القس بيشوي فايق
التناول من الأسرار المقدسة أمرٌ واجب وحيوي لكل مسيحي، ولكن الكنيسة ممثلة في آبائها تصر على ممارسة سر التوبة والاعتراف للراغبين في التناول، وتؤكد على المتناولين ضرورة الحضور للقداس مبكرًا، وتطالب المتخاصمين بالصلح مع من خاصموه أولًا. أليس غرض الحضور هو التناول لنوال الحياة الأبدية؟ فلماذا التركيز على مثل هذه الأمور؟! أليس من الأفضل التساهل لاجتذاب الكثيرين؟
الإجابة:
فيما يلي نقدم الرد على هذه التساؤلات في أربعة أجزاء: الأول عن عظمة، وقدسية السر، والثاني كيفية الاستعداد للتناول من السر، والثالث عن اتفاق مناداة الكنيسة لشعبها بالاستعداد لتناول المقدسات مع روح الكتاب المقدس، والأخير عن أهمية عدم الاعتماد على الفكر البشري القاصر في اجتذاب نفوس الناس لله.
الجزء الأول: عظمة السر، ووجوب الاستعداد قبل التناول منه:
أولًا: عظمة، وقدسية التناول من الأسرار المقدسة:
●سبب عظمة السر:
إن عظمة وقدسية التناول من الأسرار الإلهية تكمن في الاتحاد بالرب الذي يهبنا جسده الحقيقي لنأكله، ودمه الحقيقي لنشربه كقوله: "مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَق وَدَمِي مَشْرَبٌ حَق. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يو6: 54- 56). لقد أكد الرب حقيقة أكل جسده، وشرب دمه بتقريره حقيقة حرمان من يتناوله من الحياة الأبدية كقوله: "فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ" (يو6: 53).
●مهابة الرب، والخشوع أمامه تعتمد على الإيمان، لا رؤيا العيان:
إن حضور الله في سر الإفخارستيا حقيقة يراها كل مؤمن بالإيمان، وبالتالي يصلي في خشوع، ومهابة تليق بالله الحاضر على المذبح. لقد أعطى المجوس الطفل يسوع المهابة والخشوع اللائقين به، ومع أنهم رأوه بالعيان كطفل بسيط بين أحضان أمه العذراء، ذلك إلا أنهم بالإيمان صدقوا ما أعلنته لهم السماء. لقد أدركوا عظمة جلاله، ومجده الفائق؛ فسجدوا له في خشوع كقول الكتاب: "وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا" (مت2: 11).
●الرمز يشير للحقيقة:
أمر الله بني إسرائيل بضرورة عمل الفصح الذي كان يرمز للتناول من جسد الرب ودمه، وكل نفس لا تعمل الفصح وتأكله كانت تقطع من شعبها: أي لا تُحسب ضمن شعب الله كقوله: "لكِنْ مَنْ كَانَ طَاهِرًا وَلَيْسَ فِي سَفَرٍ، وَتَرَكَ عَمَلَ الْفِصْحِ، تُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا، لأَنَّهَا لَمْ تُقَرِّبْ قُرْبَانَ الرَّبِّ فِي وَقْتِهِ. ذلِكَ الإِنْسَانُ يَحْمِلُ خَطِيَّتَهُ" (عد9: 13). فما بالنا عاقبة الاستهانة والتهاون في تناول جسد الرب ودمه!
●مهابة، وعظمة حضور الله في السر:
كرامة الآباء تقتضي أن يتعامل معهم أبناؤهم بالاحترام اللائق، وإن فعل الأبناء غير ذلك يحسب هذا إهانة، وكذلك أيضًا هيبة أي سيد، أو رئيس تقتضي أن يتعامل معه خدامه، ومرؤسيه بما يليق به من كرامة، واحترام. لقد أكد الوحي الإلهي ضرورة حفظ كرامة الله كأب، وهيبته كسيد للخليقة كلها قائلًا: "الابْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟ قَالَ لَكُمْ رَبُّ الْجُنُودِ..." (ملا1: 6). إن التعامل باستهانة مع الأسرار المقدسة يمثل استهانة بالرب الحاضر على المذبح أثناء القداس الإلهي.
●أمثلة كتابية عن وجوب مهابة الله:
صاحب ظهور الرب يسوع المسيح لشاول الطرسوسي (معلمنا بولس) نور مبهر وصوت عظيم من السماء فسقط على وجهه في خوف ورعدة، ويخبرنا الكتاب أن معلمنا يوحنا الحبيب سقط كذلك على وجهه ساجدًا كميت عند رجلي الرب يسوع المسيح عندما رآه في مجد عظيم، وهو منفي في جزيرة بطمس. إن الرب الذي ظهر لشاول الطرسوسي في الطريق، أو ليوحنا الحبيب في منفاه هو هو الحاضر معنا على المذبح بجسده، ودمه الأقدسين، وهذا ما يستوجب الاستعداد لتناول هذه الأسرار، والتعامل معها بخوف، ورعدة كقول الكتاب: "... تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ" (في2: 12).
ثانيًا: ضرورة الاستعداد لتناول المقدسات:
●حضور القداس لا يكفي وحده لتحصيل البركات:
حقًا إن الغرض من حضور القداس الإلهي هو التناول من الأسرار الإلهية، لكننا نتناول الأسرار المقدسة لتحقيق غاية أسمى، وهي الاتحاد بالرب، والثبات فيه، وأيضًا غفران خطايانا، ونوال الحياة الأبدية. فما الفائدة إن تناول الإنسان الأسرار، ولكنه لم يحصل على غايته من تناولها؟ لقد أكد معلمنا بولس الرسول أن بعضًا ممن يتناولون من الأسرار باستهانة لا ينالون بركات هذا السر المقدس، بل يقعون تحت التأديب واللعنة لأجل تهاونهم، وعدم توبتهم؛ كقول الكتاب: "مِنْ أَجْلِ هذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ. لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا" (1كو11: 30-31).
●خروف الفصح رمز لسر الإفخارستيا:
لقد أكدت شريعة العهد القديم ضرورة الاستعداد بالطهارة قبل أكل خروف الفصح كقول الكتاب: "وَأَمَّا النَّفْسُ الَّتِي تَأْكُلُ لَحْمًا مِنْ ذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ الَّتِي لِلرَّبِّ وَنَجَاسَتُهَا عَلَيْهَا فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا" (لا7: 20). وإن كان الأمر كذلك مع الرمز (الفصح) فما بالنا كم يكون الاستعداد للمقدسات الحقيقية الإلهية (جسد الرب ودمه الحقيقيين)؟! إن تحقيق هدفنا الأسمى بنوال البركات يحتاج استعدادًا!
●الاستعداد ضرورة، لا غنى عنها:
إن وجود الإنسان في حضرة الله يحتاج الاستعداد اللائق للمثول أمامه كإله وملك عظيم، ولهذا يعلمنا الكتب المقدس أن الاستعداد للقاء الرب ضرورة لا غنى عنها. لقد أرسل الله أعظم نبي (أعظم مواليد النساء) يوحنا المعمدان، ليعلم الناس أهمية وكيفية الاستعداد قبل تجسده، وحلوله بين الناس كقول الكتاب: "هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ" (ملا3: 1).