تاريخ الاعتذارات قديم
خطية المبررات قديمة بقدم البشرية، منذ أبوينا آدم وحواء..
حاول آدم أن يبرر خطيته بأن المرأة أعطته. وحاولت حواء أن تبرر خطيتها بأن الحية أغرتها. ولكن الله ما قبل عذرا من آدم ولا من حواء. ولا حتى وجد هذه الأعذار تستحق الرد أو المناقشة. بل على العكس عاقب آدم على الذر الذي قدمه، وقال له في مقدمة عقوبته "لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة.." (تك 3: 7). وللأسف. توارثنا نحن خطية التبرير هذه من آدم وحواء عبر الأجيال..
بل أن قديسا عظيما مثل إبراهيم أبى الآباء، وقع في هذه الخطية عينها، لما قال عن سارة إنها أخته (تك 20: 2: 11).
وبسبب هذا أخذها أبيمالك ملك جرار على بيته. وكان من الممكن أن يقترب إليها، لولا أن الرب منعه في حلم وأنذره بالموت بسبب ذلك.. فلما عاتب أبيمالك أبانا إبراهيم قائلا له "بماذا أخطأت إليك، حتى جلبت على وعلى مملكتي خطية عظيمة؟! أعمالا لا تعمل عملت بي!".. أجاب أبونا إبراهيم بمحاولة يبرر فيها مسلكه، وقال "إني قلت ليس في هذا المكان خوف الله البتة، فيقتلوني لأجل امرأتي" (تك 10: 11).
وما أسهل الرد على هذا التبرير، الذي ألقى فيه المسئولية على غيره..
لأنه يمكننا أن يقول: ولماذا أتيت يا أبانا إلى هذا المكان الذي لا يوجد فيه خوف الله؟ ولماذا أقمت فيه ولم تتركه مادام هو هكذا؟ وهل دخلت هذا المكان بإرشاد من الله الذي قال لك من بدء دعوتك "اذهب.. إلى الأرض التي أريك" (تك 12: 1). وهل يجوز يا أبانا أن تضحى بامرأتك من أجل سلامتك، وتعرضها بهذا الخطر اقتراب رجل غريب إليها، وتعرض هذا الغريب لغضب الله؟! ولماذا تلجأ إلى هذه الطرق لحمايتك، دون اللجوء على معونة الله؟!
ويبدو أن أبانا إبراهيم لما وجد التبرير، استمر وجعله سياسة ثابتة!
وهكذا قال لزوجته في صراحة تامة "هذا هو معروفك الذي تصنعينه إلى: في كل مكان نأتي إليه، قولي عنى هو أخي" (تك 20: 13). وبهذا كان ممكنا في كل مكان يحلان فيه أن تتكرر نفس المشكلة، لأن إبراهيم وجد تبريرًا لذلك (تك 20: 12)، ولم يقل: هي زوجتي! يندر أن يقول إنسان "أنا أخطأت "مادام أسلوب التبرير ممكنا.
وقد تكون الخطية واضحة جدًا، لا تقبل النقاش، ومع ذلك لا مانع من أن تقدم عنها تبريرات وأعذرًا
مثال ذلك صاحب الوزنة الواحدة الذي أخذها ودفنها في حفرة في الأرض، دون أن يتاجر بها ويربح كزميليه.. هذا أيضًا لما حاسبه سيده لم يخجل من أن يقدم تبريرا وعذرا، ولكنه حسبما يقول المثل "عذرًا أقبح من ذنب".. فقال "يا سيد، عرفت أنك إنسان قاس، تحصد من حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبذر، فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض" (مت 25: 24، 25). وطبعا لم يقبل الرب هذا العذر منه، وأمر بطرحه في الظلمة الخارجية.
مخالفة يونان النبي للرب، وكانت مخالفة واضحة، وأيضًا كان لها تبرير!
هرب يونان من الرب، ورفض أن يذهب إلى نينوى حسب أمر الرب، بل ذهب بسفينة على ترشيش. ولما أرجعة الرب، وكرز لأهل نينوى وتابوا "رغم ذلك يونان غما شديدًا فاغتاظ "ومع ذلك قدم تبريرا لموقفة، ليثبت أنه على حق، فقال "آه يا رب، أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضى. لذلك بادرت بالهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم بطئ الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر. فالآن يا رب خذ نفسي منى، لأن موتى خير من حياتي" (يون 4: 1-3).هذا هو العذر الذي قدمه النبي ليبرر به مخالفته للرب، وحزنه على خلاص 120 ألف نسمة!! من يقبل هذا الكلام؟!
خطية واضحة أخرى، وهي أن شاول الملك أصعد محرقة للرب، وهو ليس كاهنا.. ومع وضوح الخطية قدم لها تبريرات..
فلما وبخه صموئيل النبي على ذلك، لم يقل "أخطأت"، ولم يقدم ندما وتوبة، إنما قدم أعذارًا وتبريرات..! فقال للنبي "لأني قد رأيت أن الشعب تفرق عنى، وأنت لم تأت، والفلسطينيون متجمعون في مخماس.. فتجلد ت وأصعدت المحرقة" (1صم 13: 11، 12)
وطبعا لم يقل النبي منه هذه الأعذار. واسمعه عقوبة الله له، بأن مملكته تقوم، وأن الرب أختار رئيسا آخر للشعب بدلا منه..
وإيليا النبي الجبار، وجد له عذرًا، لما خاف من إيزابل وهرب!
وصله تهديدها (1صم 19: 2) فخاف وهرب! ولما سأله الله عن هروبه بقوله "مالك ههنا يا إيليا؟" وجد تبريرًا.. فقال مرتين "قتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي. وهم يطلبون نفسي ليأخذوها" (1مل 19: 10 - 14). وفي هذا التبرير، نسى كل أعمال الله العجيبة معه، وكيف قواه على مقابلة آخاب الملك وتوبيخه (1مل 18: 18)، كما قواه على قتل 450 نبيًا من أنبياء البعل (1مل 18: 22، 40). فلم يكن هناك داع للخوف والهروب مادامت يد الله معه..
ولم يقبل الله طبعا هذا العذر من إيليا. وأمره بعدة مهام، منها أن يذهب ويمسح إليشع بن شافاط نبيًا عِوضًا عنه" (1مل 19: 16). أما عبارة "بقيت أنا وحدي "فرد الرب عليها بأنه أستبقى 7000 ركبة لم تجث للبعل (1مل 19: 18) حقا، ما أكثر التبريرات، وكلها غير مقبولة. فما الهدف منها؟
يريد الإنسان بهذه التبريرات، أن يكون بلا لوم أمام الناس، وربما أمام نفسه أيضًا، لكي يريح ضميره إذا احتج عليه..
ولكن حتى لو قبل الناس هذه الأعذار، وحتى لو أستطاع الإنسان آن يخدع نفسه ويخدر ضميره ليقبل هذه التبريرات، أترى الله يقبلها؟! الله العالم بكل شيء، والذي رفض كل هذه الأمثلة التي أوردناها، الله الذي أمامه "يستد كل فم" (رو 3: 19).. إن التبريرات لا تصلح مع الله، إنما يصلح الخضوع والاعتراف بالخطية..
وهناك تبريرات أخرى تبدو كلون من تدليل النفس..
مثال ذلك عذراء النشيد التي قرع الرب على بابها.. وظل طول الليل هكذا، حتى امتلأ رأسه من البطل، وقصصه من ندى الليل، وهو يناديها بأرق الألفاظ.. ومع ذلك اعتذرت عن أن تفتح له بقولها "قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟ قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما" (نش 5: 2، 3).
أترى قبل الرب منها هذا العذر؟! كلا، بل تحول وعبر، وجعلها تقاسى مرارة التخلي بقولها "طلبته فما وجدته دعوته فما أجابني"..
ومن أمثلة التبريرات غير المقبولة، الاعتذارات عن الخدمة..
موسى، الذي اعتذر عن الخدمة بقوله للرب "لست أنا صاحب كلام، منذ أمس ولا أول من أمس.. بل أنا ثقيل الفم واللسان" (خر 4: 10). ولم يقبل الرب هذا العذر من موسى. وعالج له موضوع ثقل اللسان.
وأميا أيضًا اعتذر عن الخدمة بقوله "لا أعرف أن أتكلم لأني ولد" (أر 1: 6). ولم يقبل الرب منه هذا الاعتذار، بل وبخه قائلا "لا تقل إني ولد، لأني إلى كل من أرسلك إليه تذهب، وتتكلم بكل ما آمرك به. لا تخف.. لأني معك، أنقذك" (أر 1: 7، 8).
وهكذا لم يقبل الرب أيضًا اعتذار من قال له "ائذن لي أن أمضى أولا وأدفن أبى "بل قال له "اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم" (مت 8: 21، 22)
ولكن ما أعجب الراعي الصغير، الذي يهجم السد على غنمه.. فلا يعتذر عن حمايتها بضعفه أمام عنف الأسد.. يشبه شيئًا من هذا ما فعله داود الصغير (1صم 17).