أبونا الراهب سارافيم البرموسي -
ميلاديات -1
لم يكن ميلاد المسيح مجرّد حدث عظيم تناقلته البشريّة في مؤلفاتها التاريخيّة وسطرته أقلام المسيحيين في كتاباتهم التقويّة. ولم يكن مقدم المسيح هو إعلان عن مولد ملك يحمل الرفاهيّة لشعوب ترزح تحت سطوة الفقر والفاقة والمرض والشقاء. ولكنه كان الحدث الذي أدخل الفرح من جديد للكيان البشري المنهار من قسوة العبوديّة تحت سلطان الموت وإمرة الشيطان وأصفاد الخطيئة؛ فالشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا وتناقل الفضاء أصوات الملائكة بالفرح العظيم الذي لامس الأرض البشريّة الجدبة، وأصبحت الحياة -بعد مولد المسيح- هي احتفالية إنسانيّة / إلهيّة، بالتصالح الذي تمّ بتجسد الابن الوحيد، مخلِّص العالم. وهو ما دعا القديس كليمندس ليقول في كتابه المتفرقات (Strom. vii, 49) بأنّ: [كلّ هذه الحياة بمثابة احتفاليّة مقدّسةΑπας δὲ ὁ βὶος πανὴγυρις ἁγὶα]. إنّها احتفالية بالنور الذي بدَّد غياهب الظلمة والحق الذي حرَّر الوعي الإنساني من ضبابية الباطل وزيف المسلمات البشريّة. من هنا كان الفرح المسيحي هو التعبير الصادق عن الوعي بما تمّ بتجسُّد المسيح.
إنّ ميلاد المسيح هو الحدث الذي رفع أعين البشريّة نحو الملكوت الغائب عن واقع البشر، وهو الذي دفعهم لتبني أعين اسخاطولوجيّة ترصد ببصيرة ممسوحة بالروح، ما لا تره عين، لأن قياسها تحرَّر من مركزيّة المادة والزمن، وأصبحت تشخص في الأبديّة كما لو كانت موطن سكناها الآني. لذا فإن هذا الميلاد قد قسَّم التاريخ إلى حقبتين؛ قبل الميلاد وبعد الميلاد، الحقبة الأولى هي حقبة الرموز والتساؤلات والحيرة، بينما الحقبة الثانية هي حقبة المعاينة والملامسة والسكنى الدائمة لله في الإنسان وللإنسان في ملكوت الله.