الرب يدافع عن الأبرياء
المزمور الخامس والثلاثون
1. المزمور الخامس والثلاثون هو مزمور توسّل يرفعه المرتّل إلى الرب ليخلّصه من دعوى تُقام عليه زورًا: يصوّر المؤمن الاضطهاد الذي يصيبه، ويصرخ صرخات واثقة بخلاص الرب ويعده بأن يقدّم له ذبائح شكر. لا شك في أن لهذا المتهّم مناصرين يقفون بجانبه ويشهدون بالحقّ، ولكنه لا يذكرهم إلاّ بعد أن تنتهي قضيّته (آ 27). ما ترجّى إلاّ الله شاهدًا وحيدًا يقف بجانبه ويدافع عن حقّه.
2. الله يدافع بقوّة عن حقّ المظلوم المتهّم زورًا.
نجد ثلاثة أقسام في هذا المزمور، وفي كل قسم نجد العناصر التالية: عرض الحالة، إقرار سلبيّ، دعوة على المتهّم، تذكير بتدخّل الله، وعد بتقدمة شكر. ويشدّد كل قسم على وجهة من هذه الوجهات.
القسم الأول (آ 1- 10). لا يتوقّف هذا القسم على عرض الحالة، بل يبيّن رجلاً وقع ضحيّة اضطهاد لا مبرّر له، فيدعو الرب إلى أن يتدخّل (آ 1- 3)، ويدعوا على أعدائه (آ 4- 6) منتظرًا حكم الله العادل (آ 7- 10). يستعين المرتّل بالربّ فيدعوه إلى أن يأخذ عدّة القتال (مجن، ترس) ليقف ويهجم على العدوّ. والحليف مسؤول عن حليفه. ثم يعبّر المرتّل عن رغبته في أن يُنهي اللهُ حياةَ أعدائه (يتشكّك المصلّون اليوم من هذه الكلمات، ولكنّهم يتصرّفون بحسب هذه الكلمات) ليشعروا بالخزي كجيش منكسر يلاحقه ملاك الرب كما تلاحق الريح القشّ وأوراقَ الشجر اليابسة. وينتظر الحكمَ العادل له بالحياة، وعلى الأشرار بالموت في حفرة حفروها وفي فخّ نصبوه. حينئذ يبتهج المرتّل ويُسَرّ بخلاص الربّ.
القسم الثاني (آ 11- 18). يتوقّف المرتّل في هذا القسم على وصف حالته، وكيف أن شهود الزور يهدّدون حياته ويكافئونه عن الخير شرًا. ولكنّ الله يسهر ويرى. وعندما ينجو المرتّل، سينشد لله نشيد شكر وسط الجماعة العظيمة.
وفي القسم الثالث (آ 19- 27) يعرض المرتّل حالته أمام الله (آ 19- 21) ويطلب إليه أن يحكم له (آ 22- 25) حكمًا يدلّ على تدخّله من أجل حبيبه (آ 26- 27). كان المرتّل يعيش في طمأنينة، فهجموا عليه وخاصموه وقالوا: رأته عيوننا. أمام هذه الحالة هل يبقى الله ساكتًا وكأن الأمر لا يهمّه؟ ويدعو المرتّل الله إلى أن يتحرّك: إستيقظ، إنتبه لقضائي. ويقوم الله، فتكون النتيجة نصرًا لحبيبه وخزيًا للأعداء. أما كلمة "نعمّا" فنقرأها على لسان أدوم يوم سقطت أورشليم (حز 25: 3؛ 36: 2). أيكون المزمور أخذ بُعدًا جماعيًا فصار المتهّم أورشليم التي هزأ بها أعداؤها، أي الممالك المجاورة؟ ولكن الرب سيعيد أورشليم إلى سابق عزّها.
3. يتحدّث المرتّل إلى قاض أرضيّ، إلى أحد الكهنة. ولكن بالنسبة إليه لا قاضي إلاّ الله. ولهذا فهو لا يصوِّر بالتفصيل ما عمله وما لم ويعمله، لأن الرب قد رأى وهو يعلم كل شيء. إذًا ليس المهمّ أن يقتنع الله كقاض ليحكم من أجل صفيه، إنما المهمّ أن يجعل آلله حكمه منظورًا فيعطي علامة على براءة صفيّه بأن يشفيه من مرضه (مثلاً) ويضرب أعداءه.
لا يظهر حكم البراءة إن لم يُظهِر الله خطأ شهود الزور. وهنا نفهم كلمات مثل: يخزون، يفتضحون، يخجلون... فيُمحى كل أثر لهم كالقشّ أمام الريح... ويموتون عندما يضربهم ملاك الموت، فينزلون إلى الظلمة. هم أرادوا الموت لمسكين وثق بالرب (صورة الشبكة والفخ)، فليعامِلْهم الله بالمثل. هم فرحوا وأحزنوني، فليحزنوا وأفرح أنا. سنّ بسنّ، وعين بعين.
4. نجد في شخص هذا المضطهَد ملامح يسوع وقد طبّق عليه يوحنا (16: 26) آ 19: "أبغضوني مجّانًا". وهذا البغض جعل أعداءه يتّهمونه زورًا: "إنه يجدّف" (مر 2: 7)، "إنه رئيس الشياطين" (مر 3: 22)، يرفض الشريعة (مر 3: 2) ويعاند القيصر (لو 23: 2). وجاؤوا بشهود زور (مر 14: 55- 60) ليحكموا عليه بالموت. وكان بين الذين صرخوا "ليُصلب" أناس أحسن إليهم، ولا شكّ. أحدُ رسله اتّفق مع أعدائه الفرّيسيّين والصادوقيّين وهيرودس وبيلاطس البنطي الذين تجمّعوا حوله. هزئ منه الحرّاس وضربوه وغطّوا وجهه: "تنبَّأ لنا من ضربك" (لو 22: 63). وهزئ منه الرؤساء على الصليب (لو 23: 35)، فصرخ يسوع كالمرتّل طالبًا العون من أبيه.
بهذه الروح ننشد نحن شعب العهد الجديد هذا المزمور، وقد سحقتنا أثقال الآلام والخطيئة "ناظرين إلى رأس إيماننا ومكّمله يسوع الذي تحمّل الصليب مستخفًا بالعار بدل الفرح الذي كان ينتظره، وجلس عن يمين عرش الله" (عب 12: 2).
5. الله فوق كل شيء
أيها الإخوة، لنتوسّل إلى الله لكي يرسل جوابًا إلى نفسنا: أنا هو خلاصك. لنفتح أذننا لنسمع حين يقول لنا: أنا هو خلاصك. هو يقول هذا الكلام، ولكن البعض يصمّون آذانهم، وبالتالي لا يسمعون حين يكونون في المحنة، إلاّ الأعداء الذين يهاجمونهم. فإن أحسّت نفسهم بالنقص، بطريق صعبة، بعري ماديّ، فهي تطلب العون لدى الشياطين، وتجري وراء السحرة والبصّارين: هذا يعني أن الأعداء الخفيّين الذين يطاردونها، قد اقتربوا منها، و"مترسوا"، وسيطروا عليها وقيّدوها وغلبوها وقالوا: "لا خلاص لك بإلهك". هي التي أصمّت أذنها لصوت الذي قال لها: "أنا هو خلاصك".
أجل قل لنفسي: "أنا هو خلاصك لكي يخزى وينقلب أولئك الذين يطلبون نفسي". فإلى نفسي أنت تقول: أنا خلاصك. فلا أطلب خلاصًا آخر غير الربّ إلهي. قد أدعى لأننتظر الخلاص من هذه الخليقة أو تلك، ولكن هذا الخلاص يأتي أيضًا منه. "رفعت عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي العون". أنا لا أنتظر العون من الجبال نفسها. فـ "عوني يأتي من الربّ الذي صنع السماء والأرض".
قد يأتي الله في الضيقات الماديّة ويعين البشر. أما خلاصك يا نفسي، فلا يأتي إلاّ منه. قد يعينك بواسطة ملاك، ولكن خلاصك منه وحده. كلُّ شيء يخضع له، وقد يستخدم هذه الخليقة أو تلك ليعينك في حاجات هذه الحياة الزمنيّة. أما الحياة الأبديّة فلا يعطيك إياها إلاّ هو نفسه.
"وأنا عندما كانوا يعذّبونني، كنت أرتدي المسح، وأذلّ بالصوم نفسي، فترجع صلاتي إلى حضني" (آ 13). نتذكّر أيها الإخوة، أننا ننتمي إلى جسد المسيح، أننا أعضاء المسيح. فيجب علينا أن لا نبحث كيف نردّ على أعدائنا. بل كيف نستطيع الحصول على العون الإلهي بصلاتنا، لئلا نقهر في التجربة. (ونصلّي أيضًا) ليعود مضطهدونا إلى البرّ الحقيقيّ.
في الصعوبات، لا أهمّ ولا أفضل من أن ندير ظهورنا للخلافات، وندخل إلى خدر نفوسنا. وفي هذه العزلة التي لا يرى فيها أحد عذاب الانسان ولا عون الله، نستطيع أن ندعو الله. نغلق باب غرفتنا على كل إزعاج يأتي من الخارج. نتّضع معترفين بخطايانا، نمجّد الله ونمدحه في الصعوبات كما في التعزيات. هذا ما يجب علينا أن نفعله دومًا.
قال المزمور: "عادت صلاتي إلى حضني". لا تعني لفظة "حضن" ما تعنيه عادة. بل نحن أمام هوّة عظيمة. ويا ليت الرب يعيننا لكي نلج إليها في يوم من الأيام. فالحضن يعني موضعًا سرّيًا. ونحن نُدعى لكي نصلّي إلى الله في حضننا، في هذا الموضع الذي يقدر الله وحده أن يرى فيه ويسمع...
"كنت أسرّ به كما بقريب أو أخ. وكنت أذلّ نفسي كانسان يبكي وينتحب" (آ 14). هنا يلقي المسيح نظره على جسده، وهكذا نرى نفوسنا. حين تجعلنا الصلاة سعداء، حلت تذوق نفسنا السلام لا برفاه الدهر الحاضر، بل بنور الحقّ، فالذي يلامسه النور يعرف معنى كلامي ويتأكّد من حقيقة أقوالي: "كنت أسرّ فيه كما بقريب أو أخ". هكذا تجد النفس سرورها في الله الذي هي قريبة منه. فتذكر القديس بولس: "فيه نتحرّك ونحيا" (أع 17: 28)... إذا لم تكن النفس منقّاة. لتستطيع أن تبتهج وتشعّ وتقترب وتتحد. إذا رأت نفسها بعيدة عن الله، فلتتعلّق بهذا النصّ الذي يقول: "كنت أذلّ نفسي كإنسان يبكي وينتحب". حين أكون قريبًا أسرّ به. أما حين أذلّ نفسي كمن يبكي وينتحب، فهذا يعني البعد والمسافة. وعلى ماذا يبكي؟ على ما يرغب فيه ولم يحصل عليه. (أوغسطينس).