رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الكتاب المقدس في عبادة الصوم صلاة الكنيسة هي دائمًا كتابية أي أنها تعتمد على لغة ونص وصور ورموز الكتاب المقدس الذي كما يحوى الإعلان الإلهي للإنسان يعبر أيضًا عن استجابة الإنسان الموحى إليه بهذا الإعلان الإلهي، ومن ثم تُصاغ صلواته وتسبحته وتمجيده، فقد انقضت آلاف السنين على كتابة المزامير إلا أن الإنسان عندما يحتاج إلى التعبير عن التوبة ويطلب مراحم الله اللامحدودة لا يجد تعبيرًا دقيقًا ووحيدًا إلا في مزمور التوبة [ارحمني يا الله كعظيم رحمتك] الذي نصليه في كل خدمات السواعي، وكل حالة يمكن تصورها عن الإنسان أمام الله والعالم والآخرين من الفرح المهيمن بكليته، لحضور الله في مواجهة قنوط الإنسان المتغرب عن الله والبعيد والعاجز عن الوصول إليه بسبب تلك الهوة السحيقة، هوة الخطية والغربة عن الله، كل ذلك يجد تعبيره الكامل في تلك البشارة المفرحة "كيريجما".. الكتاب المقدس الذي هو أيقونة الله ورسالته إلى خليقته، التي تركها المسيح وديعة للكنيسة لكي يكون كلام الله المسموع في العبادة والمكتوب هو حياة لنفوسنا.. فنتقبل الكلمة ونطيعها وهو ما يسميه الآباء بالميترجي تقابل الإرادة الإنسانية مع عمل النعمة الإلهية كما سمع العظيم أنطونيوس الوصية وعاشها عندما خرج من الكنيسة.. والكتاب المقدس يشكل دائمًا غذاء الكنيسة اليومي وأداتها في العبادة الليتورجية، لأننا لا نعرف الكتاب المقدس إلا معاشًا بالقديسين مشروحًا بالآباء، وما أحلى أن نسمع لإنجيل الكنيسة في العبادة، فهي صوت الإنجيل الحسي بحسب تعبير القديس باسيليوس الكبير. وأثناء الصوم الأربعيني المقدس يعطى للبعد الكتابي في العبادة الليتورجية تأكيد متزايد، ويستطيع المرء أن يقول أن الأربعين يومًا هي بمثابة عودة الكنيسة إلى حالة العهد القديم الروحية، إلى زمان ما قبل المسيح، زمن التوبة والتوقعات المتجهة نحو تمامها في المسيح وكأنها فترة انتظار للمسيا المنتظر مشتهى كل الأجيال، زمن تاريخ الخلاص، السائر صوب كمال تحقيقه في المسيح، وهذه العودة ضرورية لأنه حتى ونحن ننتمي إلى زمن ما بعد المسيح ونعرفه وقد "اعتمدنا فيه" إلا أننا دائمًا ما نسقط بعيدًا عن الحياة الجديدة التي نلناها منه، وهذا يعنى أننا نتقهقر مرة أخرى إلى [الزمن العتيق] والكنيسة من جهة قد بلغت فعلًا "بر الأمان" في بيتها لأنها هي "محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وموهبة وعطية الروح القدس"، ومع ذلك فمن جهة أخرى هي في طريقها لا تزال تصبو طويلًا صوب تحقيق كل الأشياء في الله [لأن منه وبه وله كل الأشياء قد خلقت] وعودة المسيح وكمال نهاية الأزمنة عند مجيئه الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء مجدًا. الصوم الأربعيني المقدس هو الزمان الذي يتحقق فيه فعلًا ذلك الجانب الآخر والمظهر الثاني للكنيسة لحياتها كتوقع ومسيرة، أعني حياتها التي تقضيها في ترقب وترحال، وهنا يستمد العهد القديم عمق مغزاه وملء معناه ليس ككتاب يحوى مجرد نبوات قد تحققت إنما هو نسيج إنسان وخليقة كاملة في طريقها نحو ملكوت الله، والتزمت كنيستنا بقراءة سفر إشعياء النبي كل يوم من أيام الصوم الكبير، ونستطيع أن نقول أن نبوة إشعياء هي رحلة مع آحاد الصوم وكأن إشعياء الإنجيلي كان يرسم للكنيسة بروح النبوة برنامج الصوم الأربعيني. ونجد أن المزامير أيضًا تشغل مكانًا فريدًا ومركزيًا بالحق في العبادة الليتورجية، فالكنيسة ترى فيها أفضل وأنسب وأكمل تعبير لصلاة الإنسان التائب المنسحق المسيح بل أيضًا الأيقونة الكلامية للمسيح وللكنيسة (ديالوج dialogue)، وتأخذنا القراءات الكنسية الإنجيلية للعبادة الليتورجية في رحلة تقودنا إلى قدس الأقداس في النهاية "البصخة". ومن هنا نجد أن القراءات الإنجيلية الليتورجية قد أصبحت الأيقونة الفعلية للمسيح والكنسية، فهي استعلان داخل الاستعلان الإلهي، ويقول الآباء في كتاباتهم "المسيح فقط وكنيسته يصليان ويبكيان ويتناجيان في هذا الكتاب"،ومنذ البدء صاغت المزامير أساس صلاة الكنيسة، فكانت هي بمثابة "لغتها الطبيعية"، إذ شكلت المادة الأساسية والبنية الثابتة والدائمة لصلوات السواعي في الأجبية، وأيضا صيغت منها التسبحة والبنية الثابتة للذكصولوجيات والإبصاليات، ولكل الأعياد والتذكارات على مدار السنة الليتورجية، وبالأخص في العبادة الليتورجية أثناء دورة الصوم. والتزمت الكنيسة بضرورة قراءة سفر إشعياء النبي أثناء الصوم في الأيام التي تقرأ فيها النبوات لكي من خلال الأم MYSTERY OF SALVATION تكشف من جديد ذلك السر العظيم سر الخلاص وتضحيات المسيح نخلصنا حتى إننا نجدها في الأسبوع الأول من الصوم تبدأ في قراءة الإصحاح الأول من السفر، ويأتي منتصف السفر عند {أش 40} حسب رأى المفسرين مع "أحد السامرية" ويكون سفر أشعياء النبي رحلة مع آحاد الصوم الكبير وكأن أشعياء كان يرسم للكنيسة بالروح برنامج الصوم الكبير، لأنه سفر التوبة والرجوع إلى الله وهذه هي غاية قصد الصوم وهدفه.. وهذه القراءات الإنجيلية لا نزال نصلى بها كخدمات صيامية ليتورجية تعليمية سبق استخدامها للتحضير للمعمودية (إعداد الموعوظين) والتي تتضمن طريق الخلاص الذي يكتمل بالمسيح ويكتمل فيه. وقد خصصت كنيستنا قطمارس للصوم الأربعيني الكبير katameooc ضم قراءات الإنجيل كلها وفيه تتجمع الوصايا الروحية، وتقدم من أجل حياتنا وبنياننا حتى تتحول فينا إلى ثمار النعمة والخلاص، وأناجيل آحاد الصوم هي تجمع غنى وعميق من اجل تطهيرنا وإنارتنا وتهيئتنا في زمن تربية روحية واستنارة، للبلوغ إلى ذوق فرح قيامة المخلص.. فنجد أن الآحاد حسب التقويم الليتورجي القبطي مرتبة بإلهام الروح القدس وتدبير الآباء العظام، الأحد الأول أحد المخلع ثم أحد المولود أعمى ثم أحد الشعانين إلى أن نصل لذروة السنة الليتورجية القبطية في عيد الأعياد كلها وتاجها حيث قيامة السيد الرب. فليس الكتاب المقدس مجموعة مناظرات عقيدية وقصص وحكايات تروى على سبيل المعرفة والتسلية العقلية، لكنه صوت الله الحي يتحدث إلينا المرة تلو المرة ليأخذنا دائمًا متعمقًا بنا إلى العمق الذي لا يستقصى، حيث غنى حكمته ومحبته، وليست هناك مأساة أكثر من تلك التي نراها في الإهمال الذي يناله الكتاب المقدس، والأسوأ من ذلك هو لامبالتنا نحن تجاهه، فما كان بالنسبة للآباء فرحًا وشبعًا لا ينتهي ولذة لا تبطل، ونموًا روحانيًا وعقليًا، قد صار اليوم بالنسبة للعديد منا مجرد نص عتيق قد عفا عليه الزمن وصار بلا معنى في حياتنا، وكل أملنا أننا كما استعدنا روح الصوم ومغزاه أيضا، نستعيد قيمة الكتاب المقدس كغذاء روحي حقيقي وشركة مع الله كما جعلته أمنا البيعة مصدرًا وركيزة جوهرية لها مكانتها الفريدة في العبادات.. لذلك نجدها تضع القراءات الدسمة والنبوات من العهد القديم خلال ليتورجيا الصوم الكبير وكأم تعلمت بحذق روحي ومهارة ملهمة كيف تعد غذاء أبنائها بنفسها، تمد يدها لأولادها الجائعين الجالسين بإنصات أمام المنجلية يتغذون بفرح وشغف من طعام الروح.. وإذا التفتنا إلى العبادات بانتباه نجدها تتضمن معرفة للكتاب المقدس وقدرة فائقة على التأمل فيما يعنيه لنا في حياتنا، فنتغذى من ينابيع الكتاب المقدس خلال القراءات الكنسية في الصوم الكبير الذي هو بالنسبة للآباء والكنيسة نبع الإيمان. وتتجاوب الكنيسة في الصوم مع أساسيات منهجها الليتورجي فتقام القداسات اليومية، ويبحث الكهنة عن الأسر المتخاصمة ليصالحهم، وعن زوجة غاضبة يسعون ورائها ليردها إلى رجلها وأطفالها، وتقام النهضات الروحية لإنهاض الغافلين وإيقاظ وعيهم بالتوبة من اجل يقظة روحية تختزن لبقية أيام السنة، فنعيش إيماننا ودعوتنا بجدية، ونكتشف مجددًا نذر معموديتنا ومسحتنا في معناها وبركتها. وتدفعنا الكنيسة في الصوم لإعادة النظر في الحياة والسلوك الشخصي والعائلي مع قطع الأهواء والشهوات ورفض المشورة الشريرة، وضبط النفس والتعفف، والنمو في أعمال الفضيلة والخدمات الاجتماعية والرحمة بالمساكين والفقراء، والسهر على كلمة الله، والمواظبة على صلوات المخدع بندم وتضرع وقرع صدر، وإقامة المذبح العائلي الأسرى، وترك الخطايا المحببة إلى غير رجعة، بل في دفء الروح نتقدم لعيش القداسة بمسرة لذيذة.. فلا تتأخر في اخذ نصيبك من هذا الربيع الروحي لتتحول حياتك من حياة حسب الجسد إلى حياة الروح، حتى إذا ما اقبل عيد القيامة يكون قيامة لحياتك. لا تيأس من الجهاد لأنه هكذا صارت الخاطئة التي مسحت رجل المخلص بشعر رأسها مكرمة أفضل من العذارى، إنها دموع التوبة التي سكبتها حنة النبية عندما كانت شفتاها تتحركان وصوتها لم يسمع، لقد أصبحت راحاب التي كانت زانية قديسة، واللص اليمين القاتل صار أول مواطني الفردوس، هذه هي أعمال الله وإرادته العجيبة! وهكذا صار العشار متى إنجيليًا والمجدف بولس رسولًا وأسيرًا للحب الإلهي.. والساقط موسى صار القوى الأنبا موسى القس الأسود، فلا تيأس من خلاصك، فالذي كان بالنسبة لكثير من الأرثوذكسيين طقس وترتيب قديم بلا معنى لحياتهم، نعيشه الآن على رجاء أنه عندما نكتشف معنى الصوم وروحه، نكتشف أيضًا الكتاب المقدس والعبادة والتقليد والتاريخ الكنسي كغذاء روحي حقيقي وكشركة مع الله. |
|