رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
شَخصِيَّة يُوحَنَّا المَعْمَدان وشَهَادَتُه لِلمَسيح (يُوحَنَّا 1: 6-8، 19-28) النَّص الإنجيلي (يُوحَنَّا 1: 6-8، 19-28) 6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يُوحَنَّا 7 جاءَ شاهِدًا لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس. 8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور. 19 وهذه شَهَادَةٌ يُوحَنَّا، إِذ أَرسَلَ إِلَيه اليَهودُ مِن أُورَشَليمَ بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ يَسأَلونَه: ((مَن أَنتَ؟)) 20 فاعتَرفَ ولَم يُنكِرْ، اِعتَرَفَ: ((لَستُ المسيح)). 21 فسأَلوه: ((مَن أَنتَ إِذًا؟ أَأَنتَ إِيلِيَّا؟)) قال: ((لَستُ إِيَّاه)). ((أَأَنتَ النَّبِيّ؟)) أَجابَ: ((لا!)) 22 فقالوا له: ((مَن أَنتَ فنَحمِلَ الجَوابَ إلى الَّذينَ أَرسَلونا؟ ماذا تَقولُ في نَفسِكَ؟)) 23 قال: ((أَنا صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: قَوِّموا طَريقَ الرَّبّ. كَما قالَ النَّبِيُّ أَشَعْيا)). 24 وكانَ المُرسَلونَ مِنَ الفِرِّيسِيِّين، 25 فسَأَلوهُ أَيضًا: ((إِذا لم تَكُنِ المسيحَ ولا إِيلِيَّا ولا النَّبِيّ، فلِمَ تُعَمِّدُ إِذًا؟)) 26 أَجابَهُم يُوحَنَّا: ((أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه، 27 ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه)). 28 وجَرى ذلك في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يُوحَنَّا يُعَمِّد. المُقدِّمة تستهل الكنيسة في الأحد الثَّالث من زمن المجيء مقدمة إنجيل يُوحَنَّا البَشير بشَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان عن نفسه (يُوحَنَّا 1: 6—8) وشهادته للسيد المسيح (يوحنا 1: 19-28) التي تُثبت صحةَ هوية يسوع المسيح وشخصِه في التَّاريخ. وهذه الشهادة هي نداء لنا جميعا للفرح، وإعادة اكتشاف سيدنا يسوع المسيح الذي يقول عنه يُوحَنَّا المَعْمَدان:" وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه" (يوحنا 1: 26). وإذا اكتشفنا يسوع المسيح فسيكون قلبنا فرِحًا كما جاء في نبوءة أشعيا "أُسَرُّ سُروراً في الرَّبّ وتَبتَهِجُ نَفْسي في إِلهي لِأَنَّه البَسَني ثِيابَ الخَلاص" (أشعيا 61: 10). يدعونا إنجيل للتغير لنصبح قادرين على قبول السيد المسيح بفرح في حياتنا. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النَّص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النَّص الإنجيلي (يُوحَنَّا 1: 6—8، 19-28) 6 ظَهَرَ رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يُوحَنَّا تشير عبارة "ظهر" في اليونانية "Ἐγένετο " (معناها كان) إلى عكس فعل "كان" في اليونانية ἦν الذي ورد في الآية الأولى "كان الكلمة" (يُوحَنَّا 1: 1) حيث أن يسوع جاء في صِيغة فعل الكينونة، أي أنه كائن أزلي غير مُحَدَّد بزمن ٍ معين ٍ على عكس يُوحَنَّا المَعْمَدان الذي وُجد في زمن ٍ معينٍ. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير على لسان يُوحَنَّا المَعْمَدان "إن كان المسيح أعظم منّي، برغم أنّه ولد من بعدي، فذلك لأنّ وقت ولادته لا يحصره في حدود معيّنة. فهو ولد من أمّ ٍ في الزَّمن، لكنّه مولودٌ من الآب قبل الدُّهور وخارج الزَّمن". والجدير بالذِّكر أننا لا نجد خبر طفولة يسوع في إنجيل يُوحَنَّا، كما إننا لا نجده أيضا في إنجيل مرقس. يبدأ هذان الإنجيلان برسالة يُوحَنَّا المَعْمَدان نحو ثمانية وعشرين سنة بعد ميلاد يسوع. أمَّا عبارة " رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله" فتشير إلى الله مصدر إرساليته؛ إنه يأتي من الله، ويُعلق القديس يُوحَنَّا الذَّهَبي الفم " إذا سمعت أن يُوحَنَّا مُرسلٌ من الله فلا تظن أنه يتكلم بأقواله، لكنَّه يتكلم بأقوال مُرسله، ولهذا ُسمِّى ملاكًا، كما ورد في سفر ملاخي النَّبي "هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي فيُعِدُّ الطَّريق أَمامي، ويَأتي فَجأَةً إلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه"(ملاخي 3: 1)، ومُهِمَّة المَلاك ألاَّ يقول قولًا من ذاته". فهذه هي مُهِمَّة النَّبي: أن يُخبر برسالة وُضِعَت في قلبه، ينطقها كاملة صحيحة بفمه، كما قال الرَّبّ إلى أرميا النَّبي: " فإنَّكَ لِكلِّ ما أُرسِلُكَ لَه تَذهَب وكُلَّ ما آمُرُكَ بِه تَقول" (إرميا 1: 7). أمَّا عبارة " يُوحَنَّا " في الأصل اليوناني Ἰωάννης وهي لفظة مشتقة من العبرية יוֹחָנָן (معناها الله حنون) فتشير إلى الصيغة العربية في أسفار العهد الجديد وسُمِّي بذلك بأمر من الله (لوقا 1: 13). وان اللقب الأشهر ليُوحَنَّا هو "المعمدان" وذلك لكونه عمَّد يسوع، وكان أول من دعا يُوحَنَّا بلقب "المَعْمَدان" هو هيراكليون الغنُّوصي في القرن الثَّاني، وبعد ذلك استعمله عددٌ من كبار آباء الكنيسة، ثم شاع هذا اللقب في الكنائس ذات التُّراث الشَّرقي والغربي على حدِّ سواء. ويُوحَنَّا المَعْمَدان، هو لاوي ابن زكريا الشَّيخ وزوجته اليصابات، دُعي وكُرَّس منذ ولادته ليكون سابق المسيح (لوقا 1: 5-25) وكان أبواه يسكنان اليهودية في يطّا، مدينة الكهنة، وهي إحدى قرى منطقة الخليل. وكانت ولادته قبل ولادة المسيح بستة أشهر (لوقا 1: 26) في قرية عين كارم بحسب التَّقاليد. ودُعي القديس يُوحَنَّا المَعْمَدان رسولًا أو ملاك الله (ملاخي ٣: ١). وكان نبيًا وسابقًا للمسيح بالتَّوبة وشاهدًا لابن الله. ولم يذكر عنه الكتاب المقدس أنه صنع معجزة ما، لكنه شهد للحق، وجذب الكثيرين للتَّوبة بحياته الجادة، وشهد للمُخلِّص يسوع المسيح. 7 جاءَ شاهِدًا لِيَشهَدَ لِلنَّور فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس تشير عبارة " شاهِدًا" إلى يُوحَنَّا المَعْمَدان، بينما يصفه يُوحَنَّا الإنجيلي الشَّاهد (يُوحَنَّا 21: 24). وظيفة يُوحَنَّا المَعْمَدان الخاصة هي أن يشهد بان يسوع هو المسيح (يُوحَنَّا 1: 31) مناديًا بين النَّاس بوجوب التَّوبة قبل مجيء المسيح ليُعدَّ قلوبهم لقبوله عند مجيئه، لأنَّه شهد بأم عينيه يسوع المسيح وعرفه وأمن به وعاش واختبر ما يشهد به كما أعلن يوحنا نفسه: "أَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله" (يوحنا 1: 34). ويُعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس" هنيئًا ليُوحَنَّا لأنّه أراد أن تسبق التَّوبةُ موضوع الدَّينونة كي لا يُحكم على الخطأة بل أن يكافؤوا. لأنّه أراد أن يدخل الأشرار إلى المَلكوت وليس أن يُلقى عليهم العقاب" (العظة 167)؛ فالشهادة في الإنجيل أمرٌ جوهري، وقد تكرَّر مصطلح الشهادة أكثر من 40 مرَّة. أمَّا عبارة "يَشهَدَ لِلنَّور " فتشير إلى رسالة يُوحَنَّا المَعْمَدان، وهذه الشَهَادَةٌ تكمن بما "رأى وسمع" عن المسيح (يُوحَنَّا 3: 32). وهو الشَّاهد الأوّل ليسوع، علمًا أن مفهوم الشَهَادَةٌ في الإنجيل هو أمرٌ جوهريّ، إذ تكرَّر مُصطلح الشَهَادَةٌ أكثر من أربعين مرّة. وهذا الأمر حدث خاصة عند معمودية يسوع " وشَهِدَ يُوحَنَّا قال: ((رَأَيتُ الرُّوحَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كأَنَّه حَمامَة فيَستَقِرُّ علَيه. وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس. وَأَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله" (يُوحَنَّا 1: 32-34). لم يكن المسيح بحاجة إلى من يشهد له، فهو شَّاهد لنفسه بنوره، إنَّما كان يُوحَنَّا السِّراج الحامل لنور المسيح فيه، كما جاء في إنجيل يُوحَنَّا البشير: "كانَ يُوحَنَّا السِّراجَ المُوقَدَ المُنير" (يُوحَنَّا 5: 35). ورد فعل "شهد" 33 مرة في إنجيل يُوحَنَّا، ومرة واحدة في إنجيلي متى ولوقا، ولم يَردْ في إنجيل مرقس. أمَّا عبارة " لِلنَّور" فتشير إلى نور طبيعي بضوء الشَّمس والقمر، ونور اصطناعي بالزيوت وغيرها. وقد استعمل الكتاب النُّور في معان رمزية. فالله نور (1 يُوحَنَّا 1: 5)، وهنا يدل النُّور على المسيح، كما صرَّح يسوع نفسه "أَنا نورُ العَالَم" (لوقا 9: 5) وكما جاء أيضًا في تعليم يُوحَنَّا المَعْمَدان " آمِنوا بِالنُّور، ما دام لكُمُ النُّور لِتَصيروا أَبناءَ النُّور " (يُوحَنَّا 12: 36)، واخذ يُوحَنَّا علامة من الله لكي يعرف المسيح "أَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس" (يُوحَنَّا 1: 33). أمَّا عبارة " فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاس " فتشير إلى غاية شهادته هي الإعلان عن شخص السّيد المسيح، حتى يؤمن جميعُ النَّاس به، فيتمتعوا به نورًا في هذا العَالَم، ومجدًا في الحياة الأخرى، لآنَّ كل من يؤمن تكون له الحياة والخلاص. قصد الله عن شهاد يُوحَنَّا المَعْمَدان أن يُفتح على يده أبواب الإيمان للجميع. ولو أتى المسيح بالمَجد الذي كان له في السّماء قبل إنشاء العَالَم لم يحتاج إلى شَاهدٍ، وإنما احتاج إلى ذلك، لأنَّه جاء بصورة بشر. أمَّا عبارة " شَهادتِه " فتشير إلى شَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان، وهي شَهَادَةٌ بشريَّة إلهيَّة، شَهَادَةٌ لا يقوم بها البشر إلاَّ بدعوة يخصُّهم الله بها، وهي حالة دعوة الأنبياء، (أشعيا 55: 4). ودعوة الرُّسل والكهنة (أعمَال الرُّسل 1: 8). فالشَهَادَةٌ تقوم على المعرفة والمسؤولية لإعلان الحقيقة وتفنيد الكذب والزُّور. وقد وردت لفظة شَهَادَةٌ 14 مرة في إنجيل يُوحَنَّا، ولم تردْ في إنجيل متى، إنَّما وردت ثلاث مرات في إنجيل مرقس، ومرة واحدة في إنجيل لوقا. ونجد في الأناجيل شهادات كثيرة للمسيح منها: شَهَادَةٌ الآب (يُوحَنَّا 5: 31)، وشهادته لنفسه (يُوحَنَّا 8: 14)، وشَهَادَةٌ الرُّوح القدس (يُوحَنَّا 15: 26)، وشَهَادَةٌ أعمَال المسيح (يُوحَنَّا 5: 36)، وشَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان (يُوحَنَّا 1: 7)، وشَهَادَةٌ التَّلاميذ (يُوحَنَّا 15: 27). 8 لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ تشير عبارة " لم يَكُنْ هو النُّور" إلى نور يُوحَنَّا المَعْمَدان الصّادر من نور المسيح الذي له النُّور في ذاته، ويهبه لغيره: " يُنيرُ كُلَّ إِنْسان آتِيًا إلى العَالَم " (يُوحَنَّا 1: 9)، حيث صرّح يسوع بقوله "أَنا نُورُ العَالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة" (يُوحَنَّا 8: 12)، وفي موضع آخر يقول "جِئتُ أَنا إلى العَالَم نورًا فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام." (يُوحَنَّا 12: 46). المسيح هو النُّور الأزليّ، النُّور الذي لا زمنَ له، والذي ظهرَ في الزَّمنِ، ظهرَ في جسدِه وخَفِيَ في طبيعتِه، النُّور الذي أحاطَ بالرُّعاةِ، وقادَ المَجُوسَ في الطَّريق. وحيث أن يسوع هو النُّور، الذي لا يعرف الظُلمة، والحياة التي لا تعرف المَوت، والمحبَّة الموجَّهة إلى كلّ شخص على وجه الأرض دون تمييز. يسوع يدعونا للسَّير في النُّور، والسّير في النُّور يعني مشاركة بعضنا البعض، كما يقول يُوحَنَّا الرَّسُول " وأمَّا إِذا سِرْنا في النُّور كما أَنَّه هو في النُّور فلَنا مُشارَكةٌ بعضُنا مع بَعض "(1 يُوحَنَّا 1: 7)، حيث لا مشاركة لله دون مشاركة لإخوتنا. أمَّا عبارة "جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور" فتشير إلى يُوحَنَّا المَعْمَدان الذي لا يدعو التَّلاميذ ليتبعوه، بل ليتبعوا يسوع، وإلى الإيمان به حيث ظنَّ بعض التَّلاميذ أنَّ يُوحَنَّا هو المسيح. وفي الواقع، يُوحَنَّا هو الشَّاهد للنُّور، ليس النُّور، هو الشَّاهد للمسيح، ليس المسيح نفسه، يُوحَنَّا رفيق العَريس، ليس العَريس (يُوحَنَّا 3: 29). ويُعلق القدس أوغسطينوس " هكذا كان يُوحَنَّا نورًا، لكنَّه لم يكن النُّور الحقيقي، لأنه لو لم يستنرْ لكان فيه ظلمة، لكنَّه بالاستنارة صار نورًا". 19 وهذه شَهَادَةٌ يُوحَنَّا، إِذ أَرسَلَ إِلَيه اليَهودُ مِن أُورَشَليمَ بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ يَسأَلونَه: ((مَن أَنتَ؟)) تشير عبارة "إِذ أَرسَلَ إِلَيه" في الأصل اليوناني ὅτε ἀπέστειλαν (معناها حين أرسل) إلى ذلك الوقت بعد وقت المَعْمودِيَّة ورجوع يسوع المسيح من تجربته أربعين يومًا في البرِّية؛ أمَّا لفظة "اليهود" التي وردت 70 مرة في إنجيل يُوحَنَّا فتشير إلى سبط يهوذا ، لكنَّها أطلقت بعد السّبي على كل الأسباط ، لأن الرَّاجعين إلى بلادهم، بعد السّبي، كان أغلبهم من سبط يهوذا. وفي إنجيل يُوحَنَّا تدلُّ هذه اللفظة على أعضاء شعب إسرائيل (يُوحَنَّا 3: 25)، ولكنَّها تدلُّ في أغلب الأحيان على الفئة المُتعصبة والمُقاومة للمسيح التي قامت بصلبه. وبهذا المعنى تصف هذه الكلمة خاصة السُّلطات القائمة (يُوحَنَّا 2: 1-8) الذين يرفضون المسيح. ولفظة اليهود هنا جاءت للدَّلالة على الوفد الذي أرسله المجلس الأعلى من اورشليم للتحقيق في نشاط يُوحَنَّا المَعْمَدان. أمَّا عبارة "مِن أُورَشَليمَ" فتشير إلى لِجنة مختارة أرسلها مجمع السّنهدريم اليهودي من اورشليم. وغاية إرساله إيَّاها هو الفحص عن دعاوي يُوحَنَّا المَعْمَدان الذي التفَّت حوله الجموع العظيمة وظنِّ كثيرون منهم أنَّه المسيح (لوقا 3: 15)؛ وإرسال تلك اللجنة دليلٌ على شدَّة تأثير يُوحَنَّا المَعْمَدان في مواعظه. أمَّا عبارة "بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ" فتشير إلى قسم من أعضاء مجمع السّنهدريم اليهودي الذين كانوا يستمدُّون سلطتهم من وظيفتهم الدِّينية. والكهنة هم فرقة من اللاويين، من نسل هارون وكان أكثر الكتبة من اللاويين الذين كان يقومون بخدمة الهيكل. وكان مجمع السّنهدريم مؤلفًا في أُورُشَلِيمَ من واحد وسبعين شيخًا، يرأسهم عظيم الكهنة. وأعضاؤه يؤلِّفون من ثلاث فئات: فئة "رؤساء الكهنة" من المُتقاعدين القائمين بالخدمة الكهنوتية من العائلة الكهنوتية العُليا؛ وفئة "شيوخ الشَّعب" وهم خدَّام الهيكل من اللاويين؛ وهم من قبيلة لاوي الذين ارتبطوا بالهيكل وبشعائر العِبادة (عدد 3: 17-37) واهتموا بالتَّعليم أيضًا، وبهذه الصفة أُرسِلوا إلى يُوحَنَّا المَعْمَدان. وفئة "الكتبة" هم علماء الشَّريعة المُختصُّون رسميًا للتَّعليم بها. وبالإجمال كان هذا المجمع اليهودي صورة لمجلس الشَّيوخ القديم (عدد11: 16). هذه هي المرة الوحيدة، التي وردت فيها كلمتا "كهنة ولاويين" مُتَّحدتين معًا في العهد الجديد. لما انجذبت جماهير غفيرة إلى يُوحَنَّا، اهتز مجلس السّنهدريم خاصة كانت الأفكار مُشبعة وقتئذٍ بانتظار المسيح الموعود به في الأنبياء، وخاصة أن البعض ً ظنَّه المسيح المُنتظر؛ فأرسلوا وفدًا ليحقِّقوا في نشاط يُوحَنَّا المَعْمَدان، ذاك الإنسان الذي لم يسمح له أحدٌ بأن يعلم. وقد جاء في "المشنا" أن مُحاكمة أي نبيٍّ كاذبٍ هو من اختصاص مجلس الواحد والسّبعين (سنهدريم1: 5). وباختصار فإننا نجد شَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان أمام وفد السّنهدريم (يُوحَنَّا 1: 19-28). وهي نقطة فاصلة في رسالة يُوحَنَّا المَعْمَدان. أمَّا عبارة " مَن أَنتَ؟" فتشير إلى استجواب وفدِ مجلس السّنهدريم الذي يحوم حول وظيفة يُوحَنَّا التي ادَّعى انه نالها من السّماء، كي يتوصلوا من خلالها لمعرفة شخصية المسيح المنتظر، وقد أشار المسيح في خطابه إلى مُهِمَّة يُوحَنَّا بعد ذلك " كانَ يُوحَنَّا السِّراجَ المُوقَدَ المُنير ولقَد شِئتُم أَنتُم أَن تَبتَهِجوا بِنورِه ساعةً " (يُوحَنَّا 5: 33). 20 فاعتَرفَ ولَم يُنكِرْ، اِعتَرَفَ: "لَستُ المسيح تشير عبارة " فاعتَرفَ ولَم يُنكِرْ، اِعتَرَفَ " إلى ثلاث كلمات، الكلمتان الواقعتان في الطرفين هما إيجابيتان (اعترف) والكلمة المركزية سلبية (لم ينكر). وذُكرت الكلمات الثَّلاث معًا تأكيداً على صراحة وصدق شَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان وبيان أهميتها حيث أنَّه أظهر استعداده باعترافه، وبعدم إنكاره؛ وباعترافه قدَّم برهانًا قاطعًا على شهادته. وهي شَهَادَةٌ رسميَّة أمام وفدٍ رسمي. كان جواب يُوحَنَّا المَعْمَدان جوابًا صريحًا قاطعًا. كل هذا التَّأكيد، لأنَّ جماعة من تلاميذ يُوحَنَّا ظلت تؤمن به وترفض المسيح، كما جاء في أعمَال الرُّسل "ولَمَّا أَوشَكَ يُوحَنَّا أَن يُنهِيَ شَوطَه قال: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاه ها هُوَذا آتٍ بَعدي ذاكَ الَّذي لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه"(أعمَال الرُّسل 13: 25)، فرفض يُوحَنَّا كل دعوى في أنه هو المسيح وأبى الإكرام الذي استعدَّ النَّاس أن يقدموه باعتباره المسيح. يُعلمنا يُوحَنَّا أن نقرّ بمكاننا "ونعرف قدر أنفسنا". أمَّا عبارة "لَستُ المسيح" فتشير إلى جواب يُوحَنَّا المَعْمَدان الذي بلغ به قمة التَّواضع، وأظهر حقيقة أمره (يُوحَنَّا 1: 19). ويُعلق القديس أوغسطينوس "حسِبَ النَّاسُ أنّه المسيح، فقالَ إنّي لستُ كما تَحسَبُون، فلم يستغلَّ ضلالَ غيرِهِ ليَصنَعَ لنفسِهِ مجدًا" (عظة 293). إن شَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان هي غُرَّة تاريخ الإنجيل، إذ هي أول مرة سمع فيها رؤساء اليهود كلمة البشارة (الإنجيل) مواجهة. أمَّا عبارة " المسيح " فتشير بالنسبة لليهود إلى المسيح المنتظر بمعناه القومي والسِّياسي، أمَّا في المسيحية فتشير إلى المسيح المنتظر بمعناه الفادي والمخلص وبما لسيادته من طابع إلهي، كما جاء في عظة بطرس الرَّسُول الأولى " فَلْيَعْلَمْ يَقينًا بَيتُ إِسرائيلَ أَجمَع أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا " (أعمَال الرُّسل 2: 36). فالمسيح هو في آن واحد إنسان أصله معروف (يُوحَنَّا 6: 42)، وهو إله أصله السّماوي يُخفى على البشر. هنا نجد صدى مجادلات بين اليهود والمَسيحيِّين طوال القرن الأول، كما ورد في إنجيل يُوحَنَّا: " على أَنَّ هذا نَعرِفُ مِن أَينَ هو، وأَمَّا المسيح فلا يُعرَفُ حينَ يأتي مِن أَينَ هو " (يُوحَنَّا 7: 27). 21 فسأَلوه: ((مَن أَنتَ إِذاً؟ أَأَنتَ إِيلِيَّا؟)) قال: ((لَستُ إِيَّاه)). ((أَأَنتَ النَّبِيّ؟)) أَجابَ: ((لا! )) تشير عبارة " مَن أَنتَ إِذًا؟ " إلى سؤال وفد السّنهدريم عن هوية يُوحَنَّا المَعْمَدان؛ أمَّا سؤال " أَأَنتَ إِيلِيَّا؟" فتشير إلى اعتبار اليهود أن إيليا النَّبي لم يمتْ بل انتقل إلى السّماء قبل ذلك بنحو 900 سنة (2 ملوك 2: 11)، وأنه يعود ليُعلن نهاية العَالَم بحسب بنبوءة ملاخي، وليُعِدَّ الشَّعب للقاء المسيح من خلال لمِّ شمله في الوَحدة والأمانة (متى 17: 11)، ويَحضّ النَّاس مرة أخيرة على التَّوبة قبل الدَّينونة العَامة (متى 11: 14)؛ وكان الكتبة يعلمون أن إيليا ينبغي أن يأتي قبل المسيح (متى17: 10) ثم سيره مع المسيح على الأرض ومسحه إياه وتعميد النَّاس عمومًا وفقا لقوله تعالى. وهذا الاعتقاد الخاطئ ناشئ عن سوء فهم سفر ملاخي (4: 5). ولقد جاء في التَّلمود أن إيليا النبي سوف يظهر قبل المسيح. فهناك مجيء أول (ملاخي 1:3) يسبقه فيه يُوحَنَّا المَعْمَدان، ومجيء ثانٍ (ملاخي 5:4) يسبقه فيه إيليا، فأشار يسوع لمجيء المعمدان كسابق له في مجيئه الأول ولكن بروح وقوة إيليا واكتفى بذلك. ويًعلق القديس أوغسطينوس "لو أنه قال: "أنا إيليا" يكون ذلك بمعنى أن المسيح قادم فعلًا في مجيئه الثَّاني للدَّينونة، وليس في مجيئه الأول ليُحَاكم... لقد جاء كرمزٍ (لوقا 1: 17) حيث يأتي فيما بعد إيليا بشخصه اللائق به، أمَّا الآن ففي شبهه (بروحه) جاء يُوحَنَّا". أمَّا عبارة "لَستُ إِيَّاه" فتشير إلى جواب يُوحَنَّا الجريء والصَّريح في قوله "لست أنا" أي لست شخص إيليا بالذات، والإنجيل يتكلم هنا مَجازيًا قاصدًا "روح" إيليا لا "ذات" إيليا، وذلك بحسب قول الملاك لزكريَّا عن ابنه يُوحَنَّا "يَسيرُ أَمامَه وفيهِ رُوحُ إيليَّا وَقُوَّتُه" (لوقا 1: 17). وأمَّا سؤالهم "أَأَنتَ النَّبِيّ؟ فيشير إلى "النَّبي" الذي تنبأ عنه موسى بقوله " يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون" (تثنية الاشتراع 18: 15)، وهذه النبوة استخدمها بطرس (اعتمال الرُّسل 3: 22) وإِسْطِفانُس (أعمَال الرُّسل 37:7). وكان انتظار نبي في الأزمنة الأخيرة، الذي ما بعده نبي، منتشرًا في البيئات اليهودية. ويُعلق القديس يُوحَنَّا الذَّهَبي الفم " لم يقولوا ليُوحَنَّا: أنبي أنت؟ أي هل أنت واحد من الأنبياء؟ لكنهم سألوه قائلين "النَّبي أنت؟" بإضافة أداة التَّعريف. بمعنى هل أنت النَّبي الذي أخبر عنه موسى (تثنية الاشتراع 18: 15)؟ أنكر هذا المعنى، ولم ينكر أنه نبيٌ، لكنه أنكر أنه هو ذاك النَّبي". وكان من المعتقد لدى الكثيرين أنَّ النَّبوءة ستعود إلى الظهور مع مجيء المسيح (يوئيل2: 28؛ وملاخي 3: 1). أمَّا كلمة "لا" فتشير "لا النَّافية" فتدل على جواب يُوحَنَّا الصَّريح القاطع. نفى يُوحَنَّا أن يكون النَّبي المُنتظر على مثال موسى النبي. وقد استنتج بعضهم خطأ، أن " النَّبي" هو ذاك الذي ظهر في بلاد العرب في أواخر القرن السّادس وأوائل القرن السّابع بعد الميلاد. ويظهر بطلان هذا الاستنتاج من سؤال هؤلاء الفرِّيسيين أنهم كانوا يقصدون نبيًا يأتي قبل المسيح ليُهيئ الطَّريق له، وأمَّا نبي العرب فقد ظهر بعد المسيح. وواضح أيضًا أن نبي العرب ظهر للعرب لا لليهود، ولم يستمع اليهود لرسالته. أمَّا المسيح فقد قيل فيه عند المَعْمودِيَّة: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيب، فلَهُ اسمَعوا" (مرقس9: 7) كما ورد في كلام موسى "فلَه تَسْمَعون" (تثنية الاشتراع 18: 15). ومما يسترعي الانتباه في هذه الآية أن جواب يُوحَنَّا كان في كل مرة يزداد اقتضابًا واختصارًا فمن قوله " لَستُ المسيح " إلى قوله " لَستُ إِيَّاه "، إلى قوله "لا". فشَهَادَةٌ يُوحَنَّا تُعلن انه ليس المسيح أو إيليا أو النَّبي الذي تنبأ عنه موسى. 22 فقالوا له: ((مَن أَنتَ فنَحمِلَ الجَوابَ إلى الَّذينَ أَرسَلونا؟ ماذا تَقولُ في نَفسِكَ. تشير عبارة "مَن أَنتَ فنَحمِلَ الجَوابَ إلى الَّذينَ أَرسَلونا؟ ماذا تَقولُ في نَفسِكَ " إلى استمرار رؤساء اليهود بالضغط على يُوحَنَّا المَعْمَدان ليصرِّح من هو، لان الشَّعب كان ينتظر مجيء المسيح، كما جاء في إنجيل لوقا "وكانَ الشَّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يُوحَنَّا هل هو الـمَسيح"(لوقا 3: 15)؛ لكن يُوحَنَّا ركّز فقط على سبب مجيئه وهو إعداد الطَّريق أمام المسيح. فرَضت تلك اللجنة من اليهود ثلاثة فرائض وهو: أن يُوحَنَّا المَعْمَدان هو إمَّا المسيح، وإما أيليا، وإما واحد من الأنبياء القُدماء قام من بين الأموات (متى 16: 14)، فانكر يُوحَنَّا المَعْمَدان أنه واحد من هؤلاء. 23 قال: " أَنا صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: قَوِّموا طَريقَ الرَّبّ. كَما قالَ النَّبِيُّ أَشَعْيا" تشير عبارة " أَنا صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة" إلى رسالة يُوحَنَّا المَعْمَدان ولا إلى شخصيته مُقتبسًا جوابه من أشعيا النَّبي "صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: َعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وآجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة" (أشعيا 40: 3)، إذ يبدأ أشعيا بالعزاء الكبير، الذي يُعلن نهاية العبودية وبداية زمن جديد. لذلك لم يتردَّد يُوحَنَّا المعمدان بالاستشهاد بكلمات النَّبي أشعيا ليحمل الآخرين على اكتشاف انه شاهد على هذا الزمن، وليحملهم للوصول إلى النَّتيجة واتخاذ القَرار بالاعتراف بالمسيح. لم يُصرّح أشعيا النَّبي عن اسم صاحب هذا الصَّوت. لكن يُوحَنَّا المَعْمَدان طبّق هذه النَّبوءة على رسالته في دعوة الشَّعب إلى التَّوبة، استعدادا لمجيء المسيح. حوّل يُوحَنَّا بجوابه التفات النَّاس عنه إلى موضوع مناداته للملك الآتي لإتمام النبوءة الواردة في أشعيا " صَوتُ مُنادٍ في البَرِّيَّة: ((أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وآجعَلوا سُبُلَ إِلهِنا في الصَّحْراءِ قَويمة" (أشعيا 40: 3). أراد الفِرِّيسيُّون أن يعرفوا من هو يُوحَنَّا، أمَّا يُوحَنَّا فأراد أن يعرِّفهم من هو يسوع المسيح، وهذه هي شَهَادَةٌ المَعْمَدان بحقيقة رسالته ودوره. جاء يتمِّم ما ورد في الكتب، وأنه يحمل سلطانًا إلهيًا كسابقٍ للمسيح ليُهيِّئ له الطَّريق. أمَّا عبارة " أَنا صَوتُ " فتشير إلى إعلان يُوحَنَّا انه ليس سوى " صَوتُ " ومُهِمّته الإعداد لمجيء المسيح القريب. نفى يُوحَنَّا أنَّ يكون إيليا وصرّح أن له شخصية مستقلة عن الأنبياء السّابقين، إنما قال، بكل تواضع وإخلاص، بأنّه لم يكن سوى صوت يُنادي النَّاس بالاستعداد لمجيء المَلك والمسيح الرَّبّ الممسوح. ويُعلق العلامة أوريجانوس "يُوحَنَّا يشبه الصَّوت في علاقته بالمسيح الذي هو الكلمة". وأمَّا عبارة " مُنادٍ " في الأصل اليوناني βοῶντος (معناه صارخ) فتشير إلى الذي يتقدَّم في الطليعة صارخًا "هوذا الملك القادم! فأعدُّوا الطَّريق أمامه". ويُعلق العلامة أوريجانوس "ماذا يعني بالصراخ. إنه لا يعني الصَّوت الخارجي المرتفع أو الصِّياح، لكنه يتكلم مع الله والنَّاس بلغة الرُّوح التي يسمعها الله حتى وإن صمت اللسان، والتي تخترق قلوب النَّاس. ولهذا يقول أيضًا داود: " إلى اللهِ صَوتي فأَصرُخ إلى اللهِ صَوتي فإِلَيَّ يُصْغي" (مزمور 76: 2). أمَّا عبارة " البَرِّيَّة " فتشير إلى البَرِّيَّة اليهودية التي تبعد نحو 32 كم شرقي أورشليم، عند هضبة قريبة من نهر الأردن حيث عاش يُوحَنَّا صِباه، كما جاء في إنجيل لوقا (لوقا 1: 80)؛ وللبَرِّيَّة رنة عميقة. هناك عاش شعب العهد القديم بداية مسيرته مع الرَّبّ. وإلى هناك أراد الرَّبّ أن يُعيد شعبه كما قال الرَّبّ على لسان النَّبي هوشع "هاءَنَذا أَستَغْويها وآتي بِها إلى البَرِّيَّةِ وأُخاطِبُ قَلبَها" (هوشع 2: 16). أمَّا عبارة "قَوِّموا طَريقَ " فتشير إلى عادة مألوفة حيث إذا ذهب الملك إلى مكان ٍوعرٍ يعبِّد النَّاس له الطَّريق، وذلك برفع الأماكن الواطئة وإزالة المرتفعة. ترمز روحيًا الأماكن الواطئة إلى الكذب والأنانيّة والازدواجيّة، والأماكن العالية ترمز للكبرياء والتَّعلق بعظمة العَالَم. ودون هذا وذاك نستطيع أن نعدَّ الطَّريق للرب ليسكن في حياتنا. ويعلق القديس أوغسطينوس " قَوِّموا طَريقَ؟ معناه: صلُّوا كما يجب أن تكون الصلاة. ما معنى " قَوِّموا طَريقَ؟ تواضعوا في فكْرِكم" (عظة 293). ومن هنا تأتي الدعوة إلى الارتداد، وبشكل خاص إلى تغيير فكرنا وسلوكنا لنسير في طريق الرب المُخلص. 24 وكانَ المُرسَلونَ مِنَ الفِرِّيسِيِّين عبارة " الفِرِّيسِيِّين " في الأصل اليوناني Φαρισαῖος للفظة العِبرية הַפְּרוּשִׁים (أي المفروز) الذين يُطلقون على أنفسهم هاسيديم חסידות (الأتقياء) تشير إلى حزب ديني محافظ، وقد انفصل عن الشَّعب وتَعلق بشريعة موسى كما تعلق بالشَّريعة غير المكتوبة أي تقليد الشَّيوخ (متى 15: 2)، وهم جزء من السّنهدريم المسؤول عن الحالة الرُّوحيَّة للامَّة اليهوديَّة، وهم غير حزب الصدُّوقيين أو الاسِّينيين. وكان الفِرِّيسيُّون غيورين في حفظ شريعة موسى وتقاليد الشَّيوخ، لذلك فحصوا عن علة تعميد يُوحَنَّا المعدان الناَّس، ولم تكن غايتهم من السؤال الوقوف على الحق بل المُقاومة كعادتهم (لوقا 7: 30). وكثيرًا ما ندَّد يسوع المسيح ويُوحَنَّا المَعْمَدان بهؤلاء الفِرِّيسِيِّين. وكان الكثيرون منهم يُطيعون شريعة الله ظاهريًا كي يظهروا للنَّاس أنَّهم أتقياء، لكن في الواقع، كانت قلوبهم مملؤة من الكبرياء والجشع والأنانية (متى 5: 20). وقد جاءوا لرؤية يُوحَنَّا لتقصي الحقائق حول هويته وكان في أذهانهم أربعة احتمالات وهي: هل المعمدان هو النَّبي الذي سينطق بكلمات الله (تكوين 18: 15)، أو إنه إيليا (ملاخي (4:5)، أو انه المسيح المنتظر أو إنَّه نبيٌ كاذب؟ 25 فسَأَلوهُ أَيضًا: "إِذا لم تَكُنِ المسيحَ ولا إِيلِيَّا ولا النَّبِيّ، فلِمَ تُعَمِّدُ إِذًا؟ تشير عبارة " إِذا لم تَكُنِ المسيحَ ولا إِيلِيَّا ولا النَّبِيّ" إلى سؤال الفِرِّيسِيِّين ليُوحَنَّا بأنه لو كان أحد أولئك الثَّلاثة له الحقَّ أن يُعمِّد بناء على قول حزقيال النَّبي " أَرُشُّ عليكم ماء طاهِرًا، فتَطهُرونَ مِن كُلِّ نَجاسَتِكم، وأُطَهِّرُكم مِن جَميعِ قَذاراتِكم. وأُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم " (36: 25-26) أو قول زكريا النَّبي " في ذلك اليَوم، يَكون يَنبوعٌ مَفْتوحٌ لِبَيتِ داوُدّ ولِسُكَّانِ أُورَشَليم، لِلخَطيئَةِ والرِّجْس" (13: 1). أمَّا عبارة " المسيح" في الأصل اليوناني Χριστός مشتقة من العبرية הַמָּשִׁיחַ) إلى المشيح، الذي أنبأ به الأنبياء ومهّدوا له السَّبيل، ومنهم يُوحَنَّا المَعْمَدان، والمسيح في الأصل هو الممسوح بالزَّيت من اجل خدمة معينة. ويُمسح الملك (1 صموئيل 16: 10) والكاهن (خروج 40: 13-15) والنَّبي، ولكن الشَّعب لم ينتظر مسيحًا مثل سائر المُسحاء، بل انتظر المسيح. وفي المسيحية، المسيح هو الكلمة المتجسدة والمُتألم والقائم من بين الأموات، وهو ابن الله. أمَّا عبارة " فلِمَ تُعَمِّدُ إِذًا؟ " فتشير إلى تعجب الفِرِّيسِيِّين من تعميد يُوحَنَّا مع نفيه انه ليس أحد أولئك الثَّلاثة: لا المسيح، ولا أيليا ولا النَّبي. إن تعصب الفِرِّيسِيِّين الدِّيني أخرجهم عن حدود مُهِمَّتهم التي انتدبوا لها، وبدلا من الاكتفاء من استجوابهم المعمدان عن شخصه، شرعوا يستجوبونه عن معموديته، لأنه بعمَّاده لليهود القادمين بالتَّوبة يكون قد تعامل معهم كمن هم من الأمم الوَثنيِّين إذ "كانَتْ تَخرُجُ إِليهِ أُورَشليم وجَميعُ اليهوديَّةِ وناحيةُ الأُردُنِّ كُلُّها، فيَعتَمِدونَ عَنِ يدِهِ في نَهرِ الأُردُنِّ مُعتَرِفينَ بِخَطاياهم" (متى 3: 5-6) وعندما سأل الفَرِّيسيُّون يُوحَنَّا بأي سلطان كان يُعمِّد، فهم إنما كانوا يتساءلون "لماذا تعامل شعب الله المختار مثل الأمميين؟ حيث كان العماد شائعًا جدًا بين اليهود، إذ كانوا يُعمِّدون الدَّاخلين إلى الإيمان اليهودي لكي يتمتع الدَّخيل بكمال الحقوق التي تخصُّ المؤمن، لأنهم كانوا يعتقدون أن المَعْمودِيَّة هي الباب الذي منه يدخل الأمم إلى الدِّين اليهودي. فلا بُد َّمن معمودية مميّزة يقوم بها "المسيح" أو النَّبي الذي يهيئ الطَّريق له، لذلك سألوه قائلين: "فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح، ولا إيليا، ولا النَّبي"؟ 26 أَجابَهُم يُوحَنَّا: ((أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه تشير عبارة " أَجابَهُم يُوحَنَّا " إلى جواب يوحنا إلى سؤال المرسلين من قبل الفِرِّيسِيِّين انه هو سابق المسيح وان عمله إنما هو تهيئة الطَّريق أمامه " وأَنا لَم أَكُنْ أَعرِفُه، ولكِنَّ الَّذي أَرسَلَني أُعَمِّدُ في الماءِ هو قالَ لي: إِنَّ الَّذي تَرى الرُّوحَ يَنزِلُ فيَستَقِرُّ علَيهِ، هو ذاكَ الَّذي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُس" (يُوحَنَّا 1: 33) وزاد يُوحَنَّا المَعْمَدان على ذلك في بعض الأحيان كما ورد في إنجيل متى " إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار " (متى 3: 11). أمَّا عبارة " أَنا أُعَمِّدُ في الماء " إلى تأكيد يُوحَنَّا أن طقس معموديته كان تطهيريًا. فهي إذًا معمودية تعتبر رمزية، تمهيدية، جسدية، وقتية وخارجية للتَّوبة. لكن معمودية المسيح بالرُّوح القُدس هي معمودية جوهرية، داخلية، روحية ودائمة. ويُعلق القديس يُوحَنَّا الذَّهَبي الفم "معمودية يُوحَنَّا هي مجرد ظل وصورة. لكن يأتي من يضيف إليها الحقيقة." أمَّا عبارة "بَينَكم مَن لا تَعرِفونَه" في الأصل اليوناني μέσος ὑμῶν ἕστηκεν (معناها في وسطكم حضر) فلا تشير إلى عدم معرفة شخص يسوع من حيث انه شخص بشري، بل عدم التَّحقق أنه هو المسيح المنتظر، ابن الله بالجوهر، والذات، والطَّبيعة. لم يعرفونه، لأنَّه كان في رأسهم تصوّر خاص، للتّعرّف عليه. فهم لا يعرفون يسوع انه صورة الله غير المنظور، وبهاء مجده، وصورة جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. فكان غاية يوحنا هنا أن يُسلِّط النظر على يسوع المسيح. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير" قد باح يُوحَنَّا بسرٍّ حين كشف أنّ الرَّبّ يسوع المسيح موجودٌ بين البشر وهم لا يعرفونه، لأنّ الرَّبّ لمّا اتّخذ جسمًا، صار له جسدٌ مرئيٌّ للبشر بينما احتجب مجده الإلهي". لم يأت المسيح بمظهر الملوك، بل جاء وضيعًا، "لا صورَةَ لَه ولا بَهاءَ فنَنظُرَ إِلَيه " (أشعيا 53: 3)، جاء يُعمِّد بالرُّوح القدس لمغفرة الخطايا؛ وهو دور لا يقدر عليه سوى المسيح، ابن الله على إدائه وإتمامه. وكم كان جارحًا لهم أن يسمعوا من فم المعمدان هذه الكلمة: " لا تَعرِفونَه "، في وقت كانوا يدَّعون فيه أنهم "حملة مفاتيح المعرفة" (لوقا 11: 52)؛ والحقيقة فإن المسيح الذي يبحثون عنه هو بَينَهم الآن ولكنهم لا يعرفونه. هذه الكلمات تذكِّرنا بكلمات حزقيال النَّبي " يا ابنَ الإِنْسان، أَنتَ ساكِنٌ في وَسْطِ بَيتِ تمَرُّد، لَهم عُيونٌ لِيَرَوا ولا يَرَون، ولَهم آذان ليَسمَعوا ولا يَسمَعون، لأَنَّهم بَيتُ تَمَرّد" (حزقيال 12: 2). إن عدم خِبْرَة المعرفة هي خِبْرَة متكرّرة في الإنجيل: خِبْرَة نيقوديموس (يوحنا 3: 10)، والمَرأة السَّامرية (يوحنا 4: 29)، والرجل الأعمى منذ مولده (يوحنا 9: 36)، وخِبْرَة جميع التلاميذ بعد موت وقيامة السيد المسيح، بدءاً من مريم المجدلية التي لم تعرف الرب (يوحنا 20: 14)، حتى التلاميذ بعد قيامة الرب على بحيرة طبرية (يوحنا 21: 4). وكم مرَّة يكون المسيح في وسطنا ونحن لا نعرفه، كما ورد في إنجيل يُوحَنَّا “جاءَ إلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" (يُوحَنَّا 1: 11) إمَّا لخطيئة فينا، أو لقساوة قلوبنا، أو بسبب الظُلمة في عيوننا. ويُعلق القديس يُوحَنَّا الذَّهَبي الفم "يا للعجب إنه خالق العَالَم بقدرته، وقد نزل إليه ليحلَّ في وسطنا، ويبعث بنوره إلينا وفينا، لكن العَالَم الشَّرير رفضه، مُفضِّلًا جهالة الظلمة عن معرفة النُّور". أثبت يُوحَنَّا المَعْمَدان أنَّ المسيح قد أتى والنَّاس جهلوه. ولا يزال يظهر المسيح نفسه، في المَرضى والعَطشى والجِياع والغُرباء والمَسجونين والمُهمَّشين والمُتألمين، إذ قال " أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه" (متى 25: 45). هو دائما موجود بيننا، فهل نحن مستعدون أن نتعرف عليه؟ الإنسان لا يستطيع أن يعرف يسوع إلا بعين القَلب والإيمان. 27 ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. تشير عبارة "ذاكَ الآتي بَعدِي" إلى يُوحَنَّا الذي ولد تاريخيًا وبشريًا قبل يسوع، ويسوع جاء بعده في التَّاريخ، لكن يسوع يفوقه على الأطلاق في أصله ورسالته الإلهية "لأنه إله مولود من إله، مولود من الآب قبل الدُّهور" (يُوحَنَّا 1: 15). في الموكب الرَّسمي الأخير هو الأهم. وهنا أشار يُوحَنَّا إلى شهادته السَّابقة " شَهِدَ له يُوحَنَّا فهَتف: هذا الَّذي قُلتُ فيه: إِنَّ الآتيَ بَعْدي قد تَقَدَّمَني لأَنَّه كانَ مِن قَبْلي " (يُوحَنَّا 1: 15). أمَّا عبارة " لَستُ أَهلاً " فتشير إلى عدم استحقاق يُوحَنَّا أن يكون عبدًا للمسيح، أمَّا المسيح فيقول عنه إنه "لَيسَ في أَولادِ النَّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا"(لوقا 7: 28). ويعلق القدّيس كيرِلُّس بطريرك أورشليم " َتَنبّأ يُوحَنَّا حين كان في أحشاء أمّه وارتكض فرحًا في أحشاء أمّه. بفعل الرُّوح القدس، وقبل أن يراهُ بعينيه البَشريّتين، تعرّفَ إلى المعلِّم يسوع. فإنّ عظمة نعمة المَعْمودِيَّة كانت تَستَوجب رجلاً عظيمًا"(تعليم مسيحي للموعوظين، 3). فإن كان المعمدان الإنسان العظيم أحسَّ بعدم استحقاقه أن يكون عبدًا للمسيح، فكم بالحري يجب علينا أن نُضع جانبًا كبرياءنا لنخدم المسيح. أمَّا عبارة " أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه " فتشير إلى وصف يُوحَنَّا المَعْمَدان مقامه تجاه المسيح، وهو مقام الخادم الوضيع. جاء في التَّلمود أنَّ التَّلميذ يجب أن يقوم لمعلمه بكل الخدمات التي يقوم بها الخادم لسيده ما عدا أن يفكَّ رِباطَ حِذاء سيِّده. ويُوحَنَّا بقوله هذا كأنه يقول أنا لست مستحقًا أن أكون تلميذًا للمسيح بل خادمًا له. وبهذا الأمر يتبرَّأ يُوحَنَّا المَعْمَدان من ادِّعاء أي سلطان وكرامة شخصيين، ويشهد باستحقاق المسيح وفضله. ويُعلق القديس أوغسطينوس " ظهر تواضع يُوحَنَّا المَعْمَدان عظيمًا. عندما قال إنه غير مستحق لفعلِ هذا. إنه كان حقًا مملوءً من الرُوح القدس الذي به عرف نفسه كخادم سيده، وتأهَّل أن يكون صديقًا عوض خادم ". توخّت شَهَادَةٌ يُوحَنَّا أن تعلن تفوق يسوع على يُوحَنَّا المَعْمَدان، لبعض الجماعات التي ظلت ترتبط بيُوحَنَّا المَعْمَدان (أعمَال الرُّسل 19: 3). واكّد بولس الرَّسُول هذا التَّفوّق بقوله "إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ مَعمودِيَّةَ تَوبَة، داعِيًا الشَّعبَ إلى الإِيمانِ بِالآتي بَعدَه، أَي بِيَسوع " (أعمَال الرُّسل 19: 4). أمَّا عبارة " رِباطَ حِذائِه" فتشير إلى نعل الذي يلبسه الرِجِل برباط من الجلد. وكان حل ذلك الرباط من الأعمَال الخاصة بالعبيد " مَن لَستُ أَهْلاً لأَن أَخلَعَ نَعْلَيْه" (متى 3: 11). أثبت يُوحَنَّا المَعْمَدان أنَّ المسيح عظيم جدًا، وان يُوحَنَّا متواضعًا فلم يحسب نفسه أهلا لان يخدم المسيح كعبد بالرُّغم شهادة يسوع له قائلا:" الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يَظهَرْ في أَولادِ النِّساءِ أَكبَرُ مِن يُوحَنَّا المَعْمَدان " (متى 11: 11). ويُعلق الطوباويّ غيريك ديغني " إنّ ما صَنَعَ عظمة يُوحَنَّا، وما جعله عظيمًا بين العظماء، هو أنّه تَوَّج فضائله بالتَّواضع" (العظة الثَّالثة عن يُوحَنَّا المَعْمَدان). نحن نرى في يُوحَنَّا المَعْمَدان نموذجًا لرُوحانيّتنا، حيث نعرف صِغرنا وعَدَمنا، بأنّنا لسنا أهلاً لأن نفكّ حتّى رباط حذاء المسيح. شَهَادَةٌ يُوحَنَّا هي أول كرزة واضحة مقنعة عن يسوع أعلنها بصوته أمام جماهير متلهّفة لسماع أي خبر عن مجيء المُخلّص المنتظر. 28 وجَرى ذلك في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ، حَيثُ كانَ يُوحَنَّا يُعَمِّد تشير عبارة "بَيتَ عَنْيا" إلى اسم آرامي בֵּית־עַנְיָה (معناه "بيت البؤس أو البائس). وليس المقصود بها هنا قرية لعازر القريبة من اورشليم (يُوحَنَّا 11: 1) المعروفة حاليًا باسم العيزرية، بل بلدة تقع على شاطئ الأردن كما ورد في إنجيل يُوحَنَّا " وعبَرَ الأَردُنَّ مرَّةً أُخْرى فذهَب إلى حَيثُ عَمَّدَ يُوحَنَّا في أَوَّلِ الأَمْر، فَأَقامَ هُناك " (يُوحَنَّا 10: 40). وأطلق على الموقع أيضا اسم بيت عبرة Bethabara في العِبريَّة בֵית הָעֲרָבָה מֵעֵבֶר לַיַּרְדֵּן أي بيت عبرة وهو اسم عبري בֵית הָעֲרָבָה معناه "بيت المخاضة" أي مكان ضحل الماء يخوضه النَّاس مشاةً أو رُكابًا لقلة عُمق مياهه، والعِبرة اسم مدينة تقع على الضفة الشَّرقية لنهر الأردن حيث يظنُّ أنَّه موضع المخاضة التي عبر فيها العبرانيون النَّهر أيام يشوع وحيث عمّد يُوحَنَّا المَعْمَدان يسوع المسيح (يُوحَنَّا 1: 28-29). ويظهر اسم بيت عبرة " على خريطة مادبا من القرن السَّادس وفي التَّلمود اليهودي. يستخدم الاسم في عدد من المخطوطات الإنجيلية القديمة كالسِّريانية والآرامية والبيشيتا والأرمينية والجورجية حيث يستخدمون اسم بيت عبرة " بدل بيت عنيا. ودعم هذه التَّرجمة كل من أوريجانوس (القرن الثَّالث) ويُوحَنَّا فم الذهب (القرن الرابع). ثانياً: تطبيقات النَّص الإنجيلي (يُوحَنَّا 1: 6—8، 19-28) بعد دراسة موجزة عن وقائع النَّص الإنجيلي (يُوحَنَّا 1: 6—8، 19-28)، نستنتج انه يتمحور حول شَخصِيَّة يُوحَنَّا المَعْمَدان وشهادته ليسوع المسيح. أولا: شَخصِيَّة يُوحَنَّا المَعْمَدان (يُوحَنَّا 1: 6-8): وصفت مقدِّمة إنجيل يُوحَنَّا البشير شخصية يُوحَنَّا المَعْمَدان: اسمه "يُوحَنَّا " هو رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله، ورسالته هي الشِّهادة لِلنَّور. وإن غاية الشَهَادَةٌ هو الإيمان، لأنّ كل من يؤمن بالمُخلّص يسوع تكون له الحياة والخلاص (يُوحَنَّا 19: 35). ويؤكد بطرس الرَّسُول ذلك بقوله: " فلا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أعمَال 4: 12). يشكّل المعمدان جسرًا يربط ما بين العهد القديم والعهد الجديد، إذ هو آخر أنبياء العهد القديم الذي يُشير إلى طريق المسيح المُنتظر. وهو أول الشَّاهدين في العهد الجديد وشهدائه. " في الواقع، كان يُوحَنَّا خاتمةَ الأنبياء، "فجَميعُ الأنبياء قد تَنَبّأوا، وكذلك الشَّريعة، حتّى يُوحَنَّا" (متى 11: 13)؛ وقد افتَتَحَ يُوحَنَّا المَعْمَدان عهد الإنجيل كما هو مكتوب: "بَدءُ بِشارَة يسوع المسيح... ظَهَرَ يُوحَنَّا المَعْمَدان في البريَّة، يُنادي بِمَعمودِيّةِ تَوبَةٍ لِغُفران الخطايا" (مرقس 1: 1–4)" ويُعلق القدّيس كيرِلُّس، بطريرك أورشليم "أنه البشير الّذي يعدّ الطَّريق ليسوع ويعلن رسالته إلى النَّاس قائلا: " هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العَالَم" (يُوحَنَّا 1، 29) (تعليم مسيحي للموعوظين، 3). الفرق عظيم بين الكلام عن يُوحَنَّا المَعْمَدان والكلام عن المسيح: حيث الواحد " إنسان" والآخر " الكلمة، كما يصفه يُوحَنَّا البشير: "في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله"؛ الأول " رَجُلٌ مُرسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يُوحَنَّا "، والثَّاني " الله". واعتقد كثيرون من اليهود أنَّ يُوحَنَّا المَعْمَدان هو المسيح (لوقا 3: 15)، لأنَّه ظهر نبيًا عظيمًا بعد ختام النَّبوءات بنحو أربع مئة سنة، وسمع النَّاس أنباء حوادث ولادته الغريبة، وتأثَّروا من جُرأته وقوَّة مواعظه (لوقا 3: 15) فصرَّح يُوحَنَّا الإنجيلي أنَّ يُوحَنَّا المَعْمَدان ليس هو المسيح، وكرَّر عدة مرات: "لست إيّاه" (يوحنا 1: 20، 21). إنَّما هو الرَّسُول الموعود به ليُهِّي الطَّريق أمام المسيح "هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي فيُعِدُّ الطَّريق أَمامي" (ملاخي 3: 1)، واعترف يُوحَنَّا المَعْمَدان بحقيقة أمره وميّز بينه وبين المسيح معترفًا أنَّه ليس المسيح إنَّما شاهدا للمسيح، وليس لحياته معنى إلاَّ بالمسيح كان يُوحَنَّا المَعْمَدان يحبّ المسيح أكثر من نفسه مُبيِّنًا ذلك بتواضعه، كما أعلن: "لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يُوحَنَّا 3: 30)، وكان يجتهد في ازدياد مجد الرَّبّ يسوع المسيح جاعلا نفسه أصغر، ومؤكّدًا بتصرّفه هذا ما قاله الرَّسُول بولس: "فلَسْنا نَدْعو إلى أَنْفُسِنا، بل إلى يسوعَ المسيحِ الرَّبّ. وما نَحنُ إِلاَّ خَدَمٌ لَكم مِن أَجْلِ يسوع" (2 قورنتس 4: 5). لقد تحقّق هذا الإقرار في مجيء المسيح على الأرض. اعترف يُوحَنَّا أنه "لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور" (يُوحَنَّا 1: 8). لم يكن يوحنا شاهدًا لنفسه، ولم يأت ليتحدَّث عن نفسه أو حتى ليجعل الناس يتحدثون عن نفسه إنما هو شاهد للنور، ويسوع هو النُّور (يُوحَنَّا 1: 7). يُوحَنَّا ليس مصدر نور الله، لكنه يعكس ذلك النُّور. إنَّ المسيح اختاره لكي ينعكس نوره على العَالَم غير المؤمن، فدور يُوحَنَّا ليس أن يقدِّم نفسه إلى الآخرين على انه النُّور، بل يوجِّههم إلى المسيح النُّور الحقيقي. يُوحَنَّا صوت الكلمة (يُوحَنَّا 1: 23)، ويسوع هو الكلمة (يُوحَنَّا 1: 1). ويعلق القديس أوغسطينوس " يُوحَنَّا صوتٌ عابرٌ، والمسيحُ هو الكلمةُ الأزليُّ الكائنُ منذُ البدء. عرَّف يُوحَنَّا نفسِه أنّه الصَّوتُ فقط، لكيلا يكونَ عائقًا دونَ معرفةِ الكلمة أي المسيح" (عظة 293). وإن معرفة الكلمة المُتجسِّد، المسيح يسوع، تُهدي جماعة المؤمنين إلى الاشتراك على وجه يزداد في فيض الخيرات الرُّوحية الذي فيه وبه وحده " ومِن مِلْئِه نِلْنا بِأَجمَعِنا وقَد نِلْنا نِعمَةً على نِعمَة" (يُوحَنَّا 1: 16). يُوحَنَّا هو نبيٌ، ويسوع هو المسيح المنتظر. يُوحَنَّا هو إنسان، يسوع هو الله. يُوحَنَّا هو الخادم الذي يُصغي ويُطيع، ويسوع هو السَّيد والمعلم، يُوحَنَّا هو رفيق العَريس، ويسوع هو العَريس (يُوحَنَّا 3: 29) الذي حقَّق العهد. يُوحَنَّا يُعمّد بمعمودية الماء، ويسوع يعمِّد بمعمودية الرُّوح القدس والنَّار. ويعلق القديس أوغسطينوس "أين هي الآن معموديّةُ يُوحَنَّا؟ لقد أدَّى خدمةً ثم غاب. أمَّا معموديّةُ المسيح فإنَّنا نَقْبَلُها حتى اليوم. كلُّنا نؤمنُ بالمسيح، ونرجو الخلاصَ من المسيح" (عظة 293). يُوحَنَّا هو الشَّاهد للمسيح، ويسوع هو المسيح المشهود له أنَّه "حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العَالَم" (يُوحَنَّا 1: 29). أكان يُوحَنَّا يشير إلى حمل الله الذي رمز الحمل الذي قُدِّم بدل اسحق (تكوين 22: 13) أم هو رمز حمل الذَّبيحة اليوميَّة (خروج 29: 48)؟ أم هو الذي أشار إليه حمل الكفَّارة ويوم الفصح؟ (الخروج 2: 12 و13). يسوع المسيح هو حمل الفصح الذي يرمز إلى فداء الشَّعب، كما يرمز إلى عبد الرَّبّ المتألم الذي يخلِّص شعبه بآلامه وموته من خطايا العَالَم مهما امتدَّت في الزَّمان والمكان، كما ورد في نبوة أشعيا (52: 13-53: 12)، " وما مِن مَغفِرَةٍ بِغَيرِ إِراقَةِ دَم" (العبرانيين 9: 22). ومن هنا انطلقت أنشودة المسيحية الخالدة "مات المسيح لأجلي". ثانيًا: مُهِمَّة يُوحَنَّا المَعْمَدان الشِّهَادة ليسوع المسيح تستهل مقدمة إنجيل يُوحَنَّا بشَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان التَّاريخية، فقد بشّر يُوحَنَّا المَعْمَدان بمجيء يسوع كلمة الله المُتجسد، وأكَّد يُوحَنَّا خضوعه "ليسوع -الكلمة" الذي ينبغي أن تكون له الأولوية. واخذ يشهد للمسيح ألآتي إلى العَالَم دالاً النَّاس إلى إيمانٍ حيٍ فيه (يُوحَنَّا 1: 6-7). 1) يُوحَنَّا شاهد للمسيح: ركز الإنجيلي يُوحَنَّا على شَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان للمسيح، والشَّاهد مَنْ شاهد بأمّ عينيه. ليس هو الشَّخص الّذي يسمع ما يُقال، بل من كان حاضرًا، سمع ورأى وعرف الأمور، وعاشها واختبرها. المَعْمَدان شاهد للمسيح لأنه رأى الرُّوح القدس يستقر عليه، وسمع صوت الآب شاهدًا للمسيح أنه ابنه الحبيب وآمن به. والمسيح أشار لشَهَادَةٌ المعمدان عنه "هُناكَ آخَرُ يَشهَدُ لي وأَنا أَعلَمُ أَنَّ الشَهَادَةٌ الَّتي يَشهَدُها لي صادِقَة. أَنتُم أَرسَلْتُم رُسُلاً إلى يُوحَنَّا فشَهِدَ لِلحقَّ"(يُوحَنَّا 32:5-33). ويُعلق القدّيس ايرينيوس "بما أنّ يُوحَنَّا كان شاهدًا، قالَ الرَّبّ إنّه كان أفضل من نبيّ. أعلنَ الأنبياء الآخرون مجيء نور الآب وتمنّوا أن يستحقّوا رؤية ذاك الذي كانوا يبشّرون به. تنبّأ يُوحَنَّا مثلهم، لكنّه رآه حاضرًا، وأقنعَ الكثيرين بأن يؤمنوا به، إلى حدّ أنّه لعبَ دور النَّبيّ والرَّسُول في آنٍ معًا. لذا، قالَ الرَّبّ يسوع المسيح عنه إنّه "أفضل من نبيّ". وغاية شَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان هي إيمان التَّلاميذ والشَّعب بيسوع المسيح. لم يلتفت يُوحَنَّا الإنجيلي إلى شخصيَّة يُوحَنَّا المَعْمَدان، وإنَّما ركّز على شهادته للمسيح. وقد بدأت شَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان لمّا انتهى زمن وعود الأنبياء وبدء زمن الوفاء بالوعود، وذلك بحضور يسوع المسيح ابن الله على الأرض نورًا يُهدي خطواتنا. ومن هذا المنطلق، شَهَادَةٌ يُوحَنَّا المَعْمَدان مبنيَّةٌ على ما رأته عيناه وسمعته أذناه: "أَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ (يُوحَنَّا 34). فقدّم لنا نظرة شخصية عن يسوع المسيح ابن الله الوحيد الأبدي. وقد " سار يُوحَنَّا أمام الرَّبّ بروح إيليّا وقدرته" (لوقا 1: 17)، فكان "السِّراجَ المُوقَدَ المُنير" (يُوحَنَّا 5: 35)، ويُعلق القدّيس أوغسطينوس " كيف أتى الرَّبّ يسوع المسيح؟ لقد ظهر كإنسان. لأنّه كان إنسانًا إلى حدّ أنّ الطبيعة الإلهيّة اختفت فيه، أُرسل رجلٌ مُميّزٌ يُوحَنَّا ليسبقه ويُعرّفه للنّاس بأنّه أكثر من إنسان، بل هو الرَّبّ يسوع المسيح" (العظة الثَّانية عن إنجيل القدّيس يُوحَنَّا). عرّفنا يُوحَنَّا بمَن يُعطي النُّور ويُنير، بمَن هو مصدر كلّ عطاء، وهو يسوع المسيح. وقد قبل يُوحَنَّا المَعْمَدان أنَّ يكون شاهدًا للنور، وأن يترك نفسه في مهب الرُّوح ليقوده حيثما يشاء، ليُصبح خادمًا لحياة الله وكلمته وسط النَّاس. قد شهد للمسيح أمام الشَّعب اليهودي وأمام تلاميذه وأمام السُّلطات الدِّينية والسِّياسيَّة. أ) شَاهِد للمسيح أمام الشَّعب: مهَّد يُوحَنَّا المَعْمَدان الطَّريق بالتَّوبة للمسيح في البرِّيَّة، وأعاد قلوب الآباء إلى الأبناء وقلوب الأبناء إلى الآباء (لوقا 1: 17). إنّنا بِفَضِلِهِ تعرَّفنا إلى نور المسيح الّذي "يَشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدرِكْه الظُّلُمات" (يُوحَنَّا 1: 5). فهو أوّل مَن ثقَّفَ الكنيسة، وبدأ بتنشئتها على التَّوبة، وحضَّرَها من خلال المعموديَّة؛ وبعد أن انتهى من تهيئتِها على هذا الشَّكل، سلَّمَها للرّب يسوع المسيح (يُوحَنَّا 3: 29). لقد علَّمَها كيفيّة العيش في الزُّهد، وبموته منَحَها القوّة على الموت بشجاعة. بهذا كلِّه، أعدّ يُوحَنَّا "لِلرَّبِّ شَعبًا مُتأَهِّبًا" (لوقا 1: 17). ويُعلق القدّيس ايرينيوس "إنَّ يُوحَنَّا كان يُعِدُّ شعبًا من خلال إعلانه المُسبق لمُرافِقيه الّذين كانوا يَحيون في العُبوديّة من خلال تبشيرهم بالتَّوبة، لكي يكونوا مستعدّين لقبول المغفرة يوم مجيء المسيح ليَعودوا إلى ذاك الذي ابتعدوا عنه نتيجة خطاياهم". ب) شَاهِد للمسيح أمام تلميذيه اندراوس ويُوحَنَّا الإنجيلي (يُوحَنَّا 1: 35 – 37): وجَّه يُوحَنَّا المَعْمَدان أنظار تلميذيه اندراوس ويُوحَنَّا الإنجيلي إلى المسيح مُشيرًا إليه كحمل الله: "حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العَالَم" (يُوحَنَّا 1: 29، 36) ثم دُعيًا إياهما إلى البيت الذي كان المسيح ساكنًا فيه فصارا تلميذين للمسيح وشاهدا مُعجزاته فرأيا مجده (يُوحَنَّا 2: 11). ثم صارا فيما بعد رسولين، بل عمودين في الكنيسة المقدسة. ج) شَاهِد للمسيح أمام السُّلطات الدِّينية والسِّياسية: لم تقتصر شَهَادَةٌ المعمدان أمام الشَّعب اليهودي وتلاميذه، بل أمام مجمع السنهدريم الدِّيني وأمام هيرودس الملك. سُئل القديس يُوحَنَّا المَعْمَدان من قِبل السُّلطات الدِّينية اليهودية: " من أنت؟" (يُوحَنَّا 1: 19: 22). لأنَّ كانت مُهِمَّة السنهدريم حسب النَّاموس أن يتحقَّقوا من أيِّ إنسان يَدَّعي النَّبوءة (تثنية الاشتراع 1:13-2)، ويحقِّقوا معه. فأوضح يُوحَنَّا المَعْمَدان لهم أنه ليس المسيح، ولا إيليا (2 ملوك 11:2)، ولا النَّبي المُخلص (تثنية الاشتراع 15:18)، بل أعلن أنَّه مُجرَّد "صوت" (أشعيا 40:3)، وتنبأ عن مجيء المسيح (يُوحَنَّا 1: 23). عندئذ سألته السُّلطات: "إن كنت لا تحتل مركزًا رسميًا في الخدمة، فلماذا تعمد؟" كانت أجابته أن معموديته ليس غاية في ذاتها، بل هي تهيئة لعمل روحي أعظم يُحقِّقه ذاك الذي يأتي بعده وهو كائن قبله، وهو المسيح، وأنَّه غير مستحق أن ينحني ليَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. ويعُلق القديس يُوحَنَّا الذَّهَبي " لقد ظن السُّلطات الدِّينية أن خضوع يُوحَنَّا للمسيح شيء لا مُبرِّر له، لأن أمورًا كثيرة كانت تُظهر يُوحَنَّا عندهم بهيًا جليلاً، أولها جنسه وجلالته وظهور شرفه، لأنه كان ابنًا لرئيس كهنتهم، ثم طعامه وصعوبة طريقته، وإعراضه عن الممتلكات المَاديَّة كلها، ولأنَّه كان مُهابًا بثوبه ومائدته وسكنه وطعامه بعينه". وبالرُّغم من كل ذلك، اعترف يُوحَنَّا المَعْمَدان أنَّه ليس بالمسيح المنتظر "فاعتَرفَ ولَم يُنكِرْ، اِعتَرَفَ: "لَستُ المسيح " (يُوحَنَّا 1: 20). ونفي أنه المسيح، وكان نفيه قاطعًا، إذ أن كثيرون ظنُّوا أنَّه المسيح " كانَ الشَّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يُوحَنَّا هل هو الـمَسيح"(لوقا 3: 15). استمر يُوحَنَّا المَعْمَدان على هذا التَّأكيد، لأنَّ جماعة من تلاميذ ظلت تؤمن به وترفض المسيح. لم تكن شهادة يُوحَنَّا المَعْمَدان للمسيح بلسانه فحسب، إنما أيضا بموته واستشهاده على يد هيرودس انتيباس، إذ واجهه بحقيقة الفَحْشاء التي ارتكبها مع هيروديا، امرأة أخيه (متى 14: 3). وناضل من أجل الحقيقة حتّى الموت، ويعلق القدّيس مكسيمُس الطورينيّ " وموته أظهر الحقيقة وأدان علاقة هيرودس غير الشَّرعيّة بزوجة أخيه" (العظة 36)، وهكذا مهّد طريق الرَّبّ يسوع المسيح حتّى في مثواه، فكان شهيدًا للمسيح قبل آلامه في سبيل إحقاق الحق. فدوره هو أن يشعَّ نور يسوع في قلب كلّ إنسان، ويكفيه أن يكون شاهدًا للنور. وكان شاهدَ الإيمان وعلامة الرّجاء الّتي شكّلها العديد من شهود الإيمان في أيامنا الحاضرة في الشَّرق. عرف يُوحَنَّا المَعْمَدان أن يعيش حياة الإنجيل في ظروفٍ عدائيّة وظروف اضطهاد، أدّت إلى الشَهَادَةٌ الأخيرة بسفك دمه "الذَبيحَة الحَيَّة المُقَدَّسة المَرْضِيَّة عِندَ الله" (رومة 12: 1). كان واثقًا أنّه لا يستطيع أن يحيا من دون الرَّبّ يسوع المسيح، وأنّه مستعدُّ للموت من أجله وَفقًا لقناعته بأنّ يسوع هو الرَّبّ وهو مُخلّص البشر، وأنّ به وحده يستطيع الإنسان أن يجد ملء الحياة الحقيقيّة مُؤمنًا بما قاله الرَّبّ "مَن يَتبَعْني يكونُ له نورُ الحَياة" (يُوحَنَّا 8/12). ويتوقع شهود الإنجيل نفس المصير على هذه الأرض (رؤيا 11: 7). وما أكثر الذين يسفكون دمهم "في سبيل كلام الله والشَهَادَةٌ التي يشهدوها للمسيح"(رؤيا 6: 9). ثالثا: يُوحَنَّا شاهد لمجيء المسيح ورسالته (يُوحَنَّا 1: 19-28) ترتبط شَهَادَةٌ يُوحَنَّا بكشف الهُوة القائمة بين الذين يؤمنون باسم يسوع والذين لا يؤمنون. فإن وصول وفد من الكهنة واللاويين من اورشليم الذين حضروا إلى بيت عبرا في الأردنِّ لتوجيه سؤالا إلى يُوحَنَّا المَعْمَدان بخصوص المَعْمودِيَّة والتَّصريحات التي أعلنها (يُوحَنَّا 1: 19). يسال الكهنة واللاَّوِيّونَ بسلطان " مَن أَنتَ؟" (يُوحَنَّا 1: 19)، ويُوحَنَّا ينفي في إجابته أنه المسيح أو إيليا أو النَّبي الذي تنبَّا عنه موسى (يُوحَنَّا 1: 20-21). ومرة أخرى يُلحون عليه بان يُخبرهم ماذا يقول عن نفسه (يُوحَنَّا 1: 22) فيعلن أنه مجرد "صوت صارخ في البرية" أمام المسيح (يُوحَنَّا 1: 23) وأمَّا مُهِمَّته فهي إعداد الطَّريق للمسيح. وعند سؤاله بعد ذلك، يؤكد أن طقس معموديته كان تطهيريًا إعداديًا لمجيء المسيح، ويتبرأ من ادعاء أي سلطان، ويشهد باستحقاق وفضل يسوع المسيح الحاضر الآن. أراد الفَرِّيسيُّون أن يعرفوا من هو يُوحَنَّا المَعْمَدان، أمَّا يُوحَنَّا فأراد أن يُعرِّفهم من هو يسوع. فهو لم يجلبهم إلى نفسه، بل حوّل القلوب والعقول نحو الآخر، وبالتحديد نحو المسيح الرَّبّ. "بَينَكم مَن لا تَعرِفونَه" (يُوحَنَّا 1: 26). فقد بيّن يُوحَنَّا أنَّ أشخاص كثيرين من معاصريه لم يفهموا يسوع، ولم يتمكَّنوا من سبر غور شخصيته. نتذكّر في الزَّمن السّابق لميلاد الرب يسوع، توالي الأجيال من موسى إلى يُوحَنَّا المَعْمَدان هو زمن الأنبياء وهو الزَّمن الذي كانوا يرون فيه الرَّبّ رهيبًا مُخيفًا. لأنَّهم لم يكن يعرفونه حقًا. وفي وسط الدَّهشة العامة التي أحدثها يُوحَنَّا المَعْمَدان، جعل يخبر النَّاس ويعلن أنَّ المسيح آتٍ بعده وأنَّه يُعمّد بالرُّوح القدس، ويُوحَنَّا المَعْمَدان، "الذي سار أمام الرَّبّ بروح إيليّا وقدرته" (لوقا 1: 17)، بشّر بالمسيح مُعلنًا أنّه هو "الذي سيعمّد بالرُّوح القدس والنَّار" (لوقا 3: 16). وأمَّا يُوحَنَّا المَعْمَدان فهوغير مستحق أن يفك رباط حذاءه" أَنا أُعَمِّدُ في الماء، وبَينَكم مَن لا تَعرِفونَه ذاكَ الآتي بَعدِي، مَن لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه"(يُوحَنَّا 1: 26-27). اكتشف يُوحَنَّا سر عظمة يسوع الإلهية، وهو "يغفر الخطايا بالحقيقة، وهو دور لا يقدر سوى المسيح، ابن الله، على إدَّائه وإتمامه. ففي معمودية يسوع تتضمن القوَّة المطلوبة لعمل إرادة الله. شهد يُوحَنَّا للمرة الثَّالثة عن عظمة يسوع المسيح، إذ إنَّه يأتي بعده (يُوحَنَّا 1: 27) مع أن المسيح الأزلي السَّابق له، وأنه واهب النِّعم والمُخبر عن الآب (يُوحَنَّا 1: 15-18)، مُوضِّحًا أنه غير " أَهلاً لأَن يَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" (يُوحَنَّا 1: 26-27)، وهو قائم في وسطهم ولم يعرفوه. ويعلق العلامة أوريجانوس "لا تظنَّ أن السَّبب أن يُوحَنَّا المَعْمَدان حمل الشَهَادَةٌ لكي يضيف شيئًا إلى الثِّقة في سيِّده. لا، وإنما لكي يؤمن أولئك الذين من ذات طبقته البشر. لقد سبق وأخبرنا يُوحَنَّا نفسه، إذ يقول: "لكي يؤمن الكل بواسطته". لم يَكْرِز يُوحَنَّا المَعْمَدان فقط فِي زمانه مُعلِنًا مجيء الرَّبّ قَائِلاً: "أَعِدُّوا طَريقَ الرَّبّ وٱجعَلوا سُبُلَه قويمة" (متى 3: 3). بل ها هو شاهدٌ لنا، فهو يصرخ اليوم أيضًا في داخِلنا ورَعْدُ صوتِه يَهُزُّ صحراء خطايانا... وصوتُه ما زال مُدويًا اليوم، طالبًا منَّا أن نُعِدَّ طريقَ الرَّبّ ليس بشقّ طريقٍ بل من خلال نقاوة إيمانِنا. ويُعلق العلَّامة أوريجانوس "أعتقد أنّ سرّ يُوحَنَّا المَعْمَدان ما زال يَتمّ في العَالَم حتّى يومنا هذا. فكلّ مَن قُدِّرَ له أن يؤمن بالرَّبّ يسوع المسيح، يجب بدايةً أن تحلّ فيه روح يُوحَنَّا المَعْمَدان وقدرته، لكي "يُعِدَّ لِلربِّ شَعبًا مُتأَهّبًا" (لوقا 1: 17)" (عظات عن إنجيل القدّيس لوقا). فيا حبّذا لو تحلّينا بروح يُوحَنَّا المَعْمَدان هذه الأيام، بل ولبسنا روحه، لنبشّر للأجيال النَّاشئة، بحياتنا ومثلنا وأقوالنا. أليس شرفًا أن نكون صوت الله في هذا العَالَم؟ رسم يُوحَنَّا نفسه طريقه لمجيء الرَّبّ يسوع المسيح، إذ كان رصينًا ومتواضعًا وفقيرًا. "وكانَ على يُوحَنَّا هذا لِباسٌ مِن وَبَرِ الإِبِل، وحَولَ وَسَطِه زُنَّارٌ مِن جِلْد. وكان طَعامُه الجَرادَ والعَسلَ البَرِّيّ" (متى 3: 4). ويُعلق القدّيس مكسيمُس الطورينيّ : "فهل من علامة أكبر للتواضع من أن يزدري المرء الملابس النَّاعمة ويستبدلها بالوبر الخشن؟ وهل من علامة أفضل للإيمان المُترسّخ من أن يكون المَرء وحقويه مَشدودين جاهزًا دومًا لجميع واجبات الخِدمة؟ وهل من علامة للتخلّي أكثر إشراقًا من أن يتغذَّى المَرء من الجرادِ والعسلِ البرِّي؟" (العظة 88). الخلاصة شهد يُوحَنَّا المَعْمَدان أنَّ يسوع ليس مجرد إنسان، إنه ابن الله الأبدي، نور العَالَم لأنه يهب عطية الحياة الأبدية لكل من يؤمن به. يا لها من مغالطة أن نعتبر أن يسوع مُجرَّد إنسان صالح، أو معلم للفضيلة والأخلاق أو نبيًا فقط. إنما يسوع المسيح هو ابن الله فعلينا واجب الانتباه لهويته الإلهية ورسالته التي تمنح الحياة، وينشأ الإيمان في النَّاس بقبول هذه الشَهَادَةٌ، كما جاء في تعليم بولس الرَّسُول "قد قُبِلَت شَهادَتُنا عِندَكم بِإِيمان" (2 تسالونيقي 1: 10). نحن بدورنا واجبنا أن نكون شهودًا للمسيح على خُطى يُوحَنَّا المَعْمَدان. نحن لسنا مصدر نور الله، لكننا نعكس فقط نور المسيح كما قال "جِئتُ أَنا إلى العَالَم نورًا فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام." (يُوحَنَّا 12: 46). يُوحَنَّا مهد لنا نور المسيح ونور المسيح يساعدنا نرى طريقنا إلى الله، ويوضِّح لنا كيف نسير في تلك الطَّريق. وطلب منا يُوحَنَّا المَعْمَدان أيضًا أن نشهد له فنكن نور العَالَم بأعمَالنا الصَّالحة، كما وضّح في إنجيل متى "أَنتُم نورُ العَالَم...فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أعمَالكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات" (متى 5: 14-16). وبهذا نحن لا نشهد بالكلام فقط، إنّما أيضًا بالأعمَال: "وكُلَّ رُوحٍ يَشهَدُ لِيَسوعَ المسيح الَّذي جاءَ في الجَسَد كانَ مِنَ الله" (1يُوحَنَّا 4: 2). إننا، مثل يُوحَنَّا المَعْمَدان، لسنا مصدر نور الله، لكننا نعكس فقط ذلك النُّور. أما النُّور الحقيقي فهو يسوع المسيح. وهو الذي يُعيننا أن نرى طريقنا إلى الله، ويوضَّح لنا كيف نسير في ذلك الطَّريق. فقد أراد المسيح أن ينعكس نوره من أتباعه على العَالَم غير المؤمن. الدُّعاء أيها الأب السَّماوي، يا من أرسلت ابنك يسوع المسيح إلى العَالَم ليُخلص به العَالَم، فهو بيننا وفي داخلنا، ونحن لا نعرفه بل نتجاهله. ساعدنا كي نكتشف حضوره. إنَّه يبدو بعيدًا، بينما هو أقرب النَّاس إلينا. يبدو غائبًا وهو حاضرٌ في داخلنا، دعنا نهيئ ميلاده فينا. تعالَ أيها الرَّبّ إلينا واجعلنا شهودًا لنورك في عالم يسوده الظُلمة واليأس والفشل والخطيئة والموت (أشعيا 61، 1-2)، فنعدّ القلوب لاستقباله مُخلصا الذي يُعيد لنا جميعا الفرح والشفاء والسَّلام المحبَّة. أتمنّى للجميع أحدًا مباركًا. |
|