لأَنَّ غُرَبَاءَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ،
وَعُتَاةً طَلَبُوا نَفْسِي.
لَمْ يَجْعَلُوا اللهَ أَمَامَهُمْ. سِلاَهْ [ع3].
غرباء: كان الزيفيون من ذات سبط داود، أي من سبط يهوذا، لكن كان لهم روح الغرباء. قد يكون الإنسان قريبًا لك، من عائلتك، لكنه عوض أن يعينك يقف ضدك. فقد جاء السيد المسيح إلى خاصته، وخاصته لم تقبله. كما قال السيد: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36). حينما يستغل عدو الخير أقرب من لك لتحطيم حياتك الروحية وإفساد نفسك، إنما يحمل روح التغرُّب والعداوة.
"عتاة": في عتاب أيوب لأصدقائه يصرخ: "هل قلت أعطوني شيئًا؟ أو ومن مالكم ارشوا من أجلي؟ أو نجوني من يد الخصم أو من يد العتاة افدوني؟" (أي 6: 22-23). وجاء الوعد الإلهي: "أنقذك من يد الأشرار، وأفديك من كف العتاة" (إر 15: 21).
"لم يجعلوا الله أمامهم": لا يخشون الله، ولا يعطون أي اعتبار لوصاياه وكلمته وإرادته. وكما قيل عن معصية الشرير: "نأمة (أنين داخلي) معصية الشرير في داخل قلبي أن ليس خوف الله أمام عينيه" (مز 36: 1). فالشرير، لا يخشى الله، ولا يبالي بوصيته الإلهية أو الكلمة الإلهية، حاسبًا كلمة الله (السيد المسيح) عدوًا ضده وخصمًا، فيعطيه ظهره، ولا يجعله أمامه. الشر يفسد القلب، فلا يطيق النور الإلهي، ولا يحتمل رؤية المسيح المصلوب.
يقول القديس أغسطينوس: [عندما يحب البشر خطاياهم يبغضون وصايا الله؛ ويصير حكمة الله (المتجسد) خصمًا لكم إن صرتم أصدقاء لشروركم. لكن إن صرتم خصمًا لشروركم، يكون كلمة الله صديقًا لكم، وخصمًا لشروركم].
* الإنسان المتغرب عن كنيسة الله يضطهدها، حاسبًا أنه قوي، ليس من قوة تروعه. مثل هذا لا يجعل الله أمامه، بل يتكل على قوته أو سلطانه أو ممتلكاته أو أصدقائه.
الزيفيون غرباء، وشاول وجنوده هم الأقوياء.
أيضًا يدُعى الذين تغرَّبوا عن الله غرباء... ولو أنهم بنو جنسنا وأقرباؤنا، لأنهم يطلبون هلاك نفوسنا، إذ لم يعبأوا بعناية الله، وتهاونوا بقدرته.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* عندما لا يضع الإنسان الله أمام وجهه، ماذا يكون أمام عينيه إلا العالم؟ بمعنى آخر يجمع مالًا على مالٍ، ويهتم أن يزيد القطيع، وتمتلئ مخازنه، فيقول لنفسه: "يا نفسي لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة، استريحي وكُلي واشربي وافرحي" (لو 12: 19).
القديس أغسطينوس
* نعم إن الذين يتكلمون بكلام الله أمام الله يفهمون أنهم قد قبلوا كلمات التعليم من الله، وبهذا يجب أن يسعوا لمسرة الله، وليس لمسرة ذواتهم. كذلك ينبغي أن ينصتوا إلى قول الكتاب: "مكرهة للرب كل متشامخ القلب" (أم 16: 5).
من الواضح أن هؤلاء عندما يسعون وراء مجدهم الباطل باستغلال كلمة الله، يغتصبون حق الله الواهب المعطي، لأنهم لا يخشون سلب المديح من الذين قبلوا التعليم بأمورٍ مقدسة.
ليسمعوا كذلك ما يقوله سليمان للمعلمين: "اشرب مياهًا من جُبِّكْ، ومياهًا جارية من بئرك، لا تفض ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع، لتكن لك وحدك، وليس لأجانب معك" (أم 5: 15-17)[94]. فعندما يفحص المعلم أعماق قلبه، وينصت إلى ما يقوله، يشرب من جُبِّه. وهو يشرب من المياه الجارية من بئره، إذا تأثر بارتوائه من ينبوع الكلمة.
وعندما أضاف: "لا تفض من ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع" يقصد أنه ينبغي أن يشرب الراعي أولًا ثم بعد ذلك يروي الآخرين بالتعليم. إن فيض الينابيع إلى الخارج ما هو إلا تقطير التعليم كالماء بقوة في الآخرين. وتعني "سواقي المياه في الشوارع" توزيع الكلمة الإلهية بين جموع غفيرة من السامعين، كلٌ حسب شخصيته. ولأنه مع امتداد كلمة الله إلى معرفة الكثيرين يحشر المجد الباطل نفسه، هكذا جاء القول المناسب: "لتكن لك وحدك، وليس لأجانب معك".
في هذا المجال تدعو الحكمة الأرواح الشريرة "بالغرباء". لقد كتب النبي عن المجرَّبين قائلًا: "لأن غرباء قد قاموا عليّ، وعتاة طلبوا نفسي" (مز 54 :3). لذلك يقول لتبقَ سواقي المياه في الشوارع لك وحدك، ويعني هذا أنه من الضروري أن يخرج الراعي للتعليم كالسواقي في الشوارع، ولكن عليه ألاَّ يتحالف مع الأرواح النجسة وذلك من خلال الغرور.
ينبغي ألاَّ نتخذ من الأعداء شركاء في خدمة الكلمة الإلهية. علينا بذلك أن نبث تعليمنا بعيدًا ليتسع دون أن تغرينا أية رغبة في المديح الباطل.
الأب غريغوريوس (الكبير)