"الله محبّة". إذاً الله شخصاني. هناك فرق بين الشخص والفرد. الفرد يتميّز بفرادته فيما يتحقّق الشخص بامتداده، باجتماعه إلى غيره، باتحاده بسواه. الشخص يمتدّ صوب الشخص فيكون. العلاقة تكون بين أشخاص. الشخص هو مَن يحبّ أو لا يكون شخصاً. يكون فرداً. يبقى في مستوى الفرادة. لذلك الله شخصاني، لأنّه يُحِبُّ ويُحَبّ.
هذا، كما يظهر فيما بيننا، هو إسّ الله، حقيقتُه الكيانية العميقة. مقاربتنا لله كثالوث هي، بالضبط، من منطلق كونه محبّة. الله لا يُعَدَّ. الله واحد لأنّه تمام المحبّة وملؤها. المحبّة تكون إلى واحد. الله، في ذاته، واحد لأنّه محبّة. كل ما في الله واحد لأن كل ما في الله محبّة.
والمحبّة، أيضاً، شخصانية، أنا وأنت وهو. المحبّة هي آب وابن وروح قدس، الآب كشخص والإبن كشخص والروح القدس كشخص وإلاّ لا تكون. لا تكون هناك محبّة إذا ما أحبّ الواحد أو الفرد نفسه. المحبّة هي في الحركة باتجاه الآخر.
"في البدء كان الكلمة والكلمة كان نحو الله" (يو 1: 1).
"نحو الله"، في اليونانية، أدق من "عند الله".
هذا كان في البدء. الواحد يتجلّى في الآخر. الآخر يكون مرآة للواحد. لا يُعرف الواحد، في المحبّة، في ذاته بل في الآخر. في المحبّة كلٌّ إيقونة للآخر. يا أنا أنت! "مَن رآني فقد رأى الآب".
وكلّ، أيضاً، يخبِّر عن الآخر. يشهد للآخر. "الذي يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أنّ شهادته التي يشهدها لي هي حقّ" (يو 5: 32).
"الآب نفسه الذي أرسلني هو يشهد لي" (يو 5: 37). "لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً" (يو 8: 19). "المعزّي... روح الحقّ... هو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً" (يو 15: 26 ? 27).
"المحبّة لا تطلب ما لنفسها" (1 كو 13: 5).
المحبّة لا تقدر أن تفعل من نفسها شيئاً. لذا قولة يسوع كانت: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً" (يو 5: 30).
ليس بمعنى أنّه عاجز عن شيء ولكنْ لأنّ طبيعته محبّية يشهد للآب ويتجلّى في الروح القدس وتلاميذِه، كما يشهد له الآب والروح. "لهذا يحبّني الآب لأنّي أفعل في كل حين ما يرضيه".
في المحبّة يغيِّب الشخصُ نفسَه إرادياً في الآخر. "لست أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني".
هذا قاله يسوع رغم أنّ مشيئة الآب هي إيّاها مشيئة الابن طالما محبّة الآب والابن، كلّ للآخر، واحدة. لكل هذا تمام المحبّة وحدة في ثالوث. المحبّة لا تكتفي بالـ "أنا" والـ "أنت" لئلا تنغلق وتمسي أنانية مزدوجة.
حين يحبّ الرجل والمرأة كلٌّ الآخر دون الناس تستحيل محبّتهما أنانية ثنائية. محبّتهما لثالث تكون دليلاً على سلامة المحبّة بينهما. والثالث هو كلُّ آخر وإلاّ يكون الآخر امتداداً لأنانية اثنين.
ملء الاستقرار في المحبّة هو للثالوث لأنّ الله في الثالوث ينفتح ويسكب ذاته بلا حدود. لذا محبّة الله بيننا انسكاب ثالوثي. الثالوث، في ذاته، محبّة ونحن في الامتداد، في النعمة، بالتبنّي.
هكذا أظهر الله ذاته لنا وهكذا عرفناه ونشهد له بمحبّة من المحبّة التي هو إيّاها والتي أحبّنا بها. "نحن نحبّه لأنّه هو أحبّنا أولاً" (1 يو 4: 19). "ونحن قد عرفنا وصدّقنا المحبّة التي لله فينا" (1 يو 4: 16).
والمحبّة التي من الله فينا والتي بها نحبّه هي أيضاً المحبّة التي نتعاطاها فيما بيننا.
فإن فعلنا نتكمّل، أي نصير واحداً على مثال الثالوث، لأنّ محبّته تكون قد تكمّلت فينا في خطّ القول العظيم: "إن أحبّ بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا ومحبّته قد تكمّلت فينا" (1 يو 4: 12).
هذه بالذات هي معرفة الله، هذه هي الحياة الأبدية، أن تكون فينا محبّتُه محبّتَنا له ولأحدنا الآخر. "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17: 3).
كل الكلام عن كون الآبِ في الابن والابنِ في الروح القدس، وعن كونِنا في المسيح وكونِ المسيح فينا، وعن إقامة الآب والابن فينا كلُّه كلامُ محبّة.
في نهاية المطاف الآب يعطينا الكلَّ لأنّه يعطينا ذاته في الابن بالمحبّة التي هي من جوف الله. نحن لا نتكلّم عن كون الإنسان مدعواً للتألّه إلاّ في نطاق الكلام عن محبّة الله التي تجعله مقيماً فينا من حيث كونه محبّة. الله فينا لأنّه أحبّنا. بعد ذلك كل حديث عن جوهر الله يتخطّى أفهامَنا لأنّنا نحن لا نعرف جوهر الله.
فقط نعرف أنّ جوهر الله يُشعّ فينا وبيننا محبّةً واحدة، مشيئةً واحدة، قوّةً واحدة، حضوراً واحداً.
كما أنّه لا يمكننا أن نتكلّم عن الله إلاّ باعتبار كونه محبّة، لا يمكننا أن نتكلّم عن الله إلاّ باعتبار كونه ثالوثاً.
في الله كما عرفناه ونعرفه يأتينا اللهُ المحبّةُ آباً بالابن في الروح القدس، محبّةً واحدة. لا الآبُ نعرفه وحيداً ولا الإبنُ وحيداً ولا الروحُ القدس وحيداً بل نعرف كلاً متوارياً في الآخر. متى قلتَ اللهَ قلتَ واحداً في ثالوث. كلُّ ما للآب هو للابن وكلُّ ما للابن هو للروح القدس وكل ما للروح القدس هو للآب. ليس للآب ما ليس في الابن والروح القدس.
ليس ما للواحد ما ليس في الآخر. لا يفرق الآب عن الابن، عن الروح القدس، في شيء إلاّ في كون الآب آباً مميَّزاً عن الابن، مميَّزاً عن الروح القدس. المحبّة واحدة. المشيئة واحدة. القوّة واحدة. النور واحد ثالوثي أبداً. لكنْ فقط ابنُ الله تجسّد.
لا الآب تجسّد ولا الروح القدس تجسّد. لذا كلمة الله، من جهة الآب والروح القدس، واحد مع الله في اللاهوتِ والمشيئة والقوّةِ. وكلمة الله المتجسّد، من جهة الناس، واحد، مع الناس، في الناسوتِ والمشيئةِ والقوّةِ. هذا يجعل يسوع ذا مشيئتَين وقوّتَين، واحدة من جهة الله والأخرى من جهتنا. لكنّه، في كل شيء، أَخْضَع ما للبشرة للآب السماوي حتى نُخْضِعَ نحن، أيضاً، في الروح القدس، وإرادياً، ما لمشيئتنا وما لقوّتنا للآب السماوي، لكيما بإخضاعِنا ذواتِنا لله، عن إرادة، تنساب محبّته فينا وتقيم بيننا ليصير الآبُ الكلَّ في الكلّ ويَصيرَ فينا كل ما في الآب لأنّ الروح يُعطى بلا قياس.
آباؤنا تكلّموا عن جوهر الثالوث الواحد. هذا، وجودياً، تأكيد لأزليّة المحبّة، أنّه لم يكن وقت لم يكن فيه الله محبّة، أي لم يكن هناك وقت لم يكن فيه الله واحداً في ثالوث.
الآب أزلي والابن أزلي والروح القدس أزلي. فلأنّه واحد أزلي، آباً وابناً وروحاً قدساً، لأنّ محبّته واحدة ومشيئتَه واحدة وقوّتَه واحدة، لذلك لا بدّ أن يكون جوهرُه واحداً. الجوهر، لغةً، مفردة فلسفية نعبّر بها عن تلك الظلمة النورانية التي تفوق ما أُعطي لنا أن نعرفه والتي تكمن وراء كل ما أُظهِرَ لنا ومنها ينبثق.
هذا هو الإله الذي نعبد. الله تكلّم، بدءاً، بالكلمة ليُعِدَّنا، في التاريخ، لخطاب من نوع جديد. والخطاب الجديد الذي كشف لنا فيه سرّ تدبيره للبشريّة كان كلمة الله.
الله، في ملء الزمان، كلّمنا بابنه. "الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا، في هذه الأيّام الأخيرة، في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء..." (عب 1: 1 ? 2).
الوارث هو مَن قيل كل ما سبق أن قيل عنه. فإن لم يأت الكلام الذي كلّم به الله كل الشعوب، منذ البدء، وهو الذي لم يترك نفسه بلا شاهد في كل أمّة (أع 14: 17)، إن لم يأت هذا الكلام بالشعوب إلى مسيح الربّ تكون قد ضلّت سواء السبيل.
خطاب الله للأقدمين لم يكن إلاّ علامات طريق تفضي إلى المدينة السماوية. ما سبق أن كلّم به الله الأمم كلّها لم يكن غاية في ذاته بل مؤشّرات إلى المسيح. كل العهد القديم، وكل كلام صدر عن الله للعالمين، رَسَمَ الملامح الروحية لمسيح الربّ الآتي قليلاً أو كثيراً. لا بديل عن المسيح. "ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي".
المسيح أو الضلال! ولا ملامح إلاّ التي حدّدتها كنيسة المسيح وآباؤها وقدّيسوها وهي ملامح في الروح لا يتبيّنها إلاّ السالكون في نقاوة القلب. "طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم يعاينون الله".
المسألة ليست لا مسألة علم ولا ثقافة ولا حضارات. هذه تعابير لما هو في الكيان وليست الكيان عينه. لذلك الكنيسة متى تكلّمت تتكلّم لأنّها تعرف وتخاطب الكيان. ومتى كرزت بالحقّ ?والكرازة أقدس الوصايا من جهة محبّتنا للسالكين في الظلمة وظلال الموت? أقول متى كرزت الكنيسة بالحقّ تشهد
"أنّ الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. نكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً" (1 يو 1: 2 ? 4).
كل هذا ما كان ليكونَ لنا فيه نصيب لو لم تكن العقيدة نصيبَنا، لو لم نتمسّك بها بأمانة ما بعدها أمانة. عقيدتنا هي نور عيوننا. لولاها لغططنا في الظلمة والجهل. لولاها لما كنّا نعرف الله ومحبّة الله ولما كان لنا نصيب في سكنى الله فينا. نحن رائحة الثالوث.
"نحن رائحة المسيح الزكيّة لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15 ? 16).
إذاً عقيدتنا وجودُنا لأنّها إيقونة ملء محبّة الله لنا ومصوَّر خلاصنا