رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
السيد المسيح فى صومه وخدمته 1. التجربة على الجبل والصوم الأربعين لم يبدأ السيد المسيح خدمته مباشرة بعد أن تعمد فى نهر الأردن، بل أقتيد “بالروح فى البرية أربعين يوماً يجرب من إبليس” (لو4: 1، 2). بعد الإعلان السماوى العجيب حينما أتى صوت الآب من السماء المفتوحة “هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت” (مت3: 17)، والروح القدس الذى ظهر بهيئة جسمية مثل حمامة آتياً من السماء ومستقراً على رأسه؛ كان من المتصور أن يبدأ السيد المسيح خدمة مجيدة قوية مؤيَّدة بالإعلان السماوى وروحه القدوس ولكن ما حدث هو العكس.. خرج يسوع بقوة الروح القدس إلى البرية أربعين يوماً فى القفر، ولم يأكل أو يشرب طوال هذه المدة، بل كان مع الوحوش وحيداً.. بعيداً عن الناس.. بعيداً عن إعجابهم ومديحهم وإطرائهم.. بلا مؤنس بلا تعزية من البشر.. لا أحد يخدمه أو يقدم له شيئاً من الراحة. إن العقل يقف حائراً أمام هذا المشهد الغريب والعجيب: الابن الوحيد الأزلى للآب السماوى، كلمة الله الذى تخضع له كل الخليقة وهو الذى يحملها بقدرته الإلهية. حينما أخلى ذاته ووضع نفسه، وأقتيد بالروح فى البرية القفرة، إذ أنه تجسد فوجد فى الهيئة كإنسان وأطاع إلى المنتهى.. وسمح للشيطان أن يُجرِّبه. كان اتضاع السيد المسيح هو سبب تجاسر الشيطان فى أن يتقدم ليجربه، لأنه حينما صام فى البرية صار فى حالة من الإعياء والتعب الشديد، إذ جاع جوعاً شديداً -من حيث إنه شابهنا فى كل شئ ماخلا الخطية وحدها- فلم يمنع عن جسده التعب والجوع.. ولهذا اعتقد الشيطان إنه من الممكن أن يُجرّب السيد المسيح كإنسان. أمام هذا السر العجيب الذى لتجسد الكلمة، انحمق الشيطان وتقدم ليُجرِّب السيد المسيح فى جسارة عجيبة، انتهت بهزيمته فى البرية، تمهيداً للهزيمة الكبرى عند صليب الجلجثة. كان السيد المسيح يريد أن يرسم لنا طريق الانتصار بالاتضاع ولهذا لم يبدأ خدمته بعد مجد الظهور الإلهى عند نهر الأردن وهو الظهور الذى أعلن سر الثالوث القدوس، ولكن بدأ خدمته فى ساحة التجربة فى البرية فى القفر. حقاً “كل مجد ابنة الملك من داخل” (مز44: 13)، فالمجد الداخلى لازم وضرورى لإثبات أصالة النفس البارة المقدسة. أما من يسعى وراء الأمجاد الخارجية ومديح الناس فإنه يكون عرضة للسقوط فى الكبرياء والمعصية. البعض للأسف يبحثون فى خدمتهم عن مظاهر خلابة تجذب الناس وراءهم.. ويهتمون ويفرحون بالأمور الخارقة للطبيعة التى تبدو فى ظاهرها مؤيدة لإرساليتهم، ويسقطون فى خداعات الشياطين، لأن الشيطان يستطيع أن يغير شكله إلى شبه ملاك نور. المسلك المتضع الهارب من المجد والمظاهر الخارجية، هو برهان صدق الإعلان السماوى وصدق المعجزات الخارقة. ينبغى أن تُختبَر أصالة الخدمة فى ساحة الاتضاع وإنكار الذات أولاً، لأن الذهب النقى يختبر بالنار. المحبة الحقيقية تُختبر بالألم، والخدمة السماوية تُختبر بالاتضاع وإنكار الذات وبالطاعة والمسكنة والخضوع. هل هناك من هو أعظم مجداً من الابن الوحيد الذى هو “بهاء مجده ورسم أقنومه” (عب1: 3).. ومع ذلك فإنه حينما تجسد وصار إنساناً مثلنا، قدّم لنا مثالاً فى خدمته الخلاصية بأن بدأها بالاتضاع. فما الذى يمكن أن يفعله الرب أكثر من ذلك ليحذرنا من غواية الشياطين فى خدمتنا؟. إن الروح القدس هو الذى يستطيع أن يقود أفكارنا ونحن نفحص أصالة كل خدمة وبرهان تأييد السماء لها، لهذا يقول معلمنا يوحنا الرسول: “أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هى من الله” (1يو4: 1). “وكما سمعتم أن ضد المسيح يأتى، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون… منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا، لكن ليظهروا أنهم ليسوا جميعهم منا. وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شئ” (1يو2: 18-20). لماذا صام ؟ من المعلوم طبعاً أن السيد المسيح لم يكن محتاجاً إلى الصوم لتدريب جسده أو تقويمه لأنه هو الوحيد الذى بلا خطية بين البشر جميعاً. ومن المعلوم أن الصوم بالنسبة لنا يساعدنا على التحرر من رغبات الجسد وتغليب رغبات الروح، وعلى تدريب الإرادة على ضبط النفس أى قمع الجسد، كما أنه يساعد فى تذللنا أمام الله مثلما صام أهل نينوى من الكبير إلى الصغير ولبسوا مسوحاً وتضرعوا إلى الله بالتوبة فرحمهم الله ورفع غضبه عنهم. ولم يكن السيد المسيح شخصياً محتاجاً إلى أى شئ من هذه الأمور جميعاً. نقول فى ألحان التوزيع فى الكنيسة فى الصوم الكبير {يسوع المسيح صام عنا أربعين يوماً وأربعين ليلة}، إذن فإن السيد المسيح قد صام نيابة عنّا وليس عن نفسه. لم يكن السيد المسيح طبعاً محتاجاً للصوم ولا للتجربة على الجبل لأنه “قدوس القدوسين” (دا9: 24).. لكنه صام وسمح للشيطان أن يجرّبه لكى يعلّمنا.. أراد أن يرسم لنا طريق الجهاد والنصرة على الشيطان. وقال لتلاميذه إن “هذا الجنس (أى جنس الشيطان) لا يمكن أن يخرج بشئ إلا بالصلاة والصوم” (مر9: 29، انظر مت17: 21). كما أنه أراد أن يعلّمنا أهمية الصلاة قبل البدء فى الخدمة، لذلك أراد أن يختلى وقتاً طويلاً فى مناجاة عميقة يعبّر فيها عن محبته للآب، ويطلب فيها من أجل نجاح مناداته بالتوبة والإيمان بالإنجيل فى قلوب سامعيه، حينما تبدأ خدمته بعد عودته من البرية. صام ليسجل انتصارًا على الشيطان لحسابنا عندما سمح للشيطان أن يجربه. أى ليلقن الشيطان درساً من خلال طبيعتنا التى تباركت فيه أى باتخاذه إياها ليعبر بنا فيها من الهزيمة إلى النصرة، ومن الموت إلى الحياة. فكما أنه مات عنا ولم يكن مستوجباً الموت؛ ولهذا داس الموت بالموت؛ وقام منتصراً من الأموات. وكما كانت القيامة من الأموات أمراً حتمياً بانتصاره على الموت “إذ لم يكن ممكناً أن يمسك منه” (أع2: 24) هكذا كان انتصار السيد المسيح على الشيطان فى التجربة أمراً حتمياً، إذ لم يكن ممكناً أن ينهزم منه لأنه هو نفسه “قدوس القدوسين” (دا 9: 24). وبذلك علّمنا أن الصوم والصلاة هما اللذان يخرجان الشياطين ويقهران سلطانهم اللعين. وصام ليبارك الصوم وليبارك طبيعتنا بالصوم {باركت طبيعتى فيك، أكملت ناموسك عنى} (القداس الغريغورى). باركت طبيعتى فيك عندما تجسد ابن الله الكلمة ووجد فى الهيئة كإنسان، فإنه قد بارك الطفولة فى طفولته، وبارك سن الشباب فى شبابه، وبارك سن الرجولة فى رجولته. عندما أكل بارك الطعام، وعندما صام بارك الصوم. عندما نام بارك النوم، وعندما سهر الليل كله بارك السهر.. عندما حضر عرس قانا الجليل بارك الزواج، ولأنه ولد من عذراء فقد بارك البتولية.. عندما ولد فى حظيرة للخراف واضطجع فى المذود بارك الفقراء، وعندما تقبل هدايا المجوس بارك الأغنياء الأسخياء. عندما عمل كنجار بارك العمل، وعندما تفرغ للخدمة بارك التكريس. عندما مشى على الأرض، بارك الأرض. وعندما مشى على المياه بارك المياه.. عندما تكلّم بارك الكلام. وعندما صمت بارك الصمت.. قوة الصوم لهذا فقد أعطى السيد المسيح بركة وقوة للصوم حينما صام. وفى الأربعين يوماً التى صامها أدخر لنا قوة النصرة فى حروب الشياطين بواسطة الصوم المقترن بالصلاة والتأمل والإيمان بالمسيح وأسرار الكنيسة. الصوم يسبق المعمودية المقدسة، ويسبق التناول من جسد الرب ودمه، ويسبق مسحة الميرون، ويسبق سيامة الكهنة وخدمة الكهنوت، ويسبق سر مسحة المرضى الذى تكثر الكنيسة من ممارسته فى الصوم المقدس وفى يوم جمعة ختام الصوم. ما أجمل التناول من الأسرار المقدسة بعد الصوم، حيث يقدّم الإنسان جسده كذبيحة فى الصوم على مثال ذبح إسحق. ثم يتناول من الحمل المذبوح عوضاً عن إسحق، ليعود إسحق حياً بإيمان القيامة. الصوم الكبير فى الصوم الكبير المقدس تُذكِّرنا الكنيسة بأهمية التوبة. ويقترن الصوم بالتوبة وممارسة سر الاعتراف. وتخصص الكنيسة أسابيعَ من الصوم المقدس تدور قراءاتها حول التوبة وأهميتها مثل أحد السامرية وأحد الابن الضال وأحد المخلّع. وفى مدائح الصوم الكبير نسمع كثيراً فى الكنيسة عن التوبة: تُب يا إنسان عن جهلك وارجـــــع إلى الله وتقدّم عسى بــالله تبــلغ أملك واتــرك خطايـــاك وتندَّم ضيّعت زمــانك وأفنيــته كــنزك فى التراب أخفيته ومصباحك من عـدم زيته طفى وبقيت فى الظلمات وتتحدث هذه المدائح عن أهمية ممارسة الرحمة لينال الإنسان رحمة من عند الرب فيأتى القرار: طوبى للرحما على المســــاكين فإن الرحمة تحل عليهـم والمسيح يرحمهم فى يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم إن الصوم بالنسبة لنا يستمد قوته وفاعليته من صوم السيد المسيح، والنصرة الروحية فى الصوم تأتى من رصيد النصرة الذى حققه لنا مخلصنا الصالح الذى صام عنا أربعين يوماً وأربعين ليلة. وبهذا الإيمان نبدأ رحلة الصوم والعبادة الروحية فيه بقوة الروح القدس. فى البرية ربما يتساءل البعض عن ارتباط الرهبنة بالبرية.. وها نحن نرى السيد المسيح وهو يرسم طريقاً واضحاً للجهاد النسكى فى ارتباطه بالبرية. فبعد عماده فى نهر الأردن أُقتيد “بالروح فى البرية أربعين يوماً يجرب من إبليس” (لو4: 1، 2). لم يأكل السيد المسيح، ولم يشرب شيئاً فى تلك الأيام .. وارتبط الصوم بالبعد عن المشاغل الموجودة فى العالم بما فى ذلك الانشغال بخدمة الآخرين بصورة مباشرة. كان الوقت مخصصاً للتأمل والصلاة مع الصوم.. هكذا نرى الصوم فى أبهى صوره حسب قول الكتاب “قدسوا صوماً. نادوا باعتكاف” (يؤ2: 15). الصوم مع الاعتكاف هو صوم لجميع الحواس الجسدية.. ليس فقط حاسة التذوق، بل أيضاً حاسة السمع، وحاسة النظر، وحاسة اللمس، وحاسة الشم. فى البرية تتفرغ الحواس جميعاً للعمل الروحى.. بالنسبة لنا نحن نحتاج إلى صوم الحواس.. وكما قال أحد الآباء [ إن مجرد نظر القفر، يبطل فى النفس الحركات العالمية ]. وقد أراد السيد المسيح أن يجتذبنا نحو القفر حينما نتبع مسيرته فى البرية أربعين يوماً فى جهاد من أجلنا. نحن نحتاج إلى القفر.. بل يجب أن يعيش القفر فى قلوبنا خاصة أثناء الصوم. وفى القفر نردد على وزن منظومة قداسة البابا شنودة الثالث عن الوطن [إن القفر ليس قفراً نعيش فيه، بل هو قفر يعيش فينا].. هذا هو حال القلب الزاهد فى الأمور الدنيوية.. وبالقفر نعيش الفقر الاختيارى.. أو بالفقر نعيش القفر متحرراً من محبة العالم وكل ما فيه. قضى السيد المسيح أربعين يوماً فى القفر لكى يدخل القفر إلى قلوبنا.. ولكى نرى القفر فردوساً روحياً نحيا فيه مع الله. لأن الفردوس الأول الممتلئ بالخيرات (جنة عدن)، كان مكاناً سقط فيه آدم الأول.. والبرية مكان انتصر فيه آدم الثانى، ليجعل من البرية فردوساً روحياً لموكب المنتصرين. أيام فى البرية بالرغم من أن السيد المسيح قد جاء لخلاص العالم، إلا أنه قد ذهب إلى البرية للاختلاء والصوم والمناجاة مع الآب قبل أن يبدأ خدمته بين الناس. وهو بهذا قد أرسى مبدأ أهمية الوجود فى البرية بعيداً عن الانشغال بالخدمة ومتطلباتها وذلك من أجل خدمة قوية ناجحة ينهزم فيها الشيطان أمام إنسان البرية. لهذا قيل عن الكنيسة المقدسة “من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان معطّرة بالمُر واللبان وبكل أذرة التاجر” (نش3: 6). معطّرة بالمُر واللبان: أى بالصوم والصلاة، وهى طالعة من البرية متشبهة بالسيد المسيح فى صومه فى البرية وفى مناجاته للآب السماوى من أجل الكنيسة ونصرتها على الشيطان. لقد هزم السيد المسيح الشيطان فى البرية ليسجل انتصارًا لحساب الكنيسة.. لحساب البشرية التى انهزمت قبل ذلك طويلاً أمام الشيطان، وبعدها صار الشيطان يرتعب من رؤية السيد المسيح ويصرخ ويقول “آه ما لنا ولك يا يسوع الناصرى أتيت لتهلكنا، أنا أعرفك من أنت؛ قدوس الله” (مر1: 24). وكان السيد المسيح ينتهرهم ولا يدعهم ينطقون لأنه لا يقبل الشهادة من الشيطان كما أنه كان يريد أن يخفى لاهوته عن الشيطان، وقد حقق ذلك بالفعل فيما بعد بحكمة عجيبة. ولكن ما يستوقفنا هنا؛ هو أن السيد المسيح فى البرية قد واجه تساؤلاً مكرراً من الشيطان “إن كنت ابن الله..؟!” (مت4: 3، 6، لو4: 3، 9). وبعد المواجهة التى حدثت فى البرية صار يواجه عبارة مختلفة “يا يسوع الناصرى.. أنا أعرفك من أنت قدوس الله” (مر1: 24، لو4: 34). لقد صنعت البرية الكثير فى نظرة الشيطان للسيد المسيح كخادم. بل صارت البرية بذكريات صوم السيد المسيح وصلاته فيها مكاناً للنصرة على الشيطان بعد أن كانت مكاناً مهجوراً تهيم فيه الشياطين التى لا تجد لها مكاناً يتسع لأعدادها الكبيرة فى البشر. وقد علّق السيد المسيح على ذلك بقوله: “متى خرج الروح النجس من الإنسان؛ يجتاز فى أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة. وإذ لا يجد؛ يقول أرجع إلى بيتى الذى خرجت منه. فيأتى ويجده مكنوساً مزيناً. ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أُخر أشر منه، فتدخل وتسكن هناك. فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله” (لو11: 24-26). لقد تقدّست البرية بحلول السيد المسيح فيها وبصومه وبصلاته وبنصرته على الشيطان عن الإنسان. وصار القديسون يجدون مجالاً للنمو فى حياة القداسة فى البرية.. وصارت مسكناً للملائكة الذين رافقوا صلوات وتسابيح هؤلاء القديسين الذين سكنوا فى الجبال والمغاير وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم فى الملك المسيح. الجسد والنفس والروح فى البرية قدّم السيد المسيح مثالاً لنا للزهد فى رغبات الجسد، ورغبات النفس، لكى نحيا فى الروح. فبالنسبة للجسد أعطانا فكرة أنه “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 4). وبالنسبة للنفس أعطانا فكرة عن الزهد فى أمجاد العالم الزائلة، وأن نخدم الله لا المال أو الجاه أو السلطان. وقد رفض كل ممالك العالم التى رآها من فوق الجبل حتى لا يتعطل الصليب. كما أن الجسد يحتاج إلى الطعام المادى ليعيش وينمو، هكذا أيضاً الروح تحتاج إلى الغذاء الروحى لكى تعيش ولكى تنمو. لهذا قال السيد المسيح: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4:4). وبقوله: “ليس بالخبز وحده” كان يقصد أنه إلى جوار الخبز المادى اللازم لحياة الإنسان من ناحية جسده، فإن هناك كلمة الله لحياة الإنسان من جهة روحه. وقال أيضاً السيد المسيح: “الكلام الذى أكلمكم به هو روح وحياة” (يو6: 63). وقال: “أنا هو الخبز الحى الذى نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذى أنا أعطى هو جسدى الذى أبذله من أجل حياة العالم” (يو6: 51). عموماً الروح تحتاج إلى الغذاء الروحى لتحيا وتنمو تماماً مثلما يحتاج الجسد إلى الطعام الجسدى ليحيا وينمو. فبالنسبة للروح أعطانا السيد المسيح فكرة عن الزهد، حينما رفض أن يطير من فوق جناح الهيكل لينظره الناس سابحاً فى الفضاء محمولاً على أيدى الملائكة. إن الصعود بالنسبة للسيد المسيح هو من خلال الصليب. وقد قال: “أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع” (يو12: 32). ورآه كثيرون معلقاً فوق الإقرانيون، محتملاً الاحتقار والذل والعار.. وكان الارتفاع فوق الصليب هو الطريق الحقيقى نحو المجد غير المنظور. وبعد القيامة صعد السيد المسيح أمام أعين تلاميذه. ولكن لم يكن الصعود بالنسبة للسيد المسيح نوعاً من التباهى. ولكنه كان صعوداً باعتباره الذبيحة المقدسة المقبولة إلى المقدس السماوى، حيث دخل السيد المسيح كسابق لنا، ليكون هو رئيس الكهنة الذى يشفع فى جنس البشر أمام الله الآب كل حين “دخل.. فوجد فداءً أبدياً” (عب9: 12). قبل أن يصعد السيد المسيح بيمين الآب إلى السماء، كان قد أصعد ذاته على الصليب ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا.. لهذا كان لابد للصعيدة أن تصعد. وقد صعد السيد المسيح فى البرية.. إلى جبل التجربة.. أربعين يوماً يجرب من إبليس. وكانت حياة السيد المسيح صعوداً متتالياً.. صعد إلى جبل التجربة، وصعد إلى جبل التجلى، وصعد إلى جبل الجلجثة، وصعد إلى جبل الصعود، ثم صعد إلى عرش الله. ولكننا نراه صاعداً وهو يحمل الصليب، مكللاً بالأشواك.. كما بجهاد الصوم والصلاة. ونرى عروسه الكنيسة وهى تحمل صورته، كما رسمها فى سفر النشيد وتغنى بها، “من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر” (نش3: 6). هكذا تصير الكنيسة مثل صعيدة من البخور (أعمدة من دخان) معطرة بالصوم والصلاة (المر واللبان).. نراها طالعة من البرية مستندة على ذراع حبيبها (انظر نش8: 5) الذى صام عنها ويعطيها نعمة الصوم لتتحلى به كعروس “جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية” (نش6: 10). ما أحلاك أيتها الكنيسة العروس، وأنت مشرقة بحب عريسك الحبيب..!! ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان كانت الوصية الأولى للإنسان تحمل فى مضمونها وصية صوم “لا تأكل من شجرة معرفة الخير والشر” (انظر تك2: 16، 17، تك3) فالإنسان مكوّن من روح وجسد وليس هو جسداً فقط.. وكما أن الجسد يحتاج إلى طعام لكى يحيا ويعيش، هكذا الروح أيضاً لها غذاء تحتاج إليه وتحيا به وهو كلام الله. لهذا قال السيد المسيح للشيطان حينما طالبه قرب نهاية صومه بأن يحوّل الحجارة إلى خبز: “مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله” (لو4: 4). لم يقل السيد المسيح “ليس بالخبز يحيا الإنسان” لأن هذا هو الواقع الطبيعى للإنسان.. بل قال: “ليس بالخبز وحده” أى أن هناك مصدراً آخر لحياة الإنسان وهو الله. الله الذى “به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع17: 28). الله الذى تغتذى به وبالعشرة معه أرواحنا، وترتقى حتى تأكل طعام الملائكة الروحانيين. الله الذى يحيينا بكلامه، وينير عقولنا “الكلام الذى أكلمكم به هو روح وحياة” (يو6: 63). لهذا يقول المرنم “من كل قلبى طلبتك، فلا تبعدنى عن وصاياك. أخفيت أقوالك فى قلبى لكى لا أخطئ إليك”.. وقال أيضاً: “اذكر لعبدك كلامك الذى جعلتنى عليه أتكل. هذا الذى عزانى فى مذلتى. لأن قولك أحيانى”.. “خيراً صنعت مع عبدك يا رب بحسب قولك، صلاحاً وأدباً ومعرفة. علّمنى فإنى قد صدّقت وصاياك”.. “ناموس فمك خير لى من ألوف ذهب وفضة”.. “الذين يخافونك يبصروننى ويفرحون، لأنى بكلامك وثقت”.. “تاقت نفسى إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلت”.. “يا رب كلمتك دائمة فى السماوات إلى الأبد”.. “لو لم تكن شريعتك تلاوتى لهلكت حينئذ فى مذلتى. وإلى الدهر لا أنسى وصاياك، لأنك بها أحييتنى، يا رب. لك أنا فخلصنى. يا رب لأنى لوصاياك طلبت”.. “إن كلماتك حلوة فى حلقى. أفضل من العسل والشهد فى فمى”.. “مصباح لرجلى كلامك، ونور لسبلى”.. “يا رب أحينى كقولك”.. “ورثت شهاداتك إلى الأبد، لأنها بهجة قلبى”.. “أعضدنى حسب قولك فأحيا”.. “لأجل هذا أحببت وصاياك أفضل من الذهب والجوهر”.. “فتحت فمى واجتذبت لى روحاً، لأنى لوصاياك اشتقت”.. “أضئ بوجهك على عبدك وعلّمنى حقوقك”.. “عادلة هى شهاداتك إلى الأبد، فهمنى فأحيا”.. “بحسب أحكامك أحينى”.. “من أجل كلامك أحينى”.. “أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة”.. “توقعت خلاصك يا رب، ووصاياك حفظتها. حفظت نفسى شهاداتك وأحببتها جداً”.. “ككلمتك أحينى.. تفيض شفتاى السبح إذا ما علمتنى حقوقك”.. “لتكن يدك لخلاصى، لأننى اشتهيت وصاياك”.. “تحيا نفسى وتسبحك، وأحكامك تعيننى”.. (المزمور118). هذه بعض أجزاء من المزمور الكبير الذى يؤكد ويوضح بمعانى جلية أن كلام الله فيه حياة لنفس الإنسان مثل قوله “لأن قولك أحيانى”.. فى هذا المزمور يتأكد للمصلى أهمية كلام الله بالنسبة له كمصدر لحياته، وكمصدر للمعونة والإنقاذ، وكمصدر للبهجة والرجاء والنصرة، وكمصدر لتذوق حلاوة العشرة مع الله، وكمصدر للثقة والاتكال على الله، وكمصدر للفهم والمعرفة، وكمصدر للنور الذى يضئ الطريق، وكمصدر للتسبيح الذى تنطق به النفس نحو الله بقوة كلمته العاملة فيها. ليتنا ننتفع من كلمات هذا المزمور الذى رتبته الكنيسة فى صلاة نصف الليل مع إنجيل العذارى المستعدات للقاء العريس. مواجهة مع إبليس فى التجربة على الجبل استخدم إبليس وسيلتين لمحاولة معرفة حقيقة السيد المسيح من جهة ألوهيته.. ولكنه فشل إلى جوار هزيمته الواضحة أمام الرب المتجسد. لم يكن من السهل على إبليس أن يفهم معنى إخلاء الذات بالنسبة للإله الكلمة الذى هو ابن الله الوحيد الجنس. ولم يكن مفهوماً بالنسبة له أن يخفى الابن الوحيد مجده الإلهى، ولا أن يقدم طاعة للآب وهو المساوى للآب فى المجد والكرامة والقدرة والعظمة والسلطان بسبب وحدانية الجوهر من حيث لاهوت السيد المسيح. كانت مسألة التجسد محيّرة للشيطان.. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: “وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر فى الجسد، تبرر فى الروح، تراءى لملائكة، كرز به بين الأمم، أومن به فى العالم، رُفع فى المجد” (1تى3: 16). وقال أيضاً عن تدبير الخلاص بعد أن تم: “وأنير الجميع فى ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور فى الله خالق الجميع بيسوع المسيح. لكى يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين فى السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب قصد الدهور الذى صنعه فى المسيح يسوع ربنا” (أف 3: 9-11). ولكن ينبغى أن نلاحظ أن الإنارة دائماً تكون للمستقيمى القلوب والأفهام. فالمعرفة السليمة للأمور الإلهية ترتبط بالمحبة لأن “الله محبة ومن يثبت فى المحبة يثبت فى الله والله فيه” (1يو4: 16). هناك من يدرك قدرة الله ويخشاها ويرتعب منها ولكنه لا يفهم أعماق الله وأعماق محبته إلا بالروح القدس “لأن الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله. لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذى فيه. هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله” (1كو2: 10، 11). الوسيلة الأولى كانت الوسيلة الأولى التى استخدمها إبليس لمحاولة معرفة حقيقة السيد المسيح هى أنه قال له عندما رآه جائعاً بعد صوم طويل لمدة أربعين نهارًا وأربعين ليلة “إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً” (مت4: 3). والواضح من العبارة التى قالها إبليس أنه كان يتساءل عن بنوة السيد المسيح لله من خلال الاستدلال بقدرته على استخدام قدرته الإلهية للخلاص من الجوع ومتاعب الجسد المنهك من الصيام الطويل. ولكن السيد المسيح اتجه فى إجابته إلى ما يخص إنسانيته وليس ما يخص لاهوته مستخدماً آيات الكتاب المقدس إذ رد وقال: “مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 4). كان الهدف من تساؤل إبليس هو أن يعلن السيد المسيح عن ألوهيته وبنوته لله. ولكن السيد المسيح أكّد إنسانيته وكيف أن الطبيعة الإنسانية يلزمها الغذاء الروحى للروح بكلام الله، كما يلزمها الغذاء الجسدى للجسد بتناول الخبز. وبهذا فشل إبليس فى الوصول إلى هدفه الخبيث. الوسيلة الثانية وكانت الوسيلة الثانية التى استخدمها إبليس هى الاستفزاز بأسلوب غير لائق. ولكن السيد المسيح أضاع عليه الفرصة باتضاعه العجيب. فى الوسيلة الأولى كان هناك نوع من التساؤل باحترام أما فى الوسيلة الثانية فكانت هناك جسارة بالغة تكشف عن الكم الهائل من الوقاحة التى يتصف بها إبليس إذ أُتيحت له الفرصة بسماح من الله. قال إبليس للسيد المسيح بعد ما أصعده على جبل عال وأراه جميع ممالك العالم ومجدها “أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لى” (مت4: 9). هل هناك جسارة واستفزاز يفوق ذلك القول؟ ولكن السيد المسيح استمر فى إخفاء حقيقة لاهوته عن الشيطان متوشحاً بالاتضاع الذى التحف به فى مجيئه إلى العالم من أجل خلاص البشرية. أجاب السيد المسيح: “اذهب يا شيطان. لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد” (مت4: 10) لقد وضع السيد المسيح الوصية الإلهية المعطاه لبنى البشر فى مواجهة استفزازات إبليس. ومع كون السيد المسيح هو ملك الملوك ورب الأرباب المسجود له من الملائكة والبشر ولكنه إذ وُجِدَ فى الهيئة كإنسان تكلّم عن واجب البشر فى السجود لله وحده، ولم يتكلم عن السجود اللائق له هو شخصياً. وهكذا استمر فى إخفاء لاهوته عن الشيطان. المسيح أقوى من الشيطان قال السيد المسيح: “لا يستطيع أحد أن يدخل بيت قوى وينهب أمتعته إن لم يكن يربط القوى أولاً وحينئذ ينهب بيته” (مر3: 27). وقد دل السيد المسيح بهذا الكلام أنه أقوى من الشيطان بما لا يقاس، وهذا أحد أسباب التجسد الإلهى، إذ لم يكن ممكناً لطبيعتنا البشرية أن تحقق الانتصار الساحق على الشيطان، إلا بتجسد الله الكلمة نفسه “الذى أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل” (2تى1: 10). ما أجمل رد قداسة البابا شنودة الثالث على السبتيين الأدفنتست الذين يدعون أن السيد المسيح قد ورث الميل إلى الخطية بوراثته للخطية الأصلية فى ولادته من العذراء مريم، إذ قال قداسته {إن الميل للخطية لا يتفق مع لاهوت هذا المولود، فكيف يتحد اللاهوت مع جسد فيه ميل إلى الخطية؟! مستحيل} (مجلة الكرازة السنة الثلاثون العددان 13، 14 بتاريخ 29/3/2002). إن الأدفنتست قد فاقوا فى ضلالهم الكثير من الهراطقة لأن نسطور حينما نادى بنفس تعليم وراثة المسيح للخطية الأصلية والميل الطبيعى للخطية لم يكن يؤمن بأن الإنسان المولود من العذراء مريم هو هو نفسه الله الكلمة بالحقيقة مثلما يؤمن السبتيون الذين يجدّفون بذلك على الله. لذلك ينبغى أن نحذر الشعب المسيحى فى كل مكان من بدعة السبتيين الذين يقدسون يوم السبت مثل اليهود، وليس يوم الأحد الذى قام الرب فيه منتصراً من الأموات. إن نصرة قيامة السيد المسيح وأهميتها غائبة عن أذهانهم تماماً مثلما غابت عن أذهانهم حتمية الانتصار فى التجربة على الجبل. دعاوى الأدفنتست السبتيين يدعى الأدفنتست أن السيد المسيح قد حمل طبيعة بشرية فيها إمكانية الخضوع للخطية (The possibility of yielding to sin) ويستدلون على ذلك بواقعة التجربة على الجبل ويقولون إن التجربة على الجبل تصبح فى حكم التمثيلية لو لم يكن احتمال سقوط المسيح وارداً فيها. وهم فى عقيدتهم الخاطئة هذه يرددون تعليم نسطور الذى قال إن يسوع المسيح قد قدّم على الصليب ذبيحة وكفارة عن نفسه وعن الآخرين لأن الله الكلمة قد اتخذ إنساناً محتاجاً للخلاص مثل سائر البشر. ونرد على هرطقة السبتيين فنقول لو كان السيد المسيح هو نفسه الله الكلمة الذى تجسد لأجل خلاصنا. فإن القول بإمكانية خضوعه للخطية بحسب طبيعته البشرية يكون تجديفاً خطيراً ضد الله نفسه. لأن الله الكلمة حينما أخلى ذاته آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس قد قَبِل الموت والآلام بحسب الجسد لأجل خلاصنا، ولسبب أن يسوع المسيح هو نفسه الله الكلمة بالحقيقة، صار يُنسب إلى الله الكلمة الميلاد من العذراء والآلام والموت بحسب إنسانيته، دون أن ينُسب ذلك إليه بحسب ألوهيته. لكن الآلام والموت من الممكن قبولها كعمل من أعمال المحبة من قِبل أقنوم الله الكلمة المتجسد. أما أن ينسب إليه إمكانية الخضوع أو الميل للخطية فهو أمر مستحيل لأنه لا يحمل أى مجد بل يعتبر إهانة صريحة لأقنوم الله الكلمة المتجسد وتجديف على الله غير مقبول. وهذا يعنى أن السبتيين لا يؤمنون إيماناً حقيقياً أن يسوع الناصرى هو الله الكلمة وليس آخر. هناك فرق بين أن يخفى الله الكلمة مجده فى التجسد، أو أن يحتمل الآلام إنسانياً من أجل من أحبهم إلى المنتهى، وبين أن يصير معرَّضاً للخطية أو السقوط وهذا ليس فى إطار أمجاد المحبة الباذلة. لقد حمل السيد المسيح -وهو برئ- خطايا الآخرين وأوفى الدين عنها. ولكنه هو نفسه قد حمل طبيعة خالية تماماً من أى نوع من نوازع الخطية. لهذا قال الملاك للعذراء عن ميلاد السيد المسيح منها: “فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو1: 35). لا يمكن أن يفدى العالم إلا من كان خالياً تماماً من كل عيب، وخالياً تماماً من أى ميل نحو الخطية. ولا يمكن أن تتبارك طبيعتنا فيه إلا إذا كانت هذه الطبيعة التى اتحدت باللاهوت فى التجسد هى طبيعة خالية تماماً من كل نوازع الشر والخطية. ولا يمكن أن يحدث اتحاد حقيقى، طبيعى وأقنومى بين اللاهوت والناسوت فى المسيح إلا إذا كان الناسوت خالياً تماماً من كل ما يتعارض مع قداسة اللاهوت وصلاحه. إذ كيف يجتمع النور مع الظلمة؟!. لقد خاطب السيد المسيح أباه السماوى فى ليلة آلامه قائلاً: “أنا مجدتك على الأرض.. والآن مجدّنى أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم” (يو17: 4، 5). لقد تمجّد الناسوت عند صعود السيد المسيح إلى السماء ودخوله إلى مجده بأمجاد اللاهوت وذلك لسبب الاتحاد التام والطبيعى بين اللاهوت والناسوت. لم يعد الناسوت يخفى مجد اللاهوت حينما تمجّد يسوع وجلس عن يمين الآب فى السماوات. أسباب التجربة إن التجربة على الجبل لم تكن تمثيلية كما يدّعى السبتيون. ولكن السيد المسيح قد لقّن الشيطان درساً لن ينساه حينما سمح له أن يجربه وهو فى صورة الإنسان. أى أن السيد المسيح قد أعاد للإنسان هيبته وكرامته بانتصاره على الشيطان فى التجربة على الجبل أولاً ثم بعد ذلك بصورة حاسمة فى الصليب كما هو مكتوب “إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه (أى فى الصليب)” (كو2: 15). لقد قدّس السيد المسيح الصوم بصومه مانحاً إياه قوة فائقة للطبيعة لهزيمة الشياطين. ولقد رسم السيد المسيح لنا مثالاً لنقتفى أثر خطواته ولنتشبه به فى الصوم وفى الانتصار على الأرواح الشريرة. كذلك أعطانا السيد المسيح دروساً فى الحرب الروحية وكيفية مجابهتها. فمثلاً حينما استخدم الشيطان آية من الكتاب المقدس، رد عليه السيد المسيح بآية من الكتاب المقدس أيضاً بقوله: “مكتوب أيضاً لا تجرب الرب إلهك” (مت4: 7). ونحن نرى اليوم كثير من النقاد وبعض الدارسين (Scholars) يستخدمون آيات الكتاب المقدس بطريقة خاطئة ضد العقائد السليمة والتسليم الرسولى. وينبغى علينا أن نرد عليهم بآيات من الكتاب. كذلك أعطانا السيد المسيح فكرة عن عدم استخدامه لسلطانه الإلهى من أجل إراحة جسده، وكذلك فكرة عن عدم استخدام أمجاد وسلطان الأرض من أجل نشر الكرازة بالإنجيل وعدم التنازل عن المبادئ فى الخدمة مهما كان المقابل المادى. لماذا التجربة ؟ كان السيد المسيح “يقتاد بالروح فى البرية، أربعين يوماً يجرب من إبليس” (لو4: 1، 2) هل كان السيد المسيح يحتاج أن يختبر. أو أن يجرب؟! وإذا كان يسوع المسيح هو الله الكلمة المتجسد فما فائدة التجربة؟! أليس هو نفسه الرب الذى هو “غير مُجرَّب بالشرور، وهو لا يجرِّب أحداً” (يع1: 13)؟ أليس هو الله الظاهر فى الجسد، والذى هو بلا خطية وحده؟ كل هذه الأسئلة وكثير غيرها، قد يذكرها البعض متسائلاً: ما فائدة التجربة بالنسبة للسيد المسيح؟ لأنه من المعلوم مقدماً أنه لابد أن ينجح فى الاختبار حتمياً وبغير نقاش. وقد يتساءل البعض عن ما هو مفهوم التجربة فى الكتاب المقدس لأنها تَرِدْ أحياناً بمعنى الآلام، وأحياناً بمعنى محاربات الشيطان. وقد تأخذ محاربات الشيطان الآلام وسيلة لها فى بعض الأحيان. وللإجابة على ذلك نقول: أولاً: إن السيد المسيح قد جاء فى الجسد، لينوب عن البشرية فى أمرين أساسيين: الأمر الأول: أن يغلب الشيطان فى جسم بشريتنا لحساب الجنس البشرى، مقدماً الصورة المثالية للإنسان فى طاعته الكاملة لله الآب. والأمر الثانى: أن يموت على الصليب نيابة عن الكل، ليوفى العدل الإلهى حقه بالكامل، ويكفّر بذلك عن خطايا جميع البشر الذين يقبلوه كفادٍ ومخلص. لهذا كان ينبغى أن ينوب عنا فى محاربة إبليس، وينتصر عليه لأجلنا. ثانياً: أن السيد المسيح أراد أن يخفى لاهوته عن الشيطان، ولهذا فقد سمح للشيطان أن يجربه مثل سائر البشر؛ فى المجال المناسب وبدون أن يخطئ وبعد ذلك “لما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين” (لو4: 13). وعبارة “إلى حين” تعنى أن الشيطان بعد هذه المعركة، قد ذهب ليستعد للمعركة الكبرى عند الجلجثة.. كان صوم السيد المسيح وتجربته على الجبل، هى المعركة التى أثارت إبليس، لكى يعلن الحرب القصوى ضد السيد المسيح. فهناك فرق بين معركة تقديم المغريات، وبين معركة توجيه الضربات. على الجبل كان الشيطان يقدّم عروضاً اختيارية بدون ضغط.. أما فى معركة الجلجثة الكبرى، فقد استعمل السوط، والمسمار، والأشواك، والآلام الرهيبة الجسدية والنفسية، والتعييرات. وجاء إبليس وهو يحمل معه سيف الموت مشهراً بجسارة تتعجب أمامها الألباب!!. ولكن هوشع النبى قد تغنى مُلهَماً بالروح القدس فى القديم، وهو يرى بعين النبوة نتائج هذه المعركة “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟” (انظر هو13: 14، 1كو15: 55). حينما. خرج مسيح الرب داود وهو شاب صغير لملاقاة جليات الجبار، أخذ السيف الذى كان بيد جليات وقطع رأسه بنفس هذا السيف. وكان هذا رمزاً وإشارة إلى ما فعله السيد المسيح الذى أباد سلطان الموت بسيف الموت الذى كان إبليس يستخدمه ضد جميع البشر. وقد شرح معلمنا بولس الرسول ذلك بقوله: “لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية” (عب2: 14، 15). وهكذا أيضاً تتغنى الكنيسة فى لحن القيامة }بالموت داس الموت{. بعد التجربة على الجبل ذهب إبليس ليحشد كل قواه، وليتآمر بأقصى ما يستطيع على السيد المسيح. وكان الهدف هو موت المسيح، أو أن يهرب من الموت منهزماً. ولكن لم يكن ممكناً للمعركة أن تبدأ على هذا المستوى الخطير، لولا أن السيد المسيح قد أخفى لاهوته عن الشيطان. الصوم الأربعينى وحتى على جبل التجربة، كان الصوم هو الوسيلة التى اجتذب السيد المسيح بها الشيطان لمحاربته. اختار هو بنفسه ساحة المعركة؛ فى البرية؛ ومع الصوم الكبير. الأمر الذى جذب انتباه الشيطان ليتساءل: هل هذا موسى جديد يصوم أربعين يوماً على الجبل؟! أم إيليا آخر يصوم مثله؟! أم لعل هذا هو المسيح الذى تنبأ عنه موسى والأنبياء؟!! وما العمل أمام من ترنمت الملائكة فى يوم مولده بتسابيح لم يسبق لها مثيل؟!. ما سر أفراح الملائكة بهذه الصورة غير المسبوقة منذ سقوط الإنسان الأول؟!. وما سر هذا الميلاد العذراوى العجيب؟.. وكيف تحققت كثير من أقوال الأنبياء القديسين الذين هم منذ الدهر؟!.. وإن كان يسوع هو الله الظاهر فى الجسد، فكيف ولد فى المذود المتواضع بين الحيوانات؟!.. وكيف هرب من بطش هيرودس الملك؟!.. وكيف ذهب مع يوسف وأمه العذراء ليسكن فى الناصرة، تفادياً لغضب الملك الجديد ابن هيرودس؟!.. وكيف عاش هذه السنوات حتى سن الثلاثين مثل إنسان عادى يعمل نجارًا بسيطاً؟!.. ولماذا تقبل العماد فى وسط التائبين من يوحنا فى نهر الأردن؟! كثير من الأسئلة أدخلت الشيطان فى الحيرة.. ولم يفهم فى كبريائه معنى أن السيد المسيح كلمة الله “إذ كان فى صورة الله، لم يحسب مساواته لله اختلاساً. لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس. وإذ وُجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت – موت الصليب” (فى2: 6-8). لذلك صدق القديس بولس الرسول حينما قال: “وبالإجماع عظيم هو سر التقوى؛ الله ظهر فى الجسد” (1تى3: 16). حقاً عظيم هو سر التقوى.. إنه سر عجيب، لم يفهمه الشيطان لسبب كبريائه.. ولن يفهمه..!! 2. فى بداية خدمته رجع بقوة الروح بعد العماد والتجربة فى البرية “رجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل، وخرج خبر عنه فى جميع الكورة المحيطة، وكان يعلم فى مجامعهم ممجداً من الجميع” (لو4: 14، 15). من المعلوم أن السيد المسيح هوكلمة الله الممجد مع الآب والروح القدس ولكنه إذ أخلى ذاته آخذاً صورة عبد، فإنه “إذ وُجد فى الهيئة كإنسان، وضع نفسه” (فى2: 8) ليقبل قيادة الروح القدس. وذلك كما حدث فى خروجه إلى البرية “رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس. وكان يُقتاد بالروح فى البرية” (لو4: 1). بعد الأربعين يوماً التى قضاها فى البرية منقادًا بالروح، هكذا أيضاً رجع بقوة الروح ليبدأ خدمته فى الجليل. ما هذا الاتضاع العجيب؟! إن قوة الروح القدس هى نفسها قوة الكلمة الأزلى، فالأقانيم متساوية فى كل القدرات والصفات المختصة بالجوهر الإلهى الواحد.. ولكن السيد المسيح كان يحلو له أن ينسب القدرة للروح القدس، وأن ينسب العمل إلى الآب السماوى لأنه لم يحسب مساواته لله اختلاساً، ولهذا أخلى ذاته وأخذ صورة عبد (انظر فى2: 6). ولكننا نسمع الآب يشهد للسيد المسيح أنه هو ابنه الحبيب الذى سُرت به نفسه، كما نلاحظ كيف جاء الروح القدس ليشهد للسيد المسيح بعد صعوده إلى السماء.. هكذا كان ينبغى أن يمجد الابن الوحيد من الآب ومن الروح القدس، بعد أن أخلى ذاته لأجل خلاصنا.. إننا نتعبد فى خشوع أمام الثالوث القدوس، ونحن نتفكر فى هذا الحب الأزلى العجيب الذى بين الأقانيم المتساوية فى الجوهر الإلهى الواحد. يقول معلمنا بولس الرسول عن نتيجة طاعة السيد المسيح واتضاعه: “لذلك رفَّعه الله أيضاً، وأعطاه اسماً فوق كل اسم. لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن فى السماء، ومن على الأرض، ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربٌ لمجد الله الآب” (فى2: 9-11). فى مجمع الناصرة أراد السيد المسيح فى إخلائه لذاته، أن يبرز انقياده للروح القدس، ومسحه بالروح القدس فجاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر إشعياء النبى. ولما فتح السفر وجد الموضع الذى كان مكتوباً فيه “روح الرب علىَّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين فى الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة” (لو4: 18، 19، انظر أيضا إش61: 1، 2). “ثم طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس. وجميع الذين فى المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب فى مسامعكم. وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه” (لو4: 20-22). أراد السيد المسيح أن ينسب كل ما فى خدمته من قوة وبركة وتأثير للآب وللروح القدس؛ فقال: “روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأُبشر المساكين..” (لو4: 18). الابن الوحيد الحبيب هو الذى تجسد، وهو الذى تألم، وهو الذى قدّم ذاته ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا.. وها نحن نراه يُخفى نفسه ويقول: “روح الرب علىّ لأنه مسحنى.. لأُنادى للمأسورين بالإطلاق.. وأكرز بسنة الرب المقبولة”. وها نحن أيضا نسمعه ينادى الآب فى اتضاع ويقول: “أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتنى من العالم.. الكلام الذى أعطيتنى قد أعطيتهم.. أنا مجدتك على الأرض. العمل الذى أعطيتنى لأعمل قد أكملته” (يو17: 6، 8، 4). لقد علّمنا السيد المسيح كيف يمكن أن نمارس الاتضاع من خلال المحبة. لأن الذى يحب حقاً يمكنه أن ينكر نفسه. لأن المحبة “لا تطلب ما لنفسها” (1كو13: 5)، بل إن المحبة الكاملة هى العطاء الكلى للذات. هناك من الأسرار الروحية ما يقف العقل أمامها مبهوراً، مشدوداً نحو التأمل فى سر الأبدية مع السيد المسيح وفى السيد المسيح، حيث نور معرفة الله الذى تخشع أمامه النفس، وتستر وجهها من بهاء عظمة مجده. فى عرس قانا الجليل كان هناك عرس فى قانا الجليل، وكانت السيدة العذراء أم يسوع هناك.. ودعى أيضاً السيد المسيح وتلاميذه إلى العرس (انظر يو2: 1، 2). كان السيد المسيح فى بداية أيام خدمته، بعد عودته من الجبل بعد صومه الأربعينى المقدس، وقد وافق أن يقبل الدعوة لحضور العرس ومعه تلاميذه.. وهناك وبتوسط العذراء أمه، صنع أول معجزات خدمته أمام تلاميذه، إذ “لما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر” (يو2: 3)، فحوّل السيد المسيح الماء إلى خمر بناءً على طلبها. فكانت “هذه بداية الآيات فعلها يسوع.. وأظهر مجده فآمن به تلاميذه” (يو2: 11). اختار السيد المسيح أن يبدأ معجزاته فى وسط تلاميذه، بناء على طلب من السيدة العذراء، ليعلّمنا أن شفاعتها التوسلية لديه مقبولة فى كل حين وفى مقدمة كل الشفاعات. لم يكن السيد المسيح متعجلاً أن يصنع معجزات يظهر بها قوته الإلهية.. مع أن الفرصة كانت متاحة له لصنع معجزة. إلا أنه مكث فى العرس دون أن يفعل شيئاً. حتى جاءت أمه القديسة فائقة الكرامة مريم، الشفيعة المؤتمنة على جنس البشر والمكرمة جداً أكثر من الشاروبيم والسيرافيم.. جاءت ترجوه فىحب وثقة أن يفعل شيئاً من أجل أصحاب العرس، الذين تورطوا فى حرج شديد حينما فرغت الخمر (غير المسكرة) التى يقدمونها للمدعوين. الخمر فى الكتاب المقدس تشير إلى محبة الله كقول عروس النشيد “أدخلنى إلى بيت الخمر، وعلمه فوقى محبة” (نش2: 4). وهكذا دائماً تطلب العذراء من أجل فيض محبة الله أن يتجدد فى أحشائنا بقوة شفاعتها غير المرفوضة. كم هو جميل أن ندعو سيدنا يسوع المسيح ووالدته العذراء إلى عرس حياتنا حتى تتدفق فينا محبته بغزارة، وبحلاوة عجيبة. قال السيد المسيح لأمه: “ما لى ولك يا امرأة” (يو2: 4) بمعنى أنه لا يمكن أن يرد طلب للعذراء الطاهرة المرأة التى أعادت اللقب الأول لحواء قبل السقوط “هذه تدعى امرأة لأنها من امرءٍ أخذت” (تك2: 23). لأنها آمنت وأطاعت وقبلت أن تصير أماً لمخلص العالم. وترنمت بالروح القدس قائلة: “تبتهج روحى بالله مخلصى” (لو1: 47). فهمت السيدة العذراء أن المخلص قد قبِل توسلها وطِلبتها، وأنه سوف يصنع المعجزة، مع أنه قال: “لم تأتِ ساعتى بعد” (يو2: 4)، فقالت للخدام: “مهما قال لكم فافعلوه” (يو2: 5). وصنع يسوع المعجزة، وحوّل الماء إلى خمر شهد لها رئيس المتكأ. وقال الإنجيل عن هذه المعجزة “هذه بداية الآيات فعلها يسوع فى قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه” (يو2: 11). فى اتضاعه العجيب لم يفعل هذه الآية إلا بتوسل السيدة العذراء، ولهذا حسب أن ساعة صنعه للمعجزات لم تكن قد أتت بعد. وهكذا كان السيد المسيح دائماً يحاول أن يخفى مجده، ولا يطلب مجداً من الناس، بل يبحث عن خيرهم. كان الحب هو دافعه.. فى بحثه عن خراف بيت إسرائيل الضالة.. فى سعيه من أجل خلاص البشرية.. فى تعبه من أجل الخطاة.. “يجول يصنع خيراً” (انظر أع10: 38) و”يشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب” (مت 4: 23). ولكن لماذا اختار أن يبدأ معجزات خدمته فى عرس، وليس فى أى مجال آخر؟ كانت علاقة الرب بالبشرية قد بدأت فى الفردوس، حيث نشأت العائلة البشرية الأولى.. وكانت هذه العائلة الأولى من آدم وامرأته، هى الرمز الأول لعلاقة السيد المسيح بالكنيسة. فمن المعلوم أن “الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً رأس الكنيسة” (أف5: 23) وقيل للرجال: “أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة، وأسلم نفسه لأجلها.. مطهراً إياها” (أف5: 25، 26). وقال معلمنا بولس الرسول عن الزواج كصورة لارتباط السيد المسيح كعريس بكنيسته: “هذا السر عظيم، ولكننى أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة” (أف5: 32). وفى مَثل العذارى الذى يرمز إلى العرس السماوى قال السيد المسيح: “يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس.. ففى نصف الليل صار صراخ هوذا العريس مقبل، فاخرجن للقائه” (مت25: 1، 6). ومعلمنا بولس الرسول يؤكّد هذه الحقيقة أن السيد المسيح هو عريس لكنيسته بقوله: “خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2كو11: 2). لهذا اختار السيد المسيح أن يبدأ معجزاته التى أظهر بها مجده فى وسط تلاميذه، فى عرس قانا الجليل، وفى حضور العروس الحقيقية رمز الكنيسة كلها، وأم جميع القديسين، العذراء والدة الإله. إن المعجزة الحقيقية التى صنعها السيد المسيح، هى أنه أعاد العائلة البشرية مرة أخرى إلى الفردوس. وهكذا جاءت هذه الصورة الجميلة، المسيح والكنيسة فى عرس. وكانت الكنيسة ممثلة فى العذراء مريم الشفيعة المؤتمنة أمام ربنا يسوع المسيح، وفى تلاميذه الذين أبصروا مجده المعجزى الخالق فى ذلك العرس الممتلئ فرحاً. عصير الكرمة ارتبط عصير الكرمة المختمر بالعرس ارتباطاً وثيقاً. إن السيد المسيح هو الكرمة الحقيقية كما قال لتلاميذه. وفى العشاء الأخير قال لتلاميذه: “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم” (لو22: 15). “وأقول لكم إنى من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديداً فى ملكوت أبى” (مت26: 29). إن الكرمة تذكّرنا بالفردوس الذى فقدناه بالخطية التى أسكرتنا زمناً طويلاً. وجاء السيد المسيح لكى يسقينا من خمر محبته، كقول عروس النشيد: “أدخلنى إلى بيت الخمر وعلمه فوقى محبة” (نش2: 4). وقولها أيضاً: “نذكر حبك أكثر من الخمر” (نش1: 4). فى سر الإفخارستيا يكون السيد المسيح حاضراً فى الكنيسة فى وسطنا، بجسده ودمه الأقدسين، يسقينا من عصير محبته ويمنحنا الحياة. هذا عشا العريس قُدم للعروس والوعد بالفردوس لحافظ العهد إن الإفخارستيا هى العرس الدائم الذى تحيا به الكنيسة فى غربتها الحالية، إلى أن تتمتع بشركة الحياة الأبدية مع السيد المسيح فى ملكوت السماوات، حيث العرس الأبدى الذى لا توصف حلاوته الحقيقية. فى عرس قانا الجليل جاءت الخمر الجيدة الحلوة التى صنعها السيد المسيح فى نهاية العرس. لكى نفهم أن حلاوة الحياة مع السيد المسيح سوف نتذوقها بما لا يقاس عند استعلان ملكوت السماوات. الرب الخالق ارتبط عرس قانا الجليل بمعجزة خلق واضحة.. حيث خلق السيد المسيح من الماء خمراً حقيقية حلوة المذاق، قال عنها رئيس المتكأ إنها الخمر الجيدة. فهذا العرس يذكرنا بالفردوس، حيث خلق السيد المسيح أبوينا الأولين على صورة الله ومثاله. وفى العرس كان هناك ستة أجران يسع كل جرن مطرين أو ثلاثة. وقد أمر السيد المسيح الخدام أن يملأوها بماء إلى فوق ففعلوا هكذا. وقد حوّل السيد المسيح الماء الذى فى الأجران إلى خمر جيدة، بمجرد أن أراد ذلك فى نفسه، وقال للخدام: “استقوا الآن، وقدّموا إلى رئيس المتَّكإ، فقدّموا..” (يو2: 8). هذه الأجران الستة تذكّرنا بأيام الخليقة الستة.. لأن الرب صنع العالم والمخلوقات التى فيه فى ستة أيام واستراح فى اليوم السابع. وقد خلق الرب الإنسان فى اليوم السادس، كما أنه قد صُلب على الصليب فى اليوم السادس من الأسبوع، وفى وقت الساعة السادسة. الرقم ستة دائماً فى الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل، وإلى عمل السيد المسيح فى خلق الإنسان وفى خلاصه من الخطية. وها هو الرب الخالق يعود ليبدأ مع الإنسان من جديد لأنه “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً” (2كو5: 17). ولكن هذا الجديد فى حياتنا مع الله، ليس هو الجديد، بل هو الأصيل.. هو الأقدم والأعمق من العتيق. لأن الأصل هو فى شركة الحياة الفردوسية مع الله. مقصود بالأشياء العتيقة أى الخطايا والشرور التى دخلت إلى حياة الإنسان.. ولكن ما هو أقدم وأعتق، هو العلاقة المقدسة مع الله التى بدأت مع خلق الإنسان.. لهذا صنع الرب فى الأجران خمراً جديدة، أطيب من العتيقة.. أعتق فى طعمها بكثير.. أليس هذا ما عبّر عنه القديس أغسطينوس فى مناجاته عن الله ومحبته: آه.. تأخرت كثيراً فى حبك أيها الجمال الفائق فى القدم والدائم جديداً إلى الأبد. 3. فى صنعه المعجزات لم يصنع السيد المسيح المعجزات ليتباهى بها، ولا ليأخذ مجداً من الناس، بل على العكس كثيراً ما أوصى الذين شفاهم أن لا يخبروا أحداً بما صنعه معهم. وهذه بعض الأمثلة: 1- واقعة شفاء الرجل الأبرص يحكى لنا إنجيل معلمنا مرقس عنها “فأتى إليه أبرص يطلب إليه جاثياً وقائلاً له إن أردت تقدر أن تطهرنى. فتحنن يسوع ومد يده ولمسه وقال له أريد فاطهر. فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص وطهر. فانتهره وأرسله للوقت وقال له انظر لا تقل لأحد شيئاً. بل اذهب أرِ نفسك للكاهن، وقدّم عن تطهيرك ما أمر به موسى شهادة لهم. وأما هو فخرج وابتدأ ينادى كثيراً ويذيع الخبر، حتى لم يعد يقدر أن يدخل مدينة ظاهراً، بل كان خارجاً فى مواضع خالية. وكانوا يأتون إليه من كل ناحية” (مر1: 40-45). وعن نفس المعجزة كتب القديس لوقا الإنجيلى. من هذه المعجزة وملابساتها يتضح ما يلى : إن السيد المسيح قد صنع المعجزة بدافع من حنانه وإشفاقه على هذا الأبرص “فتحنن يسوع”. إن السيد المسيح قد حاول مع الأبرص لكى لا يقول لأحد شيئاً، فلا يظهر المعجزة لعامة الناس. إنه حينما وجد أن الأبرص قد أذاع الخبر كثيراً، وتقاطرت عليه الجموع، بدأ يختفى ويعتزل فى البرارى ويصلى، ولا يدخل إلى مدينة ظاهراً. هكذا يعلمنا السيد المسيح بمثاله الصالح أن نهرب من طلب مجد الناس، صانعين مشيئة الله من القلب وأن من يهرب من الكرامة تجرى خلفه، وترشد جميع الناس إليه. 2- إقامة ابنة يايرس من الموت يقول معلمنا لوقا الإنجيلى: “فلما جاء إلى البيت لم يدع أحداً يدخل إلا بطرس ويعقوب ويوحنا وأبا الصبية وأمها. وكان الجميع يبكون عليها ويلطمون. فقال لا تبكوا. لم تمت لكنها نائمة. فضحكوا عليه عارفين أنها ماتت. فأخرج الجميع خارجاً وأمسك بيدها ونادى قائلاً: يا صبية قومى. فرجعت روحها وقامت فى الحال. فأمر أن تُعطى لتأكل. فبُهت والداها. فأوصاهما أن لا يقولا لأحد عما كان” (لو8: 51-56). وعن نفس المعجزة يقول القديس متى الإنجيلى: “فخرج ذلك الخبر إلى تلك الأرض كلها” (مت9: 26). فى هذه المعجزة ترى السيد المسيح يصنع الأمور التالية: أولاً: منع الجموع التى كانت تسير خلفه من الدخول إلى موضع المعجزة. ثانياً: لم يأخذ من التلاميذ إلى الداخل إلا بطرس ويعقوب ويوحنا، الذين أخذهم معه على جبل التجلى، وفى بستان جثسيمانى وهو يجاهد فى الصلاة، ليكونوا شهوداً بعد قيامته من الأموات على هذه الأمور (انظرمت17: 9). ثالثاً: أخرج جميع الأهل والزوار والمعزين خارجاً، ولم يستبقِ سوى والد الصبية وأمها. رابعاً: أنه أوصى الذين شاهدوا المعجزة وقت حدوثها، أن لا يقولوا لأحد عما كان. وبالرغم من كل ما فعل السيد المسيح لإخفاء المعجزة، إلا أن الخبر قد خرج إلى تلك الأرض كلها، لأنه “لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضئ لجميع الذين فى البيت” (مت5: 14، 15). 3- شفاء الأعميان عن هذه المعجزة يقول معلمنا متى البشير: “وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان: ارحمنا يا ابن داود. ولما جاء إلى البيت تقدم إليه الأعميان. فقال لهما يسوع: أتؤمنان أنى أقدر أن أفعل هذا؟ قالا له: نعم يا سيد. حينئذ لمس أعينهما قائلاً: بحسب إيمانكما ليكن لكما. فانفتحت أعينهما. فإنتهرهما يسوع قائلاً: انظرا لا يعلم أحد. ولكنهما خرجا وأشاعاه فى تلك الأرض كلها” (مت9: 27-31). لم يقدّم السيد المسيح الشفاء لهذين الأعميين بمجرد أن طلبا ذلك، بل ظل ساكتاً وهو يسير فى الطريق نحو البيت، بالرغم من صراخهما “ارحمنا يا ابن داود”. ولما جاء إلى البيت تقدما إليه فسألهما عن إيمانهما، فأجابا بالإيجاب. كان السيد المسيح يرغب فى إظهار إيمان هذين الرجلين، فتمهل عليهما فى الاستجابة. كما إنه لم يرغب فى أن يصنع المعجزة علناً فى الطريق، فسار نحو البيت وهما يتبعانه. إلى جوار ذلك أوصاهما السيد المسيح بشدة أن لا يعلم أحد. ولكنهما خرجا وأشاعا خبر المعجزة فى تلك الأرض كلها. 4- شفاء مريض بيت حسدا عندما سأل السيد المسيح الرجل المفلوج الذى مكث بجوار بِركة مياه بيت حسدا لمدة ثمانى وثلاثين سنة، قائلاً: “أتريد أن تبرأ”؟ (يو5: 6).. قال له المفلوج: “يا سيد ليس لى إنسان يلقينى فى البركة متى تحرك الماء. بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامى آخر” (يو5: 7). ليس لى نسان فى هذه البِركة للمياه ذات الخمسة أروقة “كان مضطجعاً جمهور كثير من مرضى وعمى وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء، لأن ملاكاً كان ينزل أحياناً فى البِركة ويحرك الماء. فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء، كان يبرأ من أى مرض اعتراه” (يو5: 3، 4). كان حال الرجل المفلوج بجوار هذه البِركة ذات الخمسة أروقة، يمثل حال البشرية التى انتظرت مجيء المخلّص أكثر من خمسة آلاف عام، وقد أعطيت شريعة موسى ذات الخمسة أسفار والتى لم تتمكن من تخليص البشرية مما هى فيه من فساد طبيعتها، ومن الموت الذى نتج عن دخول الخطية إلى العالم. فى مدة انتظار البشرية، كان الرب يرسل أنبياء بين الحين والآخر لتنبيه البشرية إلى الخلاص، الذى كان الرب مزمعاً أن يصنعه فى ملء الزمان، وقد تنبأوا عن مجيء المخلص. ولكن لم يتمكن أحد منهم من تخليص البشرية من عجزها الروحى، ومن حالة الموت التى سيطرت عليها منذ سقوط أبوينا الأولين. كانت هناك ومضات من السماء عبر الأجيال، عبّر عنها نزول الملاك أحياناً لتحريك المياه فى البركة. ولكن هذه الومضات كانت لتذكير البشرية بأن الخلاص سوف يتم بمجيء المخلّص. وها هو المخلّص قد أتى ووقف إلى جوار الرجل المفلوج يسأله “أتريد أن تبرأ؟” أجابه المريض يا سيد “ليس لى إنسان”. لعل رد الرجل المريض يذكّرنا بما ورد فى سفر إشعياء عن حال البشرية إذ قال: “ننتظر عدلاً وليس هو. وخلاصاً فيبتعد عنّا. لأن معاصينا كثرت أمامك، وخطايانا تشهد علينا، لأن معاصينا معنا وآثامنا نعرفها.. وقد ارتد الحق إلى الوراء، والعدل يقف بعيداً.. فرأى الرب وساء فى عينيه أنه ليس عدل. فرأى أنه ليس إنسان وتحيّر من أنه ليس شفيع. فخلّصت ذراعه لنفسه وبره هو عَضَدَهُ. فلبس البر كدرع وخوذة الخلاص على رأسه” (إش59: 12،11، 14-17). كما قال المريض: “ليس لى إنسان” هكذا رأى الرب أنه “ليس إنسان”.. أى لا يوجد إنسان يستطيع أن يتمم الفداء ويخلّص البشرية. ولذلك يقول: “رأى (الرب) أنه ليس إنسان، وتحيّر من أنه ليس شفيع، فخلَّصت ذراعه لنفسه وبره هو عضّده” (إش59: 16). كان من الضرورى أن يقوم الرب هو نفسه بالخلاص، لأنه لا يقدر أحد أن يتمم الفداء إلا الرب نفسه. لذلك يكمّل قائلاً: “فخلّصت ذراعه لنفسه.. فلبس البر كدرع، وخوذة الخلاص على رأسه” صار الرب الله هو نفسه المخلص.. لهذا قال الإنجيل “وكان الكلمة الله.. والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب مملوءًا نعمةً وحقاً” (يو1: 1، 14). صار لى خلاصاً عن هذا تغنى إشعياء النبى قائلاً: “هوذا الله خلاصى فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتى وترنيمتى وقد صار لى خلاصاً. فتستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص” (إش12: 2، 3). لقد صار يهوه نفسه هو الخلاص، لأنه تجسد وهو المخلص. هو الكاهن، وهو الذبيحة. هو الحمل، وهو الراعى. هو الهيكل، وهو القربان. وتغنت العذراء مريم قائلة: “تبتهج روحى بالله مخلصى” (لو1: 47). وقيل عن السيد المسيح فى ميلاده “وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم” (مت1: 21). وكلمة “يسوع” معناها “يهوه خلّص”. الكلمة الذى له نفس جوهر الآب، هو الذى تجسد وصنع الفداء. فالله يهوه هو المخلّص. لأن الكلمة من حيث جوهره هو يهوه، ومن حيث أقنومه هو الابن المولود من الآب، الذى هو يهوه أيضاً من حيث الجوهر. وقد قال الرب صراحة فى إشعياء النبى: “أنا أنا الرب وليس غيرى مخلّص.. وأنتم شهودى يقول الرب وأنا الله” (إش43: 11، 12). ما أعجب محبتك يا رب لأنك إذ لم تجد من يمكنه خلاص البشرية، أرسلت ابنك الوحيد ليولد متجسداً من العذراء مريم، وإذ صار إنساناً مثلنا بلا خطية، يقوم هو نفسه بإتمام الفداء، يقدّم نفسه كشفيع ويموت نيابةً عن الكل. ويقيمنا معه بانتصاره على الموت.. وبهذا صار الرب نفسه هو المخلص، وخلّصت ذراعه لنفسه وبره هو عضَدّه. قم احمل سريرك وامشِ قال الرب للمفلوج: “قـم احمـل سريرك وامش” (يو5: 8). بعد أن كانت الروح عاجـزة عن الحركة. ترقد فى فراش الجسد، بكلمة الله صار لها القدرة أن تحمل الجسد، وتتحرك به بملء الصحة الروحية. صارت الروح قادرة أن تقود الجسد، لأنها تنقاد بروح الله، وتتقوى بنعمة الروح القدس. لم يعد الجسد هو موضع ترقد الروح فيه عاجزة عن الحركة نحو حياة الأبد، بل صارت الروح قادرة أن تقود الجسد وأن تحمله إلى بيت الآب. ما أجمل هذه الكلمة “قم”. سوف يسمعها كل من آمن وتمتع بالخلاص.. حينما ينادى ابن الله الذين رقدوا ليقوموا بأجساد روحانية ويرثوا الحياة الأبدية. إذا قال الرب للإنسان “قم” فسوف يقوم حتماً.. إنها كلمة الرب القادرة الحية إلى الأبد. 5- شفاء الأعمى قال هذا النداء الرجل الأعمى الذى كان جالساً يستعطى على الطريق المؤدى إلى أريحا بقرب أريحا “فلما سمع الجمع مجتازًا، سأل ما عسى أن يكون هذا؟ فأخبروه أن يسوع الناصرى مجتاز. فصرخ قائلاً: يا يسوع ابن داود ارحمنى. فانتهره المتقدمون ليسكت، أما هو فصرخ أكثر كثيراً: يا ابن داود ارحمنى. فوقف يسوع وأمر أن يُقدّم إليه. ولما اقترب سأله قائلاً: ماذا تريد منى أفعل بك؟ فقال: يا سيد أن أبصر. فقال له يسوع: أبصر، إيمانك قد شفاك. وفى الحال أبصر، وتبعه وهو يمجد الله. وجميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله” (لو18: 36-43). إن طلب الرحمة بلجاجة، وبصراخ من الأعماق من السيد المسيح يجلب للإنسان كثير من المراحم الإلهية. إن اللجاجة فى الطلب والصراخ من عمق القلب هى دليل على قوة الإيمان بالمسيح. وبالرغم من المعوقات المحيطة بهذا الرجل الأعمى إلا أنه قد وصل إلى غايته وتغلب على كل الصعوبات. أولاً: تغلّب على مشكلة عدم قدرته على الإبصار بأن سأل من حوله “ما عسى أن يكون هذا؟” وذلك عندما شعر بالجمع مجتازًا. ثانياً: تغلّب على مشكلة عدم قدرته على الاتجاه نحو السيد المسيح لأنه لا يبصر طريقه بأن صرخ قائلاً: “يا يسوع ابن داود ارحمنى”. ثالثاً: تغلّب على التذمر لإصابته بالعمى بالثقة فى مراحم الرب الجزيلة. رابعاً: تغلّب على مشكلة انتهار المتقدمون من الجمع الذين حاولوا أن يمنعوه من الصراخ طالباً رحمة السيد المسيح بأن أصر على طلب الرحمة وصرخ أكثر كثيراً “يا ابن داود ارحمنى”. خامساً: لم يثنه عن طلب الرحمة سؤال السيد المسيح له “ماذا تريد أن أفعل لك؟” بل أجابه لوقته “يا سيد أن أبصر”. فالسيد المسيح يريدنا أن نحدد احتياجنا وطلباتنا منه. لا يكفى أن نطلب الرحمة بل ينبغى أن يكون لنا هدف واضح فى صلاتنا. وقد شهد السيد المسيح لإيمان هذا الرجل الذى استمر فى الطلبة واثقاً من الاستجابة. ألم يقل السيد المسيح: “كل ما تطلبونه حينما تصلون فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم” (مر11: 24). لقد قاسى هذا الأعمى فى حياته واضطر أن يتسول بأن يطلب عطايا من الناس لأنه لا يستطيع أن يكسب قوته لإصابته بالعمى. وهو لم يتذمر على الله الذى سمح له بهذه الضيقة وهذه المذلة بل صرخ نحو السيد المسيح طالباً الرحمة فى ثقة وإيمان. هناك أناس تبعدهم الضيقات عن الله فيتذمرون عليه قائلين لماذا يسمح الله لنا بالذل والهوان والمشقة والتعب. أما المؤمنون فإن الضيقة تعتبر مجالاً يلتقون فيه مع الله ويقتربون منه. لقد أوقف صراخ هذا الأعمى السيد المسيح الذى أمر أن يقدم إليه. ولما اقترب سأله قائلاً: “ماذا تريد أن أفعل بك؟”. وهنا نرى كيف أمر السيد المسيح بأن يقترب إليه هذا الأعمى لكى يمنحه الشفاء. وقد صار هذا الأعمى تلميذاً للسيد المسيح لأنه مكتوب أنه “أبصر وتبعه وهو يمجد الله”. لقد امتلأ فمه فرحاً وتسبيحاً وتمجيداً وصار شاهداً لعمل الرب فى حياته. وبسببه “جميع الشعب إذ رأوا سبحوا الله” (لو18: 43). ما أجمل هذه الأنشودة فى حياة الإنسان أن يتمجد من خلال الضيقات التى يحتملها بإيمان. وما أجمل أن ننادى اسم يسوع الرب فى كل حين من عمق القلب. إن صلاة {يا ربى يسوع المسيح ارحمنى –يا ربى يسوع المسيح أعنى – يا ربى يسوع المسيح خلصنى} هى من أقوى الصلوات فاعلية فى الحروب الروحية ضد الشياطين. لأن مجرد ذكر اسم الرب يسوع المسيح ترتعب منه جيوش الشياطين. لهذا ففى إبصالية يوم السبت من كل أسبوع تسبح الكنيسة {اسمك حلو ومبارك فى أفواه قديسيك: يا ربى يسوع المسيح مخلصى الصالح – كل أحد يباركك السمائيون والأرضيون: يا ربى يسوع المسيح مخلصى الصالح – سبع مرات كل يوم أبارك اسمك القدوس: يا ربى يسوع المسيح مخلصى الصالح .. الخ}. إن اسم يسوع فى اللغة العبرية هو “يهوشع” أى “يهوه خلّص” بمعنى “الله خلّص” لهذا قال القديس بطرس الرسول لرؤساء اليهود بعد شفاء الرجل المفلوج: “فليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل، أنه باسم يسوع المسيح الناصرى، الذى صلبتموه أنتم، الذى أقامه الله من الأموات، بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً.. وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطى بين الناس به ينبغى أن نخلص” (أع4: 10، 12). إن اسم يسوع يحمل قوة الله للخلاص ولا يوجد اسم فى الوجود له فاعلية الخلاص مثله بالنسبة للبشر. لذلك صرخ الأعمى نحو السيد المسيح قائلاً: “يا يسوع ابن داود ارحمنى”. فلنردد هذا الاسم من عمق قلوبنا ولا نكف عن ترديده بكل الثقة والإيمان ويصرخ كل منا قائلاً {يا ربى يسوع المسيح ارحمنى}. وهكذا نرى من الأمثلة الخمسة السابقة وغيرها كثير، إن السيد المسيح كان يميل دائماً إلى إخفاء ما يصنعه من المعجزات. وبالفعل أمكن إخفاء بعضها إلى ما بعد قيامته من الأموات، كما سوف نرى فى معجزة التجلى، التى لم يبصرها سوى بعض من تلاميذه الاثنى عشر.
كانت محبته هى التى تدفعه لأن يعمل فى وسط الجموع، وليس طلباً لمجد الناس. فالمحبة دائماً تريد أن تعطى.. حتى إنها تبذل نفسها من أجل الآخرين. وقد أبرزت الأناجيل المقدسة هذا الأمر بوضوح فى عديد من المواقف. ومن أمثلتها ما يلى: 1- فى اختلائه وصلاته بعدما “أخرج شياطين كثيرة، ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه” (مر1: 34). يذكر معلمنا مرقس الواقعة التالية: “وفى الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلى هناك. فتبعه سمعان والذين معه. ولما وجدوه قالوا له إن الجميع يطلبونك. فقال لهم: لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضاً لأنى لهذا خرجت. فكان يكرز فى مجامعهم فىكل الجليل، ويخرج الشياطين” (مر1: 35-39). # كان السيد المسيح يتوقع أن تأتى الجموع إليه بغزارة شديدة بعد أن صنع كثير من المعجزات، وأخرج شياطين كثيرة، وهو الأمر الذى لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء الذين صنعوا معجزات منذ القديم، إذ لم يكن لأحد سلطان على الشيطان مثل هذا السلطان العجيب. وقبل أن تحضر هذه الجموع قام باكراً جداً فى الصباح، ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلى هناك.. # تُرى ماذا كان يقول للآب السماوى فى صلاته هذه؟ لعله كان يكلمه عن “شقاء المساكين وتنهد البائسين” (مز11: 5) الذين تسلط عليهم إبليس، ورغبته الحارة فى خلاصهم.. أو لعله كان يشكره من أجل محبته الأبوية الفياضة، التى حررت كثيراً من البشر من سلطان الشيطان، والتى أكدّت أن ملكوت الله قد أقبل.. هذه المناجاة الممتلئة من الحب المتبادل بين الآب والابن؛ وهذا الاتضاع الذى سلك فيه الابن الوحيد، حينما أخلى ذاته آخذاً صورة عبد، وهذه الطاعة العجيبة التى قدّمها السيد المسيح لأبيه السماوى.. لاشك أنها قد أسعدت قلب الآب القدوس. إنها علاقة الثقة والحب بين الله والإنسان، التى حققها الكلمة المتجسد فى علاقته بالآب }باركت طبيعتى فيك، أكملت ناموسك عنى..{ القداس الغريغورى. كان يحلو للسيد المسيح أن يخلو مع الآب، ليتكلّم معه، حديث من يصنع للآب كل مشيئته. وقد علّمنا السيد المسيح بمثاله الصالح أهمية الخلوة والصلاة والحديث مع الله. فالصلاة هى التى تجعلنا نفهم مشيئة الله فى حياتنا. وهى فرصة للتعبير عن حبنا وشكرنا لأبينا السماوى. كما إنها فرصة لتسبيحه وتمجيد اسمه “ليتقدس اسمك” (الصلاة الربانية). كانت الصلاة بالنسبة للسيد المسيح هى فرصة لتأكيد دور الآب السماوى فى إرسالية الابن الوحيد، ولتأكيد الوحدة الجوهرية القائمة بين أقانيم الثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس. # حينما وصلت الجموع وبحثوا عن السيد المسيح ولم يجدوه، سألوا عنه تلاميذه. وهؤلاء بدورهم بحثوا عنه حتى وجدوه فى خلوته المقدسة. فقالوا له: “إن الجميع يطلبونك” (مر1: 37). كان إحساس التلاميذ بأهمية الجموع مختلفاً عن إحساس السيد المسيح.. وكانت نظرتهم للموضوع، فى ذلك الوقت، تختلف عن نظرته. فأجابهم: ” لنذهب إلى القرى المجاورة”.. لم يكن للجماهير تأثير ولا جاذبية تعطل قصد الآب السماوى فى إرسالية السيد المسيح. ولهذا قال: “لنذهب إلى القرى المجاورة لأنى لهذا خرجت”.. لقد خرج من عند الآب وأتى إلى العالم، وأيضاً يترك العالم ويمضى إلى الآب.. وكانت الإرسالية قصيرة فى مدتها، عميقة فى تأثيرها.. ولم يكن العالم قادراً أن يجتذب السيد المسيح نحوه ليبقى فيه، بل كان مشتاقاً أن يمضى إلى الآب، وكان العمل كبيراً متسعاً للكرازة بالتوبة وباقتراب ملكوت الله.. وكان السيد المسيح يرى الصليب ماثلاً أمام عينيه باستمرار، كطريق نحو السماء. وهو الذى قال لتلاميذه بعد قيامته “كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده” (لو24: 26). وفى سعيه نحو الصليب، لم يكن هناك متسع من الوقت للانشغال بالجموع وإعجابها، كما لم يكن هناك متسع فى القلب لمثل هذه الأمور.. بل كان القلب ساعياً مثبتاً نحو الجلجثة. وبالفعل ترك السيد المسيح ذلك الموضع إلى القرى المجاورة، وكان يكرز فى مجامعهم ويخرج الشياطين. 2- فى اختلائه مع التلاميذ ليستريحوا يذكر أيضا معلمنا مرقس الإنجيلى الواقعة التالية: “واجتمع الرسل إلى يسوع، وأخبروه بكل شئ، كل ما فعلوا وكل ما علموا، فقال لهم تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلاً. لأن القادمين والذاهبين كانوا كثيرين. ولم تتيسر لهم فرصة للأكل. فمضوا فى السفينة إلى موضع خلاء منفردين” (مر6: 30-32). وكان السيد المسيح يُقدِّر أهمية الراحة والخلوة بالنسبة لتلاميذه، وفى فترات الاختلاء بهم كان يحدثهم أحاديثاً خاصة، ويشرح ويفسّر لهم الكثير من تعاليمه. كما أنه قد اختارهم ليكونوا معه ليتتلمذوا على يديه، ويتمثلوا به، وبمحبته، ووداعته، وصفاته الجميلة التى كانوا هم فى أشد الاحتياج إليها. كان السيد المسيح يعلمهم بأفعاله أكثر مما يعلمهم بأقواله. وما حدث بعد ذلك أن “رآهم الجموع منطلقين، وعرفه كثيرون، فتراكضوا إلى هناك من جميع المدن مشاة وسبقوهم واجتمعوا إليه. فلما خرج يسوع رأى جمعاً كثيراً فتحنن عليهم، إذ كانوا كخراف لا راعى لها” (مر6: 33، 34). ضحى يسوع براحته بدافع من حنانه. ولكنه كان يميل إلى الاختلاء مع تلاميذه، بعيداً عن الجموع، التى كانت تلاحقه وهو لم يكن يمنع محبته عنها، ويعلم تلاميذه باستمرار، كيف أن المحبة لا تطلب ما لنفسها.
إثبات السيد المسيح لألوهيته لم يحدث إطلاقاً بدافع الافتخار بالنفس، أو حب الظهور، أو طلب المجد من الآخرين. بل سمح به الرب لإتمام رسالة الفداء والخلاص وغفران الخطايا وتأسيس الكنيسة المقدسة. وقد احتارت الشياطين فى أمر السيد المسيح؛ الذى كان يخفى لاهوته عن الشيطان.. ولم يكن الشيطان قادراً أن يفهم معنى التواضع وإخلاء الذات. وبالاتضاع هزم السيد المسيح إبليس بكل فطنة وحكمة روحية كقول معلمنا بولس الرسول: “الذى فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته التى أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة” (أف1: 7، 8). تعالوا بنا لنرى كيف كان السيد المسيح يخفى لاهوته فى مواضع كثيرة: 1- فى إخراجه للشياطين يذكر إنجيل معلمنا مرقس الوقائع التالية: بعد أن “انصرف يسوع مع تلاميذه إلى البحر، وتبعه جمع كثير من الجليل، ومن اليهودية، ومن أورشليم، ومن أدومية، ومن عبر الأردن، والذين حول صور وصيداء، جمع كثير إذ سمعوا كم صنع (من المعجزات والأعمال الممتلئة حباً) أتوا إليه.. لأنه كان قد شفى كثيرين، حتى وقع عليه ليلمسه كل من فيه داء. والأرواح النجسة حينما نظرته خرّت له وصرخت قائلة إنك أنت ابن الله. وأوصاهم كثيراً أن لا يظهروه” (مر3: 7-12). لم يكن السيد المسيح يرغب فى الإعلان عن نفسه بهذه الطريقة، كما إنه لا يقبل شهادة إبليس عنه وعن بنوته للآب السماوى. وقد حيّر السيد المسيح الشياطين برفضه لشهادتهم عن بنوته لله.. لأن الشيطان لا يفهم الاتضاع. كان الشيطان يتخبط فى معرفته عن السيد المسيح. فتارة يقول له: “إن كنت ابن الله” (لو4: 3). وتارة يقول: “إنك أنت ابن الله” (مر3: 11). عبارة “أوصاهم كثيراً أن لا يظهروه” تؤكد كيف حاول السيد المسيح أن يخفى لاهوته، كما أنه فى مناسبات كثيرة كان يتعمد إثبات حقيقة إنسانيته وتجسده. ويذكر إنجيل معلمنا لوقا الأمور التالية: حينما ذهب السيد المسيح إلى كفر ناحوم “وكان فى المجمع رجل به روح شيطان نجس، فصرخ بصوت عظيم قائلاً: آه مالنا ولك يا يسوع الناصرى. أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك من أنت قدوس الله. فانتهره يسوع قائلاً اخرس واخرج منه. فصرعه الشيطان فى الوسط وخرج منه ولم يضره شيئاً” (لو4: 33-35). ويلاحظ هنا أيضاً أن السيد المسيح قد انتهر الشيطان الذى قال “أنت قدوس الله” لأنه لا يقبل شهادة الشيطان عنه كما أنه لا يريد أن ينتشر هذا القول بين الناس فى وقت مبكر قبل قيامته من الأموات وصعوده إلى السماوات. أما اعتراف التلاميذ “أنت هو المسيح ابن الله الحى” (مت16: 16). فقد طوّبه السيد المسيح لأنه هو أساس الإيمان فى الكنيسة. ولكن هذا الاعتراف كان بعيداً عن أسماع الجماهير، تماماً مثلما حدث مع المولود أعمى الذى آمن بأن المسيح هو ابن الله وسجد له. كان السيد المسيح يقتاد الناس إلى الإيمان بألوهيته فى الوقت المناسب، حينما تكون أعين قلوبهم مفتوحة بالقدر الكافى، ومهيأة لمعرفة أسراره المقدسة “أظهر له ذاتى” (يو14: 21). بعد الواقعة السابقة يذكر إنجيل معلمنا لوقا أن السيد المسيح “لما قام من المجمع..كانت الشياطين أيضاً تخرج من كثيرين وهى تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح” (لو4: 38، 41) شعرت الشياطين بقوة السيد المسيح وسلطانه عليهم، فعرفوا إنه هو المسيح ابن الله. لأنه لم يحدث قط أن أخرج أحد الأنبياء شيطاناً فى العهد القديم. ولهذا دهش الجميع وكانوا يخاطبون بعضهم بعضاً قائلين: ما هو هذا التعليم الجديد فإنه بسلطان وقوة يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه وتخرج؟ (انظر لو4: 36). ولكن حينما كان السيد المسيح يسلك بمقتضى إنسانيته، فيتعب ويتألم ويحزن -كان الشيطان يعود فيشك فى ألوهيته ويتجاسر عليه، حتى تمم السيد المسيح الفداء على الصليب.. 2- فى حديثه مع تلاميذه حينما سأل السيد المسيح تلاميذه عما يقوله الناس عنه، ثم عن رأيهم هم فيه قالوا: “أنت هو المسيح ابن الله الحى” (مت16: 16)، “حينئذ أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح” (مت16: 20) وذلك بعد أن أوضح أن الاعتراف بألوهيته قد جاءهم نتيجة إعلان الآب السماوى لهم. وهنا نرى كيف منع السيد المسيح تلاميذه من أن يكشفوا حقيقة لاهوته للناس، وذلك إلى أن يقوم من الأموات. ولذلك يكمل معلمنا متى الإنجيلى قوله السابق ويقول: “من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يُظهر لتلاميذه أنه ينبغى أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وفى اليوم الثالث يقوم” (مت16: 21). كان من المناسب إخفاء ألوهية السيد المسيح حتى تتأكد بقيامته من الأموات منتصراً على الموت من أجل خلاص البشرية.
أولاً: فيما يختص بالمُلك عاش السيد المسيح تحت سلطة الملوك والأباطرة والحكام.. لم تكن له أية وظيفة، ولا رئاسة، ولا سلطان ينافس به الحكام فى سلطتهم. خشى هيرودس الملك من ولادة السيد المسيح ملك اليهود، وأراد أن يتخلّص منه، وذبح جميع أطفال بيت لحم.. ولكنه لم يفهم طبيعة مُلك السيد المسيح الذى قال للوالى الرومانى بعد ثلاثين عاماً: “مملكتى ليست من هذا العالم” (يو18: 36). لم يستخدم السيد المسيح حقه الإلهى فى أن يسود على الجميع، بل وضع نفسه تحت الكل، وكان خاضعاً لسلطان البشر. دَفَعَ الجزية للحكام، ورفض أن تجعله الجموع ملكاً ينتزع ما اعتبروه حقوقاً لهم. ولم يقاوم الذين ألقوا القبض عليه، و”ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاه تساق إلى الذبح” (إش53: 7)، ولم يقاوم اللطم والإهانات وجلد السياط، ولا ما اقترن بالصليب من إهانات وآلام متنوعة. رفض السيد المسيح الملك الزمنى، وكل أمجاده، لأنه كان يريد أن يملك على القلوب بمحبة إذ قال: “أنا إن ارتفعت.. أجذب إلىّ الجميع” (يو12: 32)، بمعنى أنه حينما يرتفع معلقاً على خشبة الصليب، فسوف يجتذب إليه محبة وإيمان الكثيرين. وفى موضع آخر تكلم عن الصلب فقال: “متى رفعتم ابن الإنسان” (يو8: 28). حقاً “إن الرب قد ملك على خشبة” (مز95: 10).. ملك على قلوب الذين افتداهم وخلصهم من سلطان الخطية وعبوديتها. عاش السيد المسيح فى عالم ممتلئ بالمشاكل والاضطرابات.. ولم يحاول إطلاقاً أن يدخل فى خضم هذا البحر المتلاطم. بل عالج مشكلة الإنسان الداخلية.. وأراد أن يحرر الإنسان من الداخل؛ عملاً بقول الكتاب أن “مالك روحه خير ممن يأخذ مدينه” (أم16: 32). إن فى تحرير الإنسان من الخطية، وفى تحريره من ذاته ومن الأنانية، الحل الحقيقى لمشاكل البشرية ولكل معاناة الإنسان. كانت الحرية فى نظر البشر شيئاً، وفى نظر السيد المسيح شيئاً آخر.. لهذا قال: “إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا” (يو8: 36). أن يتحرر الإنسان من الداخل معناه أن يحيا فى حرية مجد أولاد الله فى الحياة الأبدية، فى شركة مقدسة مع الله. أما التحرر من العبودية الخارجية للبشر، فلا يؤثر فى مصير الإنسان الأبدى.. بل هو وضع مؤقت لا يمكن أن يدوم. وبهذا فقد اهتم السيد المسيح بأن يملك على قلوب الذين اشتراهم من حمأة الخطية والموت الأبدى. لم يأخذ السيد المسيح مُلكاً أرضياً، ولكن فى السماء له ملكوت أبدى. فهو الملك الذى لا نهاية لملكه. ثانياً: فيما يختص بالكهنوت ترك السيد المسيح لكهنة اليهود وظائفهم فى خدمة الكهنوت الهارونى بتقديم الذبائح الحيوانية فى الهيكل. لم يطلب منصباً كهنوتياً، ولا خدمة طقسية فى ذلك الهيكل الذى هو المسكن الأول. بل جعل من جسده هيكلاً لتقديم الذبيحة الحقيقية “وأما المسيح وهو قد جاء رئيس كهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد، أى الذى ليس من هذه الخليقة. وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداءً أبدياً” (عب9: 11، 12). لقد دخل السيد المسيح إلى الأقداس السمائية ليشفع فينا أمام الآب السماوى. لم يزاحم السيد المسيح أحداً فى منصبه الكهنوتى، بل جاء كهنوته، بحسب تدبير الله، كشئ ملازم لتقديم ذاته كذبيحة خلاص حقيقية مقبولة من الآب السماوى. لم يأخذ السيد المسيح رئاسة الكهنوت كوظيفة أو منصب خارجى، بل نبع ذلك من صميم قدرته على تقديم ذاته ذبيحة عن حياة العالم. كان هو الكاهن، وهو الذبيحة. كما أنه هو الهيكل، وهو القربان. وهو الحمل وهو الراعى فى آنٍ واحد. كان الآب هو الذى اختاره ليكون رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكى صادق. وقد دفع السيد المسيح حياته ثمناً لعمله الكهنوتى.. فما أمجد كهنوت مثل هذا؟.. أو هل كان ممكناً لمثل هذا أن لا يصير كاهناً؟! حقاً قال معلمنا بولس الرسول: “ولا يأخذ أحد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هارون أيضاً. كذلك المسيح أيضاً لم يمجد نفسه ليصير رئيس كهنة، بل الذى قال له أنت ابنى أنا اليوم ولدتك. كما يقول أيضاً فى موضع آخر أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكى صادق” (عب5: 4-6). 7. فى رفضه للتعصب العرقى عند بئر يعقوب التقى السيد المسيح بالمرأة السامرية عند بئر ماء وهو صاحب الينبوع الحى الذى يمنح الماء الحى لمن يطلبه. كانت المرأة تعيش فى مشكلتين فى علاقتها بالله: المشكلة الأولى: مشكلة عرقية لها صلة بالدين وحرفيته والتعصب فيه. والمشكلة الثانية: مشكلة داخلية تخص انقيادها لرغبات الجسد وشهواته. وفى الحقيقة أن السيد المسيح قد جاء إلى العالم ليحل هاتين المشكلتين فى حياة البشر جميعاً. وإن كان اللقاء مع السامرية هو وسيلة لإيضاح هاتين الحقيقتين المريرتين فى طبيعة البشر. اليهود لا يعاملون السامريين قالت المرأة للسيد المسيح “كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودى وأنا امرأة سامرية؟! لأن اليهود لا يعاملون السامريين” (يو4: 9). كان اليهود يحتقرون السامريين لاختلاطهم بالأمم بعد أن انقسمت المملكة، وصار ملوك السامرة يقيمون شعائر العبادة فى هيكل آخر فى جبل السامرة بخلاف هيكل اليهود فى جبل صهيون، وذلك لكى يمنعوا أفراد شعوبهم من الذهاب إلى أورشليم للسجود هناك. وفى هيكل السامريين اختلطت عبادة الله بالعادات والممارسات الوثنية أحياناً. وتفاقم الصراع بين المملكتين، وتداخلت العوامل الدينية مع العوامل السياسية لتزداد العداوة بين اليهود والسامريين. وجاء السيد المسيح ليزيل العداوة، وليحرر اليهود من التعصب العرقى والدينى. فبدأ هو بالمبادرة نحو السامريين متخطياً الحواجز التى فصلت بين الشعبين. وتكلّم مع المرأة السامرية طالباً منها أن تعطيه ليشرب. وحينما قالت له المرأة السامرية متسائلة: “آباؤنا سجدوا فى هذا الجبل، وأنتم تقولون إن فى أورشليم الموضع الذى ينبغى أن يُسجد فيه” (يو4: 20). أجابها السيد المسيح “يا امرأة صدقينى إنه تأتى ساعة لا فى هذا الجبل ولا فى أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم” (يو4: 21، 22). وقد قصد السيد المسيح أن يوضح لهذه المرأة عدم تمسكه بمكان معيّن للسجود للآب السماوى.. لا فى جبل السامرة، ولا فى جبل صهيون بأورشليم. لأن الله هو فوق حدود المكان. ثم بدأ يوضح لها أن الموقف الأهم هو مفهوم العبادة ونقاوة العقيدة، ومعرفة الله المعرفة الحقيقية لكى تقدم له العبادة المقبولة. وشرح لها أن الخلاص يُبنى على المعرفة السليمة، وأقوال الكتب المقدسة التى هى أنفاس الله، والتى حُفظت فى أورشليم إلى مجيء المخلّص. ولهذا قال لها: “لأن الخلاص هو من اليهود” (يو4: 22)، أى من وسطهم سوف يأتى المسيح مانحاً الخلاص والبنوة للذين يقبلونه. وأوضح لها أيضاً أن العبادة المقبولة أمام الآب هى “بالروح والحق” (يو4: 24). ليس بعتق الحرف.. أى ليس بالعبادة الحرفية الناموسية التى يفتخر بها المتزمتون من اليهود، بل بالروح الجديد (بجدة الروح).. أى بالعبادة الروحانية التى يتمتع بها أولاد الله الذين يتمتعون بشركة الروح القدس، ويستنيرون ويبتهجون ويشبعون بعمل الروح فيهم. عبادة تتحرر من الارتباط بالمكان والشكليات.. بل حيث يعمل الروح القدس فى الكنيسة بقوة من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها.. يقود ويرشد ويعلم ويمنح سلطان الخدمة الكهنوتية بالخلافة الرسولية، وبها يتم مسح الخدام والمؤمنين والكنائس كما تتم جميع الأسرار المقدسة لخلاص المؤمنين. وهى ليست عبادة يتمتع فيها الإنسان روحياً فقط، بل تمتلئ بالحق والاستقامة. أى لا يكفى أن يشعر الإنسان بنشوة روحية مبهمة فى العبادة بل ينبغى أن يستوعب بعقله الإيمان وما فيه من حق.. لأن الروح القدس يعلن الحق فى داخلنا.. يعلن المسيح الذى قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو14: 6). والحق الذى يعلنه الروح القدس هو الإيمان المستقيم.. الإيمان المسلّم مرة للقديسين.. الإيمان الذى يخلو من البدع ومن الخرافات ومن الهرطقات. الحق الذى قال عنه السيد المسيح: “كل من هو من الحق يسمع صوتى” (يو18: 37). لهذا كله قال السيد المسيح للمرأة السامرية: “تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا” (يو4: 23، 24). لم تعد العبادة لله قاصرة على أورشليم وحدها مثلما كان الأمر فى العهد القديم قبل مجيء السيد المسيح. ولم يعد هيكل سليمان هو المكان المختار للعبادة. بل قال معلمنا بولس: “أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو3: 16). اتسع الهيكل فى العهد الجديد، ليكون هو الكنيسة المقدسة الممتدة من أقاصى المسكونة إلى أقاصيها. وصار هيكل الله الآب هو المكان (فى الكنيسة) الذى يحضر فيه السيد المسيح بجسده ودمه الأقدسين بفعل الروح القدس فى سر الإفخارستيا ليمنح المؤمنين باسمه الاشتراك فى الحياة الأبدية التى منحت لنا بموته عوضاً عنا على الصليب. حقاً صار حضور المسيح بذبيحته المقدسة -بكل ما تُعلن عنه فى الموت والقيامة والصعود والمجيء الثانى- حقيقة واقعة فى كنيسته المحبوبة، إعلاناً مبكراً للعرس بين المسيح وعروسه الكنيسة التى اقتناها بدمه الكريم، وعربوناً للحياة الأبدية التى وعد بها جميع قديسيه. لم يفهم اليهود فى نظرتهم الضيقة للعبادة هذه الحقائق الثمينة، وجعلوا يتمسكون بهيكل مبنى بالحجارة وربما يحلمون بإعادة بنائه بعد خرابه، حسبما قال لهم السيد المسيح: “هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً” (مت23: 38). وحينما يقولون: “مبارك الآتى باسم الرب” (مت23: 39) فسوف يفهمون المعنى الحقيقى للهيكل. ألم يقل لهم السيد المسيح عن جسده: “انقضوا هذا الهيكل وفى ثلاثة أيام أقيمه” (يو2: 19). أما هم فلم يفهموا أنه كان يُكلمهم عن هيكل جسده المقدس بل صاروا يعترضون ويسخرون من كلامه قائلين عن هيكل الحجارة: “فى ست وأربعين سنة بنى هذا الهيكل أفأنت فى ثلاثة أيام تقيمه؟” (يو2: 20). بعد مجيء المسيح لم يعد هناك لزوم للهيكل القديم لأن الذبائح الحيوانية قد أبطلتها ذبيحة الصليب وقد شرح القديس بولس الرسول هذه الحقيقة بقوله للعبرانيين (أى لذوى الأصل اليهودى) “لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة، لا نفس صورة الأشياء، لا يقدر أبداً بنفس الذبائح كل سنة التى يقدمونها على الدوام أن يكمّل الذين يتقدمون.. لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا. لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم تُرد، ولكن هيأت لى جسداً.. فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرّسه لنا حديثاً حياً بالحجاب أى جسده. وكاهن عظيم على بيت الله” (عب10: 1، 4، 5، 19-21). اذهبى وادعى زوجك (يو4: 16) أراد السيد المسيح أن يقود المرأة السامرية إلى التوبة، حتى يأتى بها إلى العبادة بالروح والحق. فلم يكن من الممكن أن تبدأ علاقتها مع الله فى العبادة، بينما هى تحيا فى سيرة خاطئة ومشاعر خاطئة. لهذا طلب منها أن تذهب وتدعو زوجها “أجابت المرأة وقالت: ليس لى زوج. قال لها يسوع: حسناً قلت ليس لى زوج لأنه كان لك خمسة أزواج، والذى لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلتِ بالصدق” (يو4: 17، 18). بدأت المرأة من خلال كشف المسيح لها، تدرك أنها أمام شخصية غير عادية. فقالت: “يا سيد أرى أنك نبى” (يو4: 19). قالت ذلك معترفة بخطئها. ولما تكلم السيد المسيح معها عن السجود لله بالروح والحق، وعدم التقيد بجبل السامرة ولا جبل صهيون فى السجود للآب، أرادت أن تجد مرجعاً يتفق فيه اليهود والسامريون. فقالت له: “أنا أعلم أن مسيا الذى يقال له المسيح يأتى. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شئ” (يو4: 25). كان بالنسبة لها مجيء السيد المسيح هو الحل لجميع مشاكلها الروحية والفكرية وقد اشتاقت بالفعل أن تعرف من محدثها الذى لم تكن تعرفه، أن يخبرها متى يأتى المسيا المنتظر. عند هذه النقطة كشف لها السيد المسيح عن شخصيته الحقيقية، وقال لها: “أنا الذى أكلمك هو” (يو4: 26). فتركت المرأة جرتّها إلى جوار البئر، وذهبت إلى أهل السامرة لتدعوهم لرؤية السيد المسيح. وآمن الكثيرون بسبب كلامها- ثم بالأكثر بسبب رؤيتهم للمسيا مشتهى الأجيال. 8. فى معاملاته مع الخطاة جاء السيد المسيح لكى يحمل خطايا آخرين، ويشفع فى المذنبين ولذلك كان لطيفاً جداً فى معاملاته مع الخطاة. ودائماً كان يقول: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى.. لأنى لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة” (مت9: 12، 13). ومع إنه كان حازماً مع المستكبرين، وقساة القلوب، ورافضى التوبة، والمرائين، والمنافقين، ومع الذين يعتبرون أن التقوى تجارة.. إلا أنه كان رقيقاً، متواضعاً، مترفقاً، طويل الأناة مع المنكسرين، والضعفاء، والمنسحقين، والمأسورين، والمشتاقين إلى التوبة والخلاص.. مثلما قال: “روح الرب علىَّ لأنه مسحنى، لأبشر المساكين. أرسلنى لأشفى المنكسرى القلوب، لأنادى للمأسورين بالإطلاق، وللعمى بالبصر، وأرسل المنسحقين فى الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة” (لو4: 18، 19). محبة الخطاة من أجل محبته للخطاة، ورغبته فى خلاصهم، احتمل الكثير من التعيير الذى أثاره ضده الكتبة والفريسيون ورؤساء اليهود. إذ اتهموه بأنه محب للعشارين والخطاة، وأنه دخل ليمكث فى بيت إنسان خاطئ. وفى قبوله لتوبة المرأة الخاطئة التى غسلت رجليه بدموعها قالوا: “لوكان هذا نبياً لعلم من هذه الامرأة التى تلمسه وما هى إنها خاطئة” (لو7: 39). وفى النهاية حينما عُلّق على الصليب حاملاً خطايا كثيرين، كانوا يعيّرونه قائلين: “خلّص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها” (مت27: 42) السيد المسيح فى اتضاع عجيب تعامل مع الخطاة، بل وحمل تعييرات كان المفروض أن يحملوها هم فحملها عوضاً عنهم راضياً مختارًا.. فى لقائه مع السامرية بادرها قائلاً: “أعطينى لأشرب” (يو4: 7)، مُظهراً نفسه كالمحتاج مع أنه هو ينبوع الماء الحى.. وحينما “أجابت المرأة وقالت: ليس لى زوج، قال لها يسوع: حسناً قلت ليس لى زوج.. هذا قلتِ بالصدق” (يو4: 17، 18)، مادحاً صدقها فى هذا الأمر، كاشفاً لها أعماق حياتها “لأنه كان لكِ خمسة أزواج والذى لكِ الآن ليس هو زوجك” (يو4: 18). فقالت المرأة: “يا سيد أرى أنك نبى” (يو4: 19). فبمنتهى الاتضاع والحرص على مشاعرها، اقتادها إلى الاعتراف، وإلى التوبة، وإلى المناداة باسمه بين أهل مدينتها. مع اللص اليمين كان اللصان اللذان صُلبا مع السيد المسيح يعيرانه قائلين: “إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيانا” (لو23: 39). وفيما كان السيد المسيح يدفع ثمن خطية اللص المذنب، احتمل تعييراته، وكان يصلّى من أجل خلاصه وتوبته. وعلى مدى ساعات الصلب كان اللص يراقب السيد المسيح ويستمع لكلماته، وكيف كان يهتم بغيره.. سمعه وهو ينادى الآب طالباً المغفرة لصالبيه “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو23: 34). رأى صبره ووداعته واحتماله لتعييرات اليهود، إذ لم يرد بكلمة واحدة على ما وجِّه إليه من شتائم وإهانات. ربما فكّر اللص اليمين فى نفسه قائلاً (لاشك فى أن يسوع المصلوب يؤدى رسالة يدفع فيها ثمن خطايا آخرين، وهو برئ من كل خطية لأن الذى استطاع أن يقيم لعازر من الموت، لا يعسر عليه أن يُسكت هؤلاء المجدفين عليه). لهذا بدأ اللص اليمين يوبّخ زميله الآخر: “أَوَلاَ أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه. أما نحن فبعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس فى محله” (لو23: 40، 41). ثم استطرد معلناً إيمانه بألوهية السيد المسيح الذى احتمل كل هذا من أجلنا: “اذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك. فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معى فى الفردوس” (لو23: 42، 43). أى أن السيد المسيح قد وعد اللص بأن يذهب إلى مكان انتظار أرواح الأبرار، تمهيداً لدخوله إلى الملكوت فى اليوم الأخير. فى اتضاعه المعهود لم يؤاخذ السيد المسيح اللص على تجاديفه السابقة وتعييراته له. بل حتى لم يعاتبه.. واكتفى بما أظهره من حب وإخلاص، ورغبة صادقة فى السلوك فى طريق الحق، وإيمان برسالة السيد المسيح كفادى ومخلص وملك للمفديين. وهكذا نرى السيد المسيح فى اتضاعه، وقد حمل خطايا كثيرين وشفع فى المذنبين ووبخهم برقته ووداعته العجيبة حتى تحولوا من خطاة إلى قديسين. مع المرأة الخاطئة سأل السيد المسيح مضيفه سمعان الفريسى “كان لمداين مديونان، على الواحد خمسمئة دينار، وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما جميعاً. فقل أيهما يكون أكثر حباً له. فأجاب سمعان وقال: أظن الذى سامحه بالأكثر. فقال له بصواب حكمت” (لو7: 41-43). إن الغفران الذى قدّمه السيد المسيح للمؤمنين به هو غفران مدفوع الثمن. والثمن هو دم المسيح. لهذا قال معلمنا بولس الرسول: “وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن فمجدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله” (1كو6: 19، 20). وقال معلمنا بطرس الرسول: “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى.. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح” (1بط1: 18، 19). إن البشر لم يكن بمقدورهم أن يوفوا الدين الذى عليهم لله بدون تجسد ابن الله الوحيد الذى هو وحده قادر أن يوفى الدين، وهو نفسه الله الظاهر فى الجسد الذى صالحنا مع أبيه السماوى. وعن عدم مقدرة البشر منفردين عن الله بأنفسهم أن يوفوا الدين، قال السيد المسيح فى هذا المثل: “وإذ لم يكن لهما ما يوفيان” (لو7: 42). لقد أوفى السيد المسيح الدين الذى علينا واشترانا وصرنا ندين له بهذا الحب العجيب، أى أنه قد اجتذبنا بمحبته وغفرانه المدفوع الثمن، فصرنا نحبه وتزداد محبتنا له كلما تأمّلنا فى آلامه لأجلنا. وقال السيد المسيح لسمعان عن المرأة الخاطئة التى غسلت رجليه بدموعها ومسحتهما بالطيب وانهمكت فى تقبيل قدميه “من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً. والذى يُغفر له قليل يحب قليلاً” (لو7: 47). إن الغفران المدفوع الثمن فى المفهوم المسيحى هو الذى يجعلنا نحب الرب كثيراً. كما أنه هو الذى يجعلنا نكره الخطية، لأنها تسببت فى آلام فادينا وموته على الصليب. كيف ننسى هذا الحب العجيب الذى يبكتنا على كل خطية اقترفناها أو نقترفها، ويجعلنا نشعر بالاشمئزاز من الخطية، ويجعلها تبدو خاطئة جداً. إن الخاطئ الذى يتأمل فى جراحات المخلّص الوديع يشعر بأنه لا يطيق نفسه، ولا يتصور أنه من الممكن أن يخون هذا الحب الكبير. لهذا قال السيد المسيح: “إن كان أحد يأتى إلىّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لى تلميذاً” (لو14: 26). وما معنى أن يبغض الإنسان نفسه، إلا أن يبغض كل تصرف تميل إليه نفسه فى أنانيته لإرضاء شهواتها. هذه هى فلسفة تعاليم السيد المسيح فى قوله: “من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها، ومن يُهلك نفسه من أجلى يجدها” (مت16: 25). من أهلك نفسه من أجل المسيح سوف يجدها، لأنه سوف يتحرر من سلطان الخطية والموت الأبدى، وبهذا سوف يرث الحياة الأبدية ويجد نفسه فى الأبدية والسعادة الحقيقة فى حرية مجد أولاد الله. الإيمان بالسيد المسيح بأنه هو ابن الله الحى والإيمان بموته المحيى وقيامته من الأموات يؤهل الإنسان أن ينال سر العماد المقدس لأن “الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنون باسمه” (يو1: 12). وبالميلاد الفوقانى ينال المؤمن الحق فى أن ينال سر المسحة المقدسة ويصير مسكناً للروح القدس الذى يثبّته فى حالة البنوة لله ويمنحه ثمارًا لازمة للخلاص، كما يمنحه مواهباً لبنيان الكنيسة. وبالميلاد الفوقانى أيضاً يؤهَّل الإنسان للاتحاد بالحياة الأبدية فى المسيح بالتناول من جسده المقدس ودمه الكريم فى سر الإفخارستيا، الذى يعطيه ثباتاً فى المسيح ويؤهّله لشركة الحياة الأبدية. ومن خلال سر التوبة والاعتراف يؤهل لتجديد مفاعيل العماد المقدس فى الاتحاد بالمسيح بشبه موته وقيامته من الأموات فى سر الإفخارستيا (التناول). إن العطايا الروحية التى ينالها المؤمن بالمسيح تمنحه قوة للانتصار على محاربات الشيطان، والتمتع بحياة القداسة التى بدونها لن يرى أحد الرب. وفى كل ذلك يضع المؤمن أمام عينيه صلب المخلص وجراحاته وآلامه. لأن الصليب هو سلاح الغلبة. وهو مصدر كل العطايا والنعم التى يمنحها الروح القدس للمؤمنين بالمسيح، الذين يتمتعون بغفران مدفوع الثمن، يمنحه لهم الروح القدس باستحقاقات دم المسيح الفادى والمخلص العجيب. 9. الحوار فى أسلوب السيد المسيح كان السيد المسيح يستخدم دائماً أسلوب الإقناع فى توصيل الحقائق الإلهية والسامية للناس. وكثيراً ما تعرض للسخرية من مقاوميه، كما أنهم كانوا يحاولون أن يصطادوه بكلمة ليضعوه فى مأزق فى علاقته بالحكام، أو فى موقفه من شرائع الناموس.. ولكنه كان باستمرار يستخدم أسلوب الحوار المقنع.. لم يستخدم الغضب، ولم يكن عنيفاً فى الرد على مقاوميه، أو الذين يسخرون منه.. ولكنه أحياناً كان يحذرهم من نتائج تمسّكهم بالخطأ. كُتب عن السيد المسيح: “الذى لم يفعل خطية، ولا وُجد فى فمه مكر. الذى إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يُهدد، بل كان يُسلّم لمن يقضى بعدلٍ. الذى حمل هو نفسه خطايانا فى جسده على الخشبة، لكى نموت عن الخطايا فنحيا للبر” (1بط2: 22-24). ولنا بعض من الأمثلة عن أهمية الحوار فى خدمة السيد المسيح: 1- فى إخراجه للشياطين “وكان يخرج شيطاناً. وكان ذلك أخرس. فلما أُخرِجَ الشيطان تكلم الأخرس فتعجب الجموع وأما قوم منهم فقالوا ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. وآخرون طلبوا منه آية من السماء يجربونه. فعلم أفكارهم وقال لهم كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وبيت منقسم على بيت يسقط. فإن كان الشيطان أيضاً ينقسم على ذاته، فكيف تثبت مملكته؟! لأنكم تقولون إنى ببعلزبول أخرج الشياطين. فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم بمن يخرجون؟ لذلك هم يكونون قضاتكم. ولكن إن كنت بإصبع الله أخرج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله” (لو11: 14-20). اتهم اليهود السيد المسيح بأن به شيطاناً، بل تجاسروا أكثر واتهموه بأن به بعلزبول. وواجه السيد المسيح هذا الاتهام بأسلوب الحوار الهادئ الموضوعى، وذلك بالرغم من تجاسرهم الكائن ضد كلمة الله المتجسد. ونكرانهم لجميله فى شفاء أخيهم الأخرس الذى أذله الشيطان وعذبه. قدّم السيد المسيح دليلين على استحالة عمله بواسطة بعلزبول رئيس الشياطين: الدليل الأول: هو أن بعلزبول لا يعمل ضد مملكته وسلطانه فى البشر، ولا يخرج شياطينه من البشر وإلا تكون مملكته قد انقسمت على ذاتها. لا نتصور قائداً حربياً يطرد جنوده من المواقع التى استولوا عليها بمشقة واستعمروها. الدليل الثانى : أنه لو كان يعمل بواسطة بعلزبول رئيس الشياطين -ولهذا فمعه سلطان الرئاسة فى مواجهة الشياطين الأقل قدرة- فبمن يخرج تلاميذ المسيح الشياطين التى أخرجوها؟!. كان اليهود يريدون تصوير السيد المسيح، وكأنه يعمل بقوة بعلزبول الساكن فيه.. ففند السيد المسيح ادعائهم بالمنطق والحجة القوية. مُظهراً لهم أن الرسل يكونون قضاة لهم، لأنهم سوف يدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر. وبعدما أثبت السيد المسيح استحالة أن يكون بعلزبول هو الذى يخرج الشياطين، قدّم الحقيقة الإلهية الساطعة، وهى أنه بإصبع الله يخرج الشياطين، مؤكداً أن ملكوت الله قد أقبل على بنى البشر مُحرراً إياهم من سلطان إبليس جاعلاً إياهم مسكناً للروح القدس بعد إتمام الفداء على الصليب. وهكذا نقل السيد المسيح الحوار إلى إعلان قصد الله فى تجسد الكلمة الأزلى، ليسحق الشيطان ويحرر البشرية من سيطرته وسلطانه. 2- فى حواره حول القيامة حضر قوم من الصدوقيين الذين يقاومون أمر القيامة، وسألوه بمثلٍ عن امرأة مات رجلها دون أن تنجب أولاداً فتزوجها أخوه حسب ناموس موسى ليقيم اسم الميت على ميراثه، ولكنه مات أيضاً دون أن ينجب وهكذا حتى تزوجها سبعة إخوة وماتوا وآخر الكل ماتت المرأة أيضاً ففى القيامة لمن تكون زوجة؟. لقد رد على مكيدتهم بإقناع وباتضاع، هؤلاء الذين حاولوا بذكائهم أن يوقعوه فى مأزق، ليثبتوا أنه لا توجد قيامة للأموات. وبمنتهى الحكمة أجابهم السيد المسيح مُظهِراً أن “أبناء هذا الدهر يُزوِّجون ويُزَوَّجون، ولكن الذين حُسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوِّجون ولا يزوَّجون إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضاً لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة. وأما أن الموتى يقومون فقد دلّ عليه موسى أيضاً فى أمر العليقة كما يقول الرب إله ابراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن الجميع عنده أحياء” (لو20: 34-38). شرح السيد المسيح طبيعة حياة القيامة، باعتبارها حياة روحانية مثل حياة الملائكة الذين لا يتزوجون لأنهم لا يحتاجون إلى نسل، إذ لا يمنعهم الموت عن استمرار رسالتهم وحياتهم. أما البشر فى هذا الزمان الحاضر فإن استمرار الجنس البشرى يقتضى أن ينجبوا نسلاً قبل موتهم.. وقدّم السيد المسيح دليلاً كتابياً عن قيامة الموتى بأن الرب إله أحياء، مؤكداً بذلك خلود الروح الإنسانية وبقاءها حتى بعد انفصالها المؤقت عن الجسد. 3- بأى سلطان تفعل هذا ؟ (مت21: 23) “ولما جاء إلى الهيكل تقدّم إليه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وهو يُعلِّم قائلين: بأى سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟ فأجاب يسوع وقال لهم: وأنا أيضاً أسألكم كلمة واحدة، فإن قلتم لى عنها أقول لكم أنا أيضاً بأى سلطان أفعل هذا، معمودية يوحنا من أين كانت، من السماء أم من الناس؟ ففكروا فى أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس نخاف من الشعب، لأن يوحنا عند الجميع مثل نبى. فأجابوا يسوع وقالوا: لا نعلم. فقال لهم هو أيضاً: “ولا أنا أقول لكم بأى سلطان أفعل هذا” (مت21: 23-27). كان رؤساء اليهود يريدون أن يقولوا أن السيد المسيح لم يكن لديه سلطان من الله فى تعليم الشعب فى الهيكل. وأراد السيد المسيح أن يرد على ذلك، بأنهم هم الذين يقاومون عمل الله والمرسلين منه. وأعطاهم مثلاً بيوحنا المعمدان، وكيف لم يتجاوبوا مع إرساليته القوية كآخر أنبياء العهد القديم، والذى جاء ليعد الطريق أمام السيد المسيح، وشهد له أنه هو حمل الله، وابن الله والمسيا المخلص. وأعلن شهادته هذه على الملأ. كما أعلن أنه أثناء عماده للسيد المسيح قد رأى الروح القدس نازلاً من السماء، ومستقراً عليه بهيئة جسمية مثل حمامة. سألهم عن معمودية يوحنا وإرساليته هل كانت من الله؟ فاحتاروا فى الإجابة. ولم يمكنهم أن ينكروا علانية أنه كان مُرسلاً من الله. فقالوا: “لا نعلم”. وهنا أظهر السيد المسيح ارتباكهم وعدم يقينيتهم، بل وعدم اعترافهم بالحقيقة التى قبلها الشعب بشأن إرسالية يوحنا المعمدان.. ولذلك قال لهم هو أيضاً: ولا أنا أقول لكم بأى سلطان أفعل هذا. إن للحوار الهادئ المتأنى قوة وتأثيراً أشد من العنف والقساوة فى التعبير. وإن لم يقنع المقاومين، فعلى الأقل، يستطيع أن يقنع من يستمعون إلى الحوار من الشعب. 4- التوبيخ قرب نهاية خدمته على الأرض، والتى استمرت لعدة سنوات، بدأ السيد المسيح فى توبيخ الكتبة والفريسيين على ريائهم، وبدأ يكشف ما فى حياتهم من خداع، وذلك بعد أن تجاهلوا كل ما قدّمه لهم من وسائل الإقناع وتمسكوا بأخطائهم. كما أنه أخرج من الهيكل الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه، لأن الهيكل هو بيت الرب الذى دعى بيت الصلاة لجميع الأمم، وهم جعلوه مغارة لصوص (انظر مت21: 13). استخدم السيد المسيح الحزم والتوبيخ بعد أن استنفذ كل وسائل الإقناع الهادئة مع مثل هؤلاء الناس.. ولكنهم تآمروا عليه نتيجة لهذا الحزم وذلك التوبيخ، إذ حنقوا عليه ليقتلوه، مع أنه لم يؤذ واحداً منهم على الإطلاق بل قدّم الحب والخير للجميع. لم يكن ممكناً أن يسكت عليهم أكثر من ذلك، لئلا يُظن أنه سكت خوفاً على سلامته وحياته.. كما كان ينبغى أن يُظهر السيد القدوس عدم رضائه على ما يسلكون فيه من شر ورياء. ولكنه فى توبيخه للكتبة والفريسيين، كان أيضاً يستخدم أسلوب الإقناع، مُقدماً البراهين الكتابية والمنطقية، ومحققاً ما قيل عنه من نبوات فى الكتب المقدسة، مثل ما قيل بإشعياء النبى: “هوذا فتاى الذى اخترته. حبيبى الذى سرت به نفسى. أضع روحى عليه فيخبر الأمم بالحق. لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يخرج الحق إلى النصرة. وعلى اسمه يكون رجاء الأمم” (مت12: 18-21). 10. حديث السيد المسيح مع نيقوديموس بعد أن أكّد السيد المسيح لنيقوديموس أهمية الولادة الثانية فى المعمودية من الماء والروح لكى يقدر الإنسان أن يدخل ويعاين ملكوت الله لأن “المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو3: 6). بدأ نيقوديموس يتساءل ويقول: “كيف يمكن أن يكون هذا؟” (يو3: 9). أجاب السيد المسيح وقال له: “أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟! الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا، إن كنتُ قلتُ لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات؟! وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء. ابن الإنسان الذى هو فى السماء” (يو3: 10-13). حضن الآب والمقصود بالسماء هنا التى لم يصعد إليها أحد سوى السيد المسيح أى حضن الآب السماوى وليس أى سماء أخرى. لأن إيليا النبى صعد إلى السماء وأخنوخ النبى صعد إلى السماء. ولكن السيد المسيح قال ليس أحد صعد إلى السماء إلا ابن الإنسان الذى هو فى السماء. ومن المعلوم أن ابن الإنسان أى السيد المسيح كان على الأرض –بحسب الجسد- وهو يكلّم نيقوديموس، ولكنه بحسب لاهوته كان يملأ الوجود كله. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلى: “الله لم يره أحد قط، الإله الوحيد الجنس الذى هو فى حضن الآب هو خبّر” (يو1: 18). وهذا معناه أن السيد المسيح باعتباره كلمة الله المتجسد قد أظهر لنا نور الآب حينما ظهر فى الجسد وكان هو نفسه –بحسب لاهوته- فى حضن أبيه أثناء ظهوره متجسداً على الأرض. وقال معلمنا بولس الرسول: “عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد” (1تى3: 16) أى أن الله الكلمة “هو صورة الله غير المنظور” (كو1: 15)، ومن رأى الصورة الحقيقية يكون قد رأى الأصل. لذلك قال القديس يوحنا الإنجيلى: “الله لم يره أحد قط، الإله الوحيد الجنس .. هو خبّر” بمعنى أنه هو الذى أعلن لنا الآب بظهوره فى الجسد. ونلاحظ أن السيد المسيح قد ربط بين حديثه عن السماء –بمعنى حضن الآب- وبين حديثه عن السماويات والشهادة التى ذكرها وذلك فى (يو3: 10-13) كما أوردنا سابقاً. الذين يشهدون فى السماء من هم الذين يشهدون فى السماء؟ لقد ذكر السيد المسيح الشهادة عن السماويات، فقال: “الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا، ولستم تقبلون شهادتنا” (يو3: 11). وواضح أن الحديث هنا هو بصيغة الجمع. ونظراً لأنه يتكلم عن الشهادة التى تخص الابن الوحيد الجنس (يو3: 16) فى حضن الآب (يو1: 18)، لذلك فالمقصود بالجمع هنا هو الآب والابن والروح القدس، أى أن الذين يشهدون فى السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس. وهذا هو نفس ما أورده القديس يوحنا الرسول فى رسالته الأولى فقال: “والروح هو الذى يشهد.. فإن الذين يشهدون فى السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد” (1يو5: 6، 7). “إن كنا نقبل شهادة الناس، فشهادة الله أعظم، لأن هذه هى شهادة الله التى قد شهد بها عن ابنه” (1يو5: 9). ومن المؤكد أن ما أورده يوحنا الرسول فى إنجيله، هو نفس ما أورده فى رسالته الأولى. لأن الكاتب واحد والفكرة التى شرحها فى إنجيله بالتفصيل أوردها فى رسالته بالاختصار. ولتوضيح ذلك نقول أن القديس يوحنا قد أورد فى إنجيله ما يثبت أن الشهود للابن المتجسد هم: الآب عن ابنه، والابن عن نفسه، والروح القدس عن الابن.. وهذه بعض الآيات التى تثبت ذلك فى إنجيل يوحنا: شهادة الآب قال السيد المسيح لليهود: “والآب نفسه الذى أرسلنى يشهد لى. لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته، وليست لكم كلمته ثابتة فيكم، لأن الذى أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به” (يو5: 37، 38). وكان قد أشار إلى شهادة الآب عنه بقوله: “إن كنت أشهد لنفسى فشهادتى ليست حقاً. الذى يشهد لى هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التى يشهدها لى هى حق. أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق. وأنا لا أقبل شهادة من إنسان .. لى شهادة أعظم من يوحنا” (يو5: 31-34، 36). وقال أيضاً لليهود: “وإن كنت أشهد لنفسى فشهادتى حق، لأنى أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب.. وأيضاً فى ناموسكم مكتوب إن شهادة رجلين حق: أنا هو الشاهد لنفسى، ويشهد لى الآب الذى أرسلنى” (يو8: 14، 17، 18). شهادة الابن كما أوردنا فى الآية السابقة مباشرة قال السيد المسيح: “أنا هو الشاهد لنفسى” (يو8: 18). كذلك شرح القديس يوحنا المعمدان أهمية شهادة السيد المسيح وأورد ذلك القديس يوحنا الرسول فى إنجيله “أجاب يوحنا وقال.. الذى يأتى من السماء هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها. ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق، لأن الذى أرسله الله يتكلم بكلام الله” (يو3: 27، 31-34). ومن الواضح هنا أن القديس يوحنا المعمدان قد ربط فى حديثه بين شهادة المسيح على الأرض وبين ما يجرى فى السماء “الذى يأتى من السماء.. ما رآه وسمعه به يشهد”. أى أن شهادة الآب فى السماء، هى نفسها شهادة الابن بما سمعه من الآب. شهادة الروح القدس “ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذى من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى” (يو15: 26). وشهادة الروح القدس هى نفسها شهادة الآب لأن السيد المسيح قال: “متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به” (يو16: 13). فالروح القدس يشهد بما سمعه من الآب عن ابنه الوحيد الجنس وليس المقصود أن الروح القدس يقل عن الآب فى المجد والكرامة لأنه لا يتكلم من نفسه. ولكن المقصود أن الشهادة للابن: {أصلها فى الآب وتتحقق من خلال الابن فى الروح القدس} كما شرح آباء الكنيسة الكبار. وذلك لأن الثالوث واحد فى الجوهر وليس فيه انفصال لأحد الأقانيم. التجسد والفداء لقد كشف السيد المسيح فى حديثه مع نيقوديموس عن أمور هامة جداً خاصة بالتجسد والفداء والثالوث القدوس. ففيما يخص حقيقة التجسد الإلهى بقصد الفداء، قال السيد المسيح: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16). كيف بذل الله ابنه الوحيد ؟ إن الابن الوحيد هو كلمة الله المولود من الآب قبل كل الدهور. ولم يكن ممكناً لابن الله الوحيد أن يموت نيابة عن البشر دون أن يتجسد، وذلك لأن اللاهوت بحسب طبيعته هو غير مائت وغير قابل للألم. أما وقد صار له طبيعة بشرية كاملة، فقد أمكن أن يتألم وأن يموت الله الكلمة بحسب إمكانيات طبيعته البشرية. وقد شرح القديس أثناسيوس الرسولى ذلك فى كتاب تجسد الكلمة- الفصل التاسع- الفقرات رقم 1، 2 فقال: [وإذ رأى “الكلمة” أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم. وأنه يستحيل أن يتحمل “الكلمة” الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب. لهذا أخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت حتى باتحاده “بالكلمة” الذى هو فوق الكل، يكون جديراً أن يموت نيابة عن الكل. وحتى يبقى فى عدم فساد بسبب “الكلمة” الذى أتى ليحل فيه وحتى يتحرر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدّم للموت ذلك الجسد، الذى أخذه لنفسه، كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فوراً عن جميع من ناب عنهم، إذ قدّم عنهم جسداً مماثلاً لأجسادهم. ولأن كلمة الله متعال فوق الكل. فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفى الدين بموته وذلك بتقديم هيكله وآنيته البشرية فداءً عن الجميع ]. إذن لقد تجسد كلمة الله لكى يصير بالإمكان أن يموت على الصليب فداءً عن البشرية. وبهذا يتحقق قول السيد المسيح: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس” (يو3: 16). فذبيحة الصليب هى ذبيحة الابن الوحيد، وقيمتها غير محدودة عند الله الآب. لهذا كانت كافية لسداد دين البشرية، ولترضية الآب السماوى، ولإعلان قداسة الله الكاملة فى رفضه لخطايا البشرية، ولإظهار حب الله الكامل فى افتدائه لنا “الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم” (2كو5: 19). الله هو المخلّص لقد سبق الرب فوعد فى العهد القديم بأنه هو المخلّص الوحيد بقوله: “أنا أنا الرب وليس غيرى مخلّص.. وأنا الله” (إش43: 11، 12). لهذا رنمت القديسة مريم العذراء فى العهد الجديد قائلة: “وتبتهج روحى بالله مخلّصى” (لو1: 47). وقال القديس بطرس الرسول عن السيد المسيح: “ليس بأحد غيره الخلاص” (أع4: 12). وتنبأ إشعياء النبى قائلاً: “هوذا الله خلاصى فاطمئن ولا أرتعب. لأن ياه يهوه قوتى وترنيمتى وقد صار لى خلاصاً” (إش12: 2). بمعنى أن الرب ليس فقط هو المخلّص كما ورد فى (إش43: 11)، بل هو الخلاص نفسه “يهوه.. صار لى خلاصاً” (إش12: 2). ويمكننا أن نقارن بين هذا القول، وبين قول القديس يوحنا الإنجيلى “والكلمة صار جسداً” (يو1: 14) لكى نفهم أن يهوه هو الله الكلمة الذى تجسد وصار خلاصاً لأجلنا. وقال عنه سمعان الشيخ: “الآن يا سيدى تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عينى قد أبصرتا خلاصك الذى أعددته قدام جميع الشعوب، نوراً تجلى للأمم، ومجداً لشعبك إسرائيل” (لو2: 29-32). إن الرب يسوع المسيح هو المخلّص وهو الخلاص، هو الفادى وهو الفدية، هو الكاهن وهو الذبيحة، هو الهيكل وهو القربان، هو الراعى وهو الحمل. لهذا دُعى اسمه “عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام” (إش9: 6). الرب هو عجيب فى محبته، عجيب فى خيريته، عجيب فى قداسته، عجيب فى حكمته، عجيب فى إخلائه لنفسه وتجسده، عجيب فى تواضعه، عجيب فى إصراره واحتماله للخطاة، عجيب فى مغفرته، عجيب فى حزمه ومواجهته للشر، عجيب فى ضعفه حينما تألم فى جسم بشريته لأنه أظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة، وعجيب فى قوته حينما قام منتصراً من الأموات. كان الرب عجيباً فى كل تدبير الخلاص الذى أكمل بكل فطنة، وتعجب منه القديسون فى كل عظم صنيعه معهم. وهذا العجب هو مصدر كثير من الإعجاب فى حياتهم وأفئدتهم وفى حناجرهم. الحية المرفوعة قال السيد المسيح فى شرحه لنيقوديموس: “وكما رفع موسى الحيّة فى البرية، هكذا ينبغى أن يُرفع ابن الانسان. لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 14، 15). كان نيقوديموس من قيادات اليهود فى ذلك الزمان ومعلّم لإسرائيل (انظر يو3: 10). وكان ينبغى أن يربط له السيد المسيح ما ورد فى التوراة برسالة الإنجيل وعمل الفداء والخلاص. بدأ السيد المسيح يشرح لنيقوديموس مغزى الحيّة التى رفعها موسى فى البرية حينما أخطأ الشعب إلى الله، وأطلق عليهم الحيّات السامة فلدغتهم وقتلت منهم الآلاف، وصرخ موسى إلى الرب فأمره بأن يعمل حيّة نحاسية ويرفعها على سارية، وكل من لدغته الحيّات وينظر إلى هذه الحية النحاسية يبرأ من لدغ الحيّات. إن إبليس هو الملقّب بلقب “الحية القديمة”، لأنه فى الفردوس اختفى فى الحية التى هى أحيل حيوانات البرية وأسقط آدم مع حواء، وبهذا دخل الموت إلى العالم. وبذلك أصبحت الحيّة رمزاً لغواية إبليس ورمزاً للخطية والموت. وحينما جاء السيد المسيح إلى العالم لأجل خلاص البشرية، ليحمل خطايا جميع من ناب عنهم ولكى يموت عوضاً عنهم ويرفع عنهم الدين، فإنه قد سمّر خطايانا على الخشبة. أى أن الحية المرفوعة فى البرية هى إشارة واضحة إلى الخطايا التى حملها السيد المسيح فوق الصليب مسمّراً إياها بالخشبة. لقد صعد السيد المسيح إلى الصليب حاملاً الحية مسمّراً إياها بالصليب، ثم نزل من على الصليب بعد قبوله الموت فداءً عنا تاركاً الحية مسمّرة هناك. فكل من ينظر إلى الصليب يرى الخطية وهى مدانة “فالله إذ أرسل ابنه فى شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية فى الجسد” (رو8: 3). كل من ينظر إلى الصليب ويؤمن بأن الرب المسيح قد دفع عنه دين خطاياه يستحق أن يبرأ من سم الحيّات، أى أن يبرأ من خطاياه فى المعمودية أو فى سرى الاعتراف والتناول إذا كان من الذين قد نالوا العماد بالمسيح. إن العجيب فى الأمر أن ترمز الحية المرفوعة إلى صليب السيد المسيح الذى كان هو نفسه بلا خطية وحده. ولكن هكذا يقول الكتاب إن الله قد “جعل الذى لم يعرف خطية؛ خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5: 21). أى أن الرب المسيح قد أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له. أخذ الخطايا وحملها وحمل عارها لكى نلبس نحن بره “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل3: 27). صارت الحيّة المرفوعة ترمز إلى المسيح المصلوب.. وصارت عصا الرعاية فى البرية -التى تحوّلت فى يد موسى إلى حيّة وابتلعت حيّات سحرة فرعون- هى نفسها الوسيلة التى ضرب بها موسى البحر الأحمر وشق مياهه لعبور المفديين. ولهذا يحمل الأسقف عصا الرعاية فى صورة حيّة نحاسية مرفوعة ترمز إلى صليب المسيح حيث قَتل السيدُ الموتَ بموته مسمراً خطايانا بالصليب. لقد أشهر السيد المسيح الشيطان وأدان الخطية بالصليب “إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافراً بهم فيه (أى فى الصليب)” (كو2: 15). إن ارتفاع السيد المسيح على الصليب هو إعلان للجميع أنه هو الطريق المؤدى إلى السماء وهو إعلان للجميع أن الخطية قد دينت، وأن اللعنة قد أزيلت، وأن الموت قد مات. ما أجمل اللحن الذى يُقال فى قداس القديس يوحنا ذهبى الفم عن الرب المسيح وموته المحيى على الصليب: [ عندما انحدرت إلى الموت أيها الحياة الذى لا يموت. حينئذ أمت الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى، صرخ نحوك جميع القوات السماويين: أيها المسيح الإله معطى الحياة، المجد لك ]. إن قيامة السيد المسيح من الأموات، هى استعلان لحقيقة أنه قد داس الموت بالموت. أى أن الموت الذى سحقه السيد المسيح بموته على الصليب لم يكن ممكناً أن يمسكه لأنه قد انهزم منه، حتى أن النبى تغنى قائلاً: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية. ابتلع الموت إلى غلبة” (انظر هو13: 14، 1كو15: 55، 54). إن كان السيد المسيح قد قبِل الموت بنعمة الله نيابة عنّا، فإنه قد انتصر لنا.. ولهذا صرخ فى لحظة موته على الصليب “يا أبتاه فى يديك أستودع روحى” (لو23: 46). إنها صرخة الانتصار نيابة عن الإنسان الذى غاب طويلاً عن يدى الآب، إذ كان تحت سلطان موت الخطية كما أوضح معلمنا بولس الرسول عما فعله الرب المسيح للبشرية المفتداه “فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس. ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية” (عب2: 14، 15). كما أن القديس أثناسيوس الرسولى قد عبّر عن هذه الحقائق بكلماته الرائعة فى كتاب “تجسّد الكلمة” كما يلى: [ وهكذا إذ أخذ من أجسادنا جسداً مماثلاً لطبيعتنا، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضاً عن الجميع، وقدّمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا، وذلك (أولاً) لكى يبطل الناموس الذى كان يقضى بهلاك البشر، إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه قد أكمل فى جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره فى البشر الذين ناب عنهم. (ثانياً) لكى يعيد البشر إلى عدم الفساد بعد أن انحدروا إلى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة، وينقذهم من الموت (يبيد الموت عنهم)، كإنقاذ القش من النار ] (الفصل الثامن- الفقرة رقم 4). يطلب ويخلص ما قد هلك قال السيد المسيح لنيقوديموس: “لأنه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم” (يو3: 17). أتى السيد المسيح فى مجيئه الأول لخلاص العالم. وسوف يأتى فى مجيئه الثانى ليدين العالم. فحديثه مع نيقوديموس أن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلُص به العالم، مقصود به المجيء الأول للسيد المسيح وليس المجيء الثانى، هذا من ناحية خصوصية المجيء وليس شموليته. ولكن الحديث أيضاً له شمولية عن تأثير إرسال الابن الوحيد إلى العالم. بمعنى أن الهدف الأصلى من إرساله ليس لإدانة العالم بل لخلاصه. ففى الإطار العام يكون الهدف هو الخلاص والفداء. فالغضب الإلهى كان سيمكث على العالم لو لم يرسل الله ابنه الوحيد لإتمام الخلاص والفداء. وهذا واضح من كلام القديس يوحنا المعمدان الذى سجله إنجيل القديس يوحنا “الذى يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذى لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو3: 36). أى أن السيد المسيح قد جاء ليرفع الغضب الإلهى الكائن بالفعل ضد جميع البشر منذ سقوط الإنسان ومعصيته وفساد طبيعته. وقد أكّد القديس بولس الرسول فساد الطبيعة البشرية بقوله: “كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد” (رو3: 10-12). وقال أيضاً عن وراثة الخطية الأصلية وحكم الموت: “من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع” (رو5: 12). وقال معلمنا داود النبى: “لأنى هأنذا بالآثام حبل بى وبالخطايا ولدتنى أمى” (مز50: 5). أى أن الإنسان قد حُبل به وارثاً الخطية الأصلية وولد بها من بطن أمه. كما أنه قد ورث فساد الطبيعة. وفى المقابل يتحرر الإنسان من الخطية الأصلية كما أنه ينال الطبيعة الجديدة فى المسيح بالمعمودية. كقول معلمنا بولس الرسول “لأننا كنا نحن أيضاً قبلاً أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين فى الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضاً. ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال فى بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس، الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته، نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية” (تى3: 3-7). فكما يرث الإنسان الخطية الأصلية والموت وفساد الطبيعة بولادته الجسدية من آدم هكذا يرث البر والحياة. وتجديد الطبيعة بالمسيح “لأنه كما فى آدم يموت الجميع هكذا فى المسيح سيحيا الجميع” (1كو15: 22). وقال السيد المسيح عن مجيئه إلى العالم: “أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل” (يو10: 10). أى أنه “قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك” (لو19: 10). ما هى الدينونة ؟ أكمل السيد المسيح حديثه مع نيقوديموس حول الدينونة فقال: “وهذه هى الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو3: 19). كانت البشرية غارقة فى الظلمة وظلال الموت. وقال إشعياء النبى: “ولكن لا يكون ظلام للتى عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالى يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك فى الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون فى أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (إش9: 1، 2). ليست المشكلة أن يجلس الإنسان فى أرض ظلال الموت منتظراً النور. بل المشكلة فى أن يبغض النور ويُسَّرْ بالظلام. فالذين انتظروا مجيء المخلّص –كما قال يعقوب أب الآباء قبل موته مباشرة “لخلاصك انتظرت يا رب” (تك49: 18)- ذهب الرب إليهم فى ظلمة الجحيم، فى بيت السجن وبشرهم بالخلاص وأخرجهم من هناك. الذين رقدوا على رجاء الخلاص وصلت إليهم بشارة الخلاص بعد رقادهم.. ولكن الذين يحبون الظلمة أكثر من النور لا يمكنهم أن ينالوا الخلاص سواء كانوا قد رقدوا قبل مجيء المخلّص وإتمام الفداء، أو عاينوا المسيح الرب أو جاءوا بعد مجيئه إلى العالم وصعوده إلى السماوات. الدينونة تنبع من واقع ميول الإنسان ورغباته. فهو الذى يحدد مصيره بما يشتاق إليه. كما قال السيد المسيح: “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً” (مت6: 21). الدينونة هى فى رفض محبة الخير.. فى رفض محبة الله.. فى رفض عطية النعمة والخلاص والتجديد.. فى رفض معانقة النور والإلتحاف به.. فى تفضيل حياة الخطية على حياة البر.. فى مقاومة عمل الروح القدس داخل القلب.. فى الفرح بالشر والابتهاج به وكراهية النور الذى يبعثه الله فى حياة الإنسان “لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور، ولا يأتى إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور، لكى تظهر أعماله أنها بالله معمولة” (يو3: 20، 21). إن مجيء المسيح نور العالم هو فرصة لتحرير من يريد الحرية، ولن ينتفع منه شيئاً رافضى الحق والنور والحياة ممن أحبوا الظلمة أكثر من النور. 11. السيد المسيح ومواجهته لليهود أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق قال السيد المسيح لليهود: “أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم” (يو8: 23). من المعروف طبعاً أن السيد المسيح قد اتخذ من العذراء مريم طبيعة بشرية كاملة جسداً وروحاً بلا خطية وبدون زرع بشر. ولكن هذه الطبيعة البشرية التى اتخذها لم تنزل من السماء بل تم تكوينها من العذراء مريم بالكامل، بفعل الروح القدس. فلماذا يقول السيد المسيح لليهود: “أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق”؟ السبب الأول فى ذلك: أن السيد المسيح لم يكن ناسوتاً فقط، بل كان ناسوتاً متحداً باللاهوت، ومعلوم طبعاً أن الابن الوحيد هو مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته. ولذلك قال لليهود: “الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو8: 58). وبالطبع فإن شخص السيد المسيح كائن قبل كل الدهور بلاهوته. وهو حينما تجسد، لم يتخذ شخصاً من البشر ليسكن فيه، بل هو هو نفسه بنفس شخصه قد اتخذ طبيعة بشرية وصار إنساناً لأجل خلاصنا. لذلك فحينما يقول كلمة “أنا” فإنه يتكلم عن شخصه الواحد الوحيد كقول القديس أثناسيوس [ لقد جاء كلمة الله فى شخصه الخاص The Word of God came in His own Person] وهذا الشخص الواحد الوحيد مرتبط أولاً وقبل كل شئ بطبيعته الإلهية، وحتى حينما أتى وتجسد من مريم العذراء فإنه ظل هو ابن الله الوحيد، كما نقول فى التسبحة {لم يزل إلهاً؛ أتى وصار ابن بشر؛ لكنه هو الإله الحقيقى؛ أتى وخلصنا} (ثيئوطوكية الخميس). وقال القديس بولس الرسول: “وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد” (1تى3: 16). والسبب الثانى هو: كون اليهود يحبون العالم ويتمسكون به، فإنه يجعلهم من أسفل لهذا قال السيد المسيح عن تلاميذه القديسين: “ليسوا من العالم، كما أنى أنا لست من العالم” (يو17: 16). وقال لهم: “لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم” (يو15: 19). فبالرغم من ولادة التلاميذ من أبوين بحسب الجسد إلا أنهم بولادتهم الثانية من فوق سوف ينطبق عليهم قول السيد المسيح أن “المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو3: 6). وليس معنى ذلك الكلام أن تلاميذ المسيح سوف يفقدون أجسادهم بالميلاد الفوقانى، ولكن سوف يسلكون بالروح وتكون اشتياقاتهم روحية سمائية غير خاضعة لشهوات الجسد الباطلة. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: “إذاً لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم فى المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.. فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح، فبما للروح يهتمون. لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام” (رو8: 1، 5، 6). لقد قدّم السيد المسيح نفسه قدوة للوضع المثالى لحياة الإنسان. وطالب تلاميذه أن يتبعوا أثر خطواته حاملين الصليب منكرين ذواتهم ليتمكنوا من السلوك بحسب الروح بمعونة من الروح القدس، وبهذا يتأهلون لميراث ملكوت السماوات. وقد شرح القديس يوحنا الإنجيلى أيضاً هذا المفهوم بقوله: “أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (يو1: 12، 13). بالطبع فإن القديس يوحنا يتكلم عن الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس، وذلك بالنسبة للمؤمنين بالمسيح. وهذا على سبيل عطية النعمة. أما بالنسبة للسيد المسيح شخصياً فقد ولد من العذراء مباشرة كابن لله، كما قال الملاك للعذراء مريم “القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو1: 35). والسيد المسيح باعتباره الله الكلمة له ميلاد واحد بحسب إنسانيته وهو ميلاده من العذراء مريم. ولكن له ميلاد آخر ينفرد به وحده وهو ميلاده بحسب لاهوته من الآب قبل كل الدهور. لذلك دُعى السيد المسيح “ابن الله الوحيد” وليس “ابن الله” فقط. وقد قال السيد المسيح فى حديثه مع نيقوديموس عن الفداء: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16). إن بنوة السيد المسيح للآب السماوى هى بنوة طبيعية، أما بنوتنا نحن فهى بالتبنى على سبيل النعمة. وحينما ولد السيد المسيح من العذراء مريم فقط، ظل هو الابن الوحيد الذى لم يولد من العذراء مريم آخر سواه فى تجسده الفريد باعتباره الله الكلمة المتجسد الذى نمجده فى كل رفع بخور وقداس فى صلواتنا الكهنوتية قائلين: {يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد بأقنوم واحد نسجد له ونمجده} (الأرباع الخشوعية التى يقولها الكاهن بين الخورس الأول والثانى فى رفع البخور). ” فتشوا الكتب ” (يو5: 39) حدثت مواجهات كثيرة بين السيد المسيح واليهود، لخّصها القديس يوحنا الإنجيلى فى عبارته المشهورة “إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله” (يو1: 11). وقال السيد المسيح عن موقف اليهود الرافضين له: “هذه هى الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو3: 19). أى أن رفض اليهود لرسالة السيد المسيح كان نابعاً أساساً من محبتهم للمال أو محبتهم للعالم، أو محبتهم لذواتهم، أو محبتهم للشهوات الجسدية، أو لغرورهم أو لكبرياء قلوبهم، أو لمحبتهم للسلطة، أو محبتهم للمجد العالمى، أو لرغبتهم فى إثبات بر أنفسهم، أو لرغبتهم فى مملكة أرضية ترضى تطلعاتهم الزمنية، أو لعدم اكتراثهم بحاجتهم للخلاص من عبودية الشيطان والخطية، أو لعدم إيمانهم بالقيامة من الأموات أو بالحياة الأبدية، أو من بعض أو كل هذه الأسباب مجتمعة. لهذا قال السيد المسيح لليهود: “أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء” (يو8: 44). كان اليهود يتكلمون على أنهم أبناء إبراهيم، ويتكلمون على أن موسى هو نبيهم وعلى الأسفار المقدسة التى كتبها لهم؛ أى على التوراة وباقى أسفار العهد القديم التى كتبها الأنبياء. بل كانوا يتكلمون على أن الله هو أباهم الواحد. وقد رد السيد المسيح على كل هذه الأشياء موضحاً لهم أنها كلها كان المفروض أن تقودهم إلى الإيمان به وبرسالته، ولهذا فأنها ستشهد ضدهم لأنهم لم يؤمنوا به. فحينما قالوا للسيد المسيح إن إبراهيم هو أبوهم، رد عليهم بقوله: “لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم” (يو8: 39). وحينما قالوا له: “لنا أب واحد وهو الله” (يو8: 41). رد عليهم بقوله “لو كان الله أباكم لكنتم تحبوننى” (يو8: 42). وبالنسبة لاتكال اليهود على أن لديهم التوراة وباقى الأسفار الإلهية، ويفتخرون بذلك قال لهم السيد المسيح: “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهى التى تشهد لى. ولا تريدون أن تأتوا إلىّ لتكون لكم حياة” (يو5: 39، 40). ونظراً لافتخارهم بأن نبيهم موسى الذى استلم الوصايا العشر وكتب التوراة أى الشريعة الإلهية، قال لهم السيد المسيح: “لا تظنوا أنى أشكوكم إلى الآب. يوجد الذى يشكوكم وهو موسى، الذى عليه رجاؤكم. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقوننى. لأنه هو كتب عنى. فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك، فكيف تصدقون كلامى؟” (يو5: 45-47). وقال لهم أيضاً: “أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس، لماذا تطلبون أن تقتلونى؟!” (يو7: 19). معرفة اليهود لله ظن اليهود أنهم يعرفون الله وأنه هو إلههم ولكن السيد المسيح أظهر لهم أنهم كاذبون لأنهم رفضوا رسالته والإيمان بأن الله قد أرسله. ولهذا قال لهم: “لستم تعرفوننى أنا ولا أبى. لو عرفتمونى لعرفتم أبى أيضاً” (يو8: 19). “إن لم تؤمنوا أنى أنا هو تموتون فى خطاياكم” (يو8: 24). “متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون أنى أنا هو” (يو8: 28). “من نفسى لم آت، بل الذى أرسلنى هو حق الذى أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأنى منه وهو أرسلنى” (يو7: 28، 29). “أبى هو الذى يمجدنى الذى تقولون أنتم إنه إلهكم ولستم تعرفونه، أما أنا فأعرفه. وإن قلت إنى لست أعرفه أكون مثلكم كاذباً” (يو8: 54، 55). من هذا يتضح أن السيد المسيح قد أكّد مرارًا لليهود أنهم كاذبون فى ادعائهم أنهم يعرفون الله ويعبدونه. لأن من يرفض إرسالية السيد المسيح يكون قد رفض الله وهو واهم فى الإدعاء بأنه يعرف الله ويعبده. ولكن هذا الكلام لم ينطبق على اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح بل قال لهم: “إنكم إن ثبتم فى كلامى فبالحقيقة تكونون تلاميذى، وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (يو8: 31، 32). رغبة اليهود فى قتل السيد المسيح أراد السيد المسيح أن يبين لليهود الفرق بينهم وبين إبراهيم الذى يفتخرون بأنه أبوهم فقال لهم: “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى فرأى وفرح” (يو8: 56). فقال له اليهود: “ليس لك خمسون سنة بعد أفرأيت إبراهيم؟” (يو8: 57). أجابهم يسوع: “الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو8: 58). “فرفعوا حجارة ليرجموه أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا فى وسطهم ومضى هكذا” (يو8: 59). وقد ظلت المواجهات بين السيد المسيح واليهود مستمرة حتى وصلت إلى ذروتها، حينما أقام لعازر من الأموات وفى أحداث الأسبوع السابق لصلبه وبالفعل تآمروا عليه وصلبوه، ولكنه نقض تآمرهم بانتصاره الساحق على الموت بقيامته حياً من الأموات وصعوده إلى السماوات وإرساله الروح القدس لكى يشهد الرسل بقيامته ببرهان الروح والقوة. 12. التعليم عن الاتضاع فى خدمة السيد المسيح كما سلك السيد المسيح فى اتضاع فائق وإخلاء ذات؛ هكذا علّم عن الاتضاع فى خدمته، إلى أن أتى إلى غسل الأرجل والآلام والصليب حيث رأينا الاتضاع يتألّق فوق قمة الجلجثة. ولهذا نستمع إلى تعاليم السيد المسيح باعتباره قد عمل وعلّم “جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به” (أع1: 1). المتكآت الأولى دُعى السيد المسيح إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين فى يوم السبت ليأكل. ولاحظ كيف اختار المدعوون المتكآت الأولى، وتسابقوا متنافسين عليها. لاحظ كيف ينهزم الإنسان داخلياً، حينما يسعى للتفوق على غيره، متجاهلاً مشاعر الآخرين، وبلا أى نفع يجنيه سوى محبته للظهور وإثبات الوجود الذى بلا ثمرة. فقال للمدعوين مثلاً: “متى دعيت من أحد إلى عرس فلا تتكئ فى المتكأ الأول، لعلَّ أكرم منك يكون قد دُعى منه. فيأتى الذى دعاك وإياه ويقول لك أعطِ مكاناً لهذا. فحينئذٍ تبتدئ بخجل تأخذ الموضع الأخير. بل متى دعيت فاذهب واتكئ فى الموضع الأخير، حتى إذا جاء الذى دعاك يقول لك: يا صديق ارتفع إلى فوق. حينئذ يكون لك مجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومَن يضع نفسه يرتفع” (لو14: 8-11). بالرغم من بساطة المثل، إلا أنه ممتلئ بالحكمة، ويتميز بالتصوير الدقيق للمعنى الذى قصده السيد المسيح. الإنسان المتضع يجد سهولة كبيرة فى أن يجلس فى المتكأ الأخير، أى فى الموضع الأخير. بل يعتبر أن هذا هو مكانه الطبيعى، وأنه لا يستحق مكاناً أفضل منه. كما أنه يفرح بتقديم غيره على نفسه “مقدمين بعضكم بعضاً فى الكرامة” (رو12: 10). حاسبين البعض أفضل من أنفسهم. المثل الذى أعطاه السيد المسيح، أوضح بأجلى صورة كيف أن محب الكرامة يعرّض نفسه لمواقف يسئ بها إلى نفسه وكرامته. وكيف أن الكرامة الحقيقية هى فى الهروب من الكرامة. محب الكرامة يتعب دائماً إذا لم يحصل على رغباته، ويتعب من إهمال الآخرين له. محب الكرامة يتعب إذا لم يمدحه أحد، ويتعب إذا مُدح غيره. محب الكرامة يستجدى المديح من الناس، فإذا لم يمدحه أحد يبدأ هو فى مديح نفسه، وفى الحديث عما يراه فى أعماله من أسباب العظمة ودواعى الشكر والمديح. مع أن الكتاب يقول: “ليمدحك الغريب لا فمك، الأجنبى لا شفتاك” (أم27: 2). كل هذه المعانى نستطيع أن نتعلمها من المثل الذى قاله السيد المسيح. ونتعلم أيضاً أن من يهرب من الكرامة، تجرى خلفه وترشد جميع الناس إليه. فالناس بطبيعتهم يميلون إلى الإنسان المتضع، ويرتاحون للتعامل معه. لأنهم يشعرون بتحرره من الأنانية، والانحصار حول الذات، وأنه يقدّم الآخرين على نفسه مقدّراً إياهم، وشاعراً بأنهم أفضل منه. المتضع يحبه الناس، والمتعالى يثير فيهم مشاعر الرفض وعدم الارتياح. المتضع يشبه منحدراً متسعاً تجتمع إليه المياه وتملأه. والمتعالى يشبه قمة أو نتوءًا عالياً لا تستقر فوقه المياه، بل تتركه سريعاً منحدرة إلى أسفل. هكذا تملأ النعمة الإلهية قلوب المتضعين. هناك من يحب الظهور فيظهر كبرياءه، وهناك من يختفى فيتألق اتضاعه ويجتذب إليه الجميع. محبة المتكأ الأخير تحتاج إلى اقتناع داخلى، وتحتاج إلى تدريب، وتحتاج إلى يقظة روحية وعين ساهرة متطلعة نحو إشراق الملكوت على النفس، حيث ترى فى المسيح فرحها وسعادتها التى تغنيها عن كل مجد زائل وخادع. سباق المظاهر تكلّم السيد المسيح موجهاً تعليمه إلى الفريسى الذى دعاه: “إذا صنعت غذاءً أو عشاءً، فلا تدعُ أصدقاءك، ولا إخوتك، ولا أقربائك، ولا الجيران الأغنياء. لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمى. فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافوك. لأنك تكافى فى قيامة الأبرار” (لو14: 12-14). تصوّر رئيس الفريسيين الذى استضاف السيد المسيح ليأكل فى منزله، أن السيد المسيح سوف يفرح بكبار القوم والأغنياء والشخصيات المرموقة التى توافدت على البيت لحضور الوليمة. ولكن السيد المسيح فى تواضعه كان يميل بالأكثر إلى مجالسة الفقراء والبسطاء، والمساكين. لم يسترح الرب لتنافس المدعوين على المتكآت الأولى ومشاعر العظمة التى ملأت قلوبهم. كما لم يكن شخصياً تهمه الأمجاد العالمية ولا مجيء هؤلاء الأغنياء لمشاهدته، بل كان يهتم بغنى النفس فى المحبة والتواضع و”زينة الروح الوديع الهادئ” (1بط3: 4). كل إنسان مثل ذلك الرجل يصنع وليمة، يفتخر بمن دعاهم من الأغنياء، ويبذل قصارى جهده لتظهر وليمته متفوقة على غيره من الأقران. وبهذا تنتشر مظاهر البذخ والترف فى الولائم وفى مناسبات الأفراح وغيرها. ويتسابق الناس فى دعوة الأغنياء الذين يتبادلون معهم إقامة مثل هذه الحفلات والولائم. وذلك فى الوقت الذى يعانى فيه الفقراء من العوز والجوع. ولا يقيم مثل هذا الشخص مائدة بهدف إرضاء الله، بل هدفه الوحيد هو إرضاء الغرور، وإرضاء البشر، وتبادل المتعة والمنفعة. لابد لكل عمل يعمله الإنسان أن يكون بدافع الخير والمحبة، ولخير المجتمع الذى يعيش فيه ولبناء ملكوت الله. ليتمجد الله فى كل شئ. وينبغى أن يجعل الإنسان له هدفاً مقدساً لكل عمل يقوم به. المحبة الباذلة المتضع يستطيع أن يسلك فى المحبة بلا عائق. فالكبرياء تصنع حجاباً على عينى الإنسان فلا يبصر حلاوة المحبة وجمالها الفائق الاتضاع. كثير من الناس يشفقون على حال الفقراء، ويتمنون أن يخدموهم، ولكن خدمة المساكين تحتاج إلى من ينزل إلى مستواهم، ويشاركهم ما هم فيه من معاناة وعوز. وقد قدّم السيد المسيح نصيحة ثمينة للرجل الذى دعاه، ولكل من سمعوا تعليمه الممتلئ بالحكمة الإلهية “إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمى. فيكون لك الطوبى” (لو14: 13، 14). ألم يتنازل السيد الرب نفسه حينما تجسد إلى ذُلنا وتواضعنا، ليرفعنا إليه، لنتمتع بمجده فى ملكوته السماوى، ولنجلس معه على مائدته فى ملكوته. هل نحن كنا أحسن حالاً من هؤلاء المساكين الجدع والعرج والعمى، حينما كنا مستعبدين لإبليس وللموت قبل أن يخلصنا السيد المسيح من خطايانا، ويصالحنا مع الله أبيه؟! إن ما طالب به السيد المسيح فى مسألة الوليمة هو شئ يسير، وصورة مصغّرة جداً لما فعله هو معنا حينما دعانا إلى التمتع بمجده. أليست محبته هى التى جعلته يحتمل الذل والهوان، فى اتضاع كبير، ليحررنا من مذلتنا وعبوديتنا المُرة، وليفتح أعين قلوبنا بعد العمى، وليحرك طاقات طبيعتنا بعد العجز الكامل والبؤس والضياع؟!. حقاً إن المحبة تتشح بالاتضاع، والاتضاع يرافق المحبة، فاتحاً الطريق أمامها حتى تكمل عملها بفرح ومسرة. 13. التعليم عن الوداعة وعدم مقاومة الشر فى خدمة السيد المسيح قيل عن السيد المسيح بفم إشعياء النبى: “هوذا فتاى الذى اخترته، حبيبى الذى سرت به نفسى. أضع روحى عليه فيخبر الأمم بالحق، لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يُخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم” (مت12: 18-21). لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. المقصود بالخصام هنا، الجدال المصحوب بالغضب، والصياح، والكراهية، والكلمات الجارحة، والذى يؤدى إلى العداوة المتبادلة. لهذا أوصى معلمنا بولس الرسول: “فأريد أن يصلى الرجال فى كل مكان، رافعين أيادى طاهرة، بدون غضب ولا جدال” (1تى2: 8). كان السيد المسيح يدافع عن الحق فى وداعة عجيبة. لم يكن يهدد أو يتوعد، بل كان يثق فى قوة الحق فى ذاته.. لأن الحق يهدر مثل الرعد فى قلوب المقاومين. وقد واجه السيد المسيح مواقف كثيرة تدعو إلى الغضب، واحتمل الكثير من الإهانات. ولكنه كان يواجهها بالاحتمال، ويجاوب بطريقة الإقناع الهادئ، كما ذكرنا من قبل عن أسلوبه فى الحوار. كان السيد المسيح يدعو تلاميذه أن يتعلموا من أسلوبه هذا ويقول لهم: “احملوا نيرى عليكم، وتعلّموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت11: 29). وبنفس هذه الروح أوصى بولس الرسول تلميذه الأسقف تيموثاوس أن يتجنب الخصومات فى دفاعه عن الحق فقال: “والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالماً أنها تولد خصومات. وعبد الرب لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفقاً بالجميع، صالحاً للتعليم. صبوراً على المشقات. مؤدِّباً بالوداعة المقاومين، عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق. فيستفيقوا من فخ إبليس. إذ قد اقتنصهم لإرادته” (2تى2: 23-26). بالطبع يجب أن يدافع الأسقف عن الحق، ويجب أن يؤدِّب المقاومين، ويجب أن يعزل العضو الفاسد، لئلا يؤثر على بقية الأعضاء. لأن “خميرة صغيرة تخمر العجين كله” (1كو5: 6). ولكن ما صنعه السيد المسيح، وما أوضحه بولس الرسول، هو أن أسلوب الدفاع، وأسلوب التأديب، ينبغى أن يكون فى إطار الوداعة، وبروح الاتضاع التى تليق بالراعى. الصراع الحقيقى هو مع إبليس، وليس مع الخطاة، أو مع المقاومين. والراعى الحكيم يهدف إلى تخليص الذين اصطادهم إبليس لإرادته. وهذا لا يتم بالدخول فى عداوة مع من يرغب الراعى فى تخليصهم.. بل بترفقه بهم، وصلاته من أجلهم، ومحاولته إقناعهم، وأحياناً بتأديبه لهم بروح الوداعة. كما لا يجب التفريط فى باقى الرعية، وحمايتهم من التأثير الضار. أسلوب الصياح والتهديد والدخول فى المعارك الكلامية الصاخبة، لا يتناسب مع اتضاع السيد المسيح كخادم للخلاص. لهذا قيل عنه “لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته” (مت12: 19). ” قصبة مرضوضة لا يقصف ” (مت12: 20) بترفقه بالخطاة، وبترفقه بالمقاومين، كان يطيل أناته عليهم، لعله يقتادهم إلى التوبة. لهذا قيل عنه “قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ، حتى يُخرج الحق إلى النصرة” (مت12: 20). كم من نفوس خلّصها السيد المسيح بترفقه وطول أناته، مثل زكا العشار، والمرأة السامرية، واللص اليمين، ومثل قائد المئة الذى صلب السيد المسيح، والذى اعترف بألوهيته بعد الصلب مباشرة بقوله: “حقا كان هذا الإنسان ابن الله” (مر15: 39). وكثيرون غيرهم ممن ذكرت أسماؤهم فى الأناجيل أو كانوا فى وسط الجموع الصاخبة التى صرخت: اصلبه اصلبه.. هذه الفتائل المدخنة هذه القصبات المرضوضة كان السبب فى وصولها إلى معرفة الحق أو فى تحررها من سلطان الخطية، هو وداعة السيد المسيح واتضاعه فى خدمته لها. عدم مقاومة الشر قال السيد المسيح: “لا تقاوموا الشر. بل من لطمك علىخدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضاً” (مت5: 39). وقال: “من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً” (مت5: 40)، وليس المقصود بكلمة لا تقاوموا الشر أن لا نقاوم الخطية فالكتاب يقول: “قاوموا إبليس فيهرب منكم” (يع4: 7)، فمقاومة الشر بمعنى مقاومة الخطية.. ليس هو ما قصده السيد المسيح بقوله لا تقاوموا الشر، بل كان يقصد بالشر المشاجرة والعدوان مع الآخرين. وقد قال الكتاب أيضاً: “إن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير” (رو12: 20، 21). والرب يجازيك لأنه مكتوب: “لى النقمة أنا أجازى يقول الرب” (رو12: 19). ويدعونا أيضاً بطرس الرسول أن نتشبه بالسيد المسيح “الذى إذ شُتِم لم يكن يَشتم عوضاً وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضى بعدل” (1بط2: 23). عندما شُتِم السيد المسيح لم يكن يَشتم عوضاً بل سلّم لله الآب. ونتيجة لذلك عندما قام من الأموات كل الذين شتموه صاروا فى خزى وخجل. لأن الذى شتموه قد انتصر على الموت، والذى قالوا عنه أنه مجدِّف ومضل أُعلن لهم أنه هو رئيس الحياة وقدوس القديسين، من خلال انتصاره على الموت وقيامته المجيدة.. فالذى شَتَم هو الذى صار مخزياً وليس الذى شُتِم. وبهذا قدّم لنا السيد المسيح تطبيقاً عملياً فى حياته لِما علّم به تلاميذه والجموع. اغلب بالمحبة وروح الوداعة لقد احتمل السيد المسيح الخزى فى لحظات الآلام والصلب، لكن بعد هذا تحول كل ذلك إلى مجد.. فعندما قال السيد المسيح: “لا تقاوموا الشر” كان يعلم أن هذا الكلام هو من أجل منفعتنا. لأن من يقاوم الشر فالشر يؤذيه.. وعندما قال السيد المسيح: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم” (مت5: 44) كان يقصد أننا نغلب أعداءنا بالمحبة، لأن الذى يغلب عدوك هو محبتك أكثر من عداوتك وكراهيتك. الإنسان الذى يستخدم العنف هو إنسان لا يستحق أن يكون مسيحياً. بل تكون نتيجة عنفه؛ أذيته هو أكثر مما يستطيع أن يؤذى غيره. فالعنف لا يعطيه نصرة أو مجد كما يتصور إنما يسبب له أذية أكثر مما يتوقع. فوصايا السيد المسيح ليست لتقييدنا كما يفتكر البعض، أو يقول أن الوصية صعبة. لكن الحقيقة أن السيد المسيح يسعى لأجل منفعتنا، لأنك إن فعلت ذلك ينجيك من الشر الذى يمكن أن يؤذى روحك. اغلب الشر بالخير “لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير” (رو12: 21)، فإذا قدّمت محبة للذى يخاصمك، تغلبه بمحبتك وتكون أنت الذى انتصرت. لكن بدلاً من أن تنتصر بقوة السلاح تنتصر بقوة الخير وقوة الحب الساكن فيك. وإذ يأمرنا السيد المسيح بهذا لا يدعونا أن نكون جبناء أو أن نخاف، فهو الذى قال: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر” (لو12: 4)، وهو الذى شجّع أولاده أن يصيروا شهداء كالشهيدة دميانة والأربعين عذراء.. أين الجبن هنا؟! الإنسان المسيحى مستعد أن يواجه الأباطرة والحكام وينال إكليل الشهادة إذا طُلب منه أن يتنازل عن مسيحيته، كما طُلب من القديسة دميانة أن تبخر للأصنام أو تسجد لها ولكنها دفعت والدها مرقس والى البرلس إلى أن يصير شهيداً، بل وصارت هى أيضاً أميرة بين الشهيدات. مفهوم الشجاعة فى المسيحية المسيحية لا تدعو الإنسان إلى الخوف، أو إلى الجبن، بل تدعوه أن يكون قوياً شجاعاً، ولكن الشجاعة ليست أن يحمل سلاحاً، ولا يطمئن لشئ يحميه إلا السلاح. فيبدو فى الظاهر أنه شجاع لكنه فى الحقيقة من الداخل لا يجد سلاماً أو طمأنينة. أما القديسون فيشعرون دائماً بعدم خوف.. لماذا؟ لأن “ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم” (مز33: 7). الإنسان القديس أو الإنسان المؤمن، بل الإنسان المسيحى الحقيقى، يشعر أن الملائكة تحرسه، ويشعر أن أرواح القديسين تحرسه وتشفع من أجله. فيشعر بالطمأنينة ويصدّق كلمات السيد المسيح الذى قال: “بل شعور رؤوسكم أيضاً جميعها محصاة” (لو12: 7)، و”شعرة من رؤوسكم لا تهلك” (لو21: 18)، بذلك يشعر أنه ليس بحاجة إلى أن يرخِّص سلاحاً كى يحميه. فاستخدام السلاح هو إلقاء وقود على النار، بينما الكتاب المقدس يقول “لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير” (رو12: 21).. أفضل سلاح تستخدمه هو سلاح المحبة، سلاح الوداعة.. السيد المسيح قال: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” (مت5: 5). الودعاء يرثون الأرض ما معنى أنهم يرثون الأرض؟ الإنسان الوديع يكون محبوباً من جيرانه، ومحبوباً من أهله وبحبه هذا يستطيع أن يرث الأرض، لأن كل الناس صاروا مِلكاً له. وإذ يحبه الناس يصيرون مِلكاً له أى يملك على قلوبهم، فأنت تملك جارك وتملك بيته وتملك حقله وتملك كل شئ فيه.. وكيف ذلك؟ لأنه يحبك وإذا أحبك فأنت تملك كل شئ.. البغضة تجعل الإنسان منبوذاً مكروهاً غير مرغوب فيه. هكذا فإن كل من يكره يخسر، بينما ينجح كل من يحب. أعظم سلاح يستخدمه الإنسان لكى يغلب عدوه هو سلاح الحب وليس سلاح الكراهية.. ويقول القديس يوحنا ذهبى الفم: [أفضل وسيلة تتخلص فيها من عدوك هى أن تحول هذا العدو إلى صديق] وبذلك تكون قد تخلّصت منه -ليس بالقضاء عليه، أو بقتله، أو أذيته- لكن تخلّصت منه كعدو إذ حولته إلى صديق، وصار هذا الصديق يحبك فلم يعد عدواً على الإطلاق. كما أنك تكون قد كسبت صديقاً جديداً وهكذا يتزايد عدد الذين يحبونك. 14. التعليم عن العطاء فى خدمة السيد المسيح مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ هذه العبارة الجميلة قالها الرب يسوع المسيح أثناء خدمته على الأرض، ولكن لم يكتبها الإنجيليون الأربعة بل ذكرها القديس بولس الرسول إذ قال: “متذكرين كلمات الرب يسوع المسيح أنه قال: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع20: 35). وهذه العبارة بالصورة التى دونت بها؛ تدل على أن الأناجيل الأربعة لم تذكر كل كلام السيد المسيح، ولكن كان هناك تقليداً شفاهياً تناقله التلاميذ وصار مشهوراً بينهم. ومن المعلوم طبعاً أنه لم يكن من السهل تدوين كل كلمة قالها السيد المسيح على مدى ثلاث سنين وأربعة أشهر. ولكن الأناجيل ذكرت أقوالاً منتقاة بحسب حكمة إلهية فى إلهام كُتَّاب الأناجيل لتدوين ما كتبوه فى أناجيلهم الأربعة. وبالنسبة لمعجزات السيد المسيح فهى أيضاً لم تسجل كلها فى الأناجيل الأربعة. ولذلك قال القديس يوحنا فى الأصحاح قبل الأخير من إنجيله: “وآيات أُخر كثيرة صنعَ يسوع قدام تلاميذه لم تكتب فى هذا الكتاب” (يو20: 30). وكذلك قال فى الأصحاح الأخير: “وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع إن كُتبت واحدةً واحدةً فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة” (يو21: 25). لقد أرشد الروح القدس كُتّاب الأناجيل فى اختيار ما ذكروه من المعجزات لحكمة إلهية معينة. حول العطاء لقد أوصى السيد المسيح فى تعاليمه بعدم محبة المال. وأوضح أنه من العسير أن يخدم الإنسان الله والمال. وكذلك أوصى بالعطاء بلا حدود فى قوله: “من سألك فاعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده” (مت5: 42). وكذلك فى قوله: “من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين” (مت 5: 41). وأوصى بالعطاء بلا مقابل فقال “أقرضوا وأنتم لا ترجون شيئاً” (لو6: 35). ووعد السيد المسيح بمجازاة من يتنازل عن ممتلكاته فقال: “كل من ترك بيوتاً أو.. أو حقولاً من أجل اسمى يأخذ مئه ضعف ويرث الحياة الأبدية” (مت 19: 29). وقيل عن السيد المسيح إنه يحب المعطى المسرور “المعطى المسرور يحبه الله” (2كو9: 7). وفى قول السيد المسيح: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع20: 35) تحذير من الأنانية، ومن محبة النصيب الأعظم، ومن محبة العالم كقول القديس يوحنا الرسول: “إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب” (1يو2: 15). وكذلك فى قول السيد المسيح ترغيب فى العطاء الذى يجلب السعادة الروحية للمعطى إذ أنه يتشبه بالله فى عطائه. الله الذى وهب الخليقة نعمة الوجود، والذى منح الإنسان نعمة العقل والنطق والخلود، والذى يفتح يمينه ويشبع كل حى غنى من رضاه، والذى سعى فى طلب الضال وتعب من أجل خلاصه، ومنحه نعمة النجاة، ويقوده بروح قدسه حتى يحصل على الحياة. حقاً إن من يعطى بمحبة وسرور وسخاء يصير شبيهاً بالله. بولس الرسول وكلمات الرب إن بولس الرسول لم يكن قد آمن بالسيد المسيح حينما صعد السيد المسيح إلى السماء. وبهذا لا يكون قد استمع بنفسه إلى تعاليمه الإلهية أثناء وجوده على الأرض. ولكنه كان بالطبع يصغى بشغف –بعد أن آمن- لكل ما حكاه الذين عاصروا هذه التعاليم. وقد تأثر كثيراً حينما سمع هذه العبارة نقلاً عن السيد المسيح أنه “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ”. عاش بولس الرسول بهذا المنهج وقال: “حاجاتى وحاجات الذين معى خدمتها هاتان اليدان” (أع20: 34). وقال أيضاً: “فضة أو ذهب أو لباس أحد لم أشته” (أع20: 33). كان معلمنا بولس الرسول كم وينبوع من العطاء الذى لا يتوقف وكان يقول عن نفسه وعن الآباء الرسل: “كفقراء ونحن نغنى كثيرين. كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ” (2كو6: 10). كان لا يبخل بمحبته على أحد.. بل كان عجيباً فى محبته حينما قال لأهل كورنثوس “كلما أحبكم أكثر أُحَب أقل” (2كو12: 15). أى أنه كلما زاد فى محبته لهم كانت محبته المتزايدة تُقابَل بحب أقل منهم، لأنهم لم يدركوا أبعاد هذه المحبة التى كانت تتجه أحياناً نحو النصح، وأحياناً نحو التأديب، من أجل خيرهم وخلاص أنفسهم. ولكنه على العموم لم يكن يبالى بردود الفعل فى مقابل محبته، لأنها محبة لم يمكنها إلا أن تحب، ولا تتوقف عن الحب. هناك أشخاصٌ يتوقفون عن المحبة إذا لم تُقابَل محبتهم بالعرفان. ولكن حتى الحب ينطبق عليه كلمات الرب يسوع التى قالها “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ”. ألم يكن هو أيضاً الذى قال: “إن أحببتم الذين يحبونكم فأى أجر لكم، أليس العشارون أيضاً يفعلون ذلك؟!.. فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السماوات هو كامل” (مت5: 46-48). فلسَي الأرملة إنها قصة عجيبة حدثت فى وجود الرب يسوع فى الهيكل: جاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع. فدعا تلاميذه وقال لهم: “الحق أقول لكم إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة. لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل ما عندها، كل معيشتها” (مر12: 42- 44) والأسئلة التى قد تتبادر إلى الذهن عند قراءة هذه الواقعة المؤثرة هى كما يلى: أولاً: كيف تتبرع أرملة فقيرة فى خزانة بيت الرب وهى تحتاج إلى مساعدة؟! ثانياً: كيف تتبرع بكل ما عندها، كل معيشتها. مع أن الناموس طالبها بالعشور فقط؟! ثالثاً: لماذا سمح السيد المسيح لهذه الأرملة أن تفعل ذلك، ثم تخرج وليس معها ما تقتات به وهى أرملة فقيرة؟! رابعاً: لماذا لم يأمر تلاميذه بمنحها مبلغاً من المال لمساعدتها بعد أن صارت لا تملك شيئاً بل “ألقت كل ما عندها، كل معيشتها” (مر12: 44)؟ إن القصة قد بدأت هكذا: “جلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يلقى الجمع نحاساً فى الخزانة. وكان أغنياء كثيرون يلقون كثيراً فجاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع” (مر12: 41، 42). أراد السيد المسيح أن يلقن تلاميذه درساً فى العطاء، وأن يعطيهم فكرة عن مقاييسه التى تختلف عن مقاييس عامة البشر. أراد أن يفهموا أن قيمة عمل الإنسان فى نظره لا تتوقف على حجم هذا العمل، ولكن على المشاعر والدوافع التى تقترن به، وأن كل فضيلة تخلو من الحب والاتضاع لا تحسب فضيلة عند الله. لاشك أن هذه الأرملة قد امتلأ قلبها بمحبة الله ولهذا أعطت كل ما عندها، كل معيشتها. وبالفعل عاشت الوصية التى تقول “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك” (مت22: 37). وفى تواضعها لم تخجل من أن تضع قدر ضئيل جداً من المال فى وسط الأغنياء الذين يملكون الكثير ووضعوا نقوداً كثيرة. لقد عرَّضتْ نفسها لسخرية واحتقار الآخرين، ولكن دافع الحب عندها جعلها تقدم أقصى ما عندها حتى ولو بدا ضئيلاً فى أعين الآخرين. لقد عاشت هذه المرأة الوصية بغض النظر عن حالتها الشخصية، فبالرغم من فقرها الشديد، إلا أنها أرادت أن تنال بركة العطاء وتقديم العشور؛ ولكن ماذا تكون عشورها؟!.. ربما لا توجد عُملة متاحة من النقود تساوى عُشر الفلسين وحتى لو وُجدت فإنها أرادت أن تقدم تكريماً لرب الجنود يتخطى الحد الأدنى للعطاء وهو العشور.. لذلك “ألقت كل ما عندها، كل معيشتها” (مر12: 44)، ولسان حالها يقول: {اقبل يا رب تقدمتى المتواضعة التى لا تليق بجلالك.. ولكن هذا هو كل ما عندى}. موقف السيد المسيح كان عطاء هذه المرأة عظيماً جداً فى عينى الرب لذلك لم يعترضها ولم يمنعها ولم يجرح مشاعرها بأن يمنحها صدقة فى ذلك التوقيت بالذات.. كانت الملائكة تسبح بتسابيح البركة وكان المشهد عظيماً اهتزت له أعتاب السماء على مثال سلم يعقوب حاضراً بملائكته الأطهار صاعدين ونازلين وسجّل الإنجيل المقدس هذا المشهد العجيب ليكون عبرة للكنيسة فى جميع الأجيال. إنها أنشودة حب ابتهج لها قلب السيد المسيح وأراد أن يلفت أنظار تلاميذه ليقفوا مبهورين أمام هذا المشهد العظيم الذى كان حضوره فيه هو مصدر جلاله وعظمته. وخرجت الأرملة الفقيرة بكل وقار القداسة، محاطة بجماهير الملائكة الذين اجتذبهم حب هذه المرأة وتواضعها. إن هذه الأرملة الفقيرة التى كانت غنية بمحبتها وتواضعها هى رمز للكنيسة التى ترملت بعد خروجها من الفردوس وقال لها الرب بفم إشعياء النبى: “لا تخافى لأنك لا تخزين. ولا تخجلى لأنك لا تستحين. فإنك تنسين خزى صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد. لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه ووليك قدوس إسرائيل إله كل الأرض يُدعى. لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا إذا رذلت قال إلهك. لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهى عنك لحظة، وبإحسان أبدى أرحمك قال وليّك الرب” (إش54: 4-8). لاشك أن الرب قد أحسن كثيراً إلى هذه المرأة الأرملة الفقيرة بعد خروجها من الهيكل وتولاها بعنايته بعد أن قدّمت له كل ما عندها.. كل معيشتها. وهكذا أيضاً الكنيسة من خلال القديسة مريم العذراء قد قدّمت كل ما عندها بكل الحب والاتضاع، جسداً وروحاً إنسانياً عاقلاً اتخذه الرب ناسوتاً كاملاً من العذراء مريم ليدخل به مع البشرية فى عهد جديد. وكان الجسد والروح الإنسانى اللذين اتخذهما الرب هو ما يرمز إليه فلسَي الأرملة اللذان لهما أعظم قيمة فى عينى الرب “ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا فى الخزانة” (مر12: 43). وهكذا نسمع الرب يقول هذه الأنشودة الشعرية بفم إشعياء النبى: “أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية: هأنذا أبنى بالإثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق أؤسسك وأجعل شُرفك ياقوتاً وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيراً” (إش54: 11- 13). بعد ميلاد الرب البتولى من العذراء مريم بفعل الروح القدس، صار السيد المسيح هو كل ما عندها، كل معيشتها. وليس للعذراء مريم فقط بل للكنيسة كلها، كان السيد المسيح هو كل ما عندها، كل معيشتها كما نقول فى أوشية الإنجيل {لأنك أنت هو حياتنا كلنا}. وجاء يوم الفداء وقدّمت العذراء مريم راضيةً على الصليب ابنها الوحيد ناسوتياً، وقدّمت الكنيسة كل ما عندها، كل معيشتها فى خزانة الرب.. وقَبِلَ الآب تقدمة البشرية إليه، التى هى نفسها عطية الآب للبشرية.. وكانت أعظم تقدمة.. وكان سلم يعقوب.. وكان رضى الآب. 15. تعليم السيد المسيح عن الإيمان فى مواجهة المحن والتجارب السفينة والعواصف من المناظر التى تدعو إلى التأمل فى خدمة السيد المسيح.. ذلك المشهد العجيب، الرب يسوع وحده على قمة الجبل يصلى أغلب الليل، وتلاميذه جميعاً فى البحر راكبين السفينة وهى معذبة من الأمواج. كان السيد المسيح قد أشبع الجموع من الخمس أرغفة والسمكتين، وكان تلاميذه سعداء بهذه المعجزة، ورفعوا ما فضل من الكسر اثنتى عشر قفة مملوءة. “وللوقت ألزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العبر حتى يصرف الجموع. وبعدما صرف الجموع، صعد إلى الجبل منفرداً ليصلى. ولما صار المساء كان هناك وحده.. وفى الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشياً على البحر” (مت14: 22-25). ويقول معلمنا مرقس الإنجيلى عن نفس هذه الواقعة إن الرب يسوع وهو على الجبل يصلى “رآهم معذبين فى الجذف لأن الريح كانت ضدهم” (مر6: 48). هذه السفينة تمثِّل الكنيسة، لأنها كانت تحمل جميع التلاميذ فى ذلك الوقت (الاثنى عشر تلميذاً “الذين دعاهم أيضاً رسلاً”). وقد آثر الرب أن يتركهم معذبين من الأمواج قرابة الليل كله فى وسط البحر، ولم يذهب إليهم إلا فى الهزيع الرابع من الليل. تركهم يواجهون المصاعب فى وسط العاصفة.. ولكن كان فى تأخير السيد المسيح بركات جزيلة لهم وللكنيسة فى كل زمان ومكان. كان يسندهم ويحملهم بصلواته. وما أمجد وما أغنى هذه الصلوات التى ذخرها الرب لكنيسته. لماذا يصلى لم تكن صلاة السيد المسيح هى لمجرد واقعة السفينة فى تلك الليلة؛ بل كانت من أجل الكنيسة بكل ما سيواجهها من مصاعب، وعواصف عبر العصور، خاصة فى عصور الاضطهاد والاستشهاد حين تصبح الأمواج ثقيلة والريح مضادة بقوة.. كيف صمد الشهداء فى عصور الاستشهاد المريرة؟ وكيف تحمَّلوا العذابات التى تفوق عقل البشر؟ إنها أحداث خارقة للطبيعة. ولكنها حدثت بالفعل. وخرجت الكنيسة منها قوية منتصرة مكللة بالبهاء، تماما مثل عريسها الذى تمجّد بعد أن تألم. لاشك أن السيد المسيح فى تلك الليلة قد طلب من أجل هذه الآلاف من الشهداء واحداً واحداً باسمه، وقد استغرق هذا الأمر وقتاً طويلاً فى مناجاته مع الآب. إن السيد المسيح لم ينس فى ليلة آلامه أن يطلب من أجل بطرس قبل أن يواجه المحنة والتجربة فى بيت رئيس الكهنة وقال له: “سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكى يغربلكم كالحنطة. ولكنى طلبت من أجلك لكى لا يفنى إيمانك” (لو22: 31، 32). كذلك هناك صعوبات أخرى واجهتها الكنيسة مثل صراعها ضد الأريوسية، وصراعها ضد النسطورية وسائر الهرطقات. وكان السيد المسيح يعرف كل ما ستواجهه كنيسته المحبوبة من صعوبات. ولهذا فقد صلى من أجلها لكى تصمد بقوة وثبات فى وسط العواصف العتيدة. ولكن الأمر لا يتعلق فقط بالصعوبات التى ستواجهها الكنيسة وما يلزم للتلاميذ أن يتدربوا عليه فى مواجهة هذه الصعوبات. كان هناك أمر آخر يشغل السيد المسيح فى صلاته. وهو إعلان الإيمان ببنوته لله فى قلوب التلاميذ. يقول معلمنا مرقس الإنجيلى إن السيد المسيح بعد أن وصل إلى التلاميذ ماشياً على الماء: “فصعد إليهم إلى السفينة، فسكنت الريح، فبهتوا وتعجبوا فى أنفسهم جداً إلى الغاية. لأنهم لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة” (مر6: 51، 52). كان من العجيب أن معجزة إشباع الجموع لم تكن كافية لكى يفهم التلاميذ حقيقة السيد المسيح. لهذا صلى السيد المسيح لكى يعلن الآب فى قلوبهم ذلك الحق الذى لا يستطيع العالم أن يعرفه أو يفهمه، إذ “ليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له” (لو10: 22). إن معرفة الابن هى حياة أبدية.. وهى أعظم إعلان يمنحه الله للإنسان.. لكل من يقبل. بعد أن دخل السيد المسيح إلى السفينة، اعترف التلاميذ بألوهيته حسبما دوّن القديس متى فى إنجيله: “الذين فى السفينة جاءوا وسجدوا له قائلين بالحقيقة أنت ابن الله” (مت14: 33). ألم يكن هذا الاعتراف الواضح من التلاميذ جديراً بأن يقضى الليل كله على الجبل مصلياً من أجلهم؟! ولم تكن هذه الصلاة هى من أجل إيمان التلاميذ فقط، بل من أجل أن يفتح الآب قلوب وأذهان الملايين الذين سوف يؤمنون به على مر العصور والأجيال. هل يستحيل على الرب شئ؟! ترك السيد المسيح التلاميذ طوال الليل، يواجهون العاصفة وأمواج البحر الهائج، وجاء إليهم ماشياً على البحر.. وفى مشيه على الماء كان يريد أن يعطيهم درساً ذا أهمية كبيرة، وهو أنه لا يوجد شئ مستحيل عند الرب. ربما مكثوا الليل كله يقولون فيما بينهم: {ليته كان معنا فى السفينة، لو كان معنا ما لحق بنا هذا الشئ الذى صار الآن}. لكن السيد المسيح أراد أن يعلِّمهم أنه يستطيع أن يتخطى كل الفواصل والعوائق، يستطيع أن يمشى على الماء، وليس ذلك فقط، بل يستطيع أن يمنح تلاميذه هذه الإمكانية أيضاً أن يسيروا مثله على الماء. فحينما طلب منه بطرس ذلك، أجابه إلى طلبه تحقيقاً لقوله الإلهى: “من يؤمن بى فالأعمال التى أنا أعملها يعملها هو أيضاً” (يو14: 12). السيد المسيح يعمل الأعمال الفائقة للطبيعة بقدرته الإلهية الخاصة، أما تلاميذه فيعملونها بنعمة منه. مهما كثرت أعمال التلاميذ والقديسين، فكلها بعطية من صاحب القدرة ومانح السلطان والمواهب. يا رب نجنى كتب القديس متى الإنجيلى عن وقائع لقاء السيد المسيح مع تلاميذه فى وسط البحر فقال: “فلما أبصره التلاميذ ماشياً على البحر اضطربوا قائلين إنه خيال. ومن الخوف صرخوا. فللوقت كلمهم يسوع قائلاً: تشجّعوا، أنا هو، لا تخافوا. فأجابه بطرس وقال: يا سيد إن كنت أنت هو فمرنى أن آتى إليك على الماء. فقال: تعال. فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ليأتى إلى يسوع. ولكن لما رأى الريح شديدة خاف. وإذ ابتدأ يغرق، صرخ قائلاً: “يا رب نجنى”. ففى الحال مد يسوع يده وأمسك به وقال له: يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟ ولما دخلا السفينة سكنت الريح والذين فى السفينة جاءوا وسجدوا له قائلين: بالحقيقة أنت ابن الله” (مت14: 26-33). فى وسط الريح الشديدة ابتدأ بطرس يغرق، فصرخ قائلاً: “يا رب نجنى”. لم يكن هناك مجالاً للحديث.. أو للحوار.. أو للتفكير.. بل كان الصراخ هو الحل الوحيد. هناك مواقف لا يناسبها إلا الصراخ إلى الله فى الصلاة. كقول المرتل “من الأعماق صرخت إليك يا رب” (مز129: 1). أو قوله “بصوتى إلى الرب صرخت، بصوتى إلى الرب تضرعت، أسكب أمامه توسلى” (مز141: 1، 2). أو كصلاة يونان من بطن الحوت “دعوت من ضيقى الرب فاستجابنى. صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتى” (يون2: 2). هذا النوع من الصراخ ينطبق عليه (كما ذكر قداسة البابا شنودة الثالث) قول الشاعر صوتى عِلى مثل صرخة غريق بينده لقارب نجاة… بـيصـرخ بيصرخ بكـل قـواه لــــلـحيــــــــــــاة لقد صرخ بطرس، وفى الحال مد الرب يده وانتشله. فهل نصرخ نحن إلى الرب حينما ندخل فى مأزق أو تجربة؟ أم صلاتنا تكون سطحية وليست من أعماق القلب؟! هناك فرق بين إنسان يطلب من الله أن يكون معه، مجرد طِلبة. وآخر فى استغاثة حارة يصرخ إليه ليتدخل سريعاً وبكل قوة. الله يريد الذين يصرخون إليه فى وقت التجربة.. صراخ من القلب.. صراخ بدموع.. لذلك قال الرب: “ادعنى فى يوم الضيق أنقذك فتمجدنى” (مز50: 15). كثيراً ما تكون صلواتنا ضعيفة، ربما حتى لا تصل إلى سقف حجرة الصلاة. تكون صلاة كمن يؤدى واجب عليه وليس أكثر..!! الله يريد من يصرخ إليه.. ومن يتعلق به ويقول: “لا أطلقك إن لم تباركنى” (تك32: 26). أليس هو الرب الذى قال: “لأنه علىّ اتكّل فأنجيه، أستره لأنه عرف اسمى. يدعونى فاستجيب له، معه أنا فى الشدة. فأنقذه وأمجده وطول الأيام أشبعه، وأريه خلاصى” (مز90: 14-16)؟!. إن الرب أحياناً يتركنا فى ضيقة معينة، فى مأزق، أو فى شدة. لكى يعلِّمنا كيف نصرخ إليه فى الصلاة. وعندما نصرخ إليه يستجيب. فنشعر بقيمة الصلاة وأهميتها وفاعليتها. كما نشعر بأهمية أن تكون لنا علاقة به.. نشعر بأهمية طلبنا إليه، وأيضاً بأهمية حضوره ووجوده فى وسطنا. نحن ربما لا نشعر بأهمية الماء إلا إذا وُجدنا فى صحراء جرداء ليس فيها ماء. وربما لا نشعر بأهمية الهواء الذى نتنفسه إلا إذا وُجدنا فى موضع تحت الأرض يخلو من الأكسجين. مثل الوجود فى منجم مثلاً، أو فى نفق انقطعت عنه التهوية.. الإنسان أحياناً لا يعرف قيمة الشئ إلا إذا لم يجده. فالتلاميذ عرفوا قيمة وجود السيد المسيح فى وسطهم عندما تأخر فى المجيء إليهم، لدرجة أنهم عندما أبصروه ماشياً على الماء ظنوه خيالاً. مثلما يقول الإنسان أحياناً (أنا فى حلم واللا فى علم؟!). إن الرب مستعد أن يفعل أكثر كثيراً مما نطلب أو نفتكر.. ولكن يلزمنا أن نشعر حقيقةً بحاجتنا إليه.. أن نصرخ من أعماق قلوبنا ونناديه.. أن نظل نكافح الأمواج منتظرين مجيئه حتى ولو فى الهزيع الرابع من الليل.. ماشياً على البحر.. متخطياً كل الحواجز الطبيعية.. منتهراً البحر والرياح.. مانحاً سلامه العجيب لكل من ينتظر عمله وحضوره وعطية محبته التى تفوق كل وصف وتصديق. يا معلم أما يهمك أننا نهلك؟! عبارة قالها التلاميذ للسيد المسيح عندما كان معهم، نائماً فى مؤخرة السفينة فى وسط البحر، وهاج البحر بشدة حتى كادت السفينة أن تغرق، فذهبوا إليه وأيقظوه قائلين له: “يا معلم أما يهمك أننا نهلك” (مر4: 38). لقد وبخ السيد المسيح التلاميذ وقال لهم: “ما بالكم خائفين هكذا، كيف لا إيمان لكم؟” (مر4: 40). فلماذا وبخهم؟ مع أنه سبق أن أوصاهم قائلاً “اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم” (مت7: 7) وقال أيضاً عن أهمية الصلاة: “أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهارًا وليلاً وهو متمهل عليهم؟ أقول لكم إنه ينصفهم سريعاً” (لو18: 7، 8). لم تكن المشكلة فى أنهم التجأوا إلى السيد المسيح، الذى قام وانتهر البحر والريح حتى صار هدوء عظيم. ولكن المشكلة كانت فى الخوف العظيم الذى انتاب التلاميذ بالرغم من وجود السيد المسيح معهم فى السفينة، كما أن المشكلة كانت فى عبارتهم القاسية “أما يهمك أننا نهلك؟” (مر4: 38). لقد شخَّص السيد المسيح السبب فى هذه الأخطاء التى وقعوا فيها بقوله: “ما بالكم خائفين هكذا، كيف لا إيمان لكم؟!” (مر4: 40). الخوف لا يتفق مع الإيمان الإنسان المؤمن لا يخاف بل يقول مع المرنم: “الرب نورى وخلاصى ممن أخاف” (مز26: 1)، “إن سرت فى وادى ظل الموت فلا أخاف شراً لأنك معى” (مز22: 4). ويقول أيضاً “تقدمت فرأيت الرب أمامى فى كل حين لأنه عن يمينى لكى لا أتزعزع” (مز15: 8) إنه يثق فى عناية الرب وفى حفظه وقدرته غير المحدودة. ويثق فى مواعيد الرب؛ أن شعرة من رؤوسكم لا تهلك إلا بإذنه، وأن من تعلق به ينجيه كقوله فى المزمور “لأنه تعلق بى أنجيه، أستره لأنه عرف اسمى، يدعونى فأستجيب له، معه أنا فى الشدة، فأنقذه وأمجده وطول الأيام أشبعه، وأريه خلاصى” (مز90: 14-16). ينبغى أن ندرّب أنفسنا على الثقة وعدم الخوف من العالم كما أوصانا الرب “فى العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم” (يو16: 33). إن الإيمان بالرب ليس هو مجرد الإيمان بالثالوث القدوس الإله الواحد المثلث الأقانيم، وبتجسد أقنوم الابن الوحيد وبصلبه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء وباقى الأمور العقائدية المختصة بالإيمان. ولكن يلزم أن يكون لهذا الإيمان ثمر فى حياة الإنسان. وهذا الثمر يمنحه الروح القدس للإنسان المؤمن الذى يجاهد فى شركة الروح القدس “وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف” (غل 5: 22، 23). إذن الإيمان أيضاً هو من ثمر الروح القدس. والمقصود هنا حياة الإيمان أى السلوك بالإيمان. الإيمان الذى يحرر الإنسان من الخوف من العالم، والخوف من المرض، والخوف من الموت، والخوف من الآلام والضيقات، والخوف من البشر وما يفعلون. وهذا كله يدل على الإيمان بقدرة الله. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: “بدون ايمان لا يمكن إرضاؤه لأنه يجب أن الذى يأتى إلى الله يؤمن بأنه موجود، وأنه يجازى الذين يطلبونه” (عب11: 6). عتاب المحبة إن الرب يسمح لنا فى الصلاة أن نعاتبه أو أن نتضرع إليه فى محبة وثقة، مثلما نقول فى المزمور الكبير: “كلّت عيناى من انتظار أقوالك قائلتين: متى تعزينى؟.. كم هى أيام عبدك؟ متى تُجرى لى حكماً على الذين يضطهدوننى؟.. كادوا يفنوننى على الأرض” (مز118: 82-87). أو مثلما نقول: “إلى متى يا رب تنسانى إلى الانقضاء حتى متى تصرف وجهك عنى؟ إلى متى أردد هذه المشورات فى نفسى وهذه الأوجاع فى قلبى كل يوم. إلى متى يرتفع عدوى علىّ. انظر واستجب لى يا ربى وإلهى. أنر عينى لئلا أنام نوم الموت. لئلا يقول عدوى إنى قد قويت عليه” (مز12: 1-4). ولكن التلاميذ فى تلك الواقعة تخطوا الحدود اللائقة فى التخاطب مع الرب بقولهم “أما يهمك أننا نهلك؟!”. كيف يُقال هذا لمن أخلى نفسه من المجد المنظور إذ أخذ شكل العبد، واحتمل الكثير من أجل كنيسته وقبِل الموت فداءً عنا. كيف يُقال له “أما يهمك؟” لقد تعمّد السيد المسيح أن ينام فى وسط العاصفة، لكى يكشف للتلاميذ ما فيهم من ضعف ولكى يقودهم إلى إصلاح عيوبهم. إن مجرد وجود السيد المسيح فى السفينة، يكفى لكى يطمئنوا لأنه بحسب لاهوته “لا ينعس ولا ينام حارس إسرائيل” (مز120: 4). لقد ظن التلاميذ أن السيد فى نومه بحسب الجسد، لا يدرى بما يجرى حوله-وهو العالِم بكل الأشياء بحسب لاهوته. وقد غاب عن ذهن التلاميذ أيضاً هذا الإيمان إلى جوار ما أصابهم من الخوف. ليتهم قالوا له فى ضراعة: قم سكّت البحر طارداً هذى البلية وأشفق على البيعة فى كل حرب خفية واملأ القلب سلاماً فإن نعمتك قوية من وحى شعر قداسة البابا شنودة الثالث – أطال الرب حياة قداسته-عن قيامة السيد المسيح. 16. تعليم السيد المسيح عن الجهاد الروحى الحواس الخمس الخمس عذارى فى مثل العرس تشير إلى حواس الإنسان. فكما أن للإنسان حواساً جسدية، هكذا لديه حواس روحية مُناظرة لها. وبالصوم والصلاة يتفرغ الإنسان لكى تنمو فيه قوة الحواس الروحية، وتمتلئ آنيته من زيت النعمة وفعل الروح القدس ومحبة الله الغنية. فى الصوم والصلاة والتأمل فى كلام الله بقيادة الروح القدس، تنمو روحيات الإنسان، ويتقوى بالروح، ويصير الروح قادراً أن يقود الجسد. وكما قال الكتاب “إن عشتم حسب الجسد فستموتون، ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون” (رو8: 13). وكما قال قداسة البابا شنودة الثالث: إن روح الإنسان تقود الجسد، وروح الله يقود روح الإنسان، فمن له شركة الروح القدس يستطيع أن يحيا بالروح، وينقاد بالروح، وتتقدس مسيرة حياته وأفعال جسده. فحينما يأكل الإنسان طعام الجسد -منقادًا بالروح- فإنه يأكل لمجد الله “إذا كنتم تأكلون، أو تشربون، أو تفعلون شيئاً، فافعلوا كل شئ لمجد الله” (1كو10: 31). لذلك فبعدما أكمل إبليس كل تجربة، وأكمل السيد المسيح صومه عنا معلماً إيانا.. “إذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه” (مت4: 11).. وأنهى صومه بطعام أعدته له الملائكة.. فيا له من منظر رائع يفوق العقول!!. وقال السيد المسيح: “المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو3: 6). فالإنسان الجسدانى تقوى عنده الحواس الجسدية وتقود حياته، والإنسان الروحانى تقوى عنده الحواس الروحية وتقود حياته. فحاسة السمع الروحية مثلاً تجعل الإنسان قادراً على سماع صوت الله بوضوح، مثلما قال السيد المسيح: “والخراف تسمع صوته” (يو10: 3). وقال أيضاً: “كل من هو من الحق يسمع صوتى” (يو18: 37). وعن ذلك يقول المزمور: “إنى أسمع ما يتكلم به الرب الإله لأنه يتكلم بالسلام لشعبه ولقديسيه وللذين رجعوا إليه من كل قلوبهم” (مز84: 8). الإنسان الروحى يسمع صوت الإله واضحاً فى حياته. يسمع وصايا السيد المسيح ويفهمها. يسمع صوت الروح وينقاد لهذا الصوت فى داخله لأن “الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله” (رو8: 14). نأخذ مثلاً التليفون اللاسلكى، لكل جهاز مدى للاستقبال، لا يستطيع بعده أن يلتقط موجات الإرسال. فكلما قويت حاسة السمع الروحية فى الإنسان كلما ازداد صوت الله وضوحاً فى عقله، وقلبه، وحياته. وجهاز التليفون اللاسلكى يحتاج إلى شحن للبطاريات لكى يكون قادراً على استقبال الموجات اللاسلكية، هكذا أيضاً يحتاج الإنسان الروحى إلى شحنة روحية، بأن يمتلئ من الروح القدس لكى يصير له القدرة على الاستماع إلى صوت الله. والامتلاء من الروح القدس يتم بممارسة الوسائط الروحية مثل ممارسة التوبة والاعتراف والتناول من الأسرار المقدسة. وكذلك ممارسة الجهادات الروحية باتضاع مثل الصوم والصلاة واحتمال الضيق والمشقات والآلام، مثلما قال القديس بطرس الرسول: “كما اشتركتم فى آلام المسيح افرحوا. لكى تفرحوا فى استعلان مجده أيضاً مبتهجين. إن عُيّرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد والله يحل عليكم” (1بط4: 13، 14). إن من يحتمل الآلام من أجل المسيح يصير أهلاً لأن يحل عليه “روح المجد والله”. ممارسة الحياة الروحية والمواظبة على العبادة بحرارة والصلوات المتواصلة من قلب خاشع تؤهّل الإنسان للامتلاء من الروح القدس. قراءة الأسفار المقدسة بروح الصلاة والتأمل والشوق الحار لمعرفة الله تؤهّل الإنسان للامتلاء من الروح القدس . لهذا نقف بخشوع فى الكنيسة أثناء قراءة الإنجيل المقدس لكى نؤهّل لهذا الامتلاء، وتغتذى أرواحنا بكلمات الإنجيل وتتقوّى حاسة السمع الروحية فينا. كيف توجد الحواس الروحية فى الإنسان؟ هذا الأمر شرحه السيد المسيح لنيقوديموس حينما قال له: “إن كان أحد لا يولد من فوق (من الماء والروح) لا يقدر أن يرى (يدخل) ملكوت الله” (يو3: 3، 5). بمعنى أن الروح القدس يخلق فينا فى المعمودية حواساً خمس روحية تؤهلنا لميراث الحياة الأبدية. ومن ضمن هذه الحواس الخمس الروحية حاسة النظر التى يمكن للإنسان بها أن يعاين ملكوت الله. لهذا قال معلمنا بولس الرسول: “إن كان أحد فى المسيح فهو خليقة جديدة” (2كو5: 17). إن الروح القدس يخلق فينا بالفعل هذه الحواس وينميها بعد ذلك بوسائط النعمة الروحية. العذارى الحكيمات الحواس الخمس الروحية المنيرة ترمز إلى مصابيح الخمس عذارى الحكيمات. والآنية الممتلئة من الزيت ترمز إلى امتلاء قلب الإنسان من الروح القدس. حيث ينير الروح القدس الحواس. مثلما قال السيد المسيح: “إن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّراً” (مت6: 22). فالحواس التى يعمل فيها الروح القدس تجعل الجسد مقدساً منيراً خالياً من شوائب الخطية وظلمتها. لذلك قيل عن الأبرار: “حينئذٍ يضئ الأبرار كالشمس فى ملكوت أبيهم” (مت13: 43). اليد اليمنى لها خمسة أصابع، وأصحاب الحواس الخمس الروحية المنيرة سوف يكون نصيبهم عن يمين الملك المسيح. إذ يقيم الخراف عن يمينه. واليد اليسرى لها خمسة أصابع، وأصحاب الحواس الخمس المظلمة سوف يكون نصيبهم عن يسار الملك المسيح. إذ يقيم الجداء عن يساره. هذه الحواس الخمس عموماً هى البصر، والسمع، والشم، واللمس، والتذوق. 1- حاسة البصر الروحية يستطيع الإنسان الروحى أن يعاين بها ملكوت الله. 2- وحاسة السمع الروحية يستطيع الإنسان الروحى أن يستمع بها إلى صوت الله، وإلى تسابيح السمائيين. 3- وحاسة الشم الروحية يستطيع الإنسان الروحى أن يستنشق بها ويشم رائحة المسيح الذكية، ورائحة حياة القداسة كقول سفر النشيد عن السيد المسيح “لرائحة أدهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق. لذلك أحبتك العذارى” (نش1: 3). وأيضاً “مادام الملك فى مجلسه أفاح ناردينى رائحته” (نش1: 12). هذه الرائحة الذكية تملأ نفس الإنسان الروحى بالنشوة الروحية وتتزايد محبته للسيد المسيح وتأسره هذه المحبة. فما أجمل تعبير رائحة الناردين الخالص الكثير الثمن عن رائحة موت السيد المسيح، التى هى رائحة الحياة، لأنها رائحة الحب. وحيث يكون الحب فهناك الحياة لأن “الله محبة”. وقد صدق الفيلسوف الفرنسى الذى قال: [أن نحب معناها أن نوجد]. بمعنى أنه لا معنى للوجود بدون المحبة. كان قبول السيد المسيح للناردين من المرأة ساكبة الطيب، هو قبول لموته بدافع الحب. لهذا قال: “إنها ليوم تكفينى قد حفظته” (يو12: 7). إنه قبول للموت من منطلق الحياة. أى هو موت مُحيى، ورائحة حياة لحياة فى الذين يخلصون. 4- وحاسة اللمس الروحية يستطيع الإنسان الروحى أن يتلامس بها مع عمل الله وحضوره فى حياته. إن المرأة نازفة الدم قد قالت فى نفسها: “إن مسست ولو ثيابه شفيت” (مر5: 28). لذلك فالإنسان الذى يتلامس مع الحق الذى فى المسيح ويدرك الحد الفاصل بين النور والظلمة، يكون كمن لمس هُدب ثوبه، فينال الشفاء. إن لمسة بسيطة من يد السيد المسيح الشافية تستطيع أن تنزع الخطية مثلما طهر الأبرص حينما مد السيد المسيح يده ولمسه وقال “أريد فاطهر” (مت8: 3) فللوقت طهر برصه وشفى. هناك لمسات كثيرة يعملها الله فى حياة الإنسان ويحسها الإنسان الروحى. ويقول مع عروس النشيد: “شماله تحت رأسى ويمينه تعانقنى” (نش2: 6، 8: 3). إن من يتلامس مع الله يصير الرب له سنداً قوياً فى حياته كما قيل عن هذه العروس “من هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟” (نش8: 5). 5- وحاسة التذوق الروحية يستطيع الإنسان الروحى أن يتذوق بها حلاوة الحياة مع الله. يقول الكتاب “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب” (مز33: 8). وتقول عروس النشيد “كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبى بين البنين، تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لحلقى” (نش2: 3). هذه المذاقة الروحية جعلت كثير من القديسين ينسون كل مسرات العالم ومشتهياته، لأن مذاقة حب السيد المسيح كانت أشهى من كل أطياب العالم. فى هذه العشرة العجيبة دخلت عروس النشيد، واستغرقتها مشاعر الحب حتى نسيت كل ما عداه وأنشدت قائلة “ليقبلنى بقبلات فمه لأن حبك أطيب من الخمر” (نش1: 2). وكلما أعطى الإنسان نفسه الفرصة ليتذوق حلاوة المسيح، كلما زادت أشواق الحياة معه. الباب الضيق قال السيد المسيح: “ادخلوا من الباب الضيّق. لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذى يؤدّى إلى الهلاك. وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذى يؤدّى إلى الحياة. وقليلون هم الذين يجدونه” (مت7: 13، 14). لقد رسم السيد المسيح بحياته طريق الأمجاد، وبعدما تألّم على الصليب قال لتلاميذه: “كان ينبغى أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده” (لو24: 26). وكان دائماً يردد أن من أراد أن يتبعه فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعه (انظر لو9: 23). التلمذة للمسيح تحتم حمل الصليب. وبدون الصليب تصير المسيحية كالعروس بلا عريس. والحياة مع المسيح فيها شركة الآلام مع المسيح كقول معلمنا بولس الرسول: “لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته” (فى3: 10). وقال أيضاً: “كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً” (2كو1: 5) من أراد أن يلتقى مع المسيح فلن يمكنه أن يلتقى به إلا فى طريق الصليب، فى طريق الآلام، فى الطريق الكرب، ومن الباب الضيّق. ولكن من يدخل إلى هذا الطريق، يجد هناك تعزيات كثيرة.. فكثيرون يحاولون تخيّل شكل السيد المسيح، وصورته البهية ويتمنون اللقاء به ليهنأوا بهذا اللقاء. ويوجد من هو مستعد أن يضحّى بكل غالٍ ونفيس فى سبيل أن يرى السيد المسيح ويلتقى به. ولكن السيد المسيح رسم لنا طريقة الالتقاء به.. هناك فى درب الصليب. إذ لا يمكن أن نلتقى مع المسيح بدون صليبه.. لأن صليبه هو قوة الله للخلاص. الصليب هو سر القوة والنصرة على الخطية، وعلى محاربات الشيطان. والصليب هو علامة حب الله لنا، وهو أيضاً علامة المصالحة بإتمام الفداء وإيفاء الدين. فقبول الصليب هو قبول لمحبة الله ودخول إلى شركة الحب معه. إن مجد المحبة هو أن تتألم من أجل من تحب. كما أن مجد الينبوع هو أن يسقى ويروى ويغسل. فى درب الصليب تبدأ النفس فى الدخول إلى شركة العرس الروحى. وتبدأ فى تذوّق حلاوة المحبة المتبادلة بين المسيح والعروس. حينما قال بولس الرسول: “كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً” (2كو1: 5). كان يقصد أن الكنز المخفى لاكتشاف وتذوّق حلاوة الحياة مع المسيح هى من خلال قبول التألّم مع من أحبنا وسلّم نفسه كفارة عن خطايانا. تطبيقات عملية 1- الخدمة الصعبة الخدمة السهلة يتهافت عليها كثيرون، ولكنهم فى هذا النوع من الخدمة لن يتلامسوا مع قوة المسيح التى تعمل فى الخدمة، والتى تعين الآنية الخزفية. ولكن من يقبل الدخول إلى الخدمة الصعبة، أو الخدمة الشاقة فهناك يختبر عمل الله فى الخدمة. ويبتدئ الرب يُظهر هذا العمل فيتمجد الله، ويشعر الناس بحضور الرب وعمله.. فتدخل الخدمة إلى أعماق نفوس الناس. لهذا قال السيد المسيح: “إن كان أحد يخدمنى فليتبعنى، وحيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمى. وإن كان أحد يخدمنى يكرمه الآب” (يو12: 26). المسألة تبدأ بقبول الصليب.. ويتبع ذلك عمل الآب فى الخدمة بصورة تفوق قدرات الإنسان الخادم البشرية. وهذه هى الكرامة الحقيقية التى لا يتوقعها الإنسان ولكنه يعايشها ويختبرها ويتعزى. 2- التضحية والعطاء بسخاء يستدعى قبول صليب التجرّد والزهد والفقر الاختيارى. كما كان القديس الأنبا أبرام أسقف الفيوم يصنع فى خدمته؛ وفى المقابل كان الرب يتمجّد ويغمر الخدمة ببركات كثيرة وأموال طائلة لأن “الأمين فى القليل أمين أيضاً فى الكثير” (لو16: 10). يضاف إلى ذلك أن القديس الأنبا أبرام لشدة عطفه وحنانه لمساعدة المرضى والمحتاجين، قد منحه الرب موهبة الشفاء وصنع المعجزات. حقاً قال السيد المسيح: “ليس أحد ترك.. لأجلى.. إلا ويأخذ مئة ضعف” (مر10: 29-30). 3- الشهادة للحق جاء السيد المسيح إلى العالم ليشهد للحق. وقال: “كل من هو من الحق يسمع صوتى” (يو18: 37). وقد بذل حياته ثمناً لشهادته للحق. وفى وسط عالم يموج بالمتغيرات والصعوبات تكون الشهادة للحق ذات ثمن باهظ. مثلما حدث مع أرميا النبى الذى كانت رسالته لتوبيخ شعبه فى زمانه داعياً إياهم للتوبة -كما أوضح لنا قداسة البابا شنودة الثالث أطال الرب حياته. واحتمل أرميا النبى الكثير من أجل رسالته الصعبة، وهو الإنسان الوديع الباكى الذى كان يميل إلى البُعد عن المشاكل ولكن كانت إرادة الله له أن يتحمل هذه الأعباء التى تفوق طاقته. 4- الجهاد ضد الخطية يقول معلمنا بولس الرسول: “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية. وقد نسيتم الوعظ الذى يخاطبكم كبنين: يا ابنى لا تحتقر تأديب الرب ولا تخُر إذا وبخك” (عب12: 4، 5). إن الجهاد ضد الخطية هو من لوازم حياة التلمذة الحقيقية للمسيح. لهذا قال الكتاب “أما المتنعمة فقد ماتت وهى حية” (1تى5: 6). لا يمكن أن يجتمع النور والظلمة معاً.. لهذا فالتوبة هى بداية الطريق إلى الله كقول السيد المسيح فى دعوته: “توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات” (مت4: 17). فى وسط جهادات الحياة الروحية يختبر الإنسان عمل الروح القدس وهو يقوده إلى موكب النصرة.. ليفرح فى وسط صفوف الأبرار. ولكن دائماً يلزمنا أن نجاهد وأن “نحاضر بالصبر فى الجهاد الموضوع أمامنا ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمّله يسوع” (عب12: 1، 2). مع العريس وهكذا نرى فى كل جوانب الحياة مع الله أن اللقاء مع المسيح يلزمه معانقة وقبول الصليب. وأن من يهرب من الضيقة يهرب من الله؛ لأنه يفقد فرصة اللقاء معه، فى وسط الضيقة يحمله ويعزّيه. كقول السيد المسيح لعروس النشيد عن عشرته معها فى طريق الألم المؤدّى إلى حلاوة التعزية: “قد دخلتُ جنتى يا أختى العروس. قطفتُ مُرّى مع طيبى. أكلتُ شهدى مع عسلى. شربتُ خمرى مع لبنى. كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحباء” (نش5: 1). 17. شهادة السيد المسيح للكتاب المقدس اهتم السيد المسيح بالكتب المقدسة وشهد لها فى مواضع ومناسبات عديدة. وشهادة السيد المسيح لهذه الكتب لم تكن شيئاً جديداً لأنها قد حفظت عبر الأجيال السابقة لظهوره فى الجسد وبالطبع كان هو أيضاً حافظها بعنايته الإلهية. مكتوب أول شئ نقرأ عنه فى الإنجيل المقدس عن استخدام السيد المسيح لآيات واضحة من الأسفار المقدسة هو رده القاطع بعدما جاع أخيراً فى التجربة على الجبل حينما قال له إبليس: “إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً” (مت4: 3). وكان الرد: “مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت4: 4). وحتى حينما حاول إبليس أن يلجأ إلى الخداع بالاستناد إلى آيات من الكتاب المقدس رد عليه السيد المسيح بآيات أخرى تكشف مكر إبليس وخداعه. وكان إبليس قد أخذه إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له: “إن كنت ابن الله فأطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصى ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكى لا تصدِم بحجر رجلك” (مت4: 6). فرد عليه السيد المسيح وقال له: “مكتوب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك” (مت4: 7). وبهذا أوضح السيد المسيح كيفية استخدام الآيات بطريقة سليمة وفى موضعها الصحيح. فى كل ذلك أكّد السيد المسيح أهمية الاستناد إلى كلام الله الموجود فى الأسفار المقدسة لمواجهة حروب إبليس. والعجيب أنه فيما استند إبليس إلى آيات الكتاب المقدس. فإنه قد حرك بمكره بعض الناس خاصة فى هذه الأزمنة الأخيرة للتشكيك فى الوحى الإلهى وفى أسفار الكتاب تحت اسم نقد الكتاب المقدس Bible Criticism. لأن الشيطان له وسائل وطرق كثيرة فى خداع الناس وتضليلهم. شهادة السيد المسيح للمزامير أشار السيد المسيح إلى أن المزامير قد كتبت بوحى من الروح القدس، وأن كاتبها هو القديس داود النبى والملك. وكان ذلك “فيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون فى المسيح. ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربى اجلس عن يمينى حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فإن كان داود يدعوه رباً، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتّة” (مت22: 41-46). على الصليب أراد السيد المسيح أن يلفت نظر المحيطين به إلى ما ورد عن صلبه من نبوات واضحة فى سفر المزامير فقال: “إلهى إلهى لماذا تركتنى” (مت27: 46). وهو بهذا قد استخدم بداية المزمور الثانى والعشرين الذى يقول: “إلهى إلهى لماذا تركتنى بعيداً عن خلاصى عن كلام زفيرى.. كل الذين يروننى يستهزئون بى يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين: اتكل على الرب فلينجّه. لينقذه لأنه سر به.. أحاطت بى ثيران كثيرة، أقوياء باشان اكتنفتنى. فغروا علىّ أفواههم كأسد مفترس مزمجر.. يبست مثل شقفة قوتى ولصق لسانى بحنكى وإلى تراب الموت تضعنى. لأنه قد أحاطت بى كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتنى. ثقبوا يدىّ ورجلىّ. أحصى كل عظامى وهم ينظرون ويتفرسون فىّ. يقسمون ثيابى بينهم وعلى لباسى يقترعون” (مز22: 1، 7، 8، 12، 13، 15- 18). إنه وصف عجيب لأحداث صلب السيد المسيح امتلأ به هذا المزمور ويعتبر ترديد السيد المسيح للعبارة الأولى فيه إشارة وشهادة لما يحويه المزمور من نبوات دقيقة وواضحة عن الصلب بما فى ذلك تعييرات اليهود للسيد المسيح بقولهم: “قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده” (مت 27: 43). وتسمير الجند له على الصليب ثاقبين يديه ورجليه بالمسامير واقتسامهم ثيابه بينهم وإلقائهم القرعة على لباسه “ولما صلبوه، اقتسموا ثيابه مقترعين عليها. لكى يتم ما قيل بالنبى اقتسموا ثيابى بينهم وعلى لباسى ألقوا قرعة” (مت 27: 35). وهنا نرى شهادة من القديس متى الإنجيلى لما ورد فى نفس المزمور وأن ما حدث فى اقتسام ثياب السيد المسيح وإلقاء القرعة على لباسه هو إتمام للنبوة الواردة فيه. وقد دعى السيد المسيح “ابن داود” (مت21: 9)، ودعيت مملكته “مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب” (مر11: 10). وعلى جبل التجلى التقى الناموس والأنبياء مع صاحب المزامير الحقيقى وهو السيد المسيح فكان موسى ممثلاً للناموس، وإيليا ممثلاً للأنبياء، أما المزامير فقد تحققت فى شخص ابن داود. بل أن هوشع النبى يعطى لقب داود للسيد المسيح فى قوله: “لأن بنى إسرائيل سيقعدون أياماً كثيرة بلا ملك، وبلا رئيس، وبلا ذبيحة، وبلا تمثال، وبلا أفود وترافيم. بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده فى آخر الأيام” (هو3: 4، 5). ومن الواضح هنا أن عبارة “يطلبون داود ملكهم فى آخر الأيام” هى كناية عن عودة بنى إسرائيل إلى السيد المسيح بعد رفضهم له وعدم اعترافهم بملكه الذى قال عنه الملاك جبرائيل للسيدة العذراء “ويعطيه الرب الإله كرسى داود أبيه.. ولا يكون لملكه نهاية” (لو1: 32، 33). إن من يتغنى بالمزامير فإنما يتغنى بحياة السيد المسيح، أو يتغنى بعمل السيد المسيح فى حياة الإنسان. للمسيح تُقدَّم الصلاة، وبالمسيح تقدم الصلاة، وفى المسيح تقدم الصلاة. وعليه ينطبق قول المزمور “أما أنا فصلاة” (مز109: 4). لقد كان السيد المسيح هو الكاهن وهو الذبيحة وهو المُصعد وهو الصعيدة {هذا الذى أصعد ذاته ذبيحة مقبولة عن خلاص جنسنا فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة}. ما أجمل أن يكون السيد المسيح هو أنشودة حياتنا: نشدو به ونشدو بحبه ونتذوقه جديداً فى كل يوم. مع التلاميذ بعد القيامة حينما ظهر السيد المسيح لتلاميذه وهم مجتمعين بعد القيامة “قال لهم: هذا هو الكلام الذى كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى فى ناموس موسى والأنبياء والمزامير حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغى أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات فى اليوم الثالث” (لو24: 44-46)، وبهذا أوضح السيد المسيح أن ما ورد من نبوات فى سفر المزامير هو مكتوب بوحى من الله لهذا كان ينبغى أن يتم جميع ما هو مكتوب فى أسفار العهد القديم بما فى ذلك سفر المزامير. وكان فى حديثه مع تلميذى عمواس بعد القيامة قد “ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسّر لهما الأمور المختصة به فى جميع الكتب” (لو24: 27). فتح ذهنهم ليفهموا الكتب ورد فى نص قانون الإيمان الأرثوذكسى [ قام من الأموات فى اليوم الثالث كما فى الكتب ] وهذا النص مأخوذ مما ورد فى كلام السيد المسيح لتلاميذه بعد القيامة كما ذكرنا سالفاً ومستند على ما ورد فى الكتب المقدسة التى كتبت قبل مجيء السيد المسيح إلى العالم. ولكن الأمر الهام جداً هو أن السيد المسيح قد فتح ذهن التلاميذ ليفهموا الكتب. بمعنى أنه لم يكتفِ فقط بما شرحه وأوضحه لهم من معانى النبوات المختصة به فى جميع الكتب، بل فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. ما أروع هذا الأمر أن يُرفع البرقع الذى وضعه موسى على وجهه رمزاً لأن الأسرار الإلهية التى لم يستطع عامة البشر أن يفهموها قد أصبحت واضحة ومعلنة وجلية فى العهد الجديد. وقد شرح معلمنا بولس الرسول هذا الأمر مبيناً السبب فى أن شعب إسرائيل حتى اليوم لا يفهمون الكتب أى أسفار العهد القديم كما فهمها تلاميذ المسيح فقال: “فإذ لنا رجاء مثل هذا نستعمل مجاهرة كثيرة. وليس كما كان موسى يضع برقعاً على وجهه لكى لا ينظر بنو إسرائيل إلى نهاية الزائل. بل أغلظت أذهانهم، لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باقٍ غير منكشف، الذى يبطل فى المسيح. لكن حتى اليوم حين يُقرأ موسى، البرقع موضوع على قلبهم. ولكن عندما يرجع إلى الرب يرفع البرقع” (2كو3: 12-16). إن شعب إسرائيل لسبب قساوة قلوبهم وعدم توبتهم حتى الآن، لا يقدرون أن يفهموا أسفار الكتاب المقدس العهد القديم الموجودة بين أيديهم والتى يقرأونها باستمرار فى مجامعهم. ولكن وجود هذه الأسفار فى أيديهم بنفس النصوص الموجودة فى أيدينا هى شهادة لصحة هذه الأسفار المقدسة واستمراريتها عبر الأجيال. سمعتم أنه قيل للقدماء فى الموعظة على الجبل انطلق السيد المسيح بكثير من وصايا العهد القديم إلى كمالها فى العهد الجديد كما سبق فقال: “لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل” (مت5: 17).وفى حديثه عن كمال الوصايا القديمة اقتبس من الكتب المقدسة. وفى قوله “قيل للقدماء” إشارة إلى أن كلامه التالى لذلك؛ هو وصايا العهد الجديد. وقد ورد فى كلام وتعليم السيد المسيح اقتباسات أخرى من العهد القديم وكلام كثير عن العهد القديم مثل أحاديثه عن أب الآباء إبراهيم وعن موسى النبى وعما ورد فى سفر دانيال عن نهاية العالم.. السيف الماضى ذو الحدين ورد فى سفر الرؤيا عن السيد المسيح قوله عن نفسه: “هذا يقوله الذى له السيف الماضى ذو الحدّين” (رؤ2: 12). وذلك كما رآه يوحنا الرسول “وسيف ماض ذو حدّين يخرج من فمه” (رؤ1: 16). فما معنى أن السيد المسيح هو الذى له السيف ذو الحدين أو أن سيفاً ماضياً ذا حدين يخرج من فمه؟ إن خروج السيف من فم السيد المسيح يشير إلى الكلام والوصايا والإعلانات والإنذارات التى نطق بها السيد الرب أثناء خدمته على الأرض، أو فى كلامه الذى سمعه يوحنا فى رؤياه بعد صعود السيد المسيح إلى السماء، أو عموماً فى كل ما تكلم به الرسل والأنبياء. وقد ورد فى فاتحة سفر الرؤيا العبارات التالية: “إعلان يسوع المسيح الذى أعطاه إياه الله ليُرى عبيده ما لابد أن يكون عن قريب وبيّنه مرسلاً بيد ملاكه لعبده يوحنا الذى شهد بكلمة الله وبشهادة يسوع المسيح بكل ما رآه” (رؤ1: 1، 2). وقد ربط القديس بولس الرسول كلمة الله بالسيف ذى الحدين فى قوله “لأن كلمة الله حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذى حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميّزة أفكار القلب ونياته” (عب4: 12). إذن فهناك إصرار فى الكتاب المقدس فى أكثر من موضع على الربط بين كلمة الله وبين السيف الماضى ذى الحدين. والسر فى ذلك أن السيف الماضى ذا الحدين يستطيع أن يخترق الأجساد لا أن يقطع منها فقط. أى أنه يدخل إلى عمق العمق بلا عائق. أما السيف غير الماضى أى غير المسنون أو غير الحاد وكذلك السيف ذو الحد الواحد فإما أنه لا يدخل إلى العمق أو أنه يعمل بحد واحد فقط؛ فيقطع الأجزاء الظاهرة كالرقبة واليدين والرجلين ولكنه لا يدخل مخترقاً إلى العمق. لهذا قال معلمنا بولس الرسول عن كلمة الله أنها حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذى حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته. بمعنى أن كلمة الله تستطيع أن تخترق كيان الإنسان نفسياً وروحياً. وتستطيع أن تكشف الخبايا الداخلية فى قلب الإنسان ونواياه. هناك فرق بين كلام البشر وكلام الله. كلام البشر قد يؤثر فى العاطفة وقد يقنع العقل بدرجات متفاوتة ولكنه لا يستطيع أن يخترق إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ويميز أفكار القلب ونياته. لهذا فهناك فرق بين عظة تعتمد على مهارة الواعظ وفصاحته، وبين عظة تعتمد على أقوال الكتاب المقدس التى هى أنفاس الله. العظة المشبعة حقاً هى التى تحوى كثير من الآيات المأخوذة من الكتاب المقدس، والتى تدخل إلى قلوب السامعين، إذ يشعروا أن الرب يكلمهم بكلامه الذى يطهر القلب ويمنح قوة للسامعين ويصل إلى أعماق قلوبهم ويوقظ ويهذب ضمائرهم، حتى يُنخسوا فى قلوبهم مثلما نُخست قلوب اليهود فى يوم الخمسين ثم آمنوا واعتمدوا وقبلوا عطية الروح القدس. إن قراءة الإنجيل فى صلوات الكنيسة هى عنصر هام فى العبادة الليتورجية، وفى إتمام الأسرار المقدسة. ويقترن بذلك قراءات من رسائل القديس بولس الرسول، ومن الرسائل الجامعة، ومن سفر أعمال الرسل. كما إن قراءة الإنجيل يسبقها أجزاء من المزامير المقدسة. بالإضافة إلى ذلك يُقرأ سفر الرؤيا بكامله فى طقس أبوغالمسيس بعد قراءة تسابيح الأنبياء. وتُقرأ أجزاء كثيرة من أسفار العهد القديم طوال الصوم الكبير، وفى طقس أسبوع الآلام، وفى طقس اللقان فى عيد الغطاس وفى خميس العهد وفى عيد الآباء الرسل. كما أن تسبحة نصف الليل تحوى أجزاء من الكتب المقدسة مثل تسبحة عبور البحر الأحمر من سفر الخروج لموسى النبى والمزامير 148و149و150. أما المزمور 151 فيُقرأ فى بداية سهرة ليلة السبت الكبير. كما أن سفر المزامير يقرأ بكامله فى نهاية طقس الجمعة العظيمة. كما أن مراثى أرميا تقرأ فى الجمعة العظيمة فى بداية صلوات الساعة الثانية عشر. بهذا نرى أمثلة لاهتمام الكنيسة بقراءة كلمة الله فى طقوسها، كما أنها بذلك تدعو الجميع أن يتعمّقوا فى دراسة الكتب المقدسة كقول المزمور الكبير “لأن شهاداتك هى درسى، وحقوقك هى مشوراتى” (مز 118: 24). من أمثلة السيف ذى الحدين: قول المزمور أن “الرحمة والحق تلاقيا” (مز84: 10) أى أن كلمة الله تجمع الرحمة مع الحق. فهى ذات حدين وليس حد واحد. أما البشر فقد يميلون أحياناً إلى الرحمة فقط أو إلى العدل فقط فى كلامهم أو فى حكمهم على الأمور. وصيته هى حياة أبدية قال السيد المسيح عن الآب “وأنا أعلم أن وصيته هى حياة أبدية” (يو12: 50). لذلك لا نعجب أن المزمور الكبير (مز118) يتجه نحو اشتهاء وصايا الله والطلب الحار المتكرر فى كل قطعة (ق.)، بأن يساعدنا الله على حفظ وصاياه. مثل قول المرنم: “أنت أمرت أن تحفظ وصاياك جداً، فياليت طرقى تستقيم إلى حفظ حقوقك” (ق. 1). “من كل قلبى طلبتك، فلا تبعدنى عن وصاياك” (ق. 2). “اشتاقت نفسى إلى اشتهاء أحكامك فى كل حين” (ق. 3). “فى طريق وصاياك سعيت عندما وسّعت قلبى” (ق. 4). “ضع لى يا رب ناموساً فى طريق حقوقك، فأتبعه كل حين” (ق. 5). “فهّمنى فأبحث عن ناموسك، وأحفظه بكل قلبى” (ق. 5). “إهدنى فى سبيل وصاياك، فإنى إياها هويت” (ق. 5). “ها قد اشتهيت وصاياك، فأحينى بعدلك” (ق. 5). “لهجت بوصاياك التى أحببتها جداً، وتأملت فرائضك” (ق. 6). “حقوقك كانت لى مزامير فى موضع مسكنى. ذكرت فى الليل اسمك يا رب، وحفظت شريعتك. هذا صار لى لأنى طلبت حقوقك” (ق. 7). “حظى أنت يا رب فقلت: أن أحفظ وصاياك” (ق. 8). “فى نصف الليل نهضت لأشكرك على أحكام عدلك.. من رحمتك يا رب امتلأت الأرض فعلمنى عدلك” (ق. 8). “صالح أنت يا رب، فبصلاحك علّمنى حقوقك. كثر على ظُلم المتكبرين، وأنا بكل قلبى أبحث عن وصاياك” (ق. 9) “يداك صنعتانى وجبلتانى، فهّمنى فأتعلم وصاياك” (ق. 10) “حسب رحمتك أحينى فأحفظ شهادات فمك” (ق. 11). “إلى الدهر لا أنسى وصاياك، لأنك بها أحييتنى يا رب” (ق. 12). “ورثت شهاداتك إلى الأبد، لأنها بهجة قلبى. عطّفت قلبى لأصنع برّك إلى الأبد، من أجل المكافأة” (ق. 14). “اصنع مع عبدك حسب رحمتك، وحقوقك علمنى. عبدك أنا فهمنى فأعرف شهاداتك” (ق. 16). “لأجل هذا أحببت وصاياك أفضل من الذهب والجوهر” (ق. 16). “أضئ بوجهك على عبدك، وعلمنى حقوقك” (ق. 17). “عادلة هى شهاداتك إلى الأبد، فهمنى فأحيا” (ق. 18). “صرخت من كل قلبى فاستجب لى يا رب، إنى أبتغى حقوقك” (ق. 19) “سبقت عيناى وقت السَحر لألهج فى جميع أقوالك، فاسمع صوتى يا رب كرحمتك وبحسب أحكامك أحينى” (ق. 19). “رأفتك كثيرة جداً يا رب، فحسب أحكامك أحينى” (ق. 20). “أبتهج أنا بكلامك كمن وجد غنائم كثيرة” (ق. 21). “فلتدنُ وسيلتى قدامك يا رب كقولك فهمنى. لتدخل طلبتى إلى حضرتك، ككلمتك أحينى” (ق. 22). كذلك فإن المزمور الكبير (118) يحوى الكثير من النصوص التى يطلب فيها المرنم الخلاص من خلال حفظ وصايا الله أو من خلال مواعيده. ومن أمثلة ذلك: “لتأت علىّ رحمتك يا رب وخلاصك كقولك” (ق. 6). “فلتأت علىّ رحمتك لتعزينى، نظير قولك لعبدك. ولتأتنى رأفتك فأحيا. فإن ناموسك هو درسى” (ق. 10) “تاقت نفسى إلى خلاصك، وعلى كلامك توكلّت. كلّت عيناى من انتظار أقوالك قائلتين متى تُعزينى” (ق. 11). “لو لم تكن شريعتك تلاوتى، لهلكت حينئذ فى مذلتى. وإلى الدهر لا أنسى وصاياك، لأنك بها أحييتنى، يا رب. لك أنا فخلصنى” (ق. 12). “أعنى فأخلص، وأدرس فى وصاياك كل حين” (ق. 15). “عيناى قد ذبلتا من انتظار خلاصك، وقول عدلك” (ق. 16). “صرخت إليك فخلِّصنى، لأحفظ شهاداتك” (ق. 19). “انظر إلى تواضعى وأنقذنى، فإنى لم أنس ناموسك، أحكم لى فى دعواى ونجنى من أجل كلامك أحينى. بعيد هو الخلاص من الخطاة، لأنهم لم يطلبوا حقوقك” (ق. 20). “توقعت خلاصك يا رب، ووصاياك حفظتها” (ق. 21). “لتكن يدك لخلاصى، لأننى أشتهيت وصاياك. اشتقت إلى خلاصك يا رب وناموسك هو لهجى” (ق. 22). تقريباً لا تخلو جملة من المزمور الكبير من الإشارة إلى وصايا الله بعبارات: وصاياك، شهاداتك، حقوقك، كلامك، شهادات فمك، قولك، أحكامك، أقوالك، فرائضك، عدلك، برّك. حقاً إنه مزمور حفظ الوصية والسلوك فيها لأنها حياة أبدية كما قال السيد المسيح. ومن المؤكد أن ما أورده يوحنا الرسول فى إنجيله، هو نفس ما أورده فى رسالته الأولى. لأن الكاتب واحد والفكرة التى شرحها فى إنجيله بالتفصيل أوردها فى رسالته بالاختصار. ولتوضيح ذلك نقول أن القديس يوحنا قد أورد فى إنجيله ما يثبت أن الشهود للابن المتجسد هم: الآب عن ابنه، والابن عن نفسه، والروح القدس عن الابن.. وهذه بعض الآيات التى تثبت ذلك فى إنجيل يوحنا: شهادة الآب قال السيد المسيح لليهود: “والآب نفسه الذى أرسلنى يشهد لى. لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته، وليست لكم كلمته ثابتة فيكم، لأن الذى أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به” (يو5: 37، 38). وكان قد أشار إلى شهادة الآب عنه بقوله: “إن كنت أشهد لنفسى فشهادتى ليست حقاً. الذى يشهد لى هو آخر، وأنا أعلم أن شهادته التى يشهدها لى هى حق. أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق. وأنا لا أقبل شهادة من إنسان.. لى شهادة أعظم من يوحنا” (يو5: 31-34، 36). وقال أيضاً لليهود: “وإن كنت أشهد لنفسى فشهادتى حق، لأنى أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب.. وأيضاً فى ناموسكم مكتوب إن شهادة رجلين حق: أنا هو الشاهد لنفسى، ويشهد لى الآب الذى أرسلنى” (يو8: 14، 17، 18). شهادة الابن كما أوردنا فى الآية السابقة مباشرة قال السيد المسيح: “أنا هو الشاهد لنفسى” (يو8: 18). كذلك شرح القديس يوحنا المعمدان أهمية شهادة السيد المسيح وأورد ذلك القديس يوحنا الرسول فى إنجيله “أجاب يوحنا وقال.. الذى يأتى من السماء هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها. ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق، لأن الذى أرسله الله يتكلم بكلام الله” (يو3: 27، 31-34). ومن الواضح هنا أن القديس يوحنا المعمدان قد ربط فى حديثه بين شهادة المسيح على الأرض وبين ما يجرى فى السماء “الذى يأتى من السماء.. ما رآه وسمعه به يشهد”. أى أن شهادة الآب فى السماء، هى نفسها شهادة الابن بما سمعه من الآب. شهادة الروح القدس “ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذى من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى” (يو15: 26). وشهادة الروح القدس هى نفسها شهادة الآب لأن السيد المسيح قال: “متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به” (يو16: 13). فالروح القدس يشهد بما سمعه من الآب عن ابنه الوحيد الجنس وليس المقصود أن الروح القدس يقل عن الآب فى المجد والكرامة لأنه لا يتكلم من نفسه. ولكن المقصود أن الشهادة للابن: {أصلها فى الآب وتتحقق من خلال الابن فى الروح القدس} كما شرح آباء الكنيسة الكبار. وذلك لأن الثالوث واحد فى الجوهر وليس فيه انفصال لأحد الأقانيم. التجسد والفداء لقد كشف السيد المسيح فى حديثه مع نيقوديموس عن أمور هامة جداً خاصة بالتجسد والفداء والثالوث القدوس. ففيما يخص حقيقة التجسد الإلهى بقصد الفداء، قال السيد المسيح: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16). كيف بذل الله ابنه الوحيد ؟ إن الابن الوحيد هو كلمة الله المولود من الآب قبل كل الدهور. ولم يكن ممكناً لابن الله الوحيد أن يموت نيابة عن البشر دون أن يتجسد، وذلك لأن اللاهوت بحسب طبيعته هو غير مائت وغير قابل للألم. أما وقد صار له طبيعة بشرية كاملة، فقد أمكن أن يتألم وأن يموت الله الكلمة بحسب إمكانيات طبيعته البشرية. وقد شرح القديس أثناسيوس الرسولى ذلك فى كتاب تجسد الكلمة- الفصل التاسع- الفقرات رقم 1، 2 فقال: [وإذ رأى “الكلمة” أن فساد البشرية لا يمكن أن يبطل إلا بالموت كشرط لازم. وأنه يستحيل أن يتحمل “الكلمة” الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب. لهذا أخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت حتى باتحاده “بالكلمة” الذى هو فوق الكل، يكون جديراً أن يموت نيابة عن الكل. وحتى يبقى فى عدم فساد بسبب “الكلمة” الذى أتى ليحل فيه وحتى يتحرر الجميع من الفساد، فيما بعد، بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدّم للموت ذلك الجسد، الذى أخذه لنفسه، كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فوراً عن جميع من ناب عنهم، إذ قدّم عنهم جسداً مماثلاً لأجسادهم. ولأن كلمة الله متعال فوق الكل. فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفى الدين بموته وذلك بتقديم هيكله وآنيته البشرية فداءً عن الجميع ]. إذن لقد تجسد كلمة الله لكى يصير بالإمكان أن يموت على الصليب فداءً عن البشرية. وبهذا يتحقق قول السيد المسيح: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس” (يو3: 16). فذبيحة الصليب هى ذبيحة الابن الوحيد، وقيمتها غير محدودة عند الله الآب. لهذا كانت كافية لسداد دين البشرية، ولترضية الآب السماوى، ولإعلان قداسة الله الكاملة فى رفضه لخطايا البشرية، ولإظهار حب الله الكامل فى افتدائه لنا “الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم” (2كو5: 19). الله هو المخلّص لقد سبق الرب فوعد فى العهد القديم بأنه هو المخلّص الوحيد بقوله: “أنا أنا الرب وليس غيرى مخلّص.. وأنا الله” (إش43: 11، 12). لهذا رنمت القديسة مريم العذراء فى العهد الجديد قائلة: “وتبتهج روحى بالله مخلّصى” (لو1: 47). وقال القديس بطرس الرسول عن السيد المسيح: “ليس بأحد غيره الخلاص” (أع4: 12). وتنبأ إشعياء النبى قائلاً: “هوذا الله خلاصى فاطمئن ولا أرتعب. لأن ياه يهوه قوتى وترنيمتى وقد صار لى خلاصاً” (إش12: 2). بمعنى أن الرب ليس فقط هو المخلّص كما ورد فى (إش43: 11)، بل هو الخلاص نفسه “يهوه.. صار لى خلاصاً” (إش12: 2). ويمكننا أن نقارن بين هذا القول، وبين قول القديس يوحنا الإنجيلى “والكلمة صار جسداً” (يو1: 14) لكى نفهم أن يهوه هو الله الكلمة الذى تجسد وصار خلاصاً لأجلنا. وقال عنه سمعان الشيخ: “الآن يا سيدى تطلق عبدك بسلام حسب قولك لأن عينى قد أبصرتا خلاصك الذى أعددته قدام جميع الشعوب، نوراً تجلى للأمم، ومجداً لشعبك إسرائيل” (لو2: 29-32). إن الرب يسوع المسيح هو المخلّص وهو الخلاص، هو الفادى وهو الفدية، هو الكاهن وهو الذبيحة، هو الهيكل وهو القربان، هو الراعى وهو الحمل. لهذا دُعى اسمه “عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام” (إش9: 6). الرب هو عجيب فى محبته، عجيب فى خيريته، عجيب فى قداسته، عجيب فى حكمته، عجيب فى إخلائه لنفسه وتجسده، عجيب فى تواضعه، عجيب فى إصراره واحتماله للخطاة، عجيب فى مغفرته، عجيب فى حزمه ومواجهته للشر، عجيب فى ضعفه حينما تألم فى جسم بشريته لأنه أظهر بالضعف ما هو أقوى من القوة، وعجيب فى قوته حينما قام منتصراً من الأموات. كان الرب عجيباً فى كل تدبير الخلاص الذى أكمل بكل فطنة، وتعجب منه القديسون فى كل عظم صنيعه معهم. وهذا العجب هو مصدر كثير من الإعجاب فى حياتهم وأفئدتهم وفى حناجرهم. الحية المرفوعة قال السيد المسيح فى شرحه لنيقوديموس: “وكما رفع موسى الحيّة فى البرية، هكذا ينبغى أن يُرفع ابن الانسان. لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 14، 15). كان نيقوديموس من قيادات اليهود فى ذلك الزمان ومعلّم لإسرائيل (انظر يو3: 10). وكان ينبغى أن يربط له السيد المسيح ما ورد فى التوراة برسالة الإنجيل وعمل الفداء والخلاص. بدأ السيد المسيح يشرح لنيقوديموس مغزى الحيّة التى رفعها موسى فى البرية حينما أخطأ الشعب إلى الله، وأطلق عليهم الحيّات السامة فلدغتهم وقتلت منهم الآلاف، وصرخ موسى إلى الرب فأمره بأن يعمل حيّة نحاسية ويرفعها على سارية، وكل من لدغته الحيّات وينظر إلى هذه الحية النحاسية يبرأ من لدغ الحيّات. إن إبليس هو الملقّب بلقب “الحية القديمة”، لأنه فى الفردوس اختفى فى الحية التى هى أحيل حيوانات البرية وأسقط آدم مع حواء، وبهذا دخل الموت إلى العالم. وبذلك أصبحت الحيّة رمزاً لغواية إبليس ورمزاً للخطية والموت. وحينما جاء السيد المسيح إلى العالم لأجل خلاص البشرية، ليحمل خطايا جميع من ناب عنهم ولكى يموت عوضاً عنهم ويرفع عنهم الدين، فإنه قد سمّر خطايانا على الخشبة. أى أن الحية المرفوعة فى البرية هى إشارة واضحة إلى الخطايا التى حملها السيد المسيح فوق الصليب مسمّراً إياها بالخشبة. لقد صعد السيد المسيح إلى الصليب حاملاً الحية مسمّراً إياها بالصليب، ثم نزل من على الصليب بعد قبوله الموت فداءً عنا تاركاً الحية مسمّرة هناك. فكل من ينظر إلى الصليب يرى الخطية وهى مدانة “فالله إذ أرسل ابنه فى شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية فى الجسد” (رو8: 3). كل من ينظر إلى الصليب ويؤمن بأن الرب المسيح قد دفع عنه دين خطاياه يستحق أن يبرأ من سم الحيّات، أى أن يبرأ من خطاياه فى المعمودية أو فى سرى الاعتراف والتناول إذا كان من الذين قد نالوا العماد بالمسيح. إن العجيب فى الأمر أن ترمز الحية المرفوعة إلى صليب السيد المسيح الذى كان هو نفسه بلا خطية وحده. ولكن هكذا يقول الكتاب إن الله قد “جعل الذى لم يعرف خطية؛ خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5: 21). أى أن الرب المسيح قد أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له. أخذ الخطايا وحملها وحمل عارها لكى نلبس نحن بره “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل3: 27). صارت الحيّة المرفوعة ترمز إلى المسيح المصلوب.. وصارت عصا الرعاية فى البرية -التى تحوّلت فى يد موسى إلى حيّة وابتلعت حيّات سحرة فرعون- هى نفسها الوسيلة التى ضرب بها موسى البحر الأحمر وشق مياهه لعبور المفديين. ولهذا يحمل الأسقف عصا الرعاية فى صورة حيّة نحاسية مرفوعة ترمز إلى صليب المسيح حيث قَتل السيدُ الموتَ بموته مسمراً خطايانا بالصليب. لقد أشهر السيد المسيح الشيطان وأدان الخطية بالصليب “إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافراً بهم فيه (أى فى الصليب)” (كو2: 15). إن ارتفاع السيد المسيح على الصليب هو إعلان للجميع أنه هو الطريق المؤدى إلى السماء وهو إعلان للجميع أن الخطية قد دينت، وأن اللعنة قد أزيلت، وأن الموت قد مات. ما أجمل اللحن الذى يُقال فى قداس القديس يوحنا ذهبى الفم عن الرب المسيح وموته المحيى على الصليب: [ عندما انحدرت إلى الموت أيها الحياة الذى لا يموت. حينئذ أمت الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى، صرخ نحوك جميع القوات السماويين: أيها المسيح الإله معطى الحياة، المجد لك ]. إن قيامة السيد المسيح من الأموات، هى استعلان لحقيقة أنه قد داس الموت بالموت. أى أن الموت الذى سحقه السيد المسيح بموته على الصليب لم يكن ممكناً أن يمسكه لأنه قد انهزم منه، حتى أن النبى تغنى قائلاً: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية. ابتلع الموت إلى غلبة” (انظر هو13: 14، 1كو15: 55، 54). إن كان السيد المسيح قد قبِل الموت بنعمة الله نيابة عنّا، فإنه قد انتصر لنا.. ولهذا صرخ فى لحظة موته على الصليب “يا أبتاه فى يديك أستودع روحى” (لو23: 46). إنها صرخة الانتصار نيابة عن الإنسان الذى غاب طويلاً عن يدى الآب، إذ كان تحت سلطان موت الخطية كما أوضح معلمنا بولس الرسول عما فعله الرب المسيح للبشرية المفتداه “فإذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكى يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس. ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية” (عب2: 14، 15). كما أن القديس أثناسيوس الرسولى قد عبّر عن هذه الحقائق بكلماته الرائعة فى كتاب “تجسّد الكلمة” كما يلى: [ وهكذا إذ أخذ من أجسادنا جسداً مماثلاً لطبيعتنا، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت، فقد بذل جسده للموت عوضاً عن الجميع، وقدّمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا، وذلك (أولاً) لكى يبطل الناموس الذى كان يقضى بهلاك البشر، إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه قد أكمل فى جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره فى البشر الذين ناب عنهم. (ثانياً) لكى يعيد البشر إلى عدم الفساد بعد أن انحدروا إلى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده وبنعمة القيامة، وينقذهم من الموت (يبيد الموت عنهم)، كإنقاذ القش من النار ] (الفصل الثامن- الفقرة رقم 4). يطلب ويخلص ما قد هلك قال السيد المسيح لنيقوديموس: “لأنه لم يُرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم” (يو3: 17). أتى السيد المسيح فى مجيئه الأول لخلاص العالم. وسوف يأتى فى مجيئه الثانى ليدين العالم. فحديثه مع نيقوديموس أن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلُص به العالم، مقصود به المجيء الأول للسيد المسيح وليس المجيء الثانى، هذا من ناحية خصوصية المجيء وليس شموليته. ولكن الحديث أيضاً له شمولية عن تأثير إرسال الابن الوحيد إلى العالم. بمعنى أن الهدف الأصلى من إرساله ليس لإدانة العالم بل لخلاصه. ففى الإطار العام يكون الهدف هو الخلاص والفداء. فالغضب الإلهى كان سيمكث على العالم لو لم يرسل الله ابنه الوحيد لإتمام الخلاص والفداء. وهذا واضح من كلام القديس يوحنا المعمدان الذى سجله إنجيل القديس يوحنا “الذى يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذى لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو3: 36). أى أن السيد المسيح قد جاء ليرفع الغضب الإلهى الكائن بالفعل ضد جميع البشر منذ سقوط الإنسان ومعصيته وفساد طبيعته. وقد أكّد القديس بولس الرسول فساد الطبيعة البشرية بقوله: “كما هو مكتوب أنه ليس بار ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد” (رو3: 10-12). وقال أيضاً عن وراثة الخطية الأصلية وحكم الموت: “من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع” (رو5: 12). وقال معلمنا داود النبى: “لأنى هأنذا بالآثام حبل بى وبالخطايا ولدتنى أمى” (مز50: 5). أى أن الإنسان قد حُبل به وارثاً الخطية الأصلية وولد بها من بطن أمه. كما أنه قد ورث فساد الطبيعة. وفى المقابل يتحرر الإنسان من الخطية الأصلية كما أنه ينال الطبيعة الجديدة فى المسيح بالمعمودية. كقول معلمنا بولس الرسول “لأننا كنا نحن أيضاً قبلاً أغبياء، غير طائعين، ضالين، مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة، عائشين فى الخبث والحسد، ممقوتين، مبغضين بعضنا بعضاً. ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه لا بأعمال فى بر عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس، الذى سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا. حتى إذا تبررنا بنعمته، نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية” (تى3: 3-7). فكما يرث الإنسان الخطية الأصلية والموت وفساد الطبيعة بولادته الجسدية من آدم هكذا يرث البر والحياة. وتجديد الطبيعة بالمسيح “لأنه كما فى آدم يموت الجميع هكذا فى المسيح سيحيا الجميع” (1كو15: 22). وقال السيد المسيح عن مجيئه إلى العالم: “أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل” (يو10: 10). أى أنه “قد جاء لكى يطلب ويخلص ما قد هلك” (لو19: 10). ما هى الدينونة ؟ أكمل السيد المسيح حديثه مع نيقوديموس حول الدينونة فقال: “وهذه هى الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو3: 19). كانت البشرية غارقة فى الظلمة وظلال الموت. وقال إشعياء النبى: “ولكن لا يكون ظلام للتى عليها ضيق. كما أهان الزمان الأول أرض زبولون وأرض نفتالى يكرم الأخير طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب السالك فى الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون فى أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور” (إش9: 1، 2). ليست المشكلة أن يجلس الإنسان فى أرض ظلال الموت منتظراً النور. بل المشكلة فى أن يبغض النور ويُسَّرْ بالظلام. فالذين انتظروا مجيء المخلّص –كما قال يعقوب أب الآباء قبل موته مباشرة “لخلاصك انتظرت يا رب” (تك49: 18)- ذهب الرب إليهم فى ظلمة الجحيم، فى بيت السجن وبشرهم بالخلاص وأخرجهم من هناك. الذين رقدوا على رجاء الخلاص وصلت إليهم بشارة الخلاص بعد رقادهم.. ولكن الذين يحبون الظلمة أكثر من النور لا يمكنهم أن ينالوا الخلاص سواء كانوا قد رقدوا قبل مجيء المخلّص وإتمام الفداء، أو عاينوا المسيح الرب أو جاءوا بعد مجيئه إلى العالم وصعوده إلى السماوات. الدينونة تنبع من واقع ميول الإنسان ورغباته. فهو الذى يحدد مصيره بما يشتاق إليه. كما قال السيد المسيح: “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً” (مت6: 21). الدينونة هى فى رفض محبة الخير.. فى رفض محبة الله.. فى رفض عطية النعمة والخلاص والتجديد.. فى رفض معانقة النور والإلتحاف به.. فى تفضيل حياة الخطية على حياة البر.. فى مقاومة عمل الروح القدس داخل القلب.. فى الفرح بالشر والابتهاج به وكراهية النور الذى يبعثه الله فى حياة الإنسان “لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور، ولا يأتى إلى النور لئلا توبخ أعماله. وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور، لكى تظهر أعماله أنها بالله معمولة” (يو3: 20، 21). إن مجيء المسيح نور العالم هو فرصة لتحرير من يريد الحرية، ولن ينتفع منه شيئاً رافضى الحق والنور والحياة ممن أحبوا الظلمة أكثر من النور. ك- السيد المسيح ومواجهته للهيود أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق قال السيد المسيح لليهود: “أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم” (يو8: 23). من المعروف طبعاً أن السيد المسيح قد اتخذ من العذراء مريم طبيعة بشرية كاملة جسداً وروحاً بلا خطية وبدون زرع بشر. ولكن هذه الطبيعة البشرية التى اتخذها لم تنزل من السماء بل تم تكوينها من العذراء مريم بالكامل، بفعل الروح القدس. فلماذا يقول السيد المسيح لليهود: “أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق”؟ السبب الأول فى ذلك: أن السيد المسيح لم يكن ناسوتاً فقط، بل كان ناسوتاً متحداً باللاهوت، ومعلوم طبعاً أن الابن الوحيد هو مولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته. ولذلك قال لليهود: “الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو8: 58). وبالطبع فإن شخص السيد المسيح كائن قبل كل الدهور بلاهوته. وهو حينما تجسد، لم يتخذ شخصاً من البشر ليسكن فيه، بل هو هو نفسه بنفس شخصه قد اتخذ طبيعة بشرية وصار إنساناً لأجل خلاصنا. لذلك فحينما يقول كلمة “أنا” فإنه يتكلم عن شخصه الواحد الوحيد كقول القديس أثناسيوس [ لقد جاء كلمة الله فى شخصه الخاص The Word of God came in His own Person وهذا الشخص الواحد الوحيد مرتبط أولاً وقبل كل شئ بطبيعته الإلهية، وحتى حينما أتى وتجسد من مريم العذراء فإنه ظل هو ابن الله الوحيد، كما نقول فى التسبحة {لم يزل إلهاً؛ أتى وصار ابن بشر؛ لكنه هو الإله الحقيقى؛ أتى وخلصنا} (ثيئوطوكية الخميس). وقال القديس بولس الرسول: “وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد” (1تى3: 16). والسبب الثانى هو: كون اليهود يحبون العالم ويتمسكون به، فإنه يجعلهم من أسفل لهذا قال السيد المسيح عن تلاميذه القديسين: “ليسوا من العالم، كما أنى أنا لست من العالم” (يو17: 16). وقال لهم: “لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته. ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم” (يو15: 19). فبالرغم من ولادة التلاميذ من أبوين بحسب الجسد إلا أنهم بولادتهم الثانية من فوق سوف ينطبق عليهم قول السيد المسيح أن “المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو3: 6). وليس معنى ذلك الكلام أن تلاميذ المسيح سوف يفقدون أجسادهم بالميلاد الفوقانى، ولكن سوف يسلكون بالروح وتكون اشتياقاتهم روحية سمائية غير خاضعة لشهوات الجسد الباطلة. لذلك قال معلمنا بولس الرسول: “إذاً لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم فى المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.. فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح، فبما للروح يهتمون. لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام” (رو8: 1، 5، 6). لقد قدّم السيد المسيح نفسه قدوة للوضع المثالى لحياة الإنسان. وطالب تلاميذه أن يتبعوا أثر خطواته حاملين الصليب منكرين ذواتهم ليتمكنوا من السلوك بحسب الروح بمعونة من الروح القدس، وبهذا يتأهلون لميراث ملكوت السماوات. وقد شرح القديس يوحنا الإنجيلى أيضاً هذا المفهوم بقوله: “أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أى المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (يو1: 12، 13). بالطبع فإن القديس يوحنا يتكلم عن الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس، وذلك بالنسبة للمؤمنين بالمسيح. وهذا على سبيل عطية النعمة. أما بالنسبة للسيد المسيح شخصياً فقد ولد من العذراء مباشرة كابن لله، كما قال الملاك للعذراء مريم “القدوس المولود منك يدعى ابن الله” (لو1: 35). والسيد المسيح باعتباره الله الكلمة له ميلاد واحد بحسب إنسانيته وهو ميلاده من العذراء مريم. ولكن له ميلاد آخر ينفرد به وحده وهو ميلاده بحسب لاهوته من الآب قبل كل الدهور. لذلك دُعى السيد المسيح “ابن الله الوحيد” وليس “ابن الله” فقط. وقد قال السيد المسيح فى حديثه مع نيقوديموس عن الفداء: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد الجنس لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو3: 16). إن بنوة السيد المسيح للآب السماوى هى بنوة طبيعية، أما بنوتنا نحن فهى بالتبنى على سبيل النعمة. وحينما ولد السيد المسيح من العذراء مريم فقط، ظل هو الابن الوحيد الذى لم يولد من العذراء مريم آخر سواه فى تجسده الفريد باعتباره الله الكلمة المتجسد الذى نمجده فى كل رفع بخور وقداس فى صلواتنا الكهنوتية قائلين: {يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد بأقنوم واحد نسجد له ونمجده} (الأرباع الخشوعية التى يقولها الكاهن بين الخورس الأول والثانى فى رفع البخور). ” فتشوا الكتب ” (يو5: 39) حدثت مواجهات كثيرة بين السيد المسيح واليهود، لخّصها القديس يوحنا الإنجيلى فى عبارته المشهورة “إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله” (يو1: 11). وقال السيد المسيح عن موقف اليهود الرافضين له: “هذه هى الدينونة إن النور قد جاء إلى العالم، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو3: 19). أى أن رفض اليهود لرسالة السيد المسيح كان نابعاً أساساً من محبتهم للمال أو محبتهم للعالم، أو محبتهم لذواتهم، أو محبتهم للشهوات الجسدية، أو لغرورهم أو لكبرياء قلوبهم، أو لمحبتهم للسلطة، أو محبتهم للمجد العالمى، أو لرغبتهم فى إثبات بر أنفسهم، أو لرغبتهم فى مملكة أرضية ترضى تطلعاتهم الزمنية، أو لعدم اكتراثهم بحاجتهم للخلاص من عبودية الشيطان والخطية، أو لعدم إيمانهم بالقيامة من الأموات أو بالحياة الأبدية، أو من بعض أو كل هذه الأسباب مجتمعة. لهذا قال السيد المسيح لليهود: “أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء” (يو8: 44). كان اليهود يتكلمون على أنهم أبناء إبراهيم، ويتكلمون على أن موسى هو نبيهم وعلى الأسفار المقدسة التى كتبها لهم؛ أى على التوراة وباقى أسفار العهد القديم التى كتبها الأنبياء. بل كانوا يتكلمون على أن الله هو أباهم الواحد. وقد رد السيد المسيح على كل هذه الأشياء موضحاً لهم أنها كلها كان المفروض أن تقودهم إلى الإيمان به وبرسالته، ولهذا فأنها ستشهد ضدهم لأنهم لم يؤمنوا به. فحينما قالوا للسيد المسيح إن إبراهيم هو أبوهم، رد عليهم بقوله: “لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم” (يو8: 39). وحينما قالوا له: “لنا أب واحد وهو الله” (يو8: 41). رد عليهم بقوله “لو كان الله أباكم لكنتم تحبوننى” (يو8: 42). وبالنسبة لاتكال اليهود على أن لديهم التوراة وباقى الأسفار الإلهية، ويفتخرون بذلك قال لهم السيد المسيح: “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهى التى تشهد لى. ولا تريدون أن تأتوا إلىّ لتكون لكم حياة” (يو5: 39، 40). ونظراً لافتخارهم بأن نبيهم موسى الذى استلم الوصايا العشر وكتب التوراة أى الشريعة الإلهية، قال لهم السيد المسيح: “لا تظنوا أنى أشكوكم إلى الآب. يوجد الذى يشكوكم وهو موسى، الذى عليه رجاؤكم. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقوننى. لأنه هو كتب عنى. فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك، فكيف تصدقون كلامى؟” (يو5: 45-47). وقال لهم أيضاً: “أليس موسى قد أعطاكم الناموس وليس أحد منكم يعمل الناموس، لماذا تطلبون أن تقتلونى؟!” (يو7: 19). معرفة اليهود لله ظن اليهود أنهم يعرفون الله وأنه هو إلههم ولكن السيد المسيح أظهر لهم أنهم كاذبون لأنهم رفضوا رسالته والإيمان بأن الله قد أرسله. ولهذا قال لهم: “لستم تعرفوننى أنا ولا أبى. لو عرفتمونى لعرفتم أبى أيضاً” (يو8: 19). “إن لم تؤمنوا أنى أنا هو تموتون فى خطاياكم” (يو8: 24). “متى رفعتم ابن الإنسان حينئذ تفهمون أنى أنا هو” (يو8: 28). “من نفسى لم آت، بل الذى أرسلنى هو حق الذى أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأنى منه وهو أرسلنى” (يو7: 28، 29). “أبى هو الذى يمجدنى الذى تقولون أنتم إنه إلهكم ولستم تعرفونه، أما أنا فأعرفه. وإن قلت إنى لست أعرفه أكون مثلكم كاذباً” (يو8: 54، 55). من هذا يتضح أن السيد المسيح قد أكّد مرارًا لليهود أنهم كاذبون فى ادعائهم أنهم يعرفون الله ويعبدونه. لأن من يرفض إرسالية السيد المسيح يكون قد رفض الله وهو واهم فى الإدعاء بأنه يعرف الله ويعبده. ولكن هذا الكلام لم ينطبق على اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح بل قال لهم: “إنكم إن ثبتم فى كلامى فبالحقيقة تكونون تلاميذى، وتعرفون الحق، والحق يحرركم” (يو8: 31، 32). رغبة اليهود فى قتل السيد المسيح أراد السيد المسيح أن يبين لليهود الفرق بينهم وبين إبراهيم الذى يفتخرون بأنه أبوهم فقال لهم: “أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى فرأى وفرح” (يو8: 56). فقال له اليهود: “ليس لك خمسون سنة بعد أفرأيت إبراهيم؟” (يو8: 57). أجابهم يسوع: “الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو8: 58). “فرفعوا حجارة ليرجموه أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا فى وسطهم ومضى هكذا” (يو8: 59). وقد ظلت المواجهات بين السيد المسيح واليهود مستمرة حتى وصلت إلى ذروتها، حينما أقام لعازر من الأموات وفى أحداث الأسبوع السابق لصلبه وبالفعل تآمروا عليه وصلبوه، ولكنه نقض تآمرهم بانتصاره الساحق على الموت بقيامته حياً من الأموات وصعوده إلى السماوات وإرساله الروح القدس لكى يشهد الرسل بقيامته ببرهان الروح والقوة. ل- التعليم عن الاتضاع فى الخدمة السيد المسيح كما سلك السيد المسيح فى اتضاع فائق وإخلاء ذات؛ هكذا علّم عن الاتضاع فى خدمته، إلى أن أتى إلى غسل الأرجل والآلام والصليب حيث رأينا الاتضاع يتألّق فوق قمة الجلجثة. ولهذا نستمع إلى تعاليم السيد المسيح باعتباره قد عمل وعلّم “جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به” (أع1: 1). المتكآت الأولى دُعى السيد المسيح إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين فى يوم السبت ليأكل. ولاحظ كيف اختار المدعوون المتكآت الأولى، وتسابقوا متنافسين عليها. لاحظ كيف ينهزم الإنسان داخلياً، حينما يسعى للتفوق على غيره، متجاهلاً مشاعر الآخرين، وبلا أى نفع يجنيه سوى محبته للظهور وإثبات الوجود الذى بلا ثمرة. فقال للمدعوين مثلاً: “متى دعيت من أحد إلى عرس فلا تتكئ فى المتكأ الأول، لعلَّ أكرم منك يكون قد دُعى منه. فيأتى الذى دعاك وإياه ويقول لك أعطِ مكاناً لهذا. فحينئذٍ تبتدئ بخجل تأخذ الموضع الأخير. بل متى دعيت فاذهب واتكئ فى الموضع الأخير، حتى إذا جاء الذى دعاك يقول لك: يا صديق ارتفع إلى فوق. حينئذ يكون لك مجد أمام المتكئين معك. لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومَن يضع نفسه يرتفع” (لو14: 8-11). بالرغم من بساطة المثل، إلا أنه ممتلئ بالحكمة، ويتميز بالتصوير الدقيق للمعنى الذى قصده السيد المسيح. الإنسان المتضع يجد سهولة كبيرة فى أن يجلس فى المتكأ الأخير، أى فى الموضع الأخير. بل يعتبر أن هذا هو مكانه الطبيعى، وأنه لا يستحق مكاناً أفضل منه. كما أنه يفرح بتقديم غيره على نفسه “مقدمين بعضكم بعضاً فى الكرامة” (رو12: 10). حاسبين البعض أفضل من أنفسهم. المثل الذى أعطاه السيد المسيح، أوضح بأجلى صورة كيف أن محب الكرامة يعرّض نفسه لمواقف يسئ بها إلى نفسه وكرامته. وكيف أن الكرامة الحقيقية هى فى الهروب من الكرامة. محب الكرامة يتعب دائماً إذا لم يحصل على رغباته، ويتعب من إهمال الآخرين له. محب الكرامة يتعب إذا لم يمدحه أحد، ويتعب إذا مُدح غيره. محب الكرامة يستجدى المديح من الناس، فإذا لم يمدحه أحد يبدأ هو فى مديح نفسه، وفى الحديث عما يراه فى أعماله من أسباب العظمة ودواعى الشكر والمديح. مع أن الكتاب يقول: “ليمدحك الغريب لا فمك، الأجنبى لا شفتاك” (أم27: 2). كل هذه المعانى نستطيع أن نتعلمها من المثل الذى قاله السيد المسيح. ونتعلم أيضاً أن من يهرب من الكرامة، تجرى خلفه وترشد جميع الناس إليه. فالناس بطبيعتهم يميلون إلى الإنسان المتضع، ويرتاحون للتعامل معه. لأنهم يشعرون بتحرره من الأنانية، والانحصار حول الذات، وأنه يقدّم الآخرين على نفسه مقدّراً إياهم، وشاعراً بأنهم أفضل منه. المتضع يحبه الناس، والمتعالى يثير فيهم مشاعر الرفض وعدم الارتياح. المتضع يشبه منحدراً متسعاً تجتمع إليه المياه وتملأه. والمتعالى يشبه قمة أو نتوءًا عالياً لا تستقر فوقه المياه، بل تتركه سريعاً منحدرة إلى أسفل. هكذا تملأ النعمة الإلهية قلوب المتضعين. هناك من يحب الظهور فيظهر كبرياءه، وهناك من يختفى فيتألق اتضاعه ويجتذب إليه الجميع. محبة المتكأ الأخير تحتاج إلى اقتناع داخلى، وتحتاج إلى تدريب، وتحتاج إلى يقظة روحية وعين ساهرة متطلعة نحو إشراق الملكوت على النفس، حيث ترى فى المسيح فرحها وسعادتها التى تغنيها عن كل مجد زائل وخادع. سباق المظاهر تكلّم السيد المسيح موجهاً تعليمه إلى الفريسى الذى دعاه: “إذا صنعت غذاءً أو عشاءً، فلا تدعُ أصدقاءك، ولا إخوتك، ولا أقربائك، ولا الجيران الأغنياء. لئلا يدعوك هم أيضاً فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمى. فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافوك. لأنك تكافى فى قيامة الأبرار” (لو14: 12-14). تصوّر رئيس الفريسيين الذى استضاف السيد المسيح ليأكل فى منزله، أن السيد المسيح سوف يفرح بكبار القوم والأغنياء والشخصيات المرموقة التى توافدت على البيت لحضور الوليمة. ولكن السيد المسيح فى تواضعه كان يميل بالأكثر إلى مجالسة الفقراء والبسطاء، والمساكين. لم يسترح الرب لتنافس المدعوين على المتكآت الأولى ومشاعر العظمة التى ملأت قلوبهم. كما لم يكن شخصياً تهمه الأمجاد العالمية ولا مجيء هؤلاء الأغنياء لمشاهدته، بل كان يهتم بغنى النفس فى المحبة والتواضع و”زينة الروح الوديع الهادئ” (1بط3: 4). كل إنسان مثل ذلك الرجل يصنع وليمة، يفتخر بمن دعاهم من الأغنياء، ويبذل قصارى جهده لتظهر وليمته متفوقة على غيره من الأقران. وبهذا تنتشر مظاهر البذخ والترف فى الولائم وفى مناسبات الأفراح وغيرها. ويتسابق الناس فى دعوة الأغنياء الذين يتبادلون معهم إقامة مثل هذه الحفلات والولائم. وذلك فى الوقت الذى يعانى فيه الفقراء من العوز والجوع. ولا يقيم مثل هذا الشخص مائدة بهدف إرضاء الله، بل هدفه الوحيد هو إرضاء الغرور، وإرضاء البشر، وتبادل المتعة والمنفعة. لابد لكل عمل يعمله الإنسان أن يكون بدافع الخير والمحبة، ولخير المجتمع الذى يعيش فيه ولبناء ملكوت الله. ليتمجد الله فى كل شئ. وينبغى أن يجعل الإنسان له هدفاً مقدساً لكل عمل يقوم به. المحبة الباذلة المتضع يستطيع أن يسلك فى المحبة بلا عائق. فالكبرياء تصنع حجاباً على عينى الإنسان فلا يبصر حلاوة المحبة وجمالها الفائق الاتضاع. كثير من الناس يشفقون على حال الفقراء، ويتمنون أن يخدموهم، ولكن خدمة المساكين تحتاج إلى من ينزل إلى مستواهم، ويشاركهم ما هم فيه من معاناة وعوز. وقد قدّم السيد المسيح نصيحة ثمينة للرجل الذى دعاه، ولكل من سمعوا تعليمه الممتلئ بالحكمة الإلهية “إذا صنعت ضيافة فادع المساكين، الجدع، العرج، العمى. فيكون لك الطوبى” (لو14: 13، 14). ألم يتنازل السيد الرب نفسه حينما تجسد إلى ذُلنا وتواضعنا، ليرفعنا إليه، لنتمتع بمجده فى ملكوته السماوى، ولنجلس معه على مائدته فى ملكوته. هل نحن كنا أحسن حالاً من هؤلاء المساكين الجدع والعرج والعمى، حينما كنا مستعبدين لإبليس وللموت قبل أن يخلصنا السيد المسيح من خطايانا، ويصالحنا مع الله أبيه؟! إن ما طالب به السيد المسيح فى مسألة الوليمة هو شئ يسير، وصورة مصغّرة جداً لما فعله هو معنا حينما دعانا إلى التمتع بمجده. أليست محبته هى التى جعلته يحتمل الذل والهوان، فى اتضاع كبير، ليحررنا من مذلتنا وعبوديتنا المُرة، وليفتح أعين قلوبنا بعد العمى، وليحرك طاقات طبيعتنا بعد العجز الكامل والبؤس والضياع؟!. حقاً إن المحبة تتشح بالاتضاع، والاتضاع يرافق المحبة، فاتحاً الطريق أمامها حتى تكمل عملها بفرح ومسرة. م- التعليم عن الوداعة وعدم مقاومة الشر فى خدمة السيد المسيح قيل عن السيد المسيح بفم إشعياء النبى: “هوذا فتاى الذى اخترته، حبيبى الذى سرت به نفسى. أضع روحى عليه فيخبر الأمم بالحق، لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ. حتى يُخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأمم” (مت12: 18-21). لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. المقصود بالخصام هنا، الجدال المصحوب بالغضب، والصياح، والكراهية، والكلمات الجارحة، والذى يؤذي |
|