عليه من أجساد الشُهداء. وعن هذه الحقيقة التاريخية يقول القديس أُغسطينوس أسقف هيبو: ”نحن لا نُشيِّد معابِد للشُّهداء كأنهم آلهة، وإنما نحن نُشيِّد أماكِن للتذكار لأنهم وإن كانوا قد ماتوا بالجسد، إلاَّ أنَّ أرواحهم حيَّة في المجد.. كما أننا لا نبني المذابِح في هذه الأماكِن لكي نُقدِّم عليها ذبائِح للشُّهداء لأننا لا نُقدِّم ذبائِح إلاَّ لإلهُّم وإلهنا وربنا ورب الجميع“. ومدح القديس أُغسطينوس أحد كهنته المعروف باسم أراديوس Eradius لأنه بنى كنيسة تذكارًا لشُهداء شمال أفريقيا على نفقته الخاصة. وإذا عُدنا إلى الوثائِق القديمة المُعاصِرة للاضطهاد، لوجدنا أنَّ سبب بُناء هذه الكنائِس إنما يعود إلى اضطهاد دقلديانوس، حيث كانت أغلب اجتماعات الكنائِس تُعقَد في المقابِر وحيث كانت كلمة ”المقابِر“ مُرادِف لاسم الكنيسة. وهذا الارتباط (بين الكنيسة والمقابِر) ارتباط تاريخي فقبل منشور ميلان كان المسيحيون يهربون إلى المقابِر ليُتمِّموا الصلوات والليتورچيات بها هربًا وخوفًا وتقديسًا للأسرار التي قد يعتدي عليها الأُمميون – راجِع القانون 34 من قوانين مجمع Eliberis وهو مجمع مكاني صغير عُقِد أثناء شدة الاضطهاد في عهد دقلديانوس – وهذا هو السبب في وجود تشريعات رومانية قديمة صدرت أثناء اضطهاد دقلديانوس، تمنع عقد اجتماعات في المقابِر وهو ما جاء في المُدونة القانونية الرومانية تحت بند (اجتماعات المقابِر): ”بخصوص اجتماع المسيحيين في المقابِر يمنع بُناء معابِد فوق القبور أو أن تُزيَّن هذه القبور بزينة خاصة، أو أن يحضر أسقف أو من يرأس اجتماع أو أن تُقام صلوات أو طقوس من أي نوع“..وبسبب هذه العادة القديمة ظهرت الكنائِس في المقابِر في عصر السلام، ومن المعروف أيضًا أنَّ القديس أُغسطينوس كان يعِظ في الكنيسة التي بُنِيَت فوق المكان الذي استشهد فيه القديس كبريانوس، والذي كان يُعرف باسم (قبر أو مزار كبريانوس) وهو الاسم الذي وُرِد في مجموعة عظات القديس أُغسطينوس (راجِع عظة 94، 237 في شرح المزمور 38 والتي أُلقِيَت في Cypriani Mensam مزار كبريانوس). ومن المعروف أيضًا أنَّ هذا المزار ضم أيضًا نفس المذبح الذي كان القديس كبريانوس الشهيد يُصلي عليه، والذي نُقِل إلى مكان استشهاده، ووُضِع في المزار حسب شهادِة القديس أُغسطينوس – (عِظة 113 من مجموعة العِظات المُتفرقة، المُجلد الخامِس عامود 1250 من كتابات أُغسطينوس) – حيث يقول: ”أنَّ أهل قرطاچنة اجتمعوا اليوم هنا في مزار الله حيث قبر الشهيد كبريانوس القرطاچي، في يوم الاحتفال بتذكار استشهاده“. ويذكُر أيضًا القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية: ”أنَّ شعب مدينة كاملة يخرُج كله مُسرِعًا إلى المقابِر حيث كنائِس (قبور) الشُهداء“. ويقول بفصاحتِهِ المعروفة ”أننا لا نُفارِق هذه القبور حتى تُستجاب الصلوات، هنا عند هذه القبور يخلع الملوك تيجانهم لكي يصلُّوا إلى الله طالبين النصر.. وهكذا نال الشُهداء والرُّسُل في موتِهِم كرامة الملوك“، ويقول أيضًا في نفس العِظة أنه في مدينة روما نفسها ”يُسرِع الملوك والأُمراء وكل العُظماء وقُوَّاد الجيش للصلاة في قبر صياد السمك (بطرس) وصانِع الخِيام (بولس)، أمَّا في القسطنطينية فإنَّ العُظماء من الملوك الذين يلبِسون التيجان، كانوا يتمنون أن يُدفنوا بجوار الشُهداء الذين كانوا في حياتهم أحيانًا من الخدم أو العبيد أو صيادي السمك“. وهكذا حوَّل الاضطهاد، القبر إلى كنيسة، وصار مكان الموت والعذاب بُقعة مُقدسة، بل صار اسم القبر مُرادِف للكنيسة والمذبح كما نرى عند سُقراط المُؤرِخ، والقديس البابا أثناسيوس الرسولي، ويبدو أنَّ هذه العادة القديمة بدأت في شمال أفريقيا، لأنَّ أوِّل إشارة لها وردت في كتابات ترتليان (حوالي 195) الذي أشار إلى أن قُنصُل شمال أفريقيا الروماني هو الذي منع المسيحيين من الاجتماع والصلاة في المقابِر، حيث كانت الكنائِس قد بدأت تنتشِر في المكان الذي يُدفن فيه الشُهداء، وفي شرح چيروم لسِفر حزقيال النبي يقول أنه وهو شاب صغير كان يدرس في روما، ويذهب للصلاة يوم الأحد في قبر الرسولين بطرس وبولس. ويربُط القديس أُغسطينوس بين المذبح والذبيحة، وبين جسد المسيح كذبيحة وبين الشُهداء، مُعتبِرًا أنَّ أقدر من يُمثِّل جسد المسيح كذبيحة هم الشُهداء!! لذلك كان المذبح يُسمَّى باسم واحد من الشُهداء، مثل كنيسة أُغسطينوس التي كانت تحتوي على مذبح باسم كبريانوس الأفريقي الشهيد... فالعلاقة والصِلة الروحية بين المسيح له المجد والشُهداء والمذبح هو السيِّد نفسه الذبيحة الباقية إلى الأبد، والذي جمع في نفسه الشُهداء والمُعترفين والقديسين جميعًا، وصار بالنسبة لهم الرأس (أف 1: 22)، الذي تنمو منه كل الأعضاء والتي هي بدورها أعضاء شهيدة تحمِل علامات المسيح وجوهر حياته الغالِبة للموت، هؤلاء جميعًا بسبب المعمودية والافخارستيا يتحوَّلون إلى ذبائِح حيَّة ناطِقة بالشهادة الحَسَنَة أو الموت، لذلك تُقام المذابِح بأسمائِهِم لتشبُّهِهِم بالمسيح المُخلِّص، ويُصبِح القداس إعلان شهادة أو استشهاد نقول فيه ونُردِّد: ”بموتِكَ يارب نُبشِر وبقيامتكَ المُقدسة...“. قبل استدعاء الروح القدس، تضع الكنيسة خِتم الاستشهاد أي الإيمان الصحيح على كل واحد فيها لكي يأتي الروح القدس ويُنير بقوَّتِهِ الإلهية معالِم هذا الخِتم بالذبيحة السماوية أي ذبيحة الشُّكر فيرى كل مُؤمِن كيف صار الحال الذي هو فيه، وكيف أنه مدعو للشهادة والتبشير بموت المسيح والاعتراف بقيامتِهِ وصعوده إلى السموات.. عندئذٍ نتحِد نحن كذبائِح بالذبيحة السماوية من خلال المعمودية والميرون والافخارستيا.. وهذا العالم السرائِري الكنسي (الاستشهاد) ليس لأحد عُذر التهرُّب منه (كما جاء بالدسقولية) لأنه ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية.. وكل المدعوين للمذبح مدعوين ليكونوا ذبائِح، لأنهم ليسوا من هذا العالم بل هم مُواطِنون سمائيون (مواطنيتهم في السماء)، وهم أعضاء إسرائيل الجديد المفدي، مُتحدين بالذبيحة الإلهية خلال المعمودية والافخارستيا.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الروح القدس والاستشهاد ارتبطت كلمة ”شهيد“ في العهد الجديد منذ استشهاد إستفانوس أوَّل الشُّهداء وحتى الآن، بقبول الموت من أجل الاعتراف بالمسيح كإله وخصوصًا إذا كان ثمن هذا الاعتراف هو الحياة كلها، تحقيقًا للقول ”لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس“ (1كو 12: 3). وعلامِة حضور الروح القدس الأكيدة في الاستشهاد هي فرح الشُهداء في الضيق، وحُب المُعاندين، وعدم إدانِة أحد، والابتهاج بالتعبير لأنَّ روح المجد والله يحِل عليهم (1بط 4: 12).. لذلك أدَّى الشُهداء شهادتِهِم بقوة الروح القدس، ومن المُستحيل أن يشهدوا للمسيح ما لم يكن ذلك بالروح القدس، الذي صارت الشهادة والاستشهاد أسمى مواهِبه. ولأنَّ الكنيسة هي بيت الحمامة ومُستودع النعمة، والوسط الفريد والوحيد للروح القدس، لذلك يتربى الشُهداء داخِلها، حيث الروح القدس الذي يُقدِّس الأسرار، فحيث الروح القدس هناك تكون الكنيسة، وحيث الكنيسة هناك الروح القدس، والذين لا يتشاركون في الروح القدس لا يرضعون من لبن أُمهم الكنيسة المُقدسة مُربِيَة الشُهداء، ولا شهادة من غير فِعْل الله القدوس الذي يمنح الشُهداء قُوَّة الشِهادة.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في التاريخ الكنسي القبطي منذ استشهاد الآباء الأولين الرسولين وما بعدهم، والكنيسة تُعيِّد لهم، مُعتبِرة أنَّ يوم شهادتِهِم هو يوم ميلادهم الحقيقي، وهو ما نُسميه ”مولِد الشهيد“ وهذا التعبير قديم في كنيستنا التي تعتبِر موت الشهيد ليس موتًا بل حياة أبدية، ولهذا احتمل الشهيد الذي نُعيِّد لِتذكاره كل عذاب مُستعذِبًا الألم مُحتقِرًا الموت. لذلك نجد التاريخ الكنسي يُقنِّن أعياد الشُهداء ويُحدِّدها كنسيًا، لنجتمِع فيها ونحتفِل بتذكار ميلاد (استشهاد) الشهيد... بالفرح والتهليل مُتذكرين أنواع آلامه فيكون عِبرة لأبناء الكنيسة كلها.. ويتأكد هذا فيما قاله العلاَّمة ترتليان عن بولس الرسول وميلاده ثانيةً بميلاد جديد في روما لأنه جاز آلام الموت هناك.. من أجل هذا حرصت الكنيسة على إقامِة تذكار آلام الشُهداء في أيام استشهادهم مع عمل سِجِلاَت للتأريخ. وكان المُؤرِخون الأوائِل بغِيرة ونشاط زائِد يهتمون بجمع سِيَر الشُّهداء واستوداعها تاريخ الكنيسة، الأمر الذي حفظ لنا قدرًا كبيرًا من أعمال شهادتِهِم.. ويذكُر تاريخنا القبطي أنَّ أوَّل من دوَّن حوادِث الاستشهاد في تاريخ الكنيسة القبطية هو القديس يوليوس الأقفهصي كاتِب سِيَر الشُّهداء الذي عاش في زمن الطاغية دقلديانوس كشاهِد عيان وشهيد، واهتم جدًا بتحديد تاريخ شهادتهم لعمل تذكاراتِهِم الكنسية، وبكتابِة سِيَر أعمال استشهادهم. كان القديس يوليوس الأقفهصي ثريًا ويشغل منصِبًا كبيرًا في الأسكندرية، وأحب خدمة الأعضاء المُتألِمة، فخدم المُعترفين والشُهداء، يزورهم، يخفِّف آلامهم، يسِد احتياجاتهم، ويدفن أجسادهم.. ولأنه كان من الأثرياء، لذا كان يُساعده ثلاثمائة غُلام من الكَتَبَة والمُساعدين استخدمهم في تسجيل سِيَر الشُهداء وكتابتها وكان معه مِئتان من المُؤرخين.. وبعد أن استبقاه الله لهذا العمل العظيم، ظهر له السيِّد له المجد في رؤيا ليمضي إلى سمنود ويشهد له، وهناك صاحب استشهاده أعاجيب مُتنوعة، حتى قُطِعَت رأسه مع آخرين (ألف وخُمسمائة).. مُبارك الله ربنا، الذي استبقاه من أجل ثباتنا وتعزيتنا ومن أجل ملكوته الأبدي الذي أعدُّه للذين يُحبون ظهوره.. ويذكُر التقليد أنَّ سِيَر أعمال شُهداء مصر مُحتواه في سنكسار cuna[arion يُسمَّى بسنكسار الأسكندرية الجامِع أو سنكسار هيرونيموس، الذي يستنِد إلى سِجِل أعمال شُهداء يوسابيوس القيصري المُؤرِخ الكنسي المشهور.. وهناك أربعة تقاويم قبطية تم نشرها بواسطة العالِم ماي Mai، واثنان آخران بواسطة العالِم سلوان، وكذلك توجد أعمال شُهداء جَمَعْها مشاهير مؤرخي الأقباط كان آخرهم الأنبا ميخائيل أسقف أتريب ومليج.. ولِسِيَر الشُّهداء طبيعة تاريخية، تُسمَّى في الأصول التاريخية بأعمال الشُّهداء Acts of Martyrs = Acta Martyrum ويُسجل في هذه الأعمال الحوارات التي دارت في المحاكِم بين القُضاة أو الوُلاة وبين الشُهداء، وأنواع العقوبات، وكل ما حدث من أعمال شهادة كتراث للكنيسة وكِنز للبركة والتقوية والمعونة، فضلًا على تدوين كلِمات الشُهداء والرؤى التي تُعلَنْ لهم.. وهناك تقارير تاريخية ووثائِق كَتَبْها شهود العيان وسجَّلوا فيها بلغتِهِم ما سمعوه ورأوه، وكانت هذه التقارير تعتني بوصف آلام وعذابات الشُهداء وتُسمَّى بلغة التأريخ Passions or Martyria وكذا بعض القصص التي يرويها الآباء عن ظروف الاستشهاد في تعليم الشعب، وهذه القصص تُكتب غالِبًا في زمن مُتأخِر عن زمن الاستشهاد، وتُسمَّى بلغة التأريخ Legend أي رواية تاريخية. وهناك نوعان من روايات الاستشهاد، هما (أعمال) و(آلام) الشُهداء، فأعمال الشُّهداء تتضمن محاضِر جلسات المُحاكمة، والتي تحتوي على أسئِلة السلطات وأجوِبة الشُهداء عليها، مُسجلة بواسطة كَتَبِة المحكمة الرسميين، ثم الأحكام التي نطق بها القُضاة، تلك الوثائِق التي حُفِظَت في دواوين الدولة ومعروفة لدى الكُّتَاب الكنسيين مثل سيرة يوستينوس الشهيد، وسيرِة الشهيد كبريانوس.. وهذه المصادِر لها قيمتها التاريخية التي لا شك فيها بسبب واقعيتها وأصالتها.. أمَّا آلام الشُهداء فهي الروايات التي سَرَدْها شهود العيان المُعاصرين لها، ثم جُمِعَت ودُوِنَت بعد حدوثها بوقت قليل مثل قصة استشهاد بوليكاربوس، الذي سُرِدت سيرته قبل العيد السنوي الأوَّل لذكرى استشهاده... نصوص هذه الوثائِق التاريخية تحمِل لنا الأخبار كما سجلتها اليد الأولى، وتُعطينا أيضًا شهادة صحيحة عن إيمان الكاتِب والبيئة التي كان يتحرك فيها، ووعيه الخاص بتقوى الشُهداء.. وإلى جانِب التأريخ الخاص بالشُهداء، نجد أنَّ سِيَر الشُّهداء منذ العصور المُبكرة للكنيسة قد دخلت ضمن الصلوات الليتورچية القبطية، ولم يعُد من الممكن أن نحتفِل بتاريخ تِذكارهم إلاَّ في القداسات الإلهية. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
وثائق تاريخية عن عصر وأعمال الشهداء | أنواع العذابات التي احتملوها كتب لنا مُؤرِخو الكنيسة والثُقاة، عن أنواع العذابات والميتات التي اجتازها الشُهداء أحِباء المسيح الذين عُذِبوا ولم يقبلوا النجاة من أجل قيامة أفضل مع المسيح في الدهر الآتي والحياة الأبدية. ولأنَّ الموت كان يُوافي الشُهداء والمُعترفين بعد سلسلة من الآلام والتعذيب الجسدي والنفسي والمعنوي، لذلك حفظ لنا تقليد الكنيسة (التاريخ الكنسي) أنواع العذابات الكثيرة التي احتملها الشُهداء ومنها: لقد قال الفيلسوف المسيحي يوستين الشهيد ”لا تكونوا غير عادلين حتى تحكموا علينا دون أن تسمعونا“، وبنفس المعنى قال لهم أثيناغوراس المُدافِع الأثيني ”أنتم تُنزِلون بنا العِقاب لمجرد كوننا مسيحيين“، ولكن بقدر وحشية العذابات ودمويتها بقدر الأمجاد والتعزيات والأكاليل التي التحف بها عبيد الرب. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
نهاية المُضطهدين احتفظ التاريخ بوثائِق تتضمن أحداث نهايِة مُضطهدي الكنيسة فقد كتب لكتانتيوس Lactantius المُدافِع المسيحي كتابًا أسماه ”نهايِة المُضطهدين De Martilus Persecutorum“ وكان هدفه من هذا الكتاب أن يُثبِت نهايِة الوثنية وصحة المسيحية التي جعلته يتنصَّر بعد أن كان وثنيًا.. وكتب كِتابه هذا لتمجيد اسم الله الذي لا يدع عصا الأشرار تستقِر على نصيب الصِّدِّيقين، وليبرُز الغضب الإلهي الذي وقع على مُضطهدي الكنيسة عروس الحَمَلْ، وكيف أنَّ الكنيسة التي اضُطهِدت قبلًا، نُهِضَت ثانيةً، بعد أن وضع الله نهاية لكل مكايِد الأشرار وجفَّف دموع الكنيسة، والذين جدِّفوا على الإلهيات طرحهم إلى أسفل، والذين عذَّبوا الأبرار ماتوا وسط الضربات الإلهية. نيرون إنتحر في الثانية والثلاثين من عُمره، ولم يعرف أحد أين قبره. دوميتيان قُتِل وهو على عرشه، بعد أن سلِّمه الله ليد أعدائِهِ، وشُهِّر به بعد أن مُحِيَ اسمه. ديسيوس ذُبِح هو وابنه وأعداد غفيرة من جيشه، ونهشت الوحوش جسده. ڤالريان أُخِذَ في الأسر ، وقضى بقية أيام حياته عبدًا أسيرًا. أورليان ذُبِح بيد أقرب المُقربين إليه. دقلديانوس أُصِيب بلوثة عقلية، فعُزِل بعد أن تجنَّن. مكسيميانوس شنق نفسه مُنتحِرًا. جالريوس ضُرِب بالقروح البَشِعة، وأخذ الدود يأكل جسمه. يوليانوس مات مقتولًا برُمح في جنبه. أين هؤلاء؟ إنهم ماتوا جميعًا شر ميتة، أمَّا هؤلاء، أحباء المسيح فقد ماتوا ميتة يُمجِّدون بها عريسهم السماوي... الذين اضطهدوا، ذُلُّوا وسقطوا فماتوا... أمَّا الذين اضُطِهدوا، فتمجَّدوا وتكلَّلوا ليحيوا مع الحي إلى أبد الآبدين... ويشهد المُؤرِخ شاف Schaff ”نحن لا نعرِف دِيانة أخرى استطاعت أن تصمُد هذا الزمان وتنتصِر على أعداء كثيرين بالقوَّة الروحية وحدها دون اللجوء إلى الوسائِل المادية“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
علم المارتيرولوجي Martyrology للاستشهاد في المسيحية فلسفة روحية عميقة، تستنِد إلى حياة روحيَّة إنجيليَّة، وقد عالج آباء الكنيسة تلك الفلسفة التي تعلَّق بها المسيحيون من جميع الطبقات والثقافات والأجناس والأعمار.. ويضُم عِلْم المارتيرولوچي دوافِع الاستشهاد وفلسفته الروحية العميقة، لا كفكرة طارِئة ساذِجة اعتنقها بُسطاء المسيحيين، لكن كقصة الكرازة بالمسيحية.. إنه العِلْم الذي يفوح منه رائِحة مِسْك هؤلاء الشُهداء وعِطْر آلامهم، فيتناول سِيَر الشُّهداء وأعمال شهادتهم وأقوالهم وأدعيتهم وعذاباتهم وفِئاتهم، وموقِف الكنيسة من الاضطهاد، وسلوك المسيحيين في الكنيسة الأولى.. كما يتناول هذا العِلْم الآبائي تطور مفهوم الشهادة، وموقِف المسيحيين وسط العالم في حُقبة الاضطهاد، وكيف أعدَّت الكنيسة أولادها للاستشهاد،.. وبالجملة كل ما يخُص الأدب الاستشهادي.. لقد كان الاستشهاد شرارة مُنيرة، أُلقِيَت في أعماق نِفوس الآباء الداخلية، فاشتعل الحب فيهم، وصار العِشق الإلهي لهيبًا، يجتذِبهم إلى جماله غير المنطوق به، ليجعلهم شُهودًا وشُهداء، فحملت كنيستنا أمام العالم سِمَة التَّعدُّد والتنوع، ووقفت أمام العالم كابنة الملك المُلتحِفة بثِياب مزركشة، تُقدِّم شهادِة الدم التي كتب عنها آباء الكنيسة ومُعلِميها، لتلمس أوتار كثيرة لقلوب الكثيرين، بعد أن جاءت أعمال الشُهداء أمثلة حيَّة في الدفاع عن الإيمان المسيحي بكل مجاهرة، وكتب لنا عنها مُعلِّمو البيعة المُقدسة... فكما تقدَّم كثير من المسيحيين من كل الفِئات والأعمار والثقافات للاستشهاد بفرح، كذلك انبرى آباء الكنيسة في الدفاع عن الإيمان، هؤلاء الآباء دُعوا بالمُدافعين The Apologists، ليردوُّا على الاتهامات ويكشفوا ضلال الوثنية وجمال روحانية المسيحية... ويعتبِر القديس كوادراتِس Quadratus أقدم المُدافِعين المسيحيين، الذي قدَّم دِفاعه للإمبراطور هادريان، وأرستيدس Aristides من رجال القرن الثاني، وأرِسطون Ariston الذي دافع عن المسيحية ضد اليهود، والشهيد يوستين Justin الذي كتب دفاعين وحوار مع اليهودي تريڤو Tryho وغيرهم من المُدافعين.. كتب الفيلسوف يوستين عن تأثُّره العميق الذي انطبع في نفسه من رؤيِة الشُهداء المسيحيين فقال: ”في الوقت الذي كنت أستمتِع فيه بمبادِئ أفلاطون، وفي الوقت الذي كنت أستمِع فيه إلى المتاعِب التي يتكبدها المسيحيون، قلت لنفسي: حيث أني رأيتهم لا يرهبون الموت حتى وسط الأخطار التي يعتبِرها العالم مُرعِبة، فمن المُستحيل أن يكونوا أُناسًا يعيشون في الشهوة والجرائِم“. وقال عن نفسه: ”لقد طرحت جانِبًا كل الرغبات البشرية الباطِلة ومجدي الآن في أن أكون مسيحيًا، ولا شئ أشتهيه أكثر من أن أواجِه العالم كمسيحي“. لقد فنَّد يوستينوس كل ادعاءات اليهود وافتراءاتِهِم، وبيَّن أنَّ اليهودية لم تكن سوى مُقدمة للمسيحية، وأنَّ اليهود وِفقًا للعهد القديم عليهم أن يُؤمِنوا بالمسيح. ويقول يوسابيوس القيصري عن استشهاد يوستين في مدة حكم أوريليوس سنة 161 – سنة 169 م أنَّ في ذلك اليوم كان معه ستة آخرون، ولما اقتُيدوا للوالي الروماني روستيكوس Rusticus: قال يوستين: ”نحن لا يمكن أن نُلام أو نُدان لطاعِتنا وصايا مُخلِّصنا يسوع المسيحلقد جاهدت أن أُحيط بكل العقائِد، ولكني آمنت بالعقيدة الحقيقية، أي تلك التي للمسيحيين، حتى لو كان يرفُضها الذين لديهم اعتقادات باطِلة... نعم أنا مسيحي وأرجو أن أنال هِبات الله إذا تحمَّلت هذه الآلام، إني مُتيقِن من هذا... لقد صلَّينا أن نتألم من أجل ربنا يسوع المسيح، لكي بهذا نخلُص، إنَّ هذا سيمنحنا ثقة وتأكيد لخلاصنا، عندما نقِف أمام منبر ربنا ومُخلِّصنا“... عندئذٍ ذهب الشُهداء القديسون إلى المكان المُعَد لهم وهم يُمجِّدون الله، حيث قُطِعَت رُؤوسِهِم. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
كلمنت السكندري ومفاهيم استشهادية وفي سنة 211 م.، كتب أكليمنضُس الأسكندري نُصحًا لليونانيين Protrepticus ليوضح لهم خِسَّة الوثنية فيقبلوا الإيمان المسيحي والاستنارة الروحية الفعَّالة... ولُقِب القديس أكليمنضُس الإنسان الحقيقي الذي له شَرِكَة اتحاد مع الله ”شهيدًا“، لأنَّ الاستشهاد في نظره ليس من بطولة الشهيد بل في الشهادة للحق المسيحي، الذي يجعل الشهيد يحتمِل بشجاعة آلامًا تفوق ما تحتمِله الطبيعة البشرية.. واعتبر القديس أكليمنضُس السكندري أنَّ المسيحي الحقيقي لا يضطرب من شيءٍ ما.. لا يخشى الموت ولا يخافه، لأنَّ له الضمير الصالِح الذي يهيَّأه لمُعاينة القوات السمائية. وركِّز القديس على أنَّ الاستشهاد أمر أساسي في حياة كل مُؤمِن، لأنَّ الاستشهاد ليس مجرد سفك دم، ولا مجرد اعتراف شفوي بالمسيح لكنه مُمارسة كمال العِشق الإلهي.. واعتبر القديس أنَّ الجميع مدعوون للاستشهاد ولنوال الإكليل، نساءً ورجالًا عبيدًا وأحرارًا. وقنَّن القديس أكليمنضُس الشهادة رافِضًا التقدُّم لها باندفاع وتهور، واعتبر أنَّ الاستشهاد كأس نشربه من أجل الكنيسة، لابد أن نُطيعه بسهولة، بعد أن نتحرر من الآلام مُقدمًا، ونروض المُضطهد ونُقنِعه بحب بلا مُقاومة.. تحدَّث القديس من واقِع خبرته الخاصة التي عاشها في عصر الاستشهاد ولمس ثمرته الحيَّة في حياة الكنيسة، فأكَّد على حتمية الاستشهاد واعتباره كمال المحبة وقانونية الشهادة العملية، مُعتبِرًا أنَّ الاستشهاد كمال teleiotes لأنَّ فيه يظهر كمال عمل المحبة، وأنَّ كل نَفْس تعيش في معرفة الله ومخافته تشهد بحياتها كما بالكلام.. والاستشهاد عند القديس أكليمنضُس خِبرة حياة يومية تُعاش وتُختبر حتى تبلُغ قمة العمل (عند الدم)، مُعتبرًا أنَّ الاستشهاد تنفيذ لوصايا الرب من خلال الحب، في كل عمل يُمارس طاعة لإرادِة المُخلِّص.. وبالجملة نجد أنه رأى في الاستشهاد إعلان لعمل التوبة اليومية، مُؤكِدًا على الحُب نحو الله في حياة وعمل الشهيد، مُعتبِرًا أنَّ من يقوم بإثارِة المُضطهدين يُحسب مُجرِمًا لأنه يُثير وحوش كاسِرة. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
أوريجانوس العلامة ونفسية الاستشهاد ثم جاء العلاَّمة أوريجانوس، الذي عاش في بيت له نفسية الاستشهاد، فقد أُلقِيَ القبض على لاونديوس أبيه ووُضِع في السجن، أمَّا ابنه أوريجانوس فكان يتوق أن ينال إكليل الاستشهاد مع والده، فمنعته أُمُّه من تحقيق رغبته بإخفاء ملابِسه.. فأرسل إلى أبيه يحثُّه على الاستشهاد قائِلًا له: ”إحذر أن تغيَّر قلبك بسببنا“ قُبِض على أوريجانوس سنة 250 م. في زمان الاضطهاد الذي أثاره ديسيوس، وأُلقِيَ في السجن ونالته عذابات شديدة، لكنه لم يستشهِد بل أُفرِجَ عنه، بعد أن وُضِع في طوق حديدي ثقيل ورُبِط بمقطرة أيامًا كثيرة. كتب العلاَّمة أوريجانوس سنة 235 م. كِتابه ”الحث على الاستشهاد“، وقد أفرغ فيه خُلاصة اشتياقاته وخِبراته، وأرسله إلى صديقيهِ الحميمين أمبروسيوس وبروتوكيتس كاهن قيصرية، اللَّذينِ قُبِضَ عليهما، وطُرِحا في السجن، فوجَّه لهم مقاله Exhortatio Martyrium حث فيه على الاستشهاد وحذَّر من عبادِة الأوثان وقدَّم أمثلة للاستشهاد وتحدَّث عن وجوب الاستشهاد وأنواعه.. تكلَّم العلاَّمة أوريجانوس عن المُجازاة والجعالة المُعدَّة في السماء للمُضطهدين لأجل البِّر، وأشرك الطبيعة في فرحِة الشهادة لاسم الله، فوصف ابتهاج الملائِكة وتصفيق الأنهار بالأيادي وترنُّم الجِبال وتصفيق شجر الحقل بالأغصان من أجل الدفاع عن المسيحية... اعتبر العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الاستشهاد الكامِل ليس فقط علانية بل في الخفاء أيضًا كشهادة ضمير وإماتة من أجل الله.. دخل العلاَّمة أوريجانوس إلى مُشاركة الشُهداء أتعابهم، وتلمذ كثيرين فصاروا شُهداء، إذ يقول: وُجِدَ وقت كان فيه الناس مُؤمنين بحق، حيث كان الاستشهاد هو عقوبة حتى لمن يدخل الكنيسة.. ووقفت الكنيسة كلها دون أن تتزعزع، وكان الموعوظون يتلقون التعليم الإيماني وسط الاستشهاد، ونظر العلاَّمة أوريجانوس للاستشهاد على أنه أحد البراهين على صحة الحق المسيحي واستمرار لعمل الخلاص... رأى العلاَّمة أوريجانوس أنَّ غُفران الخطايا يستحيل بدون العِمَاد، لكنه أُعطِيَ للُمعمدين معمودية الدم. وكتب عن الأمجاد التي كلَّلت الكنيسة وسط الضيق، واصِفًا غلبة الشُهداء للعذابات واعترافهم بغير خوف بالله الحي، والأعمال البطولية العجيبة التي كانت للمؤمنين القليلي العدد، لأنهم بحق مُؤمنين يتقدمون في الطريق المُؤدي للحياة، موضحًا أنه لابد أن يكون استشهادهم بحسب مشيئة الله وبتبصُّر وصحو ورزانة، فالرب يُعلِّمنا أنه ليس بعدم بصيرة يذهب أحد إلى ساحِة الاستشهاد... تطلَّع إلى الاستشهاد كواجِب كل مسيحي يرغب في الاتحاد بالله، ويشتاق للساعة، حتى أنه قال في محاورته مع هيراقليدس: ”أحضروا الوحوش، أحضروا صُلبانًا، أحضروا نارًا، أحضروا عذابات، لنستريح مع المسيح“، ورأى العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الاستشهاد مُؤسس على النموذج الأمثل للحياة كما حدَّدها الإنجيل. ربط العلاَّمة أوريجانوس بين الاستشهاد وذبيحة الصليب، على اعتبار أنَّ ذبيحة الحَمَل لها انعكاسها في بذل دم الشُهداء الذين يبذلون دماءهم واعترافهم وغيرتهم على الصَّلاح، فالموت يُصبِح ثمينًا، ليس الموت العقيم غير المُثمِر في السماوات، بل ذلك الموت المُقدس من أجل الإيمان المسيحي. رأى العلاَّمة أوريجانس ارتباط الشُهداء بالمسيح نفسه، وفي استشهادهم ضرورة للخلاص، وأنَّ كل من يبغى الخلاص ليسترِد روحه أفضل، يُقدم للموت، فكل من يحمِل شهادة يرتبِط مع من يشهد له ويصير واحدًا معه كالعريس والعروس، فالاستشهاد ذبيحة حُب مُرتبطة بذبيحة الصليب، لأنها ذبيحة غير مُنفصِلة عن ذبيحة المسيح نفسه.. وعن بركات الاستشهاد والاشتياق له يقول: ”من أجل المُكافأة أتمنى -لو كنت شهيدًا- أن أترُك ورائي أطفالًا وحقولًا وبيوتًا حتى يُمكنني أن أكون أبًا لأضعاف مُضاعفة من الأطفال القديسين، وأتمتع بهذه الأُبوَّة في حضرِة الله الآب“. ويصِف العلاَّمة أوريجانوس نفوس الذين ماتوا على الإيمان بالمسيح، وهي في انطلاقها، كيف تسحق قُوى الشياطين وتُحبِط كل مكائِدهم ضد الناس، ويُؤكِد قائِلًا: أنَّ قُوى الشر تُعاني الانكسار بموت الشُهداء القديسين وكأنما صبرهم وحُسْن اعترافهم حتى الموت وغيرتهم على التقوى قد غلبت نِضال قُوى الشر المُتآمرة على الشهيد، وأنهت قُوَّتهم وأضاعتها، وكثيرون ممن أسقطوهم وألقوهم أرضًا كانوا يرفعون هاماتهم حرة مُتحررة من وطأة قُوى الشر التي جثمت على صدورهم وآذانِهِم...طالما انتفع الكثيرون من موت الشُهداء بقُوَّة لا يمكن التعبير عنها. وفي عام 250 م. بدأ الاضطهاد في حبريِة البابا ديونيسيوس بابا الأسكندرية الذي قدَّم لمسات سريعة لشُهداء الإسكندرية في ذلك الوقت وكتب رسالته إلى دومثيوس وديديموس، ورسالته إلى فابيوس أسقف أنطاكية. استبقاه الله ليُشدِّد الشعب أثناء الاضطهاد وفي المجاعات والأوبئة، وبالرغم من القبض عليه، إلاَّ أنَّ شعبه حمله من يديه ورِجله ودفعوه دفعًا داخل البطريركية. وفي نهايِة كل اضطهاد كان يضُم المُرتدين، بعد أن كتب دِفاعات ورسائِل كثيرة، وهو الذي رأى أنَّ الاستشهاد في الدفاع عن وحدة الكنيسة لأفضل من الاستشهاد لأجل الامتناع عن عبادة الأوثان، ففي هذا مُحافظة على خلاص نفس واحدة وفي تلك مُحافظة على خلاص الكنيسة كلها.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الاستشهاد من الأسرار الكنسية | الأنبا بطرس الأول واعتبر البابا ديونيسيوس الكبير الاستشهاد سِر كَنَسِي لذلك قال: ”الشُهداء القديسون الذين هم الآن جُلساء المسيح وشُركاء ملكوته ومُشترِكون معه في الدينونة والقضاء هم وحدهم الذين خلصوا بدون معمودية“. وعندما انتشر الطاعون في الإسكندرية، خرج المسيحيون من المخابِئ ومن السراديب، وهبُّوا عائدين إلى المدينة غير هيابين اضطهاد داكيوس وغالوس وفاليريان، ليقوموا بالعِناية بالمرضى من الوثنيين، يواسون العائِلات، ويُشدِّدون الذين على شفا الموت ويُغمِضون عيون الأموات ويحملونهم على سواعِدهم ليدفنوهم، وهم يعلمون أنهم بسبب العدوى سيُلاقون نفس المصير.. لذلك قال البابا ديونيسيوس الكبير: ”وكثيرون من الذين طبَّبوا المرضى سقطوا صرعى بنفس المرض، أنَّ المسيحيين كانوا أول من رقد بسبب شهامِة الحُب غير الهيَّاب للموت، وكان منهم قسوس وشمامِسة.. فهذا الموت مع الإيمان الذي صاحبه لن يكون أقل مجدًا من الاستشهاد“. ونأتي بعد ذلك إلى عام 302 م.، حيث البابا بطرُس الأول الذي خدم وسط عواصِف الاضطهاد ومذابِح الاستشهاد العنيفة، فقد حلَّت الضيقات في الكنيسة، واستُشهِد فيها كثيرون وهرب البعض إلى الصحاري وسُجِن كثير من الأساقفة، وتهدمت الكنائِس.. حتى انتهت حياة البابا بطرُس شهيدًا وخاتِمًا للشُّهداء.. وضع الطوباوي بطرُس خاتِم الشُّهداء، بعض القوانين الخاصة بالذين جحدوا الإيمان، وقد جاءت هذه القوانين ضِمن رسالة فِصحية (Canonical Epistle (، وقد جاءت قوانينه الفِصحية الخاصة بالجاحدين للإيمان الراجعين بالتوبة تحمِل مفاهيم الكنيسة عن الاستشهاد، نذكُر منها أنَّ الاستشهاد لا يُغتصب بالإثارة، فالمسيحي الذي يُشعِل نار الاضطهاد بإثارته للمُقاومين إنما يدخل بإرادته في التجارُب.. كان القديس بطرُس مُحِبًا للاستشهاد، لكنه صلَّى ليتوقف الاضطهاد لئلا يخور الضُعفاء.. وحسب البابا بطرُس نفسه غير مُستحِق أن يكون شهيدًا للرب، ولا أساقفته مُستحقين لهذه النعمة. ولعلَّ أروع معنى للاستشهاد قد سجَّله في شهادته عندما انسكب على الأرض فَرِحًا يشكر ويُسبِّح الله من أجل نعمة الاستشهاد التي أنعم بها الرب على الأساقفة. لقد صلَّى من أجل المُعترفين إذ خشى أن يضعف أحدهم فيعثُر المُؤمنين... صلَّى حتى تسنِدهم نعمة الله ليصيروا شُهود حق للإيمان بالمسيح... كتب كثيرًا عن العذابات والقبض والسجون والضربات غير المُحتملة والأوجاع المُرعِبة واعتبرها علامات يسوع في أجسادنا، وحذَّر الذين حرموا أنفسهم من أن يتألموا على اسم المسيح... |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
ترتليان العلامة والاستشهاد ومن الفكر السكندري المستيكي mystic ننتقِل إلى العلاَّمة الأفريقي ترتليان (من القرن الثاني المسيحي)، الذي كتب كتابات دِفاعية كثيرة، وكتب أيضًا في الحث على الاستشهاد، ورسالة دعاها ترياق العقرب Scorpiace وحض على الاستشهاد في الرسالة التي دعاها Ad Martyras، وكتب أيضًا رسالته في الإكليل De Corona وتفرَّع عن رسالِة الإكليل رسالة أخرى في الفرار من الاضطهاد De Fuje in Persecutione أجاب ترتليانوس فيها عن السؤال: أيجوز للمسيحي أن يفِر ويختبِئ في أثناء الاضطهاد؟ وكذلك كتب ترتليان ضد اليهود Adversus Judoeos والاتهامات التي وُجِهَت للمسيحيين. وفي رسالة للمُدافِع ترتليان، كان قد وجَّهها للمسجونين لأجل الإيمان يقول: ”لا تجعلوا انفصالكم عن العالم في السجن يرعبكم، لأنَّ العالم هو السجن الحقيقي، فأنتم لم تدخلوا سِجنًا بل عُتِقتُم من السجن الحقيقي، وإن كان السجن مُفعمًا بالظلام، لكنكم أنتم أنفُسكم نور، في السجن قيود لكن الله قد حرَّركم، فيه رائِحة كريهة، لكن أنتم أنفُسكم رائِحة زكية، تنتظِرون المُحاكمة لا على فم قاضي بل على فم الله، لأنكم ستدينون القُضاة أنفُسهم“. واستطرد العلاَّمة ترتليان في مقاله ليصِف السجن بالبرية للنبي واعتبره مكانًا للخلوة، فيه الجسم محبوس لكن الروح طليق.. أفاض العلاَّمة في الكلام عن بركات الاستشهاد وكيف أنه معركة شرف، فيها الله رقيب، والروح القدس مدرب والجزاء إكليل أبدي وحق المواطنة السماوية.. ندَّد ترتليان بالوثنيين في دِفاعه عن المسيحية، لاعتبار اضطهاد المسيحيين فقط معركة اسم، ولأنَّ المسيحيين وحدهم هم المحظور عليهم أن يتكلموا لتبرِئة ذواتهم، دِفاعًا عن الحق.. وعن التعذيب يقول ”في حالِة المُتهمين الآخرين الذين يُنكِرون، تلجأون إلى التعذيب حتى ما يعترِفوا، أمَّا المسيحيون فهم وحدهم الذين يُعذبون حتى ما يُنكِروا...“. ووصف العلاَّمة ترتليان السجن بأنه مسكن إبليس وجنوده، لكن عندما يدخُل فيه المُعترِفون يطرحوا الشر تحت أقدامِهِم. لقد حث العلاَّمة ترتليان على الاستشهاد وكتب مقالاته ليهديها إلى الموعوظين الذين في طريقهم إليه، وحتى الغنوسيين الذين استهانوا بالاستشهاد وفضَّلوا الهرب منه كتب لهم ترياق العقرب، ليوضح لهم أنَّ الاستشهاد ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية. اعتبر العلاَّمة ترتليان أنَّ دِماء الشُهداء بِذار الإيمان، ووجَّه كلامه إلى الحُكام الوثنيين قائِلًا: استمروا في تعذيبنا، اطحنونا إلى مسحوق، فإنَّ أعدادنا تزيد بقدر ما تحصدوننا! إنَّ دِماء المسيحيين لهي بِذار محصولهم، إنَّ عِنادكم هو في حد ذاته مُعلِّم لأنه من ذا الذي لا يتحرك بالتأمُّل فيما تعملونه ليستعلِم عن حقيقة الأمور، ومن ذا الذي بعد انضمامه إلينا لا يشتاق إلى التألُّم.. كتب العلاَّمة الأفريقي دِفاعًا مُطولًا عن المسيحية، مُوجِهًا إلى الوثنيين قائِلًا: ”إننا جسم واحد مُتماسِك بمقتضى سلوكنا التَّقوي المُشترك ورجائنا المُشترك إننا نُصلِّي من أجل الأباطِرة ومن أجل وزرائِهِم، ولأجل كل الذين في منصِب، وصندوق الخزانة تُجمع فيه التبرعات، التي يضعها كل واحد بسرور.. هذه العطايا مُخصصة لأعمال الرحمة، لا تُصرف على الولائِم والحانات، بل لمعونة الفُقراء ودفنهم ولسد أعواز المُعدمين... وبالإجمال كل الذين يُعانون من انكسار سفينة حياتهم، أو المُضطهدون لا لشئ إلاَّ لأجل إخلاصهم لكنيسة الله، فنعتني بهم كعنايِة الأُم برضيعها لأجل مُجاهرتهم بالإيمان“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
القديس يوحنا فم الذهب والاستشهاد وعندما نقترِب من فِكر القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية عن الاستشهاد نجده يعتبِر أنَّ الاستعداد القلبي للاستشهاد يُحسب شهادة.. أكَّد القديس فم الذهب على الانتفاع من سِيَر الشُّهداء بقوله ”إنَّ شهادِة الشُهداء وسِيرتهم أمامنا هي في حد ذاتها عِظة للإنسان، وعون للكنيسة كلها، وتثبيت للإيمان المسيحي وغلبة لأوهام الموت، وعيِّنة للقيامة، وتوبيخ للشيطان، وتعليم للفلسفة الحقيقية، واحتقار أباطيل الدنيا، والدليل الأكيد للسمو بمطالِب النَّفْس، وراحة وعزاء للنَّفْس الحزينة، ومُحرِك للصلوات، ودخول في مجال القُوَّة، وباختصار أنَّ سيرِة الشُّهداء هي مُلهمة لكل الأمور الصالِحة“. تطلَّع القديس إلى الشُهداء كقدوة ومِثال لنا فيقول: ”عندما تتصور كيف احتقر الشُهداء الموت، مهما كنت جبانًا أو كسلانًا، فلابد أن تُسلتهم أفكارًا عالية ومجيدة، وتحتقِر كل التوافِه ومسرات الأرض، وتشتاق أن يكون لك سيرة سماوية، ومهما كانت أوجاعك التي تحسها في جسدك إلاَّ أنَّ تصوُّر آلام الشُهداء سيدخل فيك إحساس قوي بالصبر والرضا، ومهما كان إحساسك بالفقر والعَوَز والضيقة، فبمجرد أن تتأمَّل في عذابات الشُهداء التي احتملوها، ستشعر بالعزاء والاكتفاء، وتكون لك آلامهم بمثابِة الدواء الشافي، من أجل ذلك فإني أشجع دائِمًا إقامِة تِذكارات الشُهداء، وقد أحببتهم جميعًا وكأني أحتضِنهم في صدري“. وعن دالِّة الشُهداء يقول ”لنترجى الشُّهداء ونتوسل إليهم أن يشفعوا فينا إذ أنَّ لهم دالَّة كبيرة للشفاعة فينا، بل وقد صارت دالَّتهُم بعد الموت أعظم بكثير مما كانت من قبل“. ربط القديس فم الذهب بين المحبَّة والاستشهاد، ففي مديح لشُهداء رومية يقول: ”ليست المحبة أقل قدرًا من الاستشهاد في شيء، فالمحبة هي رأس كل الصالِحات، لأنَّ المحبة بدون الاستشهاد تصنع تلاميذ للمسيح، لكن الاستشهاد خُلوًا من المحبة ما يقوى على صُنع تلاميذ“..ومن أقواله المأثورة ”أنَّ الذي لا يُحِب أخاه، حتى ولو نال الاستشهاد فما ينتفِع كثيرًا“. وعن غلبِة الشهيد وقُوَّة الشِهادة يقول ”صفان من المُحاربين، صف الشُهداء وصف الطُّغاة، وبينما الطُّغاة يمتشِقون السلاح، يتجرد منه الشُّهداء، والانتصار معقود للمُتجردين وليس للمُمتشقين“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
القديس كبريانوس والاستشهاد وننتقِل لشمال أفريقيا، إلى قرطاچنة حيث تطور عِلْم المارتيرولوچي، على يد القديس كبريانوس الأسقف والشهيد الذي كتب مقالة مُعنونة ”الحث على الاستشهاد“ مُوجهة إلى فورتوناتوس Fortunatus، يقول فيها ”نحن الذين – بسلطان من الرب – منحنا المؤمنين العِمَاد الأوَّل، علينا أن نُعِد كلٍ منهم للعِمَاد الثاني بحثُّهم وتعليمهم أنَّ هذا العِمَاد أعظم في النعمة، وأسمى في القُوَّة وأرفع في الشرف.. بمعمودية الماء ننال غُفران الخطايا، وبمعموديِة الدم نظفر بإكليل الفضائِل، إننا على أبواب حرب قاسية وشديدة، وعلى جنود المسيح أن يُعدِّوا ذواتهم لها بإيمان حي وشجاعة قوية، واضعين في اعتبارِهِم أن يشربوا يوميًا كأس دم المسيح حتى يُمكنهم بذلك أن يسفُكوا دِمائهم لأجله“. ويستطرِد الشهيد كبريانوس فيقول ”أنَّ العذابات في أزمنة ضد المسيح، تستلزِم أن نُعِد لها قلوبنا ونُشجِع نِفوس الأُخوة لكي نكون جميعًا مُستعدين للنِضال السماوي الروحاني، فليثبُت إيماننا ولنتسلَّح بكلمة الله، ومن واجبي أن أُعِد شعب الله الذي ائتمنني عليه ليكون كجيش في المُعسكر السمائي ليُواجهوا سِهام وأسلحة إبليس، ولا يمكن لمن لم يتمرن على القِتال أن يكون جُندِيًا صالِحًا للرب أو أن يفوز بإكليل الجِهاد، ها أنا أُرسِل لكم ثوب الأُرجوان الذي للحَمَل الحقيقي الذي فدانا وأحيانا، لكي تفصَّلوه لأنفُسكم فيصير ثوبًا خاصًا بكم، حتى يتغطَّى عُرينا القديم بثِياب المسيح: ثياب تقديس النعمة السمائية“. استجيبوا لبوق الحرب، لقد أخذنا بتدبير الرب المعمودية الأولى، وليكُن كل واحد منا مُستعِد للمعمودية الثانية أيضًا، معموديِة الدم، أنَّ نِعمِتها أعمق وقُوَّتها أعظم وكرامِتها أثمن، التي يتمجد بها الله والمسيح، التي ننال بها إكليل كل الفضائِل، وقد صار المسيح رب المجد مِثال لنا في احتماله الآلام حتى الموت!! فلا يوجد عُذر لإنسان يرفُض التَّألُم لأجله، وإن كان هو قد احتمل كل ذلك بسبب خطايانا فكم أحرى بنا جدًا أن نحتمِل بسبب خطايانا!! الروح القدس يُعلِّمنا أنه لا ينبغي أن نخاف من جيش الشيطان، وأنَّ رجاءنا هو في إعلاننا الحرب ضده، لأننا بذلك ننال السُكنى الإلهية والخلاص الأبدي، ولا يوجد أعظم من وعد الرب لنا بالأمان والحِماية، فإن كنا نحيا بقلوب مُكرسة حقًا لله، فلنقبل أن ندخُل نفس امتحانات آلام الشُهداء، وجزاؤُنا يفوق بلا قياس آلامنا إذا قهرنا الشيطان ورجعنا إلى فردوسنا مُنتصرين نُقدِّم لله إيماننا، إيمان غير فاسِد غير مُتزعزِع وفضيلة واسعة راسِخة، وقلبًا مُقدسًا، فنجلِس ونصير شُركاء ميراث المسيح ونفرح بامتلاكنا للملكوت السمائي.. فالاضطهاد يُغلِق أمامنا الأرض ويفتح أمامنا السماء، ضد المسيح يُهدِّد ولكن المسيح يضُم ويحمِل ويسنِد. كتب القديس تحية للشُّهداء يقول فيها ”أيها البواسِل المغبوطُون.. إنَّ الكنيسة أُمُّكم فخورة بكم.. أيها المُتسربِلون بالبأس، عظيمة هي قُوَّة عزيمتكم وثبات أمانتكم حتى نهايِة المجد، لم تخضعوا للعذابات بل العذابات هي التي خضعت لكم واستعجلتكُم لنِيل الأكاليل..إنَّ المُتفرجين بإعجاب على تلك المعركة الروحية التي كانت بمثابِة سِباق نحو المسيح كانوا يرون خُدَّامه يُصارِعون دون أن يُغلبوا أبدًا، مُعترفين بإيمانهم بصوتٍ عالٍ!! مُمتلئين بحيوية وشجاعة تفوق قُدرِة البشر، بلا سلاح من هذا الدهر، إنما مُتوشِحون بأسلحة الإيمان، والمُحتمِلون العذابات كانوا يرون قِيامًا أكثر قُوَّة من الذين يُعذِّبونهم، الأمشاط الحديدية انتهت من الضرب والتمزيق، إلاَّ أنَّ الأعضاء المضروبة والمُمزقة انتصرت عليها.. عزيز هو الموت الذي يشتري الأبدية مُقابِل الدم، كم كان المسيح فَرِحًا وكم كان يسُرُّه أن يُحارِب ويغلِب في شخص خُدَّامه المُخلصين ويُعطيهم ما يشتهون أن ينالوه!! لقد كان حاضرًا في تلك المُسابقة التي أُثيرت لأجل اسمه، وأعان وسَنَد وقوَّى وبعث الحيوية، والذي غلب مرة الموت لأجلِنا ما بَرِحَ ينتصِر فينا“. كشف لنا القديس كبريانوس عن مفهوم الألم والاستشهاد في ضوء الحياة الأبدية والتعلُّق بالسماء حيث مجد إلهنا وحيث لا تقِف أمامه خليقة صامتة، فكتب مقالة عن الموت (الموت Mortality) عندما اجتاح البلاد وباء الطاعون، وهو الذي أدركته الضيقات وعاصر الاستشهاد حتى قَبِلَ الموت بقلبٍ راضِ واثِق، وأحنى رأسه للسيَّاف وهو يشكُر الله، فارتجف السيَّاف من شدة إيمانه.. ويرى الشهيد كبريانوس: ”إننا وُضِعنا في معسكرٍ قاسِ، على رجاء نوال المجد السمائي، وعلينا أن لا نرتعِب من عواصِف العالم، ولا نهتز منها، لأنَّ الرب سبق وكلَّمنا عن كل ما سيحدُث لنا، وأوصى كنيسته وهيَّئها وشدَّدها لتحتمِل كل ما سيأتي... هوذا السماويات تحتل مكان الأرضيات، والأمور العظيمة بدلًا من التفاهات، والأبديات عِوَض الفانيات، فما الداعي إذًا للقلق والجزع؟!!“. من يرى هذا ويرتعِب في حزن إلاَّ الذي بلا رجاء ولا إيمان؟!! فلا يرهب الموت إلاَّ ذاك الذي لا يُريد الذهاب مع المسيح. إننا بالموت نبلُغ وطننا السمائي، الراحة الأبدية.. هذا هو سلامُنا وراحتنا الأبدية، ومن منَّا لا يتوق بالإسراع لنوال الفرح الأبدي لنذهب إلى دعوة المسيح لنا مُتهللين بالخلاص الإلهي. وينتقِل الشهيد ليُحدِّثنا عن الاشتياق للاستشهاد فيقول ”عبيد الله يشتاقون للاستشهاد، يُدرِّبون الفِكر على أمجاد الثبات بالتأمُّل فيه للاستعداد للإكليل“. ويتكلم القديس على الاستشهاد كهِبة إلهية ”الاستشهاد ليس من سلطانك، بل هو عطية من الله، فليس لك أن تعترِض إن فقدت ما لستَ مُستحِقًا له... فالله الدَّيان يُتوِج خُدَّامه الذين تهيَّأت أفكارهم " حياتهم " للاعتراف والاستشهاد " ولو لم يستشهِدوا " لأنه لا يطلُب دمنا بل إيماننا“. ويذكُر القديس أيضًا كيف يكون تكريم الشُهداء وقيمة الشهادة العملية للإيمان... فيقول ”ينبغي أن نحمِل الشهادة باجتهاد، كما حملها الذين تحرَّروا من هذا العالم بُناءً على دعوة من الرب، لأنهم سبقونا كمُسافرين، وكبحَّارة اعتادوا على الإبحار، فنشتاق إليهم بعد أن أخذوا معهم إلى هناك الثوب الأبيض... ليتنا نستعِد لقبول إرادة الله الكامِلة بعقل رزين وإيمان ثابِت وفضيلة نشِطة.. ولا نُقاوِم الرب بل نأتي إليه متى دعانا بنفسه... لنتحرَّر من فِخَاخ العالم، ونعود إلى الفردوس والملكوت.. إننا نتطلَّع إلى الفردوس كبلدنا والآباء (البطارِكة) كآباء لنا، فلماذا لا نُسرِع بل ونجري، لكي ننظُر مدينتنا ونُحيِّي آبائنا، فإنَّ لنا أحِباء كثيرين ينتظروننا، فأي سعادة تغمُرنا وإياهم عندما نجتمِع سويًا!! هناك الشَرِكَة المجيدة مع الرُّسُل، هناك خورس الأنبياء المُتهللين، هناك جموع الشُهداء غير المحصيين، هناك جموع البتوليين الفائزين، هناك الرُّحماء مُكللين.. هذا هو شوقِنا العظيم، وهدف ذهابنا وإيماننا..!!“. وفي رسالِة القديس (أل 76) التي يُحيِّي فيها الشُهداء الذين فازوا بأكاليلهُم، ويشجع الذين مازالوا في السُّجون أو تحت التعذيب، وحُكِم عليهم بالعمل الشاق في المناجِم... كتب يقول: ”ها أنتم قد احتملتُم بصبر ضرب العصى، مُتهيئين بهذا التنكيل القاسي للاعتراف العَلَنِي بإيمانكم، صبرًا! فالعصاة الخشبية الصغيرة لن تُؤثِر بشئ على الجسد المسيحي، الذي وضع كل رجائه في الخشبة الكُبرى.. من سيندهِش أن يراكم، يا آنية الذهب والفضة، في المنجم، الذي هو مصدر الذهب والفضة؟ إلاَّ أنَّ الوضع هنا قد انقلب فبدل أن يُعطي المنجم الذهب والفضة نراه هنا قد تقبَّلهُما. أقدامكم قد تقيدت بالأغلال، وأعضاؤكم المُباركة – يا هياكِل الله – تكبلت بالقيود، كما لو كان بتضييق الخِناق على الجسد يُمكنهم أن يُقيِّدوا الروح! أو كما لو أنَّ ذهبكم يمكن أن يعتريه الصدأ بملامسة حديد السلاسل!! إنها أغلال مُباركة لن يفُكها حدَّاد بل الرب يسوع نفسه! إنها لقيود مُباركة فعلًا، تلك التي تجعلكم تسيرون قدمًا في الطريق المُستقيم المُؤدي إلى الفردوس! مرحبًا بكِ أيتها الأغلال العزيزة التي تُقيد لحظة في هذا العالم لتُحرِّر إلى الأبد في العالم الأبدي هناك عند الله، في المناجِم لا نجد الفِرَاش الذي ننعم فيه بقسط من الراحة، ويتعرَّض تنعُمنا وراحِتنا للعُري والبرد، لكن من قد لبس المسيح فقد تنعَّم بالكساء الكامل والوقاية الحصينة.. يا له من مجد وبهاء سيؤول“. وأكَّد القديس كبريانوس في رسالته الشهيرة في وحدة الكنيسة (De Ecclesiae Unitate) على أنَّ الشِقاق والهرطقة من عمل الشيطان، وإنهما أشد خطرًا على وحدة المؤمنين من الاضطهاد.. وبعد أن كتب رسائِل كثيرة عن الاستشهاد، ذهب إلى ساحِة الاستشهاد وخلع ثياب الحبرية وأعطاها للشمامِسة وجثا على رُكبتيهِ مُصلِيًا، ثم طلب من أولاده إعطاء الجلاَّد 25 قطعة ذهبية... ووضع المؤمنون لفائِف ومناديل تحته ليتلقوا دمه الطاهر بركة لهم، ثم عصب عينيهِ بيديهِ وحاول أن يتعجَّل المُتباطِئ في تنفيذ الحكم، وانطلقت روحه إلى مسيحها لترِث نصيبها المُعَد لها مع الشُهداء.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
القديس أمبروسيوس الميلاني والاستشهاد وعن عِظَم الاستشهاد وكيف كان عبر إماتات الصليب، ويُعلِّمنا القديس أمبروسيوس أسقف ميلان (333 – 397 م) أنه: ”بموت الشُهداء تدعمت العقيدة وازداد الإيمان وتقوَّت الكنيسة، لقد انتصر الذين ماتوا أمَّا المُضطهِدون فقد غُلِبوا على أمرهم وهكذا فنحن نحتفِل بموت أولئِك الذين حياتهم غير معروفة لنا، وداود أيضًا فرح حينما تنبأ بانطلاق نفسه بقوله ”كريم أمام الرب موت قديسيه“ (مز 116: 15)، لقد حسب الموت أفضل من الحياة، وموت الشُهداء نفسه هو مُكافأة حياتهم، وبموتِهِم أيضًا، على اختلاف صُوَره، كفَّت الكراهية عن أن توجد بعد..“. أكَّد القديس أمبروسيوس الميلاني على المعنى الواسِع للاستشهاد فيقول: ”هناك حروب أخرى أيضًا من الحروب التي على المسيحي أن يخوضها كل يوم، ونعني بها القِتال ضد الشهوات والصِراع ضد الرغبات، فأحيانًا الشهوة تُثير الأوجاع والخوف يُرعِب والغضب يُهيِّج والطموح يتحرك والشر يزيد، هذه القِتالات تُؤذي وتهِز كالزلزال النِفوس غير الثابِتة، ولكن الإنسان الشجاع يقول ”إن يُحاربني جيش فلن يخاف قلبي وإن قام عليَّ قِتال ففي هذا أنا مُطمئِن“ (مز 26: 3)، فالملوك يموتون والشُهداء يرِثون إلى الأبد كرامات ملكوت النعمة السمائية“. لقد صمَّم القديس أمبروسيوس أن يكتُب وصيته بدفن جسده بجوار الشهيدين بروتاسيوس وجيرفاسيوس دليل على مدى ارتباط إيمان أمبروسيوس بقيمة الشُهداء وشفاعتهم.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الأنبا أغسطينوس شفيع التائبين والاستشهاد ثم نأتي إلى القديس أُغسطينوس أسقف هيبو وشفيع التائبين ابن الدموع (354 – 430 م)، الذي كتب عن الاستشهاد وعن المسيح الناطِق في الشُهداء قائِلًا: ”من هم الشُهداء؟ أليسوا شُهود المسيح، الذين يحمِلون الشهادة للحق؟ فحينما ينطِق هؤلاء الشُهداء بالشهادة، يكون المسيح هو الذي يشهد لنفسه فيهم، إنه يحِل في الشُهداء ليجعلهم قادرين على حَمْل الشهادة للحق. إنه برهان المسيح المُتكلِّم في الشُهداء (2كو 13: 3)، فعندما يشهد يوحنا المعمدان، يكون المسيح الحال فيه هو الذي يشهد لنفسه وإذا شهد يطرُس أو بولس أو أي شهيد أو أي رسول أو إستفانوس فإنما المسيح فيهم جميعًا يشهد لنفسه، فهو بدونهم إله، أمَّا هم بدونه لا شيء“. وأفاض القديس أُغسطينوس في التعليم عن قُوَّة الشهادة للمسيح، فقال: ”محبة الله التي تنسكِب في قلوبكم بالروح القدس الذي سيُعطَى لكم (رو 5: 5) سوف تمنحكم الجراءة الكافية لمِثل هذه الشهادة، تلك المحبة التي كانت تعوِز بطرُس عندما ارتعب أمام سؤال جارية، فقبل آلام الرب كُشِف عن خوف العبودية الذي كان عند بطرُس بواسطة عبدة جارية، وبعد قيامة الرب استُعلِنت محبته الحرة بواسطة رب الحرية نفسه (يو 1: 15).“ ففي مناسبة ملأهُ الرعب وفي أخرى شملهُ السلام، هناك أنكر الواحِد الذي أحبَّهُ، وهنا أحب الواحد الذي أنكره، وهكذا إذ شملهُ الروح القدس بمِلء النعمة ألهب قلبه الذي كان قبلًا بارِدًا خائِفًا محصورًا، حتى حَمَل تلك الشهادة للمسيح (أع 2: 5)، بعد أن تحوَّل من التهيُّب إلى الجراءة والقُوَّة، من الخوف إلى شجاعِة الأحرار، كل ذلك بعمل الروح القدس وتلك مواهبه الخاصة العُظمى والعجيبة إنها شهادِة الروح القدس نفسه مُؤازِرًا هذه الشهادة بشجاعة لا تُقهر فجرَّد أحِباء المسيح من خوفِهِم وحوَّل بُغضة أعدائِهِم إلى محبة وقبول. وضَّح القديس أُغسطينوس كيف يُحارِب عنَّا الله، فقال: ”لن نصنع بأسًا بالسيف إذ هو ليس بأسًا خارِجيًا، بل هو قُوَّة داخلية، بالله نصنع بأسًا.. لقد سُحِقَ الشُهداء في آلام وصعوبات حتى النهاية، ولكن بالله صنعوا بأسًا، وهكذا داس الله أعداءِهِم“. كشف القديس عن أعماق روحية مُذهِلة في الشُهداء، فاعتبر المسيح قائِد الشُهداء وهم جُنوده الذين يقتفون آثاره، واعتبر أنَّ كلمة ”نشهد“ معناها أننا نصير شُهداء نحتمِل العذابات بسبب شهادتنا.. وأشار إلى ديمومة الاستشهاد لكنيسة كل العصور، وإلى أنَّ الشُهداء في شَرِكَة مع القديسين، وقد أقر ذلك مُسبقًا بقوله: ”كل الأرض قد احمرت من دِماء الشُهداء، والسماء قد أزهرت من أكاليلهُم، والكنائِس قد تزينت برُفاتهِم، والفصول قد تميَّزت بأعيادِهِم، وصحة النَّفْس والجسد قد تشدَّدت بقُوَّتِهِم“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
سيكلوجية الشهداء | صلواتهم وأدعيتهم لحظة استشهادهم لقد احتفظت لنا الكنيسة في ذاكِرتها بأعمال الشُهداء وأقوالِهِم وبطولاتِهِم واعترافِهِم حتى سفكوا دمائِهِم بفرح، ومن هذه الصلوات والأقوال نتعرَّف على روحهم ومعنوياتهم وسيكولوچياتهم، تلك التي كانوا يعيشونها لحظات تعذيبهم وقبيل ذبحهُم في ميادين الاستشهاد وساحاته، إنَّ هذه الصلوات والأدعية تفصِح عن غِنَى وعُمق النَّفْس الداخلية بتعبيرات تفوق كل أدب وبيان إنشائي.. إنها تكشِف لنا عن معدن هؤلاء البواسِل المُجاهدين، وتربيتهُم وسيكولوچياتهُم، وإيمانهم وسلامِة نياتهُم، وثبات مقصِدهم في تلك الساعة الحاسِمة.. إنها أدعية وصلوات قصيرة سهميَّة مُوجهة إلى الثالوث القدوس، لأنَّ الشهيد، بينما يُعذَّب، كان يُصلِّي ويتضرع ويشكُر ويُناجي الرب الذي عشقه ومن أجله تألَّم، طالِبًا المعونة الإلهية والثبات، طالِبًا الصفح والغُفران، بروح خشوعية تشعُر بعدم الاستحقاق، وكذا الصلاة من أجل المُعذبين، كما فعل إستفانوس رئيس الشمامِسة العظيم أوِّل الشُّهداء مُتمثِلًا أيضًا بدوره بالرب.. ولا يغيب عن بالنا أنَّ سِيَر الشُّهداء منذ العصور المُبكرة للكنيسة قد دخلت ضِمن العبادة الليتورچية، فلا يمكن أن نحتفِل بعيد شهيد إلاَّ من خلال القداس الإلهي. وهذه الصلوات والأدعية التي ردَّدها شُهداء الكنيسة وهم في القيود والسلاسل مُحاطين بالنيران والأُسود الضارية، والسيوف المسنونة والوحوش الجائِعة، والجنود والحرَّاس مع الغوغاء والسوقة من الجموع الهائِجة الثائِرة إنما هي ترجمة تعبيرية حياتية عن خبرة واختبار طالما عاشوه ومارسوه وتذوقوه ثم أتوا لكي يُختم عليه بالبركة الإلهية، بنوال نعمة إكليل الشهادة.. إنها أدعية تلقائية، وهي أول شهادة على الصلاة الشخصية النابِعة من صميم الحياة الباطنية الأصيلة والمُعبِرة بأقصى ما يمكن من الوضوح عن روح الشهيد المعنوية ونفسيته وهو في طريق الشهادة. وامتزجت هذه الصلوات بالاعتراف بالإيمان في لحظات العذاب والألم وقبل الموت مباشرةً، ولا شئ يمتحِن النَّفْس ويختبِرها أكثر من الموت والعذاب، ولا شيء أعظم من الاستشهاد الذي تنبُع عظمته من الدم والنار والعذاب، والذين سجَّلوا لنا هذه الصلوات كانوا من الشهود الذين عاينوا الأحداث نفسها، وتُعد هذه النصوص من أقدم الصلوات، التي دوَّنها أُناس كانوا قريبين من النار والسيف ثم أسلموا أرواحهم لله. ولم تترُك الكنيسة هؤلاء في السجون بدون زيارة بل حتى في ساحات الاستشهاد وميادين العذابات كانت تقِف لتُشجِع الذين يُلقون في النيران والذين يُصلبون والذين يُلقون للوحوش والذين تتقطَّع أعضاءهم أو رِقابهم بالسيف، ومع فظاعِة العذاب كان المُشجِعون من الكنيسة في سلام تام، وكان المؤمنون يقِفون حول مواقِع التعذيب بعضهم يُصلِّي وبعضهم يُرتِل وبعضهم يكتُب ما تفوَّه به هؤلاء الأبطال من رجال ونِساء، ولعلَّ هذه الصلوات هي أصل قراءِة سِيَر الشُّهداء في الاحتفالات. وهذه الصلوات وإن كانت قد خرجت من قلوبِهِم غير مُرتبة وغير محفوظة إلاَّ أنها كانت تلقائية تُقدَّم لاسم يسوع الاسم الحُلو المملوء مجدًا، الاسم المُبارك والكريم الذي كل من يدعو به يخلُص.. ومن الناحية اللاهوتية هناك عبارات كثيرة تُعبِّر عن الإيمان بالثالوث وبآلام المسيح وفدائِهِ وعمله الخلاصي، مع الإشارة إلى فاعلية وبركات السرائِر المُقدسة. ومن الناحية الروحية هناك اهتمام بسلام الكنيسة وبطلب الغُفران للذين عذَّبوهم..يجتازون العذابات بلا شكوى ولا اعتراض، ومع كل ألم يذوقون مجد المسيح عيانًا برؤيا منظورة ومحسوسة، ويسمعون تشجيع سماوي من طغمات الشُهداء السابقين، بل والمسيح نفسه ترآى لكثيرين ليُعينهم ويسنِد بشريتهُم، لذلك تقدَّموا للشهادة بنفسية هادِئة مُتهلِلة، بعيدة عن التذمُر وروح الانتقام.. وكل الذين شهدوا موت الشُهداء عن قُرب، رأوا سيكولوچيات واثِقة شجاعة، ولمسوا معونة السماء، واطَّلعوا على جمال الأبدية والأصوات الملائكية ورائِحة عِطر دِماء الغالبين التي هي أجمل من رائِحة البخور، فكانت الروائِح السماوية تفوح منهم قبل وبعد الاستشهاد بحسب شهادِة يوسابيوس المُؤرِخ الشهير. لقد تعلَّم الشُهداء أنَّ بدايِة الصِراع مع التنين (الشيطان) هي في المعمودية، لأنَّ المسيح مُخلِّصنا صرع التنين، وكل صلوات المعمودية القديمة تحتوي على اقتباس من (مز 74: 13) ”أنت شققت البحر بقُوَّتك وكسرت رُؤوس التنانين على المياه“. ويتوقع الإنسان المسيحي ديمومة الحرب مع التنين (الشيطان) لكي ينتصِر المسيحي عليه بقُوَّة المسيح، وتُؤكِد هذه الصلوات وقِدَمِها على الأصالة والقُوَّة، في وصف سيكولوچية شُهداء الكنيسة الأمجاد. فعندما يبلُغ الشهيد لحظِة الاستشهاد، بعد العد التنازُلي، تأتي لحظِة الحُب المُشبَّع بالإيمان والرجاء الحي، فيتكلم الشهيد بما ليس من عنده، لأنَّ روح الله يُعطيه ما يتكلَّم به. لذلك كان المسيحيون يتقاطرون حول الشُهداء في لحظاتِهِم الأخيرة يتنسمون رائِحتهِم ويتلمسُّون بركَتِهِم ويتقبلُّون نصائِحهِم ويتزاحمون على لمس أجسادِهِم ويأخذون بَرَكِة دمائِهِم. قد يظن البعض أنَّ الشهيد حينما يُواجِه حكم الموت، يفقِد فلسفته في الحياة ودُعابتها المُقدسة، كأن يكتئِب ويتجهَّم مثلًا ويصِر بأسنانه ويضيق ذراعًا بمُضطهديه... لكن هذه الصلوات والطِلبات والزفرات الروحية إنما تكشِف عن فلسفة الموت عند شُهداء الكنيسة، ويذكُر الأدب الاستشهادي، نماذِج من صلوات أُولئِك الذين واجهوا الموت إكرامًا لاسم الفادي. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
روائع من صلوات الشهداء قبل استشهادهم
|
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات القديس أغناطيوس الأنطاكي قبل استشهاده القديس أغناطيوس الأنطاكي: ”أحد الآباء الرسوليين سنة 107 م“ ”أنا حِنطة الله!! فلأضرِّس بأسنان الوحوش حتى أصير خُبزًا طاهِرًا للمسيح، مرحبًا بالنار والصليب والوحوش الضارِية، والتمزيق والتقطيع وخلع العِظَام وسحق الجسد كله، فلتقع عليَّ أشر الضربات المُبتكرة من إبليس، إذا كانت كل هذه من شأنها أن تُعدِّني لأن ألتقي بيسوع المسيح، هذا الذي أسعى إليه، ذاك الذي مات عنَّا، هذا هو من أُريده الذي قام لأجلِنا، إني أُحِس الآن بآلام المُخاض، ترفقوا بي يا إخوتي لا تحرموني من الحياة الحقيقية، لا تسعوا في تعطُّل موتي، اُترُكوني ألحق بالنور الحقيقي دعوني أقتدي بآلام إلهي“. هذه هي مشاعِر ونفسية شهيد كنيسة أنطاكية، وتلك هي كلماته القلبية التي سجَّلها لنا التاريخ، علاوة على رسائِله الفريدة من نوعها في الأدب المسيحي خلال العصور الأُولى، لأنها كُتِبَت وهو مُقيَّد بالسلاسِل، ومُحاط بعشرة جنود (شبَّههُم بالفُهود) يُشدِّدون الحراسة عليه، هذه الرسائِل تحتوي على تماجيد وأدعية موجَّهة للثالوث القدوس.. إنه يُصلِّي للآب بيسوع المسيح ابنه بعد أن امتلأ من الروح القدس، إنها صلوات سهميَّة تلقائيَّة تتضمن الشُّكر والاعتراف والشهادة.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات الشهيد بوليكاربوس قبل استشهاده الشهيد بوليكاربوس (الكثير الثِمار): ”أسقف سمِيرنا (167 م)“ كان يُناهِز السادسة والثمانين من عُمره لحظِة القبض عليه، وقيل عنه أنه اشتهى الآلام في موته كما في حياته فامتاز باستشهاده الرائِع. وعندما وصل الجنود المُكلفون بالقبض عليه، كان الطلب الوحيد الذي ترجاه منهم هو أن يسمحوا له بساعة زمن يصلي فيها، وفي صلاته ذكر كل من عرفه على الإطلاق وكل الكنيسة الجامِعة في كل المسكونة. أوثقوه وشدُّوه إلى قطعة من الخشب مُثبتة في الأرض ويداه وراء ظهره، وكأنه حَمَل مُختار مُفرز من بين قطيع كبير عظيم لكي يكون ذبيحة ومُحرقة مقبولة لدى الله، وعندئذٍ رفع عينيهِ إلى السماء وقال: ”أيها الرب الإله الضابِط الكل، أبا يسوع المسيح، ابنك المحبوب المُبارك، الذي به عرفناك يا إله الملائِكة والقُوَّات، يا إله كل خليقة، وكل جِنس الأبرار الذين يحيون في حضرِتك، أُبارِكك لأنك جعلتني أهلًا لهذا اليوم ولهذه الساعة، وأهلًا لأن أُحسب في عِدَاد شُهدائك، ولأن أُشارِك في كأس مسيحك، والقيامة في الحياة الأبدية لكل النَّفْس والجسد، والحياة بالروح القدس، الحياة التي لا تقبل الفساد... ليتني اليوم أكون مقبولًا معهم قُربانًا عزيزًا في عينيك حسب ما أعددتني لذلك مُسبقًا وأنبأتني، وها أنت قد أكملت وعدك، يا إله الأمانة والحق.. من أجل نِعمِتك ومن أجل كل شيء أُسبِّحك وأُبارِكك وأُمجِّدك، برئيس كهنِتنا الأبدي السمائي يسوع المسيح ابنك الحبيب الذي به يليق لك وللروح القدس المجد..“. وعندما طُلِب من القديس بوليكاربوس الذي يعني اسمه ”المُزهر أو المُثمِر أو الكثير الثِمار“ أن يلعن المسيح مُخلِّصنا رد على مُضطهديه قائِلًا:- ”لقد خدمت المسيح ستة وثمانين عامًا، ولم يصنع بي شرًا، فكيف أُجدِّف على مَلِكي الذي خلَّصني؟! إنك تُهدِّد بالنار التي تحرِق إلى حين ثم تُخمد، لأنك تجهل نار العِقاب الأبدي المُعد للأشرار.. افعل ما تُريد ولا تتأخر..“. فصار جسده لا جسم يُحرق بل كخبز ينضُج وذهب وفضة يُنقَّى في فرن يُشتّم منه رائِحة العُطور. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
شهداء ليون شُهداء ليون عام 177 م: ”The Martyrs of Lyons“ في صيف 177 م حدثت واحدة من أفظع الضيقات في تاريخ الكنيسة الأُولى، وقد حُفِظَت لنا هذه القصة، في التاريخ الكنسيليوسابيوس القيصري (الكِتاب الخامِس في الفصول من 1 – 3).. وهذه الضيقة بسبب ما تصِفه من بساطة وإخلاص وقبول عذابات مُرعِبة جزءًا لا يُضارع في تاريخ الكنيسة. وهذه رسالة كنيسة ليون التي تتحدث عن أعمال شُهدائها:- ”كانت تقودنا نعمة الله إلى ساحِة الجهاد والاستشهاد، وعندما تتحدث عن أحد شُهداء ليون الجديرين بالإعجاب يُدعى يونتيسيوس، نقول: أنه وصل إلى مِلء المحبة من نحو الله ومن نحو القريب، أي من نحو الآخرين أيَّا كانوا، لقد بلغ إلى كمال حقيقي في أسلوب حياته، حتى أنه، بالرغم من حداثته، قد حقَّق المثل الأعلى، يسير في كل طريق ووصايا الله وأوامره دائِمًا بلا لوم، مُبادِرًا بلا كلل إلى خدمة القريب، مُتقِدًا بالغيرة في بذل حياته كلها لله حارًا بالروح... وبقية الشُهداء ظلوا راسخين في الإيمان غير مُتزعزعين رغم شدة العذاب وتنوعه " هؤلاء، فإنَّ الذي خفَّف من وطأة الألم عليهم فرحِة الاستشهاد ورجاء المواعيد المُنتظِرة ومحبتهم للملك المسيح وللروح الباراقليط "“. وفي الواقِع لم يكن الشُهداء بلا افتقادات من النعمة الإلهية بل كان الروح القدس لهم مُشيرًا... حتى أنَّ أسقف طاعِن في السِن (بوثين) بالغ من العُمر تسعين سنة، كان جسده يدِب فيه الذُبول بسبب الشيخوخة، لكن السيِّد المسيح حفظ روحه قوية لينتصِر في حرارِة الروح ورغبة الاستشهاد... والعبدة الضعيفة الواهية بلاندينا أخمدت بشجاعة أولئِك الذين كانوا يتناوبون على تعذيبها بكل نوع من الصباح حتى المساء، حتى أنهم أنفُسهم أقرُّوا أنهم هُزِموا، لكن هذه المُطوبة وكأنها بطل شديد البأس، داومت على الجهر باعترافها بالإيمان مرة أخرى مُتشدِّدة بينبوع الماء السمائي المُحيي الخارِج من جنب المسيح.. وكان جسدها الجدير بالشفقة شهادة حيَّة لما حدث، ومع هذا كان المسيح الذي يتألَّم فيها يعمل الأعاجيب الكبيرة، مع أنها عبدة ضعيفة مُزدرى بها، إلاَّ أنها توشحت بالمُصارِع الذي لا يُقهر ربنا يسوع المسيح، فرحة مُتهلِلة كمدعُوة إلى حفلة عُرس وليس للإلقاء للوحوش في حديث مُتبادِل مع رب المجد، فصارت لإخوتها كعِظة صامتة.. ولا يمكن لمرور الزمان أن يحجِب مجد شُهداء ليون، بل وتُعتبر بلاندينا Blandina من بطلات الاستشهاد في العالم كله، وكان الشُهداء يقبلون التعذيب الجسدي على أنه أمر طبيعي، سواء ألقوا بهم في حجرات السجن المُظلِمة القذِرة، أو أمام هدير صيحات الجمهور الغاضِب في المُدرجات الرومانية. ويروي أحد الناجين عن الشماس سانكتوس Sanctus، أنَّ أوصاله كانت تحترِق، ولكنه لم ينحنِ ولم يخضع لأنه كان يتقوى بالنبع السمائي، نبع ماء الحياة النابِع من جسد المسيح، وهكذا كان الأمر مع باقي الشُهداء. وتُعتبر رسالِة ليون من أشهر ما كُتِب في الأدب المسيحي، فقد جعلت للشُّهداء طغمة مُنفرِدة، وكان الموت فقط هو ما يجعل المسيحي شهيد كامِل Perfect Martyr، ورفض الشُهداء أن يُلقبوا بلقب ”شهيد“ قبل أن ينالوا إكليل الشهادة، وكانوا ينظُرون لأنفُسهم على أنهم مجرد مُعترِفين حقيرين Humble Confessors لأنهم لم يُكمِّلوا شهادتهم بعد، وقد أفصحت نهايِة الرسالة عن الوداعة والاتضاع والحب الذي تحلَّى به هؤلاء البَرَرَة: ”ولكن إذا ما دعاهم أحد "شُهداء" سواء في رسالة أو خُطبة كانوا يُوبخونه، لأنهم كانوا يُقدِّمون لقب الشهادة فقط للمسيح الشهيد الصادِق الأمين، الحقيقي وحده، البِكر من الأموات، رئيس الحياة وملك الدُّهور، وكانوا يُذكِّروننا دائِمًا بالشُهداء الذين أكملوا شهادتهم فعلًا، ويقولون: ”هؤلاء هم شُهداء فعلًا، الذين تعطَّف المسيح ومنحهم أن يضُمهم إليه عند اعترافهم، بعد أن خُتِموا ودمغوا شهادتهم بخِتم رحيلهم من العالم، لكننا نحن مُعترِفون ذليلون وحقيرون“.... وكان شُهداء ليون يترجون الأُخوة بدموع طالبين منهم أحر الصلوات من أجل تكريسهم ونذرهم وإتمام شهادتهم وكمالها، وقد أظهروا فعلًا قُوَّة الشهادة، وكانت شجاعتهم باسِلة أمام الوثنيين، مُعلِنين نُبلهُم وشجاعتهم بتحمُّلهم وعدم خوفهُم... ولكنهم في ذات الوقت كانوا يرفُضون لقب " شهيد " لأنهم كانوا مملوؤن من خوف الله“. والخشبة التي رُبِطت إليها بلاندينا في المُدرج شُبِّهت لعينيها بالصليب، ورأى المُعترِفون بأعينهم الخارجية في مشهد آلام بلاندينا، السيِّد الذي صُلِب من أجلهم... أمَّا بلاندينا فرأت مجد الفردوس عيانًا... |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات الأسقف الشهيد فيلكس قبل استشهاده الأسقف فيلكس الشهيد: تفصح صلاة هذا الأسقف عن نفسية شُهداء الكنيسة وقت شهادتِهِم: ”أشكرك يا رب، كم أنت رحيم لأنكَ منحتني هذا الانعتاق، أشكرك يا الله، عِشت 56 سنة في العالم، حفظت أنت نفسي في البتولية، اتبعت وصايا الإنجيل، بشَّرت بالإيمان وكرزت للحق وحده، يا رب إله السماء والأرض – يا يسوع المسيح – أيها الطويل الأناة، أنا أحني رقبتي كذبيحة لك وحدك، المجد والعظمة لك دائِمًا في كل الدهور“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات شهداء أبيتين قبل استشهادهم شُهداء أبيتين Abitine (شمال أفريقيا) 304 م: قدَّم أحدهم نفسه بفرح إلى الاستشهاد، وإذ تمزَّق بالأمشاط الحديدية صاحَ قائِلًا ”Deo Gratsias نشكُر الله“، وبينما هو مُضرج في دمائِه صلَّى هذه الطِلبة طالِبًا الصفح عن مُعذِبيه: ”الشُّكر لك يا الله، ابن الله، بقوة اسمك خلِّص عبدك، يا الله ضابِط الكل لا تحسِب هذه الخطية عليهم، أمَّا أنتم فعليكم أن تُطيعوا وصايا الله، اغفِر لهم يا الله من أجل اسمك، أعطِهم القُوَّة ليتحمَّلوا ما أتحمله أنا، وخلِّص عبدك من السجن، سِجن هذا العالم، الشُّكر لك، بالحقيقة لا أستطيع أن أشكُرك بما فيه الكفاية، وبما يستحِق حُبك، إنَّ هذا الألم لمجد اسمك يا رب، أنا أشكرك عليه... أنت إله كل القُوَّات، أيها الرب يسوع المسيح، نحن مسيحيون، نحن عبيدك، وأنت رجاؤُنا ورجاء كل المسيحيين، يا الله الكُلي القداسة والكُلي العظمة والكُلي القُدرة والضابِط الكل نُسبِّحك ونُسبِّح اسمك، لا تجعل لي سبب يُؤدي بي إلى الخجل، أرجوك يا يسوع ارحمني، يا ابن الله ساعدني، اقبل تسبحتي، خلَّصني، لأجلك أتألَّم وكم أنا سعيد بذلك، أعطني القُوَّة لكي أحتمِل الآن وإني واثِق في أنكَ سوف تُعطيني الحياة“.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات كاربوس، بابيليوس، أجاثونيك قبل استشهادهم كان كاربوس أسقفًا وبابيليوس شماسًا أمَّا أچاثونيك فهي امرأة مُتزوجة وقد أُحرِقَ الجميع بالنار في برجامون بتركيا، ويُحدِّد العالِم الألماني Altaner تاريخ استشهادهُم خلال حكم أوريليوس أي ما بين (161 – 180)، ويقول شاهِد عيان: ”عندما رأى بابيليوس أكوام الخشب المُعدَّة للنار رفع عينيهِ إلى السماء وقال: (يا ربي يسوع المسيح اقبل روحي). وحالما دفعوه في النار نال إكليل الشهادة على الفور، أمَّا كاربوس الأسقف فقد ربطوه في العمود وعندما أشعلوا النار وبدأت ألسنة النار تحرقه صرخ بصوتٍ عظيم وقال: (البركة لك يا ربي يسوع المسيح ابن الله لأنكَ جعلتني مُستحِقًا أن أشترِك معك في هذا المصير، رغم أنني خاطِئ)، وبعد ذلك أسلم الروح، وعندما جاء دور أچاثونيك قالت: (يا رب، يا رب، يا رب أسرِع إلى معونتي لأنني ألتجِئ إليك كحِصني)“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات لوسيان، مرقيان قبل استشهادهم كلاهُما قُتِل بالسيف في نيقوميديا في اضطهاد ديسيوس سنة 250 م وقبل قتلِهِما صليا معًا ”نُقدِّم لك تسبيحنا الفقير الذي لا يليق بك يا ربي يسوع المسيح، لأنك دافعت عنَّا، اغفِر لنا نحن جُبلتك غير المُستحقين، أنت أتيت بنا من ظلام الوثنية، وبرحمتك أتيت بنا إلى هذه الآلام المجيدة، وهي شرف نناله لأجل اسمك، الشُّكر لك لأنكَ أعطيتنا نصيبًا في مجد قديسيك، في يديك نستودِع نفسينا وروحينا“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات بيونيوس، مثرودوروس قبل استشهادهم كلاهُما أُحرِقَ بالنار حيًا، كان بيونيوس قِسًا وكان مثرودوروس رجُلًا غنيًا من التجار، أُحرِقا في سميرنا في 25 يناير سنة 250 م، ويقول شاهِد العيان ”وعندما جاء بيونيوس ومثرودوروس إلى مكان استشهادِهِما حوَّلا إلى الشرق، بيونيوس أغلق عينيهِ وصلَّى في صمت، وعندما نظر إلى النار، أشرق وجهه بفرح وقال (آمين) ثم قال (يا رب اقبل نفسي)، أمَّا مثرودوروس فقد قال (أمين)“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات روجاتيان وأخيه دونيان قبل استشهادهم روجاتيان الموعوظ وأخوه دونتيان: ”استُشهِدا في مدينة Nantes“ كان روجاتيان موعوظًا بينما سبقه أخوه دونتيان إلى نوال سِر المعمودية وعندما قُبِضَ عليهما وحُكِم عليهُما بالموت، طلب روجاتيان أن يُقبِّله أخوه لكي تكون هذه القُبلة عِوَضًا عن المعمودية، وعندما عرف دونتيان معنى هذه القُبلة، صلَّى هذه الصلاة: ”أيها الرب يسوع، عندما تكون الرغبة من كل القلب فإنها تُحسب عِندك مثل الفِعل ذاته، وعندما يكون العجز عن تحقيق رغبِة القلب هو عدم القُدرة على أن نختار ما نُريد، أمَّا القُدرة على تحقيق ما نختاره فهي منك وحدك، أرجوك أن تحسِب إيمان أخي روجاتيان نعمة معمودية وإذا تشدَّد الحاكِم وقرَّر أن يقتِلنا غدًا بالسيف، أرجوك أن تجعل سفك دم أخي سِر المِسحة "الميرون"“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات الشهيد إيبولوس في صقلية قبل استشهاده قال إيبولُّوس قبل استشهاده (304 م): ”أشكرك أيها المسيح على هذه العطية، احفظني لأنني أتألَّم لأجلك، أنا أسجُد للآب والابن والروح القدس، أنا أسجُد للثالوث القدوس الذي لا يوجد سواه، لتهلك كل الآلهة، الذين لا قوة ولا قُدرة عندهم على خلق السماء والأرض وكل ما فيهما، أشكرك أيها المسيح على هذا، احفظني لأنني لأجلك أتألَّم“. وبدأ الشهيد يرتِل بقُوَّة الروح القدس ويقول ”عظيم هو التمجيد الذي تقبله يا رب من عبيدك الذي برحمتك تجمعهم إليك“، وصلَّى لأجل الذين سوف يُقتلون شُهداء ”احفظ يا رب عبيدك، كن معهم حتى النهاية لكي يستطيعوا أن يُمجِّدوا اسمك إلى الأبد“. وأسرِع في خطواته لأنَّ النَّصر قريب جدًا ولأنه سوف يلبِس الإكليل توًا ولذلك رفع يديه نحو السماء وقال ”أشكرك ياربي يسوع المسيح لأنك تُعزيني بقُوَّتك، لأنك لم تسمح لنفسي أن تهلك مع المُرتدين، ولأنك أعطيتني نعمتك ونعمة اسمك، الآن هي الساعة التي تُثبِت فيها ما حققته أنتَ فيَّ لأنكَ بهذا تفضح مؤامرة المُعانِد“. وعندما رأى جماعة المؤمنين قال: ”اسمعوا أيها الأُخوة الأعِزاء، صلُّوا لله وخافوه من كل قلوبكم لأنه يحفظ من العالم الذين يخافونه وعندما يُغادِرون هذا العالم تأتي الملائِكة وتأخذهم إلى المدينة المُقدسة أورشليم“. وعندما انتهى من حديثه ركع، وسلَّم رقبته للسيَّاف. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات ثيؤدوسيوس والعذراى السبع قبل استشهادهم ”استشهدوا بأنقرة سنة 302 م“ ”أيها الرب يسوع المسيح، أنت خالِق السماء والأرض، الذي لا يتخلى عن الذين يتكلون عليه.. نشكُرك لأنك جعلتنا أهلًا أن نكون في مدينتك في السماء، وأن نُشارِكك ملكوتك... نشكُرك لأنك أعطيتنا أن ندوس على التنين، وأن نسحق رأسه، أعطي عزاء لعبيدك... أعطي سلامًا لكنيستك وخلِّصها من طُغيان إبليس“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات جينسيوس الممثل قبل استشهاده چينسيوس المُمثِّل سنة 285 م: كان أحد المُمثلين على مسارِح روما وعندما كان يُمثِّل مسرحية هَزَلية تسخر من الاستشهاد، افتقدته النعمة الإلهية واعتنق المسيحية، وعندما قُدِّمَ للمُحاكمة اعترف بالإيمان وحُكِم عليه بالموت في حضور النُّبلاء الرومان، وهنا قال بصوت مُرتفِع ليسمعه كل الحضور ”ليس مَلِك إلاَّ إياه وحده الذي رأيته، والذي وحده أعبده، وإذا قُدِّرَ لي أن أموت ألف مرة من أجل ارتباطي به فلن أتراجع، بل سوف أظَل دائِمًا كما بدأت، الرجل الذي يُحِب المسيح ويخُص المسيح، أعترِف له بشفتاي، هو في قلبي، مهما كانت العذابات.. أنا نادِم على خطيتي التي ارتكبتها وهي الاستهزاء بالاسم المُقدس الذي يتفوه به القديسون، أنا حزين لأنني تأخرت في عبادِة الملك الحقيقي، ظنًا مني أنني أعرف ما هو الأفضل لنفسي، ولأنني رفضت أن أكون جُنديًا له“.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات بونيفان الطرسوسي قبل استشهاده بونيفان الطرسوسي (306 م): عندما ذهب ليُحرق حيًّا قال: ”يارب، يا ضابِط الكل، الآب أبا ربنا يسوع المسيح، أنا عبدك، تعالى وساعدني، أرسِل ملاكك لكي يأخذ نفسي بسلام ولكي يُزيل التنين الدَّامي من طريقي فلا يخدع نفسي بحيلة شريرة، أعطني نصيبًا وسلامًا مع شُهدائك، خلِّص يا رب شعبك من الاضطهاد، لكَ الكرامة مع ابنك... أنا مسيحي Christianus sum“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات الشهيد برلعام قبل استشهاده ”قيصرية الكبادوك (القرن الرَّابِع)“ ”أنا رجُل فلاح وأنا مسيحي، لأني أعبُد المسيح رب البشرية وسيِّد الأرض والشعوب كلها، أنا لا أعرِف الفلسفة ولكني قد علمت يقينًا أنَّ المسيح ربي وأنا أُحبُّه، وهو يُحبُني وهو وحده الإله الحقيقي“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات الشهيد نكفوروس قبل استشهاده ”شهيد التسامُح من أنطاكية“ الذي لما رأى سبريسيوس ارتد أمام السيَّاف صرخ أمام الجميع: ”أنا مسيحي وأعبُد المسيح إلهنا الواحِد الوحيد، أميتوني بدل هذا الجاحِد الذي كفر بإلهه“. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهيدة تكلة رسولة الرُّسُل أُولى الشهيدات: ”مدينة أيقونية“ هي بطلة من أبطال الشهادة المسيحية، تلميذه بولس الرسول، التي أشعلت مصابيح الطهارة بزيت الروح، فأحبت البتولية ورفضت الزواج من خطيبها بعد أن نذرت بتوليتها للمسيح.. أمر الوالي بإضرام نار حامية لتُحرق تكلة وتُطرح فيها.. وهناك ظلَّت تكلة تبحث وسط الجموع عن بولس الرسول، كالحَمَل الذي يبحث في القفر عن راعيه، وأثناء بحثها رأت الرب جالِسًا على كُرسيه فتشجعت وتهللت بقُرب اتحادها بعريس نفسها السمائي، وجاء الخدم بحزم الحطب لكي يحرقوا تكلة، فتقدمت بنفسها ولم تنتظِر حتى يشدُّوا وثاقِها ويطرحوها في تلك النيران المُستعِرة، بل ركضت هي إليها وزجَّت بنفسها فيها، وهي تتضرع إلى الله ليُقوِّيها ويُثبِّتها ويحفظ نذر تكريسها البتولي ويقبل روحها إليه. فبكى الوالي وتعجَّب من القُوَّة التي كانت فيها.. وعندما أشعلوا النار اندلعت في الحطب لكنها لم تلمس تكلة، لأنَّ الرب زلزل الأرض وأرسل سحابة ظلَّلت الجميع وانهمر مطر شديد، فأُنقِذت تكلة لتبقى مِثالًا رائِعًا للآتيين من بعدها من أجيال العذارى والمُكرسات، لقد خرجت تكلة سالِمة من النيران فشابهت الكنيسة في رِفعتها، ببركِة صلوات لسان العِطر بولس الذي كان يُصلِّي من أجلها قائِلًا: ”أيها المسيح المُخلِّص، لا تدع النار تمس تكلة بل قِف معها لأنها لك“. وكانت تكلة تُصلِّي قائلةً: ”أيها الآب الذي خلقت السماء والأرض، أبو ابنك القدوس، أُبارِك اسمك لأنكَ أنقذتني حتى أرى بولس“. ولما رآها بولس الرسول قال: ”يا الله الذي تعرِف القلوب أبو ربنا يسوع المسيح، أُبارِك اسمك لأنكَ سمعتني وفعلت مُسرِعًا ما طلبته“. تعرَّضت تكلة للاستشهاد مرَّة ثانية في أنطاكية، وأُرسِلت إلى الوحوش، فعرُّوها من ثيابها وتُرِكت عُرضة للثيران الكاسِرة لتفترِسها واجتمع الجميع في المشهد ليروا نهش الوحوش لها ولكن الوحوش استأنست لها وسجدت عند قدميها ولَعَقَتْهَا. وجلَّل الله جسد القديسة بالمهابة والأنوار وحَجَبْها عن الأنظار لأنها أرادت أن تحيا فيه إلى الانقضاء ولكنهم أخرجوها ثم أعادوها في اليوم التالي إلى المشهد، وأطلقوا عليها رعيلًا من الثيران...فصرخت أرملة غنيَّة اسمها ”تريفينا“، وقالت ”يا إله تكلة أعِنها“، عندئذٍ بكت تكلة بمرارة قائلةً ”يا إلهي الذي أُؤمِن به الذي هربت لألتجِئ إليه، الذي نجاني من النار، هَبْ مُكافأة لتريفينا التي امتلأت شَفَقَة على عبدِتك ولأنها حفظتني طاهرة“... وهنا حدثت المُعجزة عندما أكلت الوحوش بعضها البعض، وصارت شِبْه سحابة من نار حتى لا تقترِب إليها الوحوش من ناحية ولا تُرى وهي عُريانة من ناحية أخرى. استدعاها الوالي ليسألها من هي؟ ولماذا لم تمسَّها الوحوش؟ فأجابت باحتشام ووقار ”أنا تكلة عبدة يسوع المسيح ابن الله الحي، وهو وحده الطريق والحق والحياة وخلاص النفوس... وهو الذي أنقذني من الوحوش ومن الموت، وهو الذي يحفظني بنعمته أكثر لكي لا أُعثر.... إنَّ الذي ألبسني وأنا عُريانة بين الوحوش سيُلبِسِك بالخلاص في يوم الدينونة“. وأصدر الوالي أمرًا ”ها أنا أُطلِق لكم خائِفة الله تكلة خادمة الله“.. ومدحها آباء الكنيسة باسيليوس وغريغوريوس اللاهوتي وفم الذهب وأمبروسيوس وچيروم، وكما أنَّ إستفانوس هو أوِّل الشُّهداء، هكذا تكلة أوِّل الشهيدات... التي أطفأت النار كالثلاثة فتية، إنها القديسة التي تُمثِّل دانِيال النبي الذي نجى من أفواه الأُسود... لذلك سمَّاها بعض الآباء ”رسول سلوكية“.. وعندما كان يوسابيوس القيصري وچيروم يُعظِّمون قديسة كانوا يُسمِّونها تكلة الثانية أو تكلة الجديدة... والقديس أبيفانيوس يُشبِّهها بإيليا النبي وبيوحنا الحبيب ويُقدِّمها القديس أمبروسيوس لجميع العذارى المسيحيات كنموذج ومِثال حي أكمل، وكتب إيسيذورس الفرمي إلى راهِبات أحد الأديرة يقول: ”مِنْ بعد موت يهوديت وسوسنَّة العفيفة وابنة يفتاح لا يحِق لأحد أن ينسِب الضعف لجِنس النِساء، بالأكثر عندما نرى تكلة، تلك البطلة المُتقدمة بين البطلات من البنات، البتول الذائِعة الصيت في الدنيا كلها، عندما نراها حاملة عَلَمْ البرارة عالِيًا، وقد فازت في معارِك شديدة، نُؤمِن أنَّ قلوب النِساء يُمكنها أن تكون جبَّارة“!! والمعروف أنَّ القديسة تكلة أُلقِيَت في النار عندما كان عُمرها 18 سنة وعاشت ناسِكة 72 سنة وتنيحت في سِن 90 سنة... |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
من صلوات الشهيدة آجنس قبل استشهادها الشهيدة أجنس Agnes: ”روما – أواخِر القرن الثالِث“ تحدَّث عنها القديس أمبروسيوس أسقف ميلان في كتابه عن البتولية فقال: ”لقد تحمَّلت الاستشهاد وهي في سِن الاثنتي عشرة سنة، عانت من كراهية المُضطهدين الذين لم يُشفِقوا على صِغَر سِنها ولم يرحموا جسدها الغض، ولكنها الصغيرة سِنًا والقليلة جسدًا، كانت عظيمة حقًا وكبيرة إيمانًا.. لكن كيف لهذا الجسد الصغير أن يثخن بالجِراح؟ كيف لهذا البدن الضعيف أن يتلقى ضربة السيف العنيفة، هل يقدِر هذا الجسد الضعيف على مُقاومة الحديد؟ لم ترهب أيدي الجلاَّدين القاسية الثقيلة، لم تهتز تحت وطأة السلاسِل الثقيلة التي لا يقوى على حِملها الرجال، مُقدمة جسدها كله لسيف الجلاَّد الهائِج، لم تكن تعرِف شيئًا عن الموت لكنها تهيَّأت له، كانت مُستعِدَّة أن تفتح ذراعيها للمسيح عند نيران التقدِمة، لكي تضع علامة الرب الغالِب (إذ قد رفعت عند استشهادها ذراعيها على علامة ومِثال الصليب)، وأن تضع عُنُقها ويديها في القيود الحديدية، لكن ما استطاع أي قيد أن يُعوِّق هذه الأطراف الرقيقة عن الانطلاق للأبدية، إنه استشهاد من نوع جديد!! فالعُمر لم يُكتمل بعد لكنه نضج للغلبة والنُّصرة، ومن الصعب أن يُناضِل ويُجاهِد لكنه من السهل أن يُكلَّل ويُتوج، لقد ملأت وشغلت بشجاعتها خدمة التعليم وهي بعد صغيرة، لم تكُن لتُسرِع الخُطى وهي عروس نحو حفل عُرسها، لم تُزيِّن رأسها بشعر عروسة مصفوف بل بالمسيح.. بكى الجميع وبقيت هي وحدها بلا دموع!! تعجب الجميع أنها هكذا ضحَّت بحياتها التي لم تكن قد استمتعت بها بعد! وها هي الآن تُقدِّمها كأنَّ بها قد شبعت من طول أيامها!!! قدَّمت حياتها ذبيحة في وقت لم تستطِع بالكلام أن تُقنِع الآخرين!! أيَّة تهديدات تُرى الجلاَّد قد هدَّدها بها ليُرهِبها، وأيَّة وعود وإغراءات تُرى تقدَّم بها إليها الرَّاغِبون في الزواج!! لكنها أجابت: " سيكون جرحًا لعريس نفسي إن أنا نظرت إلى من يغريني فالذي اختارني أولًا لنفسه سيستقبلني، فلماذا تتباطأ أيها الجلاَّد؟! فلتقتُل هذا الجسد الذي تعشقه عيون الآخرين "، ووقفت أجنس الطفلة مُصلية، ثم أحنت رأسها للسياف، فارتجف الجلاَّد وارتعشت يداه كما لو كان هو المحكوم عليه بالموت وحينما ارتفعت ذِراعه لتهوى بالسيف، اهتز ذِراعه وشَحَبْ وجهه، أمَّا أجنس شهيدة المسيح فقد سلَّمت نفسها ثابِتة فَرِحة بشوشة لا ترهب مُنتظرة مُكافأة أبدية“. وفي اليوم الثامِن لاستشهادها تَرَاءَت في حِلم لوالديها، ومعها زُمرة من الفتيات الصغيرات، ومعها أيضًا حَمَلْ أشد بياضًا من الثلج، وقالت لهما: ”لا تحزنوا لموتي، بل افرحا لأني ظفرت بالإكليل“... وكانت لشهادتها أثر كبير في تعزية وتثبيت وامتداد المسيحية في القرون الأولى، بعد أن شهدت بصمودها وثباتها وإيمانها واحتمالها بفرح.. لذلك مدحها القديسون أمبروسيوس وأُغسطينوس وچيروم وغيرهم من الآباء... |
الساعة الآن 10:07 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025