شخصيات الكتاب المقدس
تأملات في حياة نحميا
بقلم قداسه : البابا شنودة الثالث
رجل الصلاة والعمل والروحانية والإدارة
ما نعرفه عن نحميا, أنه ظهر في التاريخ فجأة دون مقدمات, بدأ تاريخه
منذ حماسه لبناء سور أورشليم. أما تاريخه السابق فلا نعرفه.
وهذا يرينا أن هناك أناسا يبدأ تاريخهم من بدء صلتهم بالله والكنيسة,
حياتهم الحقيقية هي عملهم مع الله. أما باقي حياتهم ففراغ..!
وما أكثر الناس الذين يولدون ويموتون, وكأنهم لم يعيشوا. ينظر التاريخ
إلي حياتهم, فلا يجد فيها شيئا يستحق التسجيل.
كان نحميا أحد المسبيين في بابل.. وكان له مركز في قصر الملك ارتحشستا..
كان ساقيا للملك (نح 1: 11).
كثيرون عاشوا في السبي, وكانوا من مشاهير الرجال في أيامهم.
مثال ذلك دانيال النبي, في أيام الملك نبوخذ نصر الذي منحه سلطة علي كل
ولاية بابل, وجعله رئيس الشحن علي جميع حكماء بابل (دا 2: 48). ونجح
دانيال أيضا في حكم داريوس الملك وفي حكم الملك قورش الفارسي (دا 6:
28).
والثلاثة فتية القديسون أيضا كانوا في أرض السبي, وقد قدمهم الملك في
ولاية بابل (دا 3: 30) - حزقيال النبي أيضا كان ضمن المسبيين. وقد تنبأ
عند نهر خابور (حز 1: 1).
إذن لا يحزن إنسان إن كان في السبي, مادام الرب معه في أرض السبي.
وليس في أرض السبي فقط.. لأن الرب كان مع الثلاثة فتية هناك, في أتون
النار. وكان كذلك مع دانيال في جب الأسود. وكان مع حزقيال الذي قال .....
وأنا بين المسبيين عند نهر خابور, أن السموات انفتحت, ورأيت رؤي الله (حز
1: 1).
ونفس الوضع حدث أيضا مع القديس يوحنا الرسول, الذي وهو منفي في جزيرة
بطمس, قال: نظرت وإذا باب مفتوح في السماء.... (رؤ 4: 1).
حقا, حينما تنغلق أبواب كثيرة علي الأرض, يبقي الباب مفتوحا في السماء...
نعود إلي نحميا فنقول إنه عاش في أيام صعبة بالنسبة إلي أورشليم.
كان هو مستريحا في قصر الملك ارتحشستا, وكانت له وظيفة مرموقة في البلاط. وكان موضع ثقة الملك, بدليل أنه عينه في مرتبة أحد الولاة. ولكن أزعجه ما سمعه من بعض رجال يهوذا أن سور أورشليم منهدم, وأبوابها محروقة بالنار, والذين بقوا من السبي هناك, هم في شر عظيم وعار (نح 1: 3).
نحميا كان يعيش في بابل, وقلبه في أورشليم.
لهذا, لماذا سمع تلك الأخبار المؤلمة, قال فلما سمعت هذا الكلام, جلست وبكيت, ونحت أياما وصمت وصليت (نح 1: 4).
ووقف أمام الله يتشفع في إخوته هؤلاء, ويقول لله هم عبيدك وشعبك الذي افتديت بقوتك العظيمة. وأخذ يعترف أمام الله بخطايا هذا الشعب التي كانت سببا في السبي.. وختم صلاته بقوله للرب لتكن أذنك مصغية, وعيناك مفتوحتين لتسمع صلاة عبدك....
ولم يكتف نحميا بالصلاة, إنما صمم أن يعمل عملا, ويكلم الملك في الأمر.
لهذا قال في صلاته للرب أعط النجاح اليوم لعبدك, وامنحه رحمة أمام هذا الرجل (نح 1: 11).
وقف أمام الملك مكمدا, وليس كما كان من قبل. ولما سأله الملك عن سر كآبته, كلمه بكل صراحة: كيف لا يكمد وجهي, والمدينة بيت مقابر آبائي خراب, وأبوابها قد أكلتها النار؟! (نح 2: 2, 3).
ولم يكتف بهذا, بل طلب من الملك أن يعطيه مواد للبناء, ورسائل إلي الولاة لكي يسهلوا مهمته. وفعل الملك ذلك, وقال نحميا فأعطاني الملك, حسب يد إلهي الصالحة علي (نح 2: . كانت صلاته السابقة قد استجيبت.
إن نحميا درس عميق, للذين يعينون في مناصب كبيرة, فيخشون أن يطلبوا لأجل إخوتهم, حفاظا علي مناصبهم!!
أما نحميا فكان جريئا, ولم ينس بيت آبائه, دافع عن إخوته, واحتفظ بمنصبه, ونال تقدير الملك, بسبب غيرته المقدسة ونبله.
كذلك فإن نحميا هو درس أيضا للمهاجرين الذين ينسون بيت آبائهم, وينسون إخوتهم حتي إن كانوا في شر عظيم وعار (نح 1: 3).. وتستهويهم رفاهية الحياة في أرض الغربة!!
أما نحميا فقد كانت أسوار أورشليم المهدمة تجذبه, أكثر من قصر الملك الذي يعيش فيه.
لذلك ترك قصر الملك, ويذهب ليبحث عن سلامة إخوته, وهو في هذا يذكرنا بموسي النبي الذي أبي أن يدعي ابن ابنة فرعون, مفضلا بالأحري أن يذل مع شعب الله.. حاسبا عار المسيح غني أفضل من خزائن مصر (عب 11: 24-26).
ما كان أحد يطالب نحميا, ولا كان أحد يطالب موسي بما فعلا.
الأعذار متوفرة وموجودة, ولكنهما لم يستخدما شيئا منها.. ما كان أسهل علي نحميا أن يقول: أنا أحد المسببين, ماذا بإمكاني أن أفعل؟!
ولكنها الغيرة التي في القلب, التي تشق طريقا في الصخر.. أو هي المحبة التي لا تعترف بالعوائق, المحبة التي لا تقتصر علي مجرد إبداء المشاعر, إنما تطيع قول الرسول ... لا نحب بالكلام ولا باللسان, بل بالعمل والحق (1يو 3: 18).
وهكذا اختار نحميا الطريق الصعب, وبدأ رحلته نحو المجهول, رحلة الحب والغيرة...
رحلة طويلة وشاقة علي دابة (نح 2: 12). وصل بعدها إلي أورشليم, وسلم الرسائل إلي الولاة... وكان ينتظره تعب العمل, وتعب آخر من بعض الأعداء مثل سنبلط الحوروني, وطوبيا العبد العموني, وقد ساءهما مساءة عظيمة أنه قد جاء رجل يطلب خيرا لإخوته (نح 2: 10).
وكان نحميا حكيما, فقام أولا بعملية استطلاع واستكشاف. وأحاط الأمر بسرية كاملة.
قال قمت ليلا.. أنا ورجال قليلون معي - ولم أخبر أحدا بما جعله إلهي في قلبي لأعمله في أورشليم (نح 2: 12). وظل يطوف من مكان إلي آخر, ويعبر من أحد أبواب المدينة إلي باب آخر, ويقول في ذلك وصرت أتفرس في أسوار أورشليم المهدمة وأبوابها التي أكلتها النار... ولم يعرف الولاة إلي أين ذهبت, ولا ما أنا عامل, ولم أخبر إلي ذلك الوقت اليهود والكهنة والأشراف.. وباقي عاملي العمل (نح 2: 13-16).
إنها الحكمة التي تستدعي السرية, خاصة في مرحلة الدراسة, وقبل صدور القرار ببدء العمل.
إن يد الله الصالحة معه, ليس معناها أن يتهور, ويكشف خطته وهناك أعداء متربصون, أو أن يلقي بيانا قبل أن يدرس ويقرر.. إن الحكمة لازمة في عمل الله. وما أكثر الذين أفسدوا عملهم بكشف الأمر قبل أوانه.
ولما تمت الدراسة, أخبر إخوته بنيته, كما شجعهم بأن حدثهم عن يد الله الصالحة معه, وكلام الملك. وقال لهم عبارته المشهورة: هلم لنبني سور أورشليم, ولا نكون بعد عارا (نح 2: 17).
وأخذ يوزع العمل, في حكمة وحسن تدبير.
قسم العملية, وأشرك معه الجميع, وجعل البعض يرممون ما هو إلي جوار مساكنهم, والكهنة أيضا اشتركوا في العمل بنوا باب الضأن, وقدسوه وأقاموا مصاريعه...., وهكذا باقي أبواب أورشليم الاثني عشر, اشتغل الكل فيها, وفي إقامة المصاريع والأقفال والعوارض... بدراسة دقيقة لمداخل المدينة...
إن حسن التدبير أمر لازم, يجب أن يتصف به أولاد الله والقائمون علي الخدمة:
ليس في الأمور الدنيوية فقط, بل بالأكثر في أمور الكنيسة.
ولذلك تشترط قوانين الكنيسة أن يكون الأسقف جيد التدبير وكذلك الكاهن, وقد استطاع أن يدبر أهل بيته حسنا لأنه إن كان أحد لا يعرف أن يدبر بيته, فكيف يعتني بكنيسة الله؟! (1تي 3: 4-5). ويقول الكتاب عن القسوس المدبرين حسنا فليسحبوا أهلا لكرامة مضاعفة (1تي 5: 17). بل يقول الكتاب حيث لا تدبير, يسقط الشعب (أم 11: 14).
كان نحميا حسن التدبير, وبتدبيره سار العمل حسنا.
ولكن نجاح نحميا أغاظ أعداءه, فقاموا ضده.
بدأوا أولا بالتهكم, وهزأوا بالعمل: ماذا يعمل هؤلاء الضعفاء؟! هل يحيون الحجارة من كوم التراب وهي محرقة؟! إن ما يبنونه, إذا صعد ثعلب عليه يهدم حجارة حائطهم!
وكان نحميا يتلقي هذا الاستهزاء والتحقير ويقول: اسمع يا إلهنا, لأننا قد صرنا احتقارا, ورد تعبيرهم علي رؤوسهم (نح 4: 1-4).
لا مانع أن يتعرض أولاد الله للتعيير والتحقير!
فالسيد المسيح نفسه تعرض لهما, وقيل عنه محتقر ومخذول من الناس ظلم, أما هو فتذلل ولم يفتح فاه (أش 53: 3-7) والقديس بولس قال عن نفسه وعن زملائه في الخدمة بمجد وهوان, بصيت حسن وصيت ردئ (2كو 6: .
صبر نحميا, واحتمل لكي يكمل العمل, ولم يمنعه الاستهزاء عن تكملة عمله.
إن طبيعة الذين لا يعملون, أن يحقروا العاملين.
ماذا فعل سنبلط الحوروني, وطوبيا العموني وجشم العربي؟! لا شيء, لقد تعبوا في داخلهم, أما نحميا فلم يتعبه تحقيرهم, يقول نحميا ولما سمع سنبلط أننا آخذون في بنآء السور, غضب واغتاط كثيرا (نح 4: 1).. ولما سمعوا أن أسوار أورشليم قد رممت, والثغرات قد ابتدأت تسد, غضبوا جدا, وتآمروا جميعهم معا, أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضررا (نح 4: 7-8).
ولما وصل الأمر إلي التآمر والمحاربة, بدأ نحميا في عمل الحراسة والدفاع.
حقا إن المزمور يقول: إن لم يحرس الرب المدينة, فباطلا سهر الحارس (مز 127: 1). ولكن هذا لا يمنع من أن يؤدي الخدام واجبهم في الحراسة, وفي الدفاع. وهكذا فعل داود في حراسة غنمه (1صم 17: 34, 35). وقد قيل عن الرعاة الذين بشرهم ملاك الرب بميلاد المخلص إنهم كانوا يحرسون حراسات الليل علي رعيتهم (لو 2: .
لذلك فإن نحميا أقام حراسات للعمل, إذ قال الأعداء ندخل إلي وسطهم ونقتلهم ونوقف العمل (نح 4: 11).
عجيب أن تصل العداوة إلي هذا الحد, ويسمح الله أن يوجد أعداء يحاربون هكذا!!
لم يقم نحميا بأي عمل ضدهم, ولكن نجاحه أزعجهم, إن النجاح دائما يزعج الشيطان أولا, والشيطان في حسده وحقده يستخدم أعوانه, لكي يوقفوا العمل!
إن نحميا لم يخف من مؤامرة أعدائه, ولا من تهديدهم بقتله, بل قال للقادة وللشعب لا تخافوهم, بل اذكروا السيد العظيم المخوف (نح 4: 14).
وإذا بنحميا رجل الصلاة والإيمان, يتحول إلي قائد صلب قوي.
إن عمله الجبار في الحراسة والدفاع, لا يمنع إيمانه بحراسة الله له. إن تقدم داود بمقلاعه لمحاربة جليات, ليس ضد إيمانه إذ يقول, اليوم يحبسك الرب في يدي لأن الحرب للرب, وهو يدفعكم ليدنا (1صمم 17: 46, 47), فماذا فعل نحميا إذن؟
كان نصف غلمانه يشتغلون في العمل, ونصفهم يمسكون الرماح والأتراس والقسي والدروع.. أما البناءون وعمالهم, فكانوا يبنون, وسيف كل واحد مربوط علي جنبه.. باليد يعملون العمل, وبالأخري يمسكون السلاح, والنافخون بالبوق مستعدون لجمع الكل وقت اللزوم (نح 4: 16-20).
ومع كل هذه الحراسة ووسائل الدفاع, ختم نحميا استعداداته بقوله إلهنا يحارب عنا (نح 4: 2).
وفي اهتمام نحميا بمقاومة الأعداء, لم يغفل عن المقاومة الداخلية ضد الذين يضعفون معنويات الشعب.
كان الأغنياء يقرضون إخوتهم بالربا, ويستولون علي حقوقهم وكرومهم وبيوتهم, أو يضعونها تحت الرهن وزاد صراخ الشعب من ذلك (نح 5: 1-5).
وكان لابد لنحميا كمدبر حكيم, أن يحمي الجبهة الداخلية. فوقف بقوة ضد أولئك الكبار, ووبخ العظماء والولاة, وأقام عليه جماعة عظيمة, ومنعهم من أخذ الربا من إخوتهم, ليس فقط من جهة المستقبل, بل عمل علي إصلاح الماضي أيضا, فقال لهم: ردوا لهم في هذا اليوم حقولهم وكرومهم وزيتونهم وبيوتهم.. والذي تأخذونه منهم ربا (نح 5: 11).
وهكذا أصلح الأمر, واستحلفهم علي الاستجابة. وهددهم بأن نفض حجره أمامهم. وقال: هكذا ينفض الله كل إنسان لا يقيم هذا الكلام.. ويكون منفوضا وفارغا, وقال كل الشعب آمين (نح 5: 13).
وأقام نفسه مثالا عمليا أمامهم في النزاهة وعدم استخدام سلطته لمنفعته, كوال عليهم.
لقد صار واليا 12 عاما, من السنة العشرين إلي السنة 32 من حكم ارتحشستا الملك.
طوال هذه المدة لم يستخدم امتيازاته, فلم يأكل من خبز الوالي, ولم يأخذ من الشعب إتاوات كما فعل الولاة الذين قبله, بل كان يدعو الكثيرين إلي مائدته مائة وخمسين.. وكان يذبح لهم ويطعمهم ويسقيهم (نح 5: 14-18).
وأكمل بناء السور, وقبل أن يقيم مصاريع الأبواب, طلب الأعداء أن يتفاهموا معه, فرفض.
أرسل إليه سنبلط وجشم أن يجتمع معهما للتشاور, فرفض وقال لهما إني أنا عامل عملا عظيما, فلا أقدر أن أنزل إليكما. لماذا يبطل العمل إذا تركه, وأرسلوا إليه بذلك خمس مرات فلم يستجب لهما (نح 6: 1-5).
إنه لم يرد أن يعطل عمله الإيجابي, من أجل الحوار مع أشخاص لا يريدون سوي العداوة.
وحسنا فعل إذ كانا يفكران أن يعملا به شرا (نح 6: 2), إن الحوار لا يفيد إذا كانت النية غير سليمة, والقلوب غير نقية...
وأوغر أعداؤه إلي بعض إخوة كذبة يحيطون به, أن ينصحوه بالهروب إلي الهيكل لكي يحتمي به لأنهم مزمعون أن يقتلوه. فرفض وقال لهم أرجل مثلي يهرب؟!.. لقد عرف أنهم قد استؤجروا ضده, وقال عن ذلك لكي أخاف وأفعل هكذا وأخطئ, فيكون لهم خبر ردئ يعيرونني به (نح 6: 13).
أخيرا استطاع نحميا أن يبني السور, ويقيم المصاريع, ويرتب البوابين, ويقيم الحراسات.
كل شيء تم ترتيبه بدقة, وجعل نظاما لغلق الأبواب وفتحها, بمواعيد, وأقام حراسات من سكان أورشليم, كل واحد علي حراسته وكل واحد مقابل بيته (نح 7: 1-3).
لقد اهتم بعمله الإيجابي, ولم يبال بالسلبيات.
وماذا كانت نهاية العاملين في السلبيات, يقول نحميا ولما سمع كل أعدائنا, ورأي جميع الأمم الذين حوالينا, سقطوا كثيرا في أعين أنفسهم, وعلموا أنه من قبل إلهنا عمل هذا العمل (نح 6: 16).
إن نحميا رجل واحد, ولكنه استطاع أن يغير الصورة, ويحول الظلام إلي نور, بإيمانه وصلاته, وبقوته وعمله, وبتدبيره ومثابرته, وبشجاعته وعمل خوفه, وبعدم تضييع وقته في السلبيات ومقاومة الأعداء.
انتهي من بناء أسوار أورشليم وترميم أبوابها, ولكن ماذا فعل من جهة البناء الروحي؟
هذا ما أود أن أحدثكم عنه في العدد المقبل, إن أحبت نعمة الرب وعشنا.
|