رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
انهياره نفسيًا وجسديًا الآن بعد أن قدم أيوب مرثاة يندب حاله، فقد وجه الله سهامه ضده، واستغل الأشرار الموقف فهاجموه بكل وسيلة، في عنفٍ بلا رحمة، وحلت به الكوارث من كل جانب، الآن يكشف أثر ذلك على صحته النفسية والجسدية. فَالآنَ انْهَالَتْ نَفْسِي عَلَيَّ، وَأَخَذَتْنِي أَيَّامُ الْمَذَلَّةِ [16]. يرى أيوب كأن أيام المذلة التي طالت جدًا وقد ألقت القبض عليه، ولم تتركه، فانهارت نفسه وجفت تمامًا. * "الآن جفت نفسي فيّ، أمسكت بي أيام المذلة" [16]. تجف نفوس المختارين الآن إذ تصير فيما بعد خضراء في الأبدية المنتصرة. الآن تمسك بهم أيام الحزن، تتبعها أيام الفرح فيما بعد. كما هو مكتوب: "لمتقي الرب حُسن الخاتمة" (ابن سيراخ 13:1). مرة أخرى قيل عن الكنيسة: "تضحك في اليوم الأخير" (أم 25:31). الآن هو وقت الحزن بالنسبة للصالحين، ويأتي يوم يتبعهم المجد عوض الدموع. قيل في موضع آخر: "سحقتنا في موضع الأحزان" (مز 19:44). "موضع الأحزان" هو الحياة الحاضرة، لذلك فإن البار ينسحق هنا، وأما في الحياة الأبدية -موضع النعيم- فيرتفع. لكن عندما قال: "تجف النفس" بحق استهلها بقوله: "في ذاتي"... ففي ذواتنا تحزن بالحق نفوسنا، أما في الله فتنتعش. البابا غريغوريوس (الكبير) اللَّيْلَ يَنْخَرُ عِظَامِي فِيَّ، وَعَارِقِيَّ لاَ تَهْجَعُ [17]. هنا يتحدث عن الليل كشخصٍ كما في أيوب (أي 3: 3). فالليل يقوم بدور خطير، عمله أن ينخر عظامه فينهار هيكله العظمي، وعروقه في داخله لا تتوقف عن بث الألم الذي ينخر في كيانه! بِكَثْرَةِ الشِّدَّةِ تَنَكَّرَ لِبْسِي. مِثْلَ جَيْبِ قَمِيصِي حَزَمَتْنِي [18]. فقد أيوب ثياب الكرامة بكونه حاكمًا وقاضيًا له دوره وكلمته في المجتمع، ولكن ما هو أخطر أن ثيابه تهلهلت وساء حالها تمامًا بسبب ما حل بجسمه من أمراض وقروح. تحولت ثيابه الخارجية إلى ثياب حداد دائم، أو ثياب حزن، طوَّقت بجسمه ولا تفارقه، مثلها مثل ثيابه الداخلية. * حسب التفسير التاريخي ماذا يعني ثوب الطوباوي أيوب سوى جسده؟ بالحق أُستهلك الثوب عندما تعرض جسمه للعذاب. البابا غريغوريوس (الكبير) قَدْ طَرَحَنِي فِي الْوَحْلِ، فَأَشْبَهْتُ التُّرَابَ وَالرَّمَادَ [19]. قديمًا كان البسطاء من الشرقيين يُعبرون عن حزنهم الشديد إما بالجلوس على التراب، أو يضعونه على رؤوسهم وهم ينوحون. هنا يصور أيوب الله كمن يطرحه في التراب ليمارس الحزن في أقصى صوره، ومما زاد ألمه أن أيوب رأى في نفسه أنه قد صار شبيهًا بالتراب والرماد. على أي الأحوال حملت هذه المرثاة صورة لما بلغه أيوب من انسحاق نفس وتواضع، إذ حسب نفسه ترابًا ورمادًا. قال إبراهيم: "إني قد شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد" (تك 18: 27). وجاء في ابن سيراخ: "الرب يستعرض جنود السماء العليا، أما البشر فجميعهم تراب ورماد" (أي 17: 31). هكذا يتطلع الإنسان إلى حقيقة نفسه فيجد نفسه ترابًا، لكن بالمسيح يسوع يصير خليقة جديدة على صورة خالقه. *يقول الكتاب: "احتقرت نفسي، وانطرحت، حسبت نفسي ترابًا ورمادً" (أي 19:30 Vulgate). هذا هو تواضع النادمين. عندما تحدث إبراهيم مع إلهه، وأراد أن يناقش معه موضوع حرق سدوم، قال: "أنا تراب ورماد" (تك 27:18). كيف يوجد هذا التواضع على الدوام في العظماء القديسين؟ القديس أغسطينوس القديس باسيليوس الكبير بستان الرهبان إِلَيْكَ أَصْرُخُ، فَمَا تَسْتَجِيبُ لِي. أَقُومُ فَمَا تَنْتَبِهُ إِلَيَّ [20]. كثيرًا ما يشعر بعض المؤمنين وسط مرارة نفوسهم كأن الله لا يستجيب لصلواتهم وصرخاتهم. مع أنه يُدعى "سامع الصلاة" (مز 65: 2). في سماعه للصلاة قد تكون الاستجابة بتحقيق الطلبة لكن في الوقت اللائق. وذلك كاستجابته لطلبة إبراهيم فأعطاه اسحق ولكن في زمن الشيخوخة؛ وقد يرفض الله الطلبة لأنه يعلم أنها ليست لصالح طالبها. * عندما يعاني قديسوه من ضغوط اضطهاد الأعداء، وعندما يصرخون بلا انقطاع متوسلين لكي ينقذهم، فبتدبيرٍ عظيمٍ يبدو الله كمن لا يسمع أصوات توسلاتهم، حتى يتزكوا بالأكثر في آلامهم. إنهم يتزكون بالأكثر عندما لا تُستجاب طلبتهم سريعًا... كُتب: "إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب" (مز 2:22). البابا غريغوريوس (الكبير) لا تقل: طلبت كثيرًا ولم أجد، ولعلني لا أجد أبدًا. القديس مار يعقوب السروجي تَحَوَّلْتَ إِلَى جَافٍ مِنْ نَحْوِي. بِقُدْرَةِ يَدِكَ تَضْطَهِدُنِي [21]. في مرارة نفسه يرى أيوب كأن الله قاسٍ، يستخدم كل قوة يده ضده. ليس من تناسب بين قدرة يد الله القوية وضعف الإنسان، فكيف يمكن له أن يتحمل مقاومة الله؟ جاء في الترجمة اليسوعية: "أصبحت لي عدوًا قاسيًا، وبقوة يديك حملت عليّ". يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الله يبدو جافًا أو عنيفًا مع قديسيه، ليس لأن فيه قسوة وعنف، إنما يبدو هكذا بمقاومته لإرادتنا، فنحسبه هكذا. حَمَلْتَنِي، أَرْكَبْتَنِي الرِّيحَ، وَذَوَّبْتَنِي تَشَوُّهًا [22]. جاء في الترجمة اليسوعية: "خطفتني، وعلى الريح أركبتني، وأذابتني العاصفة". وجاء في ترجمة NKJ: "رفعتني إلى الريح، وأركبتني إياه، وأفسدت نجاحي". لعل أيوب حسب أيام رخائه كمن كان قد رفعه الله إلى الريح، فصار عاليًا جدًا؛ صارت الرياح مركبته الفائقة. لكن بقدر ما ارتفع سمح له الله أن يسقط، فيتحطم كل ما قد ناله! حقًا إن مجد العالم الزائل مجد باطل، هو جلوس على الريح غير الآمن، فبقدر ما يحسب الإنسان نفسه طائرًا كما على الريح يكون سقوطه مدمرًا له تمامًا. * مجد الحياة الحاضرة يبدو أنه عالٍ، لكنه ليس فيه أي ثبات، فيكون الإنسان كمن رُفع إلى أعلى وجلس على الريح (أي أنه في غير ثبات، إنما يسقط منه). البابا غريغوريوس (الكبير) لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ إِلَى الْمَوْتِ تُعِيدُنِي، وَإِلَى بَيْتِ مِيعَادِ كُلِّ حَيٍّ [23]. كان رجال العهد القديم يتطلعون إلى الموت، وهو مصير كل إنسانٍ، عبورًا إلى الهاوية التي هي بيت كل حيّ، وداره الذي يعود إليه. لكن جاء السيد المسيح، ونقل الأموات المؤمنين من الجحيم إلى الفردوس، كغنائم خلصها من يد إبليس ومن سلطان الموت الأبدي. * في الجزء السابق من هذا العمل أشرت إلى أنه قبل مجيء الرب نزل حتى الأبرار إلى مساكن الهاوية، حتى وإن كانوا ليسوا ساقطين في ويلات، وإنما كانوا في راحة... بحق كان ذلك يناسب أيوب قبل نعمة المخلص، إذ كان الأبرار يُحملون إلى مساكن الهاوية. مجرد دخول الهاوية يُدعى "بيت كل الأحياء". البابا غريغوريوس (الكبير) وَلَكِنْ فِي الْخَرَابِ أَلاَ يَمُدُّ يَدًا؟ فِي الْبَلِيَّةِ أَلاَ يَسْتَغِيثُ عَلَيْهَا؟ [24] جاء في الترجمة الكاثوليكية: "لا شك أن اليد لا تُمد إلى الخراب، وفي الانهيار تأتي النجدة" [24]. نظرة رائعة لأيوب البار، وموقف إيماني حيّ، ففيما تبدو له يد الله قاسية، وتصرفات الله تصدر كما من عدو، إذا به يعترف أن ما يسمح به الله من خراب زمني إنما هو بمثابة يد الله للبنيان الأبدي. يتطلع إلى بليته فيدرك وهو يستغيث أنها لخلاصه، حتى وإن وصل إلى الانهيار المؤقت. * "على أي الأحوال لا تمد يدك لخرابهم، وإن سقطوا أرضًا ستنقذهم بنفسك". بينما يروي أيوب عن ظروفه وعدم معاقبة الآخرين... يرى أن الرب لا يمد يده لهلاك الذين يخطئون، عندما يُصلح من حالهم بضربهم. البابا غريغوريوس (الكبير) أَلَمْ أَبْكِ لِمَنْ عَسَرَ يَوْمُهُ؟ أَلَمْ تَكْتَئِبْ نَفْسِي عَلَى الْمِسْكِينِ؟ [25] بإيمان حيّ يطالب أيوب البار التدخل الإلهي، فهو لا يبرر نفسه، لكنه يؤمن أنه كما ترفق بل وكما كان يبكي حين كان يجد إنسانًا في ضيقٍ، ويرثي لحال المساكين، فحتمًا يرد له الله هذا الحنو بالحنو, كأنه يقول لله: "قانونك: بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم". لقد قدمت كل حنو للنفوس المتألمة المجروحة، وكل تعزية للمساكين، الآن نفسي تئن من الجراحات، ومحتاجة إلى تعزيات إلهية، أليس من حقي أن أغتصبها منك يا أيها البار وحده؟ * لاحظوا كيف دربٌ نفسه بخصوص آلام الجسد وإهانته، فبقدر ما لم يعانِ من شيءٍ كهذا قط حيث كان يعيش دومًا في غنى وفير وسموٍ اعتاد أن يهتم بمصائب الآخرين، واحدًا واحدًا. هذا ما أعلنه عندما قال: "لأني ارتعابًا ارتعبت فأتاني، والذي فزعت منه جاء عليَّ" (أي 25:3). مرة أخرى "ألم أبكِ لمن عسر يومه؟! ألم تكتئب نفسي حين كنت أرى إنسانًا في محنةٍ" (راجع 25:30). بسبب هذا لم يرتبك من أي شيءٍ حلٌ به . * لتكن مراحمنا فياضة، ولنقدم دلائل عن محبتنا الشديدة للإنسان، سواء باستخدام أموالنا أو تصرفاتنا. فإن رأينا شخصًا ماٍ يُساء إليه ويُضرب في السوق، فإن كنا نقدر أن نقدم مالًا عنه، فلنفعل ذلك، أو إن كنا نخلصه بالكلمات، فلا نتراجع عن ذلك. فحتى تقديم الكلمة لها مكافأتها، وبالأكثر تنهداتنا. هذا ما قاله أيوب: "بكيت على كل إنسان متعسر، وتنهدت عندما كنت أرى إنسانًا في محنة" (أي 25:30). القديس يوحنا الذهبي الفم لهذا يليق بنا أن نعرف أننا نعطي بطريقة كاملة عندما نبلغ إلى المتألمين، وفي نفس الوقت نحمل في داخلنا ذات مشاعرهم. يليق بنا أولًا أن نحمل آلام الشخص المتألم في داخلنا، وبعد ذلك نشاركه أحزانه، مظهرين تعاوننا خلال الخدمة العملية... يبلغ حنو قلبنا الكمال حينما لا نخشى أن نلقي على أنفسنا شر الاحتياج من أجل زميلنا، لكي ما ننقذه من الألم. هذا النموذج من الحنو، في الواقع وهبنا إياه الوسيط بين الله والناس. فإنه كان يمكنه أن يأتي ليعيننا دون أن يموت، لكنه أراد أن يعين البشرية بالموت. بالتأكيد لو أنه لم يحمل جراحاتنا، لكان حبه لنا قليلًا جدًا... لقد أظهر مدى عظمة فضيلة الحنو بأن وضع لنفسه أن يصير إلى حالٍ لا يريدنا أن نكون عليه، وذلك من أجلنا... هذا أيضًا ما يليق أن تفعله الكنيسة المقدسة. إنها إذ ترى شخصًا يحمل دموع التوبة، تربط دموعها به بالصلاة الدائمة، وتتعاطف مع الإنسان المسكين لكي ما تعين الذهن العاري من الفضائل بتوسلاتها وشفاعتها. إننا نرثي الحزين، متعاطفين معه، عندما نشعر أن جراحات الآخرين هي جراحاتنا، ونجاهد بدموعنا لغسل خطايا المرتكبين المعصية. البابا غريغوريوس (الكبير) حِينَمَا تَرَجَّيْتُ الْخَيْرَ، جَاءَ الشَّرُّ، وَانْتَظَرْتُ النُّور،َ فَجَاءَ الدُّجَى [26]. يدهش أيوب الذي كان يترجى البركات مقابل حنوه على إخوته فانهالت الشرور (التجارب) عليه. وإذ أنار الطريق لمن هم حوله أحاطت الظلمة به. توقع إشراق الصباح المنير على حياته، فإذا به في ليلٍ بهيم. هذه هي المشاعر البشرية حتى بالنسبة لرجال الله أحيانًا، حين تشتد بهم التجارب في وقت كانوا يترجون فيضًا من البركات! * يترجى المؤمنون الخير لكنهم ينالون شرًا، وينتظرون النور فيأتي عليهم الظلام، لأن من أجل الرجاء في نوال المكافأة للتمتع بأفراح الملائكة، يُسلمون لأيدي الذين يضطهدونهم، وإن تأخر نوالها قليلًا هنا في العالم السفلي. البابا غريغوريوس (الكبير) أَمْعَائِي تَغْلِي، وَلاَ تَكُفُّ. تَقَدَّمَتْنِي أَيَّامُ الْمَذَلَّةِ [27]. صورة للأبرار أو للكنيسة بكونها متألمة، تشارك مسيحها صليبه. داخلها غليان لا يهدأ، إذ تعيش كما في أيام الشقاء. وكما يقول المرتل: "في المساء يحل البكاء، وفي الصباح الفرح". * غليان أحشاء الكنيسة المقدسة بالنسبة لها هو احتمال عنف الاضطهاد... "أيام المذلة عاقتني". تعرف كنيسة المختارين أنها ستعاني من شرورٍ كثيرة في الضيق الأخير، لكن أيام المذلة تعوقها، لأنه حتى في زمن السلام تحتمل في داخلها حياة الأشرار بروح متثقلة. البابا غريغوريوس (الكبير) اِسْوَدَدْتُ لَكِنْ بِلاَ شَمْس. قُمْتُ فِي الْجَمَاعَةِ أَصْرُخُ [28]. يرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن حديث أيوب هنا هو حديث كل بارٍ يحترق قلبه لا بنار شمس التجارب، وإنما بنيران الغيرة المقدسة والرغبة الصادقة لخلاص كل نفس. فالإنسان المؤمن لن يستريح حتى يجد الكل قد استراح معه في الرب، ويتمتع معه بخبرة عربون السماء! إنه يصرخ مع إرميا النبي قائلًا: "أحشائي، أحشائي، توجعني جدران قلبي. يئن فيَّ قلبي. لا أستطيع السكوت" (إر 4: 19). * "صرت في ثوب حداد (أسود) دون إثارة غيظ، قمت في الجماعة أصرخ" [28]. مع أن هذا الرجل كان له سلطان فوق زملائه، لكنه كان داخليًا يقدم للرب ذبيحة سرية للقلب النادم، وذلك خلال حداده. "ذبائح الله روح منكسر وقلب منكسر وتائب" (مز 51: 17)... كان شاهدًا على نفسه أنه في وسط كل تلك الظروف (من الغنى والسلطة إلخ.) لم يتنعم، بل صار في حدادٍ. فإنه بالنسبة للقديس الذي لا يزال في حالة سياحة (في العالم) كل شيء مهما كان مملوءً بالرخاء بدون رؤية الله يكون فقرًا مدقعًا. فإن المختارين إذ يرون كل شيء يحزنون أنهم لا يرون خالق كل الأشياء، وبالنسبة لهم كل هذه الأمور تافهة للغاية مقابل حرمانهم من ظهور الكائن الأعظم. البابا غريغوريوس (الكبير) صِرْتُ أَخًا لِلذِّئَابِ، وَصَاحِبًا لِلنَّعَامِ [29]. لم يجد أيوب إنسانًا ما يسنده وسط ضيقته، حتى بالنسبة لأسرته مثل زوجته أو أقاربه، فحسب الذئاب المفترسة إخوته، يعيش بينهم كحملٍ بسيط. كما حسب أصدقاءه كالنعام التي لها مظهر جميل لكنها عاجزة عن الطيران كغالبية الطيور. لا نعجب أننا نعيش في عالمٍ لا يفرز الأبرار من الأشرار، ولا ينقي الحنطة من القش، حتى تأتي الساعة التي فيها يتم الفصل الحقيقي أمام الديان القدير. يقول إني سقطت إلى مستوى الطيور أو النعام. لم أعد بعد أعرف طبيعتي، صار حالي ليس أفضل من حالهم. هذا أيضًا ما قاله داود: "صرت مثل بوُمة الخرب... صرت كعصفورٍ منفرد على السطح" (مز 102: 6-7). القديس يوحنا ذهبي الفم ولكن ماذا يفهم من الذين يُشار إليهم بالنعام سوى المحبون للظهور؟ فللنعامة جناحان لكنها لا تطير، هكذا كل المحبين للظهور، لهم مظهر القداسة، لكن ينقصهم صلاح القداسة. هذا أيضًا يتفق مع كلمات الطوباوي أيوب، هذا الذي كان على مستوى من الجلَدْ والثبات، كان رجلًا صالحًا بين الأشرار. فإنه ليس من إنسانٍ كاملٍ لا يكون حليمًا وسط شرور أقربائه. من لا يحتمل شرور الآخرين في رباطة جأشٍ، بطول أناته، يشهد عن نفسه أنه بعيد جدًا عن فيض الصلاح. من لا يختبر حقد قايين يرفض أن يكون "هابيل". ففي البيدر توجد الحنطة تحت ضغط القش... وتنمو الوردة ذات الرائحة الجميلة بين الأشواك الشائكة. كان أبناء نوح الثلاثة في الفلك، لكن اثنين استمرا في التواضع، وواحدًا في طيشٍ استخف بأبيه. كان لإبراهيم ابنان، واحد كان بارًا، والآخر كان مضطهدًا لأخيه. كان لإسحق ابنان، واحد خلص في تواضع، والثاني طُرد حتى قبل أن يُولد. وُلد اثنا عشر ابنًا ليعقوب، من بين هؤلاء بيع واحد في براءة، والبقية كانوا بائعين لأخيهم خلال شرهم. أختير اثنا عشر تلميذًا في الكنيسة المقدسة، لكنهم لم يبقوا دون فحص، واحد امتزج بهم، الذي باضطهاده (لهم) اُمتحنوا. يلتصق الإنسان البار بشر الخاطي، كما في التنور يُضاف القش إلى الذهب في النار، فالقش يحترق، والذهب يتنقى. حقًا إنهم أناس صالحون، هؤلاء القادرون أن يتمسكوا بالصلاح، حتى في وسط الأشرار. قيل للكنيسة المقدسة بصوت العريس: "كالسوسنة بين الشوك، كذلك حبيبتي بين البنات" (نش 2:2). وهكذا يقول الرب لحزقيال: "وأنت يا ابن الإنسان لديك غير مؤمنين والساقطون، وأنت ساكن بين العقارب" (حز 2: 6). مجَّد بطرس حياة الطوباوي لوط، قائلًا: "وأنقذ لوطًا البار مغلوبًا من سيرة الأردياء في الدعارة، إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يُعذب يومًا فيومًا نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2 بط 2: 7-8). يمَّجد بولس حياة تلاميذه، وبتمجيدهم يقويهم، قائلًا: "في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوارٍ في العالم، متمسكين بكلمة الحياة" (في 2: 15-16). هكذا بواسطة يوحنا يحمل ملاك كنيسة برغامس شهادة لذلك بالكلمات: أنا عارف... أين تسكن حيث كرسي الشيطان، وأنت متمسك باسمي، ولم تنكر إيماني" (رؤ 2: 13) البابا غريغوريوس (الكبير) إِسْوَدَّ جِلْدِي عَلَيَّ، وَعِظَامِي احْتَرَقَتْ مِنَ الْحُمَّى فِيَّ [30]. إذ يُشير أيوب إلى الكنيسة يرى البابا غريغوريوس (الكبير)حزن الكنيسة على النفوس الضعيفة التي تحرق شمس الضيقات جلدهم وتحرق عظامهم، فتُحسب ما حلّ بهم إنما حلّ بها، بكونهم أعضاء الكنيسة. "اسوَّد جلدي عليّ، واحترقت عظامي من الحرارة فيَّ" [30]... يشير بالجلد إلى الضعفاء، هؤلاء الذين يخدمون فيها لنفعٍ خارجي. والعظام تمثل الأقوياء، إذ خلالها يتم ترابط الجسم كله. يسقط الضعفاء في الكنيسة عن الثبوت في الإيمان، إما بالإغراء المالي أو التحطيم بالاضطهادات. وبعد سقوطهم يقومون هم أنفسهم باضطهادها، فتعاني الكنيسة من سواد جلدها. "وتجف عظامي من الحرارة"، فقد احترقت أقوى عظمة للكنيسة المقدسة، بولس، وجفت بالقلق على الآخرين، عندما قال لبعض الساقطين: "من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟" (2 كو11: 29). هكذا اسوَّد الجلد، وجفت العظام من الحرارة، لأن الضعفاء يثبون نحو الشر، والأقوياء يتعذبون بنار غيرتهم. البابا غريغوريوس (الكبير) * يا له من شعور عجيب في الراعي. يسقط الآخرون ويقول: إني أؤكد حزني. يتعثر آخرون فيقول: تلتهب نيران آلامي! ليت كل الذين عُهد إليهم قيادة القطيع العاقل أن يتمثلوا بهذا، ولا يظهروا أنهم أقل من الراعي الذي يهتم إلى سنوات كثيرة بقطيع غير عاقلٍ. ففي حالة القطيع غير العاقل لا يحدث ضرر يًذكر حتى إن حدث إهمال، أما في حالتنا فإن هلك خروف واحد أو افتراس سيكون الضرر خطيرًا جدًا ومرعبًا والعقوبة لا يُنطق بها، فوق هذا كله إذ سبق الرب واحتمل سفك دمه من أجله، فأي عذر يقدمه هذا الإنسان أن يسمح لنفسه أن يهمل ذاك الذي اهتم به الرب وبذل كل الجهد من جانبه لرعاية القطيع؟ القديس يوحنا الذهبي الفم صَارَ عُودِي لِلنَّوْحِ، وَمِزْمَارِي لِصَوْتِ الْبَاكِينَ [31]. يرى القديس أغسطينوس أن أيوب هنا يتطلع إلى الروح القدس الذي يضرب على أوتار النفس البشرية، فيقيم منها عودًا ومزمارًا؛ تذوب النفس بحب البشرية في الرب. يقضي الإنسان حياته حزينًا على كل نفس متألمة، وباكيًا مع الباكين. هذه هي حكمة الله العاملة في الإنسان فيشارك الكل مشاعرهم، وهو في هذا يشعر بسلام فائق أثناء حزنه على الآخرين. ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن المؤمن أشبه بوتر في عود أو قيثارة، إن ضُرب عليه بخفة شديدة لا يقدم صوتًا، وإن ضُرب عليه بشدة يسبب إزعاجًا. لذا يليق بالإنسان أن يسلك باعتدال في كل شيء، ففي نسكه لا يبالغ حتى لا يدمر حيويته، ولا يترك النسك كلية فلا يقدر أن يضبط جسده. إننا أوتار مختلفة في قيثارة الله، نعمل معًا، فتخرج سيمفونية مبهجة يتقبلها الله ذبيحة تسبيح وشكر مقبولة ومرضية لديه. بهذا يتمتع المؤمن بالحياة السماوية بكونها حياة جماعية في الرب، كل عضو بمفردة يشعر بلمسات يّد الله العازفة به، ولكن بذات اليد تضرب على الأوتار الأخرى في تناغمٍ وتناسقٍ بديعٍ! * يصعب علينا أن نشك - على ما أظن - أن أيوب في هذه العبارة يعني الروح القدس. موضوع النقاش هو الحكمة، من أين تأتي إلى البشر، إنها لا تأتي من كثرة السنين، بل الروح القدس الذي (يسكن) في القابلين للموت والنسمة التي للقدير هي تعلم... واضح تمامًا أنه لا يتحدث عن روح الإنسان في عبارة "الروح الذي في القابلين للموت". لقد أراد أن يظهر من أين ينال البشر الحكمة، فإنها ليس من عندهم... بنفس الطريقة في عبارة أخرى في ذات السفر يقول: "فهم شفتي لا يتأمل النقاوة. الروح الإلهي الذي شكلني ونسمة القدير تعلمني" (راجع أي 30: 3-4 LXX). القديس أغسطينوس البابا غريغوريوس (الكبير) |
|