مزمور 111 (110 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
مخافة الرب طريق المعرفة
المزمور السابق (110) هو مزمور خاص بصعود رب المجد يسوع وجلوسه عن يمين الآب، لذا يتبعه مجموعة من المزامير تسمى الهلليلويات (مز 111-118). وهي بصفة عامة مزامير قصيرة نابضة بالحيوية، قادرة أن ترفع النفس إلى فوق، وتسكب عليها -إن صح التعبير- روح الرجاء أو التفاؤل. تسحب هذه المزامير بصيرة الإنسان عن ذاته، ليتهلل بمجد الرب، وعظمة أعماله الفائقة، ورعايته العجيبة.
يُعتَبَر هذا المزمور من ضمن المزامير الأبجدية، حيث تبدأ كل جملة بحرف من الحروف الأبجدية العبرية بالترتيب.
يرى البعض أن هذا المزمور وكثيرًا من المزامير التالية بعده كانت تُستخدَم في الاحتفال بالفصح. قام القديس أغسطينوس بشرحه في الصوم الكبير بكونه رمزًا يخص الفصح المسيحي.
يُقَدِّم لنا المرتل بروح التسبيح خطوات عملية للتمتع بالمعرفة والنمو فيها. كل إنسان حتى الرضيع الصغير يشتهي أن تكون له معرفة، ويشعر بالسعادة كلما نما في المعرفة.
1. المعرفة والعبادة الجماعية
1.
2. المعرفة والتأمل في أعمال الرب
2-6.
3. المعرفة وكلمة الله
7-9.
4. المعرفة ومخافة الرب
10.
من وحي المزمور 111
1. المعرفة والعبادة الجماعية
إذ يُسَبِّح المرتل الرب بقلبه الناري، حتمًا يتفاعل مع شعبه، يسندهم ويسندونه. فللمؤمن فاعليته في حياة إخوته، وللجماعة فاعليتها في حياته.
يُسَر الله بالجماعة المقدسة المُتعبِّدة له بروح الحب والتقوى والشكر، فيهبهم فهمًا ومعرفة، بروح التواضع، لا الكبرياء والزهو.
هَلِّلُويَا.
أَحْمَدُ الرَّبَّ بِكُلِّ قَلْبِي،
فِي مَجْلِسِ الْمُسْتَقِيمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ [1].
يصدر التسبيح والشكر من قلب المرتل، وفي نفس الوقت يدعو شعب الله لكي يشترك معه في هذا العمل الملائكي.
ما هو مجلس المستقيمين ومن هم جماعتهم سوى الأتقياء الذين يتسمون بمخافة الرب، لا يكفون عن تقديم الشكر بلا انقطاع، حتى أثناء الضيقات.
* لو لم يكن داود بسيط القلب ومخلصًا، ما كان قد قال: أشكر الرب بكل القلب، وإنما بشفتي[1].
* "أعترف لك يا رب بكل قلبي". ماذا يعني: "بكل قلبي"؟ أي بكل اشتياق، وبغيرة، متحررًا من اهتمامات هذا العالم، مرتفعًا إلى فوق، محررًا النفس من قيود الجسد.
"بقلبي"، ليس بالكلام واللسان والفم فقط، بل وأيضًا بالعقل.
هذا هو الطريق الذي وضعه موسى في الناموس: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل عقلك" (راجع تث 6: 5).
هنا أظن في الحقيقة أن الاعتراف (أو الحمد) يعني الشكر. إنه يقول: "إني أُسَبِّحُ، إني أشكر". لقد قضى كل حياته في السعي وراء هذا كما ترون. لقد بدأ بهذا، وإلى هذا انتهى. هذا هو عمله في كل الأوقات أن يُقَدِّم تشكرات من أجل الإحسانات المُقَدَّمة له وللآخرين.
لا يطلب الله شيئًا آخر مثل هذا! هذه الذبيحة، وهذه التقدمة علامة الروح المعترفة بالجميل وهي صفعة ضد الشيطان.
هذه هي العلامة الخاصة بالاتجاه الشاكر، أن تُقدَّم تشكرات لله في التجارب والمصاعب ويبقى الشخص شاكرًا وسطها[2].
* "أعترف (أحمدُ) لك يا رب بكل قلبي" الاعتراف ليس دائمًا اعترافًا عن الخطايا، إنما يفيض التسبيح لله في ورع الاعتراف. الأول يحزن، والأخير يفرح. الأول يظهر الجرح للطبيب، والثاني يُقَدِّم الشكر على الصحة. الاعتراف الأخير يعني أن الشخص ليس فقط يتحرر من كل شرٍ، بل يعتزل عن كل وضع شريرٍ[3].
* مفجِعٌ ومميتٌ سمّ العدو هذا، فبه أعمى كثيرين، وطرحهم على حين غِرّةٍ، لأنه يوحي للنفس بفكرٍ زائفٍ ومُهلِكٍ، حتى تتصوّر أنها أدركتْ أمورًا غير مُدْرَكة عند مُعظَم الناس، وأنها متفوِّقة في الصوم. كما أنه يوحي للنفس بأعمالٍ بطوليةٍ عديدةٍ، ويُضلّها بجعلها تنسى كل خطاياها، لكي تشعر بتفوُّقها على مَنْ هم حولها. إنه يسرق من قلبها ذكر أخطائها، وهو لا يفعل ذلك لمنفعة النفس، بل حتى لا يمكنها أن تنطق بهذا القول الشافي: "إليك وحدك أخطأتُ، ارحمني" (مز51: 4)، ولا يسمح لها أن تقول: "أحمدُ الرب بكل قلبي" (مز 111: 1). بل كما قال الشيطان نفسه في قلبه: "أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله" (إش14: 13). وهكذا يخدع الإنسان بالاتجاه إلى السيطرة والمناصب العالية، وأيضًا بمناصب التعليم والتباهي بالشفاء. وهكذا تهلك النفس بالخداع، إذ تُصاب بجرحٍ يصعب شفاؤه.
2. المعرفة والتأمل في أعمال الرب
أعمال الله عظيمة وعجيبة، تُعلِن عن أسرار حبه وحكمته وقدرته. يليق بنا في إعجابنا بالخليقة أن نلتصق بالخالق الكلي الحب والرحمة.
عَظِيمَةٌ هِيَ أَعْمَالُ الرَّبِّ.
مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ الْمَسْرُورِينَ بِهَا [2].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "عظيمة هي أعمال الرب، ومشيئاته كلها مفحوصة".
ما هي أعمال الرب التي يُسر بها المؤمنون؟ خليقته الجميلة، ورعايته الفائقة، ونعمته الغنية. يقف المؤمنون في دهشة أمام حكمة الله وحنوه وقدرته. إنه الخالق القدير والأب المملوء حبًا.
أعمال الله العظيمة والعجيبة تبعث روح الرجاء في الشعب للتمتع بخلاص الله.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن المرتل على ما يبدو يتحدث عن كل المخلوقات أنها تعلن حكمة الله، وأنه يُدَبِّر كل العجائب والمعجزات في مناسبات كثيرة من أجل الجنس البشري. إنه يأمر النار والبَرَدْ والثلج والرياح العاصفة فتُتمم أوامره (مز 104: 19-20). كل المخلوقات ليست فقط تُتمم ما خُلقتْ لأجله حسب الطبيعة التي أوجدها عليها، بل وحينما يأمرها تُتمم ما هو على غير طبيعتها.
[كمثال أعطى أوامر للبحر ليس فقط ألا يُغرِقُ أحدًا، حسب طبيعة عمله، وإنما يستبعد أمواجه ويسمح لجمهور اليهود أن يعبروا في أمان أكثر مما لو كانوا على صخرة (خر 14: 21-22). والأتون ليس فقط ألا يُحرِقُ، وإنما يُقَدِّم ندى خفيفًا (دا 3: 50 تتمة دانيال). الوحوش المفترسة ليس فقط تمتنع عن أن تأكل بل قامت بدور الحراس في حالة دانيال (دا 6: 22). وحش البحر (الحوت) لم يمتنع عن افتراس راكبه (يونان) بل وحفظه في أمان (يونان 1: 17؛ 2: 10). الأرض ليس فقط لم تُعطِ ثباتًا للسير عليها بالأقدام، بل انشقت بأكثر خطورة من البحر وابتلعت داثان وجماعة ابيرام (عد 16: 31-32) [4].]
يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفمأن الله خالق الموجودات يتركها تعمل حسب الطبيعة التي خلقها عليها وتحترم ناموسها، وهذا من فضل رعايته وعنايته بنا، ولكن عند الضرورة يأمرها لتعمل على خلاف طبيعتها، وهذا أيضًا من أجل عنايته الإلهية بنا.
جَلاَلٌ وَبَهَاءٌ عَمَلُهُ،
وَعَدْلُهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ [3].
يهتم الله بكل كبيرة وصغيرة، حتى شعور رؤوسنا محصية أمامه. إنه يعمل بكونه الله، ففي أصغر أو أبسط أعماله يترك لمسات قدرته وبهائه عليها. كل أعماله ومعاملته تكشف عن برِّه الإلهي الدائم إلى الأبد.
يرى القديس أغسطينوس أن عمل الله المملوء جلالًا وبهاءً هو تبرير الفجار. [ربما عمل الإنسان يمنع هذا العمل المجيد لله، لكنه إذ يعترف بخطاياه يتأهل أن يتبرر... هذا هو عمل الرب المجيد، فإن من يحب كثيرًا يُغفَر له الكثير (لو 7: 42-48). هذا هو عمل الرب المجيد، لأنه "حيث كثُرتْ الخطية، ازدادت النعمة جدًا" (رو 5: 20). لكن ربما يستحق إنسان أن يتبرر بالأعمال. يقول: "ليس من أعمالٍ كيلا يفتخر أحد. لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة" (أف 2: 9-10)[5].]
* "عدله قائم إلى الأبد". ما يقصده بقوله هنا هو هكذا: لا تيأسوا مهما ظُلمتم، فإنكم تنالون حقوقكم حتى إن انتهت حياتكم. فستستلمون مكافأة أتعابكم عند رحيلكم من هنا. وأنتم أيضًا لا تبتهجوا يا من تسرقون وتشتهون وتسعون وراء كل شيءٍ، حتى وإن انتهت حياتكم في سلام، فستُقَدِّمون حسابًا كاملًا عند رحيلكم من هنا، ستدفعون ثمن شروركم. الله كما ترون موجود إلى الأبد، يمارس عدله وبعد مجيء المسيح... وما يحدث حتىاليوم...
إنكم تلاحظون عجائب كثيرة تحدث في بيوتكم وخارج البيوت[6].
* فسَّرَ الذهبي الفم كلمة: "عدله قائم إلى الأبد" هكذا: إنك يا هذا إذا رأيت الصالحين يتأذون، والخبثاء يسعدون في هذا العمر الحاضر لا تضجر. لأن عدله وحكمه مذخران وباقيان إلى الدهر العتيد، الذي هو دهر الدهور. فإذًا كلمة "قائم" اتخذها القديس بمعنى باقٍ ومحفوظ.
صَنَعَ ذِكْرًا لِعَجَائِبِهِ.
حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ هُوَ الرَّبُّ [4].
كل ما يصنعه القدير عجيب ومدهش، لا يفارق ذاكرة المؤمن. أما ما هو بالحق أخَّاذ، فهو حنانه ورحمته.
* قوله: "صنع ذِكْرًا لعجائبه" معناه أن عجائب الله التي صنعها قديمًا لبني إسرائيل، وصنعها أخيرًا عندما أتي إلى العالم بالجسد، كلها لا يزال ذِكْرها مؤبدًا.
أَعْطَى خَائِفِيهِ طَعَامًا.
يَذْكُرُ إِلَى الأَبَدِ عَهْدَهُ [5].
يرى البعض أن هذا المزمور يُسبَّح في الاحتفال بالفصح، وأن الطعام هنا يُقصد به الفصح نفسه. غير أن الكتاب المقدس كثيرًا ما يعني بالطعام كما بالمن والخبز والماء الطعام الروحي والشراب الروحي.
يود الله دومًا أن يُشبِعَ أبناءه، فلا يجوعون إلى شيءٍ من أمور العالم، كما يؤكد دومًا أمانته في وعوده وعهوده التي يجددها مع شعبه ومؤمنيه.
طعام عجيب معجزي، يقول عنه النبي: "جعل ذكرًا لعجائبه. حنَّان ورحيم هو الرب. أعطي الذين يتقونه (يخافونه) غذاء، ذَكَرَ ميثاقه إلي الأبد" (راجع مز 111: 4-5).
إنها معجزة المعجزات أن يُحوِّلَ الخبز والخمر إلي جسده ودمه الكريميْن. وهو غذاء الروح، يهب الحياة لمن يتقونه، غذاء سماوي، غير مائت، شجرة الحياة التي يقتطف منها المؤمن ثمرة محيية، والمن العقلي الحقيقي المُخفَى، دواء الحياة الذي يقاوم الضعف والمرض، ويقوينا في الحرب ضد الشيطان والخطية. وفي نفس الوقت نجده ذكرى ميثاق وعهد أبدي، تعهد فيه الرب أن يحبنا ويُنْمينا وينعش نفوسنا.
قال مخلصنا: "أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا سأعطيه هو جسدي الذي سأبذله عن حياة العالم... الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان، وتشربوا دمه، فلا حياة لكم في أنفسكم... من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد" (يو 6: 48-59).
* لماذا يشير هنا إلى خائفيه؟ أقصد أنه لا يطعمهم وحدهم. اذكروا إنه يقول في الإنجيل: "يُشرِقُ شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45)... الطعام الذي يشير إليه هنا يبدو لي ليس طعامًا جسديًا بل طعام النفس. لهذا السبب يتحدث هنا عن خائفيه. إنه خاص بهم. أنتم ترون كما أن الجسد يُقات هكذا النفس أيضًا. والدليل على أنها تُقات، أنصتوا إلى هذا: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4: 4؛ تث 8: 3). هكذا يشير إلى هذا الطعام، الذي يعطيه على وجه الخصوص لخائفيه: التعليم بالكلمة، والوصية، وكل القيَّم الصادقة[7].
* "يذكر إلى الأبد عهده"... إنه يُظهر أن الخيرات التي يتمتعون بها ليس لأجل استحقاقاتهم، وإنما من أجل محبة سلفائهم ومن أجل العهود التي أقامها معهم. لذلك يقول: "يذكر عهده معهم"؛ هذا ما أمرهم به موسى أن يراعوه عند دخولهم أرض الموعد. "يقول لهم أن يذكروا عندما يبنون مدنًا عظيمة ويحيطون أنفسهم بممتلكات كثيرة ألا يقولوا إنه بسبب برَّهم قد بلغوا هذا الطريق، بل من أجل العهود مع آبائهم. ليس شيء أشر من العجرفة، لهذا لا يكف الله عن أن ينزعها في كل مناسبة[8].
* "أعطى خائفيه طعامًا". أطعم إيليا حين كان جائعًا. وأمطر منًا في البرية لليهود... الطعام الذي أعطاه كان الخبز النازل من السماء، يُطْعِمنا به إن كنا مستحقين. كم من شهداء في الحقيقة هلكوا من الجوع (جسديًا)، لكنهم الآن مع الرب[9].
* تحقق قوله: "أعطى خائفيه طعامًا" عندما أمر الغراب أن يأتي إلى إيليا النبي بطعامٍ، خبز في الصباح ولحم بالمساء. وأيضًا أخذ حبقوق النبي من أرض فلسطين إلى بابل غذاء إلى دانيال النبي (دا 14: 32-38). وكذلك الذين اجتمعوا إليه في البرية، حيث بارك الخبزات وأشبعهم.
وأيضًا الميثاق الذي عاهده بأنبيائه في دعوة الأمم، ذكره وتممه بواسطة رسله، وهم أخبروا الذين آمنوا به، وصاروا شعبه.
* إننا نتغذى بجسد المسيح ودمه.
* في الكنيسة شجرة الحياة الحقيقية، أي جسد المسيح ودمه، اللذان قال المسيح عنهما إن من يأكل جسدي ويشرب دمي يحيا إلي الأبد.
* إنها لأمورٍ صالحةٍ بالحق، هذه التي تدوم ولا يمكن أن تتبدد بأي تغيير في زمان أو عمر[10].
القديس أمبروسيوس
* ماذا أيضًا تفيد مخافة الرب سوى أن الرب السخي والرحيم يعطي طعامًا لخائفيه؟ طعامًا لا يفسد، "الخبز النازل من السماء" (يو 6: 27، 51) الذي لا يعطيه عن استحقاقاتنا الذاتية.
أخْبَرَ شَعْبَهُ بِقُوَّةِ أَعْمَالِهِ،
لِيُعْطِيَهُمْ مِيرَاثَ الأُمَمِ [6].
إذ يعبد الأمم الأوثان عوض تمجيدهم الخالق، يسحب منهم عطاياه ليهبها ميراثًا لشعبه المؤمن.
كثيرًا ما يشعر المؤمنون بعنف العالم ضد كنيسة الله، ويبدو كأن الله لا يتحرك. لكنه في الوقت المُعيَّن يخبرهم عمليًا بقوة أعماله، فيرثون الأمم. هذا ما اختبرته الكنيسة الأولى حين كان شاول الطرسوسي لا يكف عن مقاومتها بكل السُبُلِ وفي كل مكان يتتبع المؤمنين لكي يضطهدهم. لكن ربنا يسوع في الوقت المُعيَّن حوَّل طاقات شاول المُدَمِّرة إلى قوة للعمل والخدمة لحساب كنيسة المسيح.
3. المعرفة وكلمة الله
يحدثنا الله خلال الطبيعة التي من صُنْع يديه أو بكلمة منه، كما يحدثنا بوصيته أو كلمته، كأن المصدر واحد.
شتان ما بين نظريات العلماء التي تظهر وتختفي لتحتل نظريات أخرى محلها، وبين كلمة الله الثابتة إلى الأبد.
أَعْمَالُ يَدَيْهِ أَمَانَةٌ وَحَقٌّ.
كُلُّ وَصَايَاهُ أَمِينَةٌ [7].
الله لا يخطئ في خطته. وصاياه أمينة ومطمئنة، تكشف لنا عن إرادته المقدسة، وتقود كل أفكارنا ونياتنا وكلماتنا وتصرفاتنا. إنه لن يأمر بأمور متضاربة أو غير هادفة، بل هي مستقيمة تمامًا وكاملة.
يُعَلِّق القديس يوحنا الذهبي الفم على القول: "كل وصاياه أمينة"، قائلًا بأن البعض يظن أن وصاياه تحمل كلمات مجردة سواء من جهة المكافأة في الحياة العتيدة أو العقوبة. فإن ما حدث في الماضي في أيام نوح مثل الطوفان وأيضًا حرق سدوم وغرق فرعون يؤكد أن وصاياه أمينة وليست مُجَرَّد تهديدات.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن وصايا الله أمينة، هذه التي قدَّمها خلال الناموس الطبيعي (رو 2: 14) الذي يقول عنه الرسول بولس: "فإني أُسرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن" (رو 7: 22)، وأيضًا الناموس المكتوب، والذي بدوره الناموس القديم والذي أكمله في العهد الجديد. هذا بالإضافة إلى ناموس القوانين الطبيعية التي تحكم الخليقة كلها.
* كل ما يريد الله أن يبقى، كما ترون، سيبقى ولا يفشل، وليس من يقدر أن يُحرِّك (بدون سماح الله).
* تبقى نواميس الله أكثر بهاءً من الشمس، موجَّهة لنفع الذين من أجلهم وُضعتْ، تقودهم نحو الفضيلة ولأجل صالحهم، وليس نحو الأمور الباطلة، أقصد الثروات وحب السلطة. فهذه الأشياء باطلة، أما أمور الله فحق هي. إنه يعلمهم لا أن يكونوا أغنياء، ولا أن ينجحوا في المشاريع، بل كيف يبلغون إلى التمتع بالأمور العتيدة. هذه النواميس لديها كل ما يخص ما هو حق ومستقيم، ولا تضم شيئًا مشوهًا[11].
* بعد أن أشار إلى قوته يشير أيضًا إلى حكمه البار. في الحقيقة لا يعلن فقط عن سلطانه فيما يفعل، وإنما عن برِّه أيضًا... إنه يعالج كل الأمور ببرٍّ ورأفةٍ... كل شيء يفعله يحمل السمتين معًا. لو أنه فعل البرّ (العدل) وحده لضاع كل شيء [لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي" (مز 143: 2)]، ومن الجانب الآخر لو أنه استخدم الحنو فقط لصار غالبية الناس غير مبالين. لهذا فإنه يستخدم طريقيْن مختلفيْن لتحقيق خلاص البشرية، وذلك لأجل إصلاحهم[12].
ثَابِتَةٌ مَدَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ،
مَصْنُوعَةٌ بِالْحَقِّ وَالاِسْتِقَامَةِ [8].
قوانين البشر كثيرة ومتغيرة، وأحيانًا متضاربة فيما بينها. أما وصايا الله وناموسه فهي متناغمة معًا، هي حق إلهي غير مُتغيِّر، متناغمة معًا مستقيمة وأبدية، تهب راحة وأمانًا على الدوام. كلمة الله لا تُنسخ ولا تبطل، هي قانون السماء الأبدي غير المُتغيِّر.
أَرْسَلَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ.
أَقَامَ إِلَى الأَبَدِ عَهْدَهُ.
قُدُّوسٌ وَمَهُوبٌ اسْمُهُ [9].
ما يشغل فكر الله الكلي الحب هو فداء شعبه، مهما كانت التكلفة. قام بإنقاذ شعبه من عبودية فرعون، كما حررهم من سبي بابل، وعبْر كل العصور كان يسمع صراخهم، ويُرسل لهم عونًا لخلاصهم. هذه المعاملات جميعها كانت ظلًا للخلاص الأبدي الذي حققه بإرسال ابنه ليحمل خطايا العالم كله على الصليب.
الله قدوس ومهوب، له ألقاب كثيرة تعجز أن تكشف عن كل طبيعة الله التي لا يُنطَق بها ولا تُوصف . يحمل الله هذه الألقاب لكي نلتصق به، يسكب من سماته علينا، فنصير فيه وبه قديسين، وننعم ببهائه ومهابته فينا.
* "قدوس ومهوب اسمه". إن كان اسمه قدوس، فإن التسبيح له يتطلب أفواهًا مُقَدَّسة وطاهرة[13].
* "قدوس ومهوب اسمه" قدوس للقديسين، ومُرعِب للخطاة[14].
* الفداء الذي أرسله الله لشعبه هو ابنه الحبيب الذي رفع نفسه فداءً عنا... قال زكريا الكاهن والد يوحنا: "مبارك الرب إله إسرائيل، لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه" (لو 1: 68). هذا أوصانا بحفظ ميثاقه، أعني شرائعه التي هي ميثاق إلى الدهر، التي إذا اعتصمنا بها نحظى بميراثٍ غير مائتٍ...
"قدوس ومهوب اسمه". اسمه قدوس للقديسين، ومُرهِب للخطاة، لأن الرسل بهذا الاسم المُرهِب طردوا الشياطين. وكما قالوا إن الشياطين خضعتْ لنا باسمك. وبه شفوا مرضى، وأقاموا أمواتًا، وصنعوا أنواعًا من الآيات.
4. المعرفة ومخافة الرب
مادمنا نبحث عن الحق الإلهي، فالمخافة الربانية والخضوع بروح الطاعة والتواضع يهيئان نفوسنا للتعرُّف على الحق والسلوك فيه، إذ الحق يحررنا (يو 8: 31-32).
رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ.
فِطْنَةٌ جَيِّدَةٌ لِكُلِّ عَامِلِيهَا.
تَسْبِيحُهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ [10].
ليس للحكمة الحقيقية موضع في الإنسان ما لم ينعم بمخافة الرب. عندما يتَّقيه المؤمنون يمارسون الحكمة. أما دور الحكمة فينا، فهو أن تحثنا وتسير بنا في طريق خلاصنا، فننعم بالحياة المطوَّبة، وتتهلل أعماقنا، فيصير تسبيحه قائم إلى الأبد.
* لا توجد حكمة في أولئك الذين لا يخافون الرب، أو الذين بلا حكمة هم بلا مخافة[15].
* يدعو الحكمة عملًا، هذا العمل هو مخافة الرب التي تمهد الطريق للحكمة. لكن إن كان الناموس ينتج مخافة، فإن معرفة الناموس هي بدء الحكمة. ولا يكون الإنسان حكيمًا بدون ناموس. فالذين يحتقرون الناموس هم غير حكماء، وبالتالي يُحسَبون أشرارًا. الآن التعليم هو بدء الحكمة. أما الأشرار فيحتقرون الحكمة والتعليم (راجع أم 1: 7) كما يقول الكتاب[16].
* "بدء الحكمة مخافة الرب". ما معنى "بدء"؟ ينبوع ومصدر وأساس... الآن يظهر أن الشخص الذي يخافه مملوء بالحكمة الكاملة، ويصير عاقلًا. بعد ذلك في حالة من يظن أن جوهر الحكمة لا يتجاوز المعرفة، أضاف: "فطنة جيدة لكل عامليها". ها أنتم ترون أن الإيمان لا يكفي ما لم يرتبط بطريقة الحياة... إنه يشير إلى الحكمة لا بالكلام، وإنما بالعمل... المطلوب ليس فقط المُستمِع (للحكمة)، بل أيضًا للممارس لها[17].
* اسمعوا في كلمات قليلة كيف يمكنكم الصعود إلى أعالي الكمال بدون مجهود أو صعوبة. مخافة الرب هي بدء خلاصنا ورأس الحكمة كما يقول الكتاب. من مخافة الرب تبرز الندامة الصالحة. ومن ندامة القلب ينبع الزهد، أي التجرد والاستخفاف بكل الممتلكات. من التجرد يولَد التواضع، ومن التواضع الإماتة عن الشهوات. ومن الإماتة عن الشهوات تُستأصَل كل الأخطاء وتُزال. وبانسحاب الأخطاء تنطلق الفضائل وتنمو؛ وبظهور الفضائل تُقتنَى نقاوة القلب، وبنقاوة القلب يُقتنى كمال الحب الرسولي[18].
* من يقتني مخافة الرب، حتى وإن جهل كل الأشياء، فإنه ينال معرفة الله والحق الإلهي، ويقتني الحكمة الكاملة التامة[19].
* مخافة الرب في ذاتها تقود إلى كل فضيلة.
* يقول النبي "الحكمة"، وليس العلم الخاص بالمخلوقات، بل معرفة الله، بداية هذا العلم مخافته، ونهايته هي المحبة. وفهم هذا العلم هو صالح، ليس للذين يعلمونه، بل للذين يعملون به بما يوافق معرفته.
وبما أن الله غير مائت، كذلك تسبحته لا تفتر، بل هي دائمة إلى دهر الدهور.
* "طوبى للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السماوات". نقرأ في الكتاب المقدس عن التعب من أجل الأمور الزمنية "الجميع باطل وكآبة الروح"[20]، أما كلمة كآبة الروح Presumption of spirit، فتعني الوقاحة والكبرياء والغطرسة، ومن المعتاد أيضًا أن يُقال عن المتكبر أن به أرواحًا متعالية، وهذا صحيح، لأن الريح تُدعَى روحًا. وبهذا كُتب: "النار والبرَد والثلج والضباب الريح العاصفة Spirit of tempest" (مز 8:148). حقًا إن المتكبر يدعى منتفخًا، كما لو كان متعاليًا مع الريح. وهنا يقول الرسول: "العلم ينفخ، ولكن المحبَّة تبني" (1 كو 1:8)...
لنفهم بالحقيقة أن المساكين بالروح هم المتواضعون وخائفو الله، أي الذين ليس لديهم الروح التي تنتفخ.
بالحق ليس للتطويبات أن تبدأ بغير هذه البداية، مادامت موضوعة لأجل بلوغ الحكمة العالية "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز 10:111)، ومن الناحية الأخرى "الكبرياء أول الخطايا" (حكمة يشوع 15:10).
إذن فليبحث المتكبر عن الممالك الأرضية ويحبها، ولكن "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات"[21].
* انظروا كيف نزَلَ المعلم من الحكمة متجهًا نحو المخافة (إش 11: 2-3)، وأما أنتم الذين تتعلمون، فإن أردتم التقدُّم يلزمكم الصعود من المخافة إلى الحكمة، إذ مكتوب: "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز 111: 10)[22].
* من يثبت في هذا الحب الكامل، بالتأكيد يتدرج إلى درجة أعلى وهي الخوف النابع من الحب، الذي هو ليس الخوف من العقوبة أو فقدان المجازاة، إنما الخوف النابع من الحب العظيم. فأي ابن في محبته للأب اللطيف لا يهابه، أو الأخ لا يخاف أخاه، أو الصديق صديقه أو الزوجة زوجها، ولكن ليس خوفًا من الضرب، بل حرصًا على مشاعر الحب لكي لا تُجرَح. فيحرص في كل كلمة وكل تصرف لئلا تفتر محبته تجاهه.
يصف أحد الأنبياء عظمة هذا الخوف بدقة، قائلًا: "حكمة ومعرفة هما عن الخلاص، مخافة الرب هي كنزه"[23]، فلم يستطع أن يصف قيمة الخوف بوضوح أكثر من أن يقول إنه غنى خلاصنا الذي يتكون من حكمة الله ومعرفته الحقيقية اللتين لا يمكن حفظهما إلا بواسطة مخافة الرب.
تدعو الكلمة الإلهية على لسان النبي في المزامير، ليس فقط الخطاة، بل والقديسين أيضًا، قائلة لهم: "اتَّقوا (خافوا) الربّ يا قديسيهِ، لأنهُ ليس عوز لمتَّقيهِ (خائفيهِ)" (مز 9:34). فمن يخاف الله بهذا الخوف بالتأكيد لا يعتاز شيئًا قط من الكمال.
واضح أن ما تحدث عنه الرسول يوحنا هو الخوف من العقوبة، إذ قال: "الذي يخاف لم يكمل بعد في المحبة"، لأن الخوف له عذاب"[24].
يوجد فرق بين الخوف الذي لا ينقصه شيء، والذي هو كنز الحكمة والمعرفة (إش 6:33) والذي هو رأس الحكمة (مز 10:111)، وبين الخوف من العقوبة، هذا الذي يُستبعَد عن قلوب الكاملين بملء المحبة. لأنه "لا خوف في المحبَّة، بل المحبَّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج" (1 يو 18:4)[25].
* كان أنبا بيمين يقول: "مخافة الله تُعلِّم الإنسان كل الفضائل الروحانية".
وقال أيضًا: "مخافة الله هي البداية والنهاية في نفس الوقت. إنه في الحقيقة مكتوب: "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز 111: 10)، كما أن الله قال لإبراهيم عندما أعدَّ ابنه للذبح: "الآن علمتُ أنك خائف الله" (تك 22: 12)".
وكان يقول أيضًا: "يستحيل على مَنْ يؤمن بحق، ويجاهد بمخافة الله أن يسقط في نجاسة الأوجاع وفي الأخطاء التي من الشياطين".
* بالنسبة للملحد اسم "الجاهل" يُطبق بكل دقة على الحق والطبيعة. إن كانت مخافة الرب هي بدء الحكمة (مز 111: 10)، فإن نقص الحكمة وإنكار (الله) هما ضد الحكمة[26].
من وحي المزمور 111
نفسي تُسبِّحك من أجل خلاصك يا رب!
* مع كل صباح جديد أذكر قيامتك،
وكأنها مراحم جديدة،
تبعثُ فيَّ معرفة جديدة لأسرار حبك.
تتهلل أعماقي،
وكأنه ليس من يتهلل بك مثلي أنا الخاطئ.
وأجتمع مع شعبك،
فأختبرُ التسبيح كما في خورُس السمائيين.
* أعترف لك بخطاياي،
فأتذوق عظمة عملك يا غافر الخطايا.
أعترف لك شاكرًا على فيض حنوك.
تبقى نفسي شاكرة لك.
في وسط الضيق يتجلى صليبك، فتفرح نفسي.
وفي الفرج أراك يا واهب النصرة!
كلما انحنت نفسي لك لتُسَبِّحك،
تمتلئ أعماقي بمعرفتك.
أعرفك قائمًا في أعمالي،
تسكب بهاءك عليّ.
* أعمالك عظيمة ومجيدة يا أيها القدير محب البشر.
أعمالك تشهد عن عظمة إرادتك،
إذ تريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.
أعمالك تشهد لحبك وحنوك وعدلك.
بحبك تحتضني، وبعدلك تؤدبني.
أنت أب عجيب تهتم بخلاصي الأبدي!
أعمالك تُقَدِّم لي معرفة صادقة.
* وصاياك ونواميسك تُقَدِّم لي معرفة فائقة.
هوذا نوامسيك تُحَرِّك الطبيعة بما فيه خلاصي.
تهبني الناموس الطبيعي في أعماقي،
فليس لي عذر بعد.
تُقَدِّم لي ناموسك ووصاياك.
وصاياك طعام لنفسي،
فأشبع ولا أجوع إلى الزمنيات.
* سمِّرْ خوفك في داخلي،
فأتمتع بينبوع حكمتك الإلهية.
يهبني فهمًا ومعرفة مع عذوبة عجيبة.
تقودني حكمتك في توجيه أفكاري وعواطفي وأحاسيسي.
تضبط حكمتك كلماتي، فلا أنطق بما لا يليق.
تهبني حكمتك قوة،
فأسلك بالروح لا حسب الجسد!
أتمتع بالشركة معك،
فأمتلئ بحكمتك،
وتصير لي معرفة دائمة النمو.
يتحول كياني كله إلى قيثارة،
لا عمل لها إلا التسبيح الدائم.
أُسَبِّحك مادمت حيٍّا،
وأُسَبِّحك حين تنطلق نفسي إليك.
يصير تسبيحي هو شغلي الشاغل هنا وفي الحياة العتيدة.