رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
المؤمن وسط الآلام المحرقة هل رد فعل المؤمن مع صدمات الحياة وآلامها يتساوى مع رد فعل غير المؤمن مع نفس الظروف؟ ولماذا؟ وهل النظريات النفسية التي تتكلَّم عن ردود أفعال البشر مع الصدمات والآلام والضغوط، تنطبق على المؤمن، أم لا؟ ولماذا؟ قد يتعجب الكثيرون من ردود أفعال بعض المؤمنين في التجارب المختلفة ولا سيما التي تسمى “البلوى المحرقة”، ويعتبرون أن هذا شيء غير طبيعي، وأنه ربما يحاول المؤمن أن يهرب بذهنه من التجربة، فيتناساها إلى حين، لكن لا بد أنه سيأتي وقت الصدمة الذي يعقبه الانهيار. وذلك الحُكم سببه أننا نفسِّر رد الفعل هذا في ضوء المنطق البشري، وقدرة الاحتمال، والنظريات، وردود الأفعال الإنسانية البشرية. ومع أن المؤمن هو كيان إنساني متكامل، روح ونفس وجسد، قلب وفكر ومشاعر إنسانية، لكنه ليس مجرد ذلك، بل هو أكثر كثيرًا. فبماذا يتميَّز؟ المؤمن له حياة أبدية «إن مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياةٌ أبديةٌ» (يو5: 24). الله الروح القدس يسكن في كيانه الداخلي «جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم» (1كو6: 19). له ذهن متجدِّد فمن حقِّه أن يفكِّر بذهن جديد، مستنير (أف1: 17-24؛ رو12: 2). هذا الذهن ممتلئ باليقينيات الثابتة عن الله وعلاقة المؤمن به؛ عن سلطانه الذي يتحكَّم في كل شيء ويحرك كل شيء، عن محبته التي لا تتغيَّر، عن تزعزع كل شيء على الأرض ... إلخ. وهذه يقينيات ثابتة وليست احتمالات قابلة للتغيير، فهي تملأ ذهن المؤمن وقلبه. الحياة الجديدة التي للمؤمن هي نفس حياة المسيح التي عاش بها هنا على الأرض. وأصبح عنده، بالروح القدس، الإمكانيات التي تجعله يتفاعل مع أحداث الحياة كما كان المسيح يتفاعل، ويقول في أصعب الظروف مثلما قال المسيح: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض... لأنْ هكذا صارت المَسرَّة أمامك» (متى 11: 25، 26). بل أيضًا عندما تضغط التجارب عليه يقول: «لكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك». وبالتالي يمكن القول إن الإمكانيات التي أكرم بها الرب المؤمن، هي إمكانيات إلهية عظيمة، وعميقة في كيانه الداخلي. كما أنها عاملة ونشطة وليست خاملة، ولها وجود في كل نواحي حياته وردود أفعاله، وهي أعظم وأقوى في تأثيرها من الإمكانيات الإنسانية العادية. إنها لا تلغي الإمكانيات العادية: من قلب يرغب وقد ينكسر، وذهن يفكر ويستنتج وقد يعترض، وعواطف تتأثر وتنزعج، وإرادة ترغب وترفض. لكنها تعمل بقوة روح الله وتوجِّه كل هذا تحت تأثير عمل إلهي ويقينيات لا تتزعزع، وبالتالي تعطي ردود أفعال مختلفة في كل شيء وليس فقط في الألم مثل: o هل يمكن أن يتفاعل المؤمن مع الخطية مثل غير المؤمن؟ كلا طبعًا. وإلا ما الذي جعل يوسف ينتصر في يومه؟ o وهو يتعامل بطريقة مختلفة مع ظلم الحياة والقهر، والغفران للإساءة. o نظرة المؤمن للموت مختلفة، حتى إنه يشتهيه (في1: 23). o يمكنه أن يواجه تهديدات الحياة المُرعبة بما يسمى «سلام الله الذي يفوق كل عقل» (في4: 7). ألم يفعل هذا بطرس وهو في السجن وكان نائمًا نومًا عميقًا وهو على وشك أن يقدَّم للموت (أع 12)؟ o يتعامل المؤمن مع الآلام الجسدية بطريقة مختلفة وإمكانيات مختلفة. هذا ما حدث مع استفانوس أثناء رجمه (أع 7). وهناك مَنْ «عُذِّبُوا ولم يقبلوا النجاة» (عب11: 35). o أيضًا رد فعله مع صدمات الحياة ومآسيها المؤلمة ليس هو مجرد رد فعل إنساني عادي. إن المساند الإلهية التي تسند روحه تجعل ردود أفعاله مع الألم الطاحن مختلفة، هي ردود أفعال صحيحة وليست مَرَضيّة، واقعية وليست وهمية. هناك صدمات تجعل الإنسان العادي يفقد عقله، لكن هناك معونات نعمة يقينية ترفع المؤمن فوقها. انظروا كيف تصرّفت المرأة الشونمية في مشهد موت ابنها الوحيد وهي تقول لزوجها: «سلام» (2مل 23:4)؛ وكيف كانت نفسية إبراهيم وهو يُبكِّر لتقديم ابنه وحيده الذي يحبه محرقة للرب بيديه، وهو يرفع السكين ليذبحه. ثم ما الذي، أو مَنْ الذي، سند أيوب في تجربة هي أَمَرّ التجارب التي عرفتها البشرية؟ ما الذي جعله يقول الصواب في الله أكثر من بقية أصحابه، رغم أن ذهنه وقلبه كانا مليئين بالاستفهامات؟ هل هذه إمكانيات بشرية عادية خاضعة لنظريات البشر؟ نظريات البشر تقرِّر أن هؤلاء البشر يتعاملون مع الأمر بإنكار ثم يُصدمون وينهارون بعد اكتشاف الحقيقة المُرّة. أو يستمرون في إنكارهم حسب شخصياتهم، وإذا وجد الجسد طعامًا دائمًا في ذلك. أو يصدمون من البداية عندما يكتشفوا حقيقة الخسارة وينوحون طول حياتهم. هذه نظريات الناس وهذه ردود أفعال البشر الطبيعيين بدون الله. أما المؤمن، فمستحيل أن يتركه الله بمفرده في التجربة «لأنك أنت معي» (مز23: 4). وهو وضع فيه هذه الإمكانيات لتعمل، فيأتي إليه ويقوم هو بتنشيطها فتجعل ردَّ فعله مختلفًا تمامًا، متناسبًا مع الحياة والإمكانيات الإلهية واليقينيات التي عنده. لكن هل معنى هذا أن المؤمنين لا يشعرون بالتجربة وثقلها؟ كلا. إنهم بشر، وإيمانهم يجعلهم أكثر حساسية وأكثر شعورًا. ينسحقون، ويذرفون الدمع. لقد قيل عن إبراهيم إنه “قدَّم.. إسحاق وهو مُجرَّب”، وقيل عن الشونمية: “نفسها مُرَّة”. وقد رأينا الأُختان مريم ومرثا وكلاهما تقول للرب باستفهام وعتاب: «لو كنت ههنا لم يمت أخي!» (يو 11). بل لقد رأينا الرب نفسه، كالإنسان الكامل، يذرف الدمع ويبكي وهو في طريقه إلى قبر لعازر ليقيمه، فكان يرثي للأختين ويشاركهما الدموع. لكن الإله الحكيم يرسل المعونات الإلهية ويدعم نفسيات قديسيه؛ فيرتفعون فوق التجربة، ويشكرون بدل التذمر، ويخضعون بدل التمرد، ويتعزون في دواخلهم وينعكس هذا على آدائهم. قد يحدث عند بعض المؤمنين، أن يتجاوبوا كبشر، مثل بقية البشر، ويختبروا ضعف الإنسان، ومرارة القلب البشري؛ أو قد يتمرَّد أحدهم، لكن هذا إلى حين ويستحيل أن يستمر. فالله في نعمته لا بد أن يُنهض العنصر الإلهي فيهم بعد أن يتذوقوا ضعف الإنسان، ومرارة الجسد. الثوابت الإلهية تعلِّمنا أن النعمة يستحيل أن تقف موقف المتفرج عليهم. هذا ما فعلته النعمة مع داود في صقلغ؛ فقد تعرض لتجربة تُذهب عقل الشخص العادي، وكان في أكثر أيام ضعفه الروحي، لكن الكتاب يذكر لنا «وأما داود فتشدَّد بالرب إلهه» (1صم30). هذا هو الله وهذه هي نعمته. والكتاب يذكر لنا بعض مصادر المعونات وقت التجربة: 1. الله أبونا «أبو الرأفة وإله كل تعزية، الذي يُعزِّينا في كل ضيقتنا» (2كو1: 3، 4). 2. الله الروح القدس «ومؤازرة روح يسوع المسيح» (في1: 19). 3. المسيح ونعمته «تكفيك نعمتي، لأن قوَّتي في الضعف تُكمَلُ» (2كو12: 9). 4. قوة الله وقدرة مجده «متقوِّين بكل قوة بحسب قدرة مجده، بكل صبرٍ وطول أناةٍ بفرحٍ» (كو1: 11). «ليكن فضل القوة لله لا مِنَّا» (2كو4: 7) مهما كانت خزفية الإناء وضعفه. هذه هي إمكانيات الله للمؤمن وقت التجربة. الله الآب، وروح الله القدوس، وابن الله، وقوة الله، وقدرة مجده، ونعمته الغنية؛ ماذا يمكن أن تفعل هذه الإمكانيات؟ أو قُلْ ما الذي لا يمكن أن تفعله في إناء ضعيف خزفي هش؟ بعض النتائج التي تحدث مع المؤمن المُجرَّب عندما تعمل فيه هذه الإمكانيات الإلهية: • «لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم» (1تس4: 13). ليست المسألة أن يحزنوا حزنًا أقل، بل ربما تكون كمية الحزن عند المؤمنين أكثر، والمشاعر أرقى، لكن نوع الحزن مختلف. • «عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تُلذِّذ نفسي» (مز94: 19). تعزيات الله في وسط الهموم ليس فقط تسند بل أيضًا تلذذ النفس، وما أبعد المسافة بين الهم الذي يُفقد الشخص طعم الحياة، وبين التلذذ بالرب. • «الذي به تبتهجون، مع أنكم الآن - إن كان يجب - تُحزنون يسيرًا بتجارب متنوعة ... فتبتهجون بفرح لا يُنطَق به ومجيد» (1بط1: 6-8). التجارب المتنوعة هي مثل النيران التي تمتحن الذهب، وهذه التجارب والصدمات، بكل ثقلها، لا تنزع مشاعر الابتهاج المستمَّدة من تثبيت العين على الرب والإيمان به ومحبته. • «لا تستغربوا البلوى المحرقة التي بينكم حادثة، لامتحان إيمانكم ... بل ... افرحوا ...» (1بط4: 12، 13). ما هي القوة التي تأتي بالفرح وقت البلوى المحرقة؟ «روح المجد والله يحل عليكم» (ع 14). • إن الرجاء المبارك حقيقة رائعة، لكنه يلمع في وقت الآلام والتجارب. إن هذه الظروف تقطع رُبُط المؤمن بالأرض وتربطه أكثر بالسماء «الضيق يُنشئ صبرًا، والصبر تزكيةً، والتزكية رجاءً» (رو5: 3، 4). فهل هذا الرجاء وهم أم حقيقة؟ لا بد أن النعمة تغلب. الله الذي نعرفه على مر الزمان، والذي امتلأ به الإنسان الباطن للمؤمن، هذه المعرفة التراكمية عن الله علَّمتنا أنه لا يترك مؤمنًا منحنيًا، ولم يعطِ المؤمن كل هذه الإمكانيات إلا ليلمع إيمانه وسط ظروف الألم. ولو تُرك المؤمن لإنسانيته، أو لنظريات البشر، ليتصرف مثل بقية البشر، فأين الله؟ ولكن أتساءل: هل يفعل الله ذلك في وقت معين ولفترة محددة فقط، ويترك الباقي للمؤمن وتحكمه؟ لو كان كذلك، لكانت الصدمة كبرى! وهل سند الله أيوب إلى حين ثم تركه فريسة لأفكاره واستفهاماته وردوده واعتراضاته؟ أَلَم تستمر سندته لأيوب حتى النهاية، ولم يتركه في منتصف الطريق، حتى علَّمه ما يريد أن يُعلِّمه له؟ «واثقًا بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا يُكمِّل إلى يوم يسوع المسيح» (في1: 6). هذا هو الله كما عرفناه، وليكن الإنسان بأفكاره كما يكون أو يشاء. وأذكِّركم أن رحلة المؤمن في العالم تشبه رحلة بطرس في سيره على الماء في طريقه للرب (مت14: 28-30). ونحن، نظيره، نسير في الحياة ونواجه أمواجها بقوانين إلهية تسمو فوق قوانين الطبيعة العادية ونظرياتها. بِغَضِّ النظر عن هل هناك رياح شديدة أم لا. والسبب هو ما ميَّز الرب به المؤمن من إمكانيات سبق ذكرها، وما تكفَّل به الله أبونا من عناية بالمؤمن فائقة وكافية. |
|