رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الفخاري المؤدِّب: 7 تَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِالْقَلْعِ وَالْهَدْمِ وَالإِهْلاَكِ، 8 فَتَرْجعُ تِلْكَ الأُمَّةُ الَّتِي تَكَلَّمْتُ عَلَيْهَا عَنْ شَرِّهَا، فَأَنْدَمُ عَنِ الشَّرِّ الَّذِي قَصَدْتُ أَنْ أَصْنَعَهُ بِهَا. 9 وَتَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، 10 فَتَفْعَلُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيَّ، فَلاَ تَسْمَعُ لِصَوْتِي، فَأَنْدَمُ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي قُلْتُ إِنِّي أُحْسِنُ إِلَيْهَا بِهِ. 11 «فَالآنَ كَلِّمْ رِجَالَ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ قَائِلًا: هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا مُصْدِرٌ عَلَيْكُمْ شَرًّا، وَقَاصِدٌ عَلَيْكُمْ قَصْدًا. فَارْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيءِ، وَأَصْلِحُوا طُرُقَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ». 12 فَقَالُوا: «بَاطِلٌ! لأَنَّنَا نَسْعَى وَرَاءَ أَفْكَارِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ حَسَبَ عِنَادِ قَلْبِهِ الرَّدِيءِ». 13 لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «اسْأَلُوا بَيْنَ الأُمَمِ. مَنْ سَمِعَ كَهذِهِ؟ مَا يُقْشَعَرُّ مِنْهُ جِدًّا عَمِلَتْ عَذْرَاءُ إِسْرَائِيلَ. 14 هَلْ يَخْلُو صَخْرُ حَقْلِي مِنْ ثَلْجِ لُبْنَانَ؟ أَوْ هَلْ تَنْشَفُ الْمِيَاهُ الْمُنْفَجِرَةُ الْبَارِدَةُ الْجَارِيَةُ؟ 15 لأَنَّ شَعْبِي قَدْ نَسِيَني! بَخَّرُوا لِلْبَاطِلِ، وَقَدْ أَعْثَرُوهُمْ فِي طُرُقِهِمْ، فِي السُّبُلِ الْقَدِيمَةِ لِيَسْلُكُوا فِي شُعَبٍ، فِي طَرِيق غَيْرِ مُسَهَّل، 16 لِتُجْعَلْ أَرْضُهُمْ خَرَابًا وَصَفِيرًا أَبَدِيًّا. كُلُّ مَارّ فِيهَا يَدْهَشُ وَيَنْغِضُ رَأْسَهُ. 17 كَرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ أُبَدِّدُهُمْ أَمَامَ الْعَدُوِّ. أُرِيهِمِ الْقَفَا لاَ الْوَجْهَ فِي يَوْمِ مُصِيبَتِهِمْ». بدأ أولًا برسالة الرجاء ليعلن أننا وإن كنا كطينة بلا قيمة، لكننا موضع سرور الفخاري القادر أن يحولنا إلى إناء المجد. الآن يقدم الجانب الآخر، وهو إن لم نقبل حبه وحنانه ونسلم حياتنا بين أصابعه يقوم بالتأديب لأجل خلاصنا أيضًا. إنه يقدم دروسًا قاسية لطينة عنيفة، قائلًا: "تارة أتكلم على أمةٍ وعلى مملكةْ بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها، فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس، فتفعل الشر في عيني، فلا تسمع لصوتي، فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به" [7-10]. أمتان: واحدة ُتقتلع والأخرى تُغرس! يقول العلامة أوريجينوس: [بجانب هذا التفسير، لنسمع أيضًا التفسير الذي يقدمه لنا الرب نفسه: "فصار إليّ كلام الرب قائلًا: أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا بيت إسرائيل يقول الرب. هوذا كالطين بيد الفخاري أنتم هكذا بيدي يا بيت إسرائيل. تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها. وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس، فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به" [5-10]. هكذا نرى أن ما حدث في بيت الفخاري لا يشير من الجانب الرمزي إلى أحداث فردية (أي إلى قيامة الأفراد) وإنما يُقصد به أمتان أو مملكتان. من هما هاتان الأمَّتان؟ من هي الأمة الأولى التي يتكلم عليها بالقلع والهدم، ومن هي الثانية التي يعطيها الوعد بالبناء والغرس؟ الله في تهديده يهدد بحيث إذا رجعت الأمة وتابت لا ينفذ فيها التهديد، كما أنه في وعوده إذا رجعت الأمة وصارت غير مستحقة تحرم من تلك الوعود... قام الرب بتهديد الأمة الأولى، وظهر آثار هذا التهديد: فقد تم سبيهم، وخُرَّبت مدينتهم، وُهدم الهيكل، ودُنِس المذبح، ولم يبقَ عندهم شيئًا من المقدسات التي كانوا يملكونها، لأن الرب قال لهذه الأمة: ارجعي إليّ، فلم ترجع. ويتحدث الرب إلى الأمة الثانية عن بنائها وغرسها، لكنه يرى أن تلك الأمة مكونة من أناسٍ قابلين أيضًا للسقوط والفساد؛ لذلك يهددها ويقول لها: بالرغم من أنني تكلمت عليك في البداية بالبناء والغرس، إلا أنك إن أخطأتِ يحدث لك ما حدث مع غيرك حينما أخطئوا. راجع كل الكتاب المقدس، تكتشف أن معظم أجزائه تتحدث عن هاتين الأمتين. اختار الرب الآباء الأولين (إبراهيم وإسحق ويعقوب) وأقام معهم وعودًا، وقام بإخراج الشعب الآتي من نسل الآباء من أرض مصر وحررهم من العبودية. كان طويل الأناة معهم حينما كانوا يخطئون، وكان يصحح أخطاءهم كأب، وأدخلهم إلى أرض الموعد وأعطاهم إياها، وأرسل لهم الأنبياء في فترات متعددة. كان يوجههم ويرشدهم ويتوبهم عن خطاياهم، وكان في طول أناة يرسل إليهم دائمًا أشخاصًا لكي يساعدوهم على الشفاء، إلى أن جاء رئيس الأطباء، والنبي الذي يفوق جميع الأنبياء. لكنه عندما جاء أسلموه للموت، قائلين: "خذه خذه"، خذ مثل هذا الإنسان من الأرض! "أصلبه أصلبه" (يو 19: 6، 15). من هنا اختار الله أمة أخرى. انظروا كيف أن الحصاد كثير بالرغم من أن الفعلة قليلون. في كل مكان وزمان يعمل الله على أن تكون شبكته دائمًا مُلقاة في بحر هذا العالم لكي يجمع فيها الأسماك من كل الأنواع؛ ويرسل صيادين كثيرين، وقانصين كثيرين، ويصطاد على كل جبل وعلى كل أكمة: انظر كم يعمل الله من أجل خلاص الأمم! إذًا "هوذا لطف الله وصرامته، أما الصرامة فعلى الذين سقطوا"،أي على الأمة اليهودية التي سقطت، "وأمااللطف فلنا نحن الأمة الأخرى، إن ثبتنا في اللطف، وإلا فإننا أيضًا سنُقطع" (رو 11: 22). لأن الفأس لم تكن موضوعة على أصل الشجر في أيام السيد المسيح فقط، بل يمكن أن تُوضع من جديد في وقتنا الحاضر. قال يسوع المسيح في تنبؤه عن سقوط إسرائيل: "هوذا الفأس قد وُضعت على أصل الشجر"، وأيضًا: "كل شجرةٍ لا تأتي بثمر تُقطع وتُلقى في النار". وأما الآن فيوجد زرع آخر، قيل عنه: "تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك، المكان الذي صنعته يا رب لسكناك" (خر 15: 17). جاء الرب بأمته الجديدة إلى جبل ميراثه. فإنني لن أبحث عن الجبل في وسط الأشياء الجامدة كما فعل اليهود؛ لأن الجبل هو السيد المسيح، غرسنا فيه وثبتنا فيه. انظروا إذًا هل يقول رب البيت - بعد أن يكون قد استخدم معنا طول الأناة - عندما يجيء: "هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد، اقطعها، لماذا تُبطل الأرض أيضًا؟" (لو 7: 13). لأن الإنسان، الذييأتيإلى الكنيسةولا يأتي بثمرٍ يبطل أرض السيد المسيح الجيدة، التي هي الكنيسة، ويشغلها بدون فائدة]. * يقدم التهديد خلاصًا من الكارثة! الحكم بالقلع يوقف القلع! ياله من أمرٍ غريبٍ ومدهش، فإن الحكم الذي يهدد بالموت يجلب حياة! القديس يوحنا الذهبي الفم هل يندم الله؟ يقول العلامة أوريجينوس: ["تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها". يطلب بعض الوثنيين المثقفين منا أن نبرر موقفنا وأن نفسر لهم ماذا يقصد "بندم الله". لأنه يبدو أن "الندم" أمر غير لائق، ليس فقط بالنسبة لله، إنما أيضًا بالنسبة لأي إنسانٍ حكيمٍ. لأنني لا أتقبل فكرة أن يندم إنسان حكيم، لأن من يندم يفعل ذلك لأنه لم يأخذ من البداية الجانب الصحيح أو الرأيالصائب. لا يمكن للرب الذي يرى المستقبل ويعرفه، أن يأخذ أي جانب آخر سوى الرأي السديد. إذًا كيف ينسب الكتاب المقدس لله القول "فأندم"؟...[1] نجد نفس الفكرة في سفر الملوك أيضًا حينما يقول الرب: "ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا" (1 صم 15: 11). ويُقال أيضًا عن الرب: "ويندم على الشر" (يؤ 2: 13). هلموا لننظر ماذا يقول لنا الكتاب المقدس أيضًا عن الله. تارة يقول: "ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم" (عد 23: 19)، تعرفنا هذه الآية أنالله ليس إنسانًا. تارة أخرى يتكلم عن الله كإنسانٍ: "فاعلم في قلبك أنه كما يؤدب الإنسان ابنه قد أدبك الرب إلهك" (تث 8: 5). إذًا، عندما يتحدث الكتاب المقدس عن لاهوت الرب، يقول إنه "ليس إنسانًا"، وأن: "ليس لعظمته استقصاء" (مز 145: 3). وأنه "مهوب على كل الآلهة" (مز 96: 4). ويقول أيضًا: "سبحوه يا جميع ملائكته. سبحوه يا كل جنوده. سبحيه أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا جميع كواكب النور" (مز 148: 2-3). لكن عندما تنازل الله وأخذ جسدًا واختلط بالناس، أخذ أيضًا حكمة الناس ولغتهم، فعل تمامًا مثلما نفعل نحن حينما نريد أن نتحدث إلى طفلٍ عمره سنتين، فنقوم بعمل حركات وأصوات غير مفهومة تناسب الطفل، أما إذا احتفظنا بوقارنا وأصررنا على الحديث معه بلغة البالغين لن يفهم شيئًا. هكذا يفعل الله في اهتمامه بالجنس البشري، وخاصة الأطفال منهم. انظروا كيف أننا نحن البالغين نقوم بتغيير أسماء الأشياء بالنسبة للأطفال الصغار؛ فنسمي لهم الخبز باسم خاص، والشرب باسم آخر، دون أن نستعين بلغة البالغين التي يستخدمونها في أحاديثهم. ماذا إذًا، هل نحن أشخاص غير ناضجين؟ هل إذًا سمعنا أحد ونحن نتكلم مع هؤلاء الأطفال يقول: لقد فقد هذا الشيخ عقله وتناسى شيبته ووقاره؟ ألا يُرجعوا هذا بالأولى إلى الظروف التي دفعت الشيخ الوقور إلى استخدام تلك اللغة؛ وهي مخاطبة الأطفال؟ بالمثل، يتحدث الله أيضًا إلى أطفالٍ. قال المخلص: "هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب". بما أننا أشخاص وبشر نندم، فإن الله عندما يريد أن يخاطبنا بلغتنا، يقول: "ندمت"، وحينما يهددنا لا يظهر نفسه بصورة مَنْ يَعْلم المستقبل، لكنه يتصرف معنا كمن يخاطب أطفالًا، بالرغم من أنه "يعرف جميع الأشياء قبل أن تكون". في مخاطبته للأطفال الصغار يتظاهر بأنه كمن لا يعرف المستقبل. يقول: إذا رجعت هذه الأمة عن شرها، سأندم أنا أيضًا عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها. آه يا رب! عندما كنت تهدد، ألم تكن تعلم ما إذا كانت هذه الأمة سوف تتوب أم لا؟ وحينما كنت تُعطَى وعودًا، ألم تكن تعلم ما إذا كان الإنسان أو الأمة التي وجهت إليها وعودك ستظل مستحقة لتلك الوعود أم لا؟ كنت تعلم كل شيء لكنك كنت تتظاهر بعدم المعرفة. تجد في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة من هذا النوع، منها: "تكلم مع بني إسرائيل، لعلّهم يسمعون ويتوبون". ليس أن الله كان غير متأكدٍ عندما قال: "لعلهم يسمعون"، لأن الله لن يقع في الشك أبدًا؛ لكنه قال ذلك حتى يُظهر بوضوح حرية إرادتك، حتى لا تقول: بما أن الله يعرف مسبقًا أنني سأخلص، إذن لا بُد أن أخلص. يتظاهر بعدم معرفته لما سيحدث لك لكي يحترم حرية إرادتك وتصرفاتك. تجد أجزاء كثيرة في الكتاب المقدس يتشبه فيها الله بصفات الإنسان. فإذا سمعت يومًا كلمات "غضب الله وثورته" لا تظن أن الغضب والثورة عواطف وصفات موجودة لدى الله، إنما هي طريقة بها يتنازل الله ويتكلم ليؤدب أطفاله ويصلحهم. لأننا نحن أيضًا حينما نريد أن نوجه أولادنا ونصحح أخطاءهم نظهر أمامهم بصورةٍ مخيفة ووجه صارمٍ وحازمٍ لا يتناسب مع مشاعرنا الحقيقية، إنما يتناسب مع طريقة التأديب. إذا أظهرنا على وجوهنا التسامح والتساهل الموجود في نفوسنا ومشاعرنا الداخلية تجاه أطفالنا بشكلٍ دائمٍ، دون أن نغير ملامح وجوهنا بحسب تصرفات الأطفال، نفسدهم ونردّهم إلى أسوأ. بهذه الطريقة نتكلم عن غضب الله، فحينما يُقال أن الله يغضب، المقصود بهذا الغضب هو توبتك وإصلاحك، لأن الله في حقيقته لا يغضب ولا يثور، بل أنت الذي تتحمل آثار الغضب والثورة عندما تقع في العذابات الرهيبة القاسية بسبب خطاياك وشرورك، في حالة تأديب الله لك بما نسمِّيه غضب الله! ]. هنا لا نفهم كلمة "أندم" بمعنى أن الله يغير رأيه كأنه غير عارفٍ بما سيحدث في المستقبل، إنما إذ يتحدث الله معنا نحن البشر يكلمنا بلغتنا، مؤكدًا لنا أنه في محبته للإنسان يعطيه حرية الإرادة. فإن كان الله يريد تأديب شخصٍ أو جماعةٍ بسبب الخطية ويقدم الشخص أو الجماعة توبة صادقة قلبية، يرفع عنه أو عنهم التأديب. وإذا ما كان إنسان ما (أو جماعة) يستحق بركات كثيرة لكنه انحرف، يمد الله يده للتأديب. المتغير ليس الله، بل الإنسان الذي تارة يغتصب مراحم الله بالتوبة، وتارة يجلب لنفسه تأديبًا بانحرافه. هنا يؤكد دور الإنسان وحرية إرادته، فإن الله لا يُلزمنا أن نقبل عمل الخلاص، إنما يحثنا عليه. * لا يغصبنا الله، ولا تُلزِم نعمة الروح إرادتنا، لكن الله ينادينا، وينتظر أن نتقدم إليه بكامل حريتنا، فإذا اقتربنا يهبنا كل عونه . * الله لا يُلزم الذين لا يريدونه، لكنه يجتذب الذين يريدون . * نحن سادة، في إمكاننا أن نجعل كل عضو فينا آلة للشر، أو آلة للبر . القديس يوحنا الذهبي الفم هنا يُحمِّل الله مملكة يهوذا، على المستوى الجماعي كما على المستوى الشخصي، المسؤولية. لقد أظهرت نفسها أنها غير طيِّعة، بل عنيدة ومقاومة لله.يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على العبارات السابقة [7-10]، قائلًا: [هذا القانون بحقٍ وضعه الله من البداية ونشره على كل البشر بالنبي لكي يطبق بدقة... بمراعاة هذا القانون خلص الذين تحولوا عن غضبه وتحرروا، بتركهم شرورهم ]. ربما يتساءل أحد: هل يصنع الله شرًا [8]؟ يجيب العلامة ترتليان لا يُقصد هنا بالشر الخطايا وإنما التأديب: [لا تعني الخطايا الشريرة بل العقاب... فاليونان يستخدمون أحيانًا كلمة "شرور" على الأتعاب والأضرار ]. "فالآن كلِّم رجال يهوذا وسكان أورشليم، قائلًا: هكذا قال الرب: هأنذا مُصدِر عليكم قصدًا، فارجعوا كل واحدٍ عن طريقه الرديء، وأصلحوا طرقكم وأعمالكم" [11]. هذا هو نداء الرب عبر كل العصور، فيه يبدو الله حازمًا، يصدر علينا تأديبًا نحسبه شرًا، أما غايته فهو رجوعنا عن طريقنا الرديء وإصلاح حياتنا حتى نحمل صورته ونشاركه سماته، ولا نسقط في الهلاك. إن كان الله هو الفخاري الذي يشكل الطين فإنه يبدو أحيانًا قاسيًالكي يقبل الطين أن تمتد يد الفخاري إليه وتعمل حسب مقاصده الإلهية من نحوه. في ذهن الله خطة من نحونا نحن الطين، لكنه لا يعمل بدون موافقتنا. كانت إجابة الشعب على النداء الإلهي مملوءة استهتارًا. "فقالوا: باطل، لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا)، وكل واحدٍ يعمل حسب عناد قلبه الرديء" [12]. ربما كان هذا تقرير قدمه إرميا النبي لله في مرارة قلبٍ، فيه يشكو الشعب لأجل استهتارهم بتهديدات الرب الخاصة بالتأديب، وإصرارهم على العناد ضد الله نفسه وضده خطته. جاءت إجابتهم على الله مملوءة عنفًا وعنادًا. إن كنتم تعيشون في حياة الخطية تكون إجابتكم كالإجابة السابقة تمامًا، حتى وإن لم تستخدموا نفس الكلمات، لا تجيبوا بشفاهكم على الإطلاق، بل أعمالكم الشريرةهي التي تجيب على الدعوة التي يوجهها الله لكم للتوبة. ماذا تعني عبارة: "لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا)"؟ الذين بدءوا بوضع أيديهم على المحراث وامتدوا إلى ما هو قداملكي يزرعوا نسوا ما هو وراء، وأعطوا ظهرهم للأعمال الشريرة. أما إذا وضع أحد يده على المحراث ونظر إلى الوراء فهو يسعى وراء شروره، لأنه يسعى مرة أخرى إلى الأشياء التي كان قد تحول عنها، ويجيء مسرعًا إلى الخطايا التي تركها. يقول العلامة أوريجينوس: [كل الذين بعدما سمعوا دعوة الرب للتوبة تحولت حياتهم إلى الفساد، سواء كانوا مسيحيين قد تركوا الحياة الوثنية، أو مؤمنين قد تقدموا في الإيمان ثم بعد ذلك سقطوا ورفضوا التوبة، لن يستطيعوا أن يقولوا سوى تلك الكلمات: "لأننا نسعى وراء أفكارنا (شرورنا) وكل واحد يعمل حسب عناد قلبه الرديء"]. أمام هذا الاستهتار والإصرار على العناد قيل: "لذلك هكذا قال الرب: اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟ ما يُقشعر منه جدًا عملت عذراء إسرائيل. هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟! أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية؟! لأن شعبي قد نسيني. بخروا للباطل وقد أعثروهم في السبل القديمة ليسلكوا في ُشعب في طريقٍ غير سهلٍ" [13-15]. تكررت عبارة: "هكذا قال الرب" 26 مرة في سفر إرميا، أما هنا فيضيف: "لذلك"، وكأن ما يصدره من حكم هنا إنما يقدمه بعد تقديم حيثيات للحكم... جعل الله من شعبه عذراءً، مقدمًا لها كل إمكانيات لتمارس الحياة المقدسة، فأساءت استخدام العطايا الإلهية. هذا بالنسبة لكنيسة العهد القديم، فماذا بالنسبة لكنيسة العهد الجديد، إذ يقول الرسول: "لأن الذين استنيروا مرة، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه" (عب 6: 4-6). وأيضًا: "فكم عقابًا أشر تظنون أنه يُحسب مُستحقًا من داس دم ابن الله وحسب دم العهد الذي ُقدس به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟!" (عب 10: 29). "اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟ ما يُقشعر منه جدًا عملت عذراء إسرائيل". يقول العلامة أوريجينوس: [قال الرب لهؤلاء الناس: "لذلك هكذا قال الرب: اسألوا بين الأمم، من سمع كهذه؟! ما يُقْشًعر منه جدًا عَمِلتْ عذراء إسرائيل". يبدو للبعض أن هذه الكلمات قيلت بدون هدفٍ أو قصدٍ معين. لكنني أقول لا، بل إذا رجعت كنيسة الأمم إلى الرب بكل قلبها ُيقال لها: "اسألوا بين الأمم، واسمعوا المصائب الكثيرة التي ارتكبتها عذراء إسرائيل". دعونا نقارن إذًا بين حياة اليهود الذين أخطئوا وبين حياة هؤلاء الذين تابوا وآمنوا، عندئذ نعرف أن اليهود قد عملوا ما يُقشعر منه جدًا حينما قتلوا رب المجد؛ في حين أن الأمم تابوا ورجعوا إليه بعد ما قتله اليهود، دفعوه إلى الموت من أجل خلاص العالم]. مما يحزن قلب الله أن مملكة يهوذا ليس فقط لم تستجب لنداء حبه، ولا تجاوبت مع نعمته، إنما سلكت أيضًا ضد الطبيعة والمنطق، الأمر الذي لا يحدث بذات الصورة حتى بين الأمم الوثنية. عندما أخطأت نينوى استجابت لأول نداء ُقدم إليها بواسطة يونان الذي لم يقدم لهاأيرجاء في الخلاص، وقدمت توبة جماعية، أما يهوذا فقُدم لها عطايا إلهية كثيرة وأُرسل لها أنبياء، وها هي ترفض عريسها الإلهي وتتغرب عنه، ولا تريد العودة إليه. في عرضٍ مسهبٍ قدم القديس يوحنا الذهبي الفممقارنة بين الشعب اليهودي في عناده بالرغم مما قدم الله له من إمكانيات وبين أهل نينوى سريعي التوبة، جاء فيه: [أية عطايا ُقدمت لليهود (في خروجهم من مصر)؟! ألم تقم المخلوقات المنظورة كلها بخدمتهم؟! وأُعطيت لهم وسائل جديدة وفريدة للحياة؟! فإنهم (في البرية) لم يكونوا يذهبون إلى سوقٍ، إنما يأخذون مجانًا بما يُشترى بمالٍ، ولم يُفلِّحوا أرضًا، ولا استخدموا محراثًا، ولا مهدوا الأرض للزراعة، ولا ألقوا بذارًا، ولا احتاجوا إلى أمطارٍ ورياحٍ أو إلى فصول السنة الزراعية... لم يحتاجوا إلى أدوات للعجن... ولا إلى أي نوعٍ آخر من الأدوات الخاصة بالنسج والبناء وصنع الأحذية، بل كانت كلمة الله هي كل شيء بالنسبة لهم. كانت لهم مائدة لم تعدها يد بشرية، أُعدت بدون جهاد أو تعب، لأنه هكذا كانت طبيعة المن: كان جديدًا وطازجًا، لا يحملهم أية مشقةٍ أو جهادٍ. ثيابهم وأحذيتهم وأبدانهم ففقدت ضعفها الطبيعي؛ ثيابهم وأحذيتهم لم ٌتبلَ بعامل الزمن، وأرجلهم لم تتورم بالرغم من كثرة السير. ولم ُيذكر قط أن بينهم كان أطباء أو دواء أوأي شيء من هذا القبيل. وهكذا أُنتزع كل ضعفٍ من بينهم. قيل: "فأخرجهم بفضةٍ وذهبٍ، ولم يكن في أسباطهم عاثر (هزيل)" (مز 105: 37)... لم تضربهم أشعة الشمس في حرارتها، لأن السحابة كانت تظللهم وتحيط بهم كمأوى متحرك يحمي أجساد الشعب كله. لم يحتاجوا إلى مشعلٍ يبدد ظلام الليل، بل كان لهم عمود النار مصدر إضاءة لا يُنطق به، يقوم بعملين: الإضاءة مع توجيههم في طريق رحلتهم... قائدًا هؤلاء الضيوف الذين بلا عدد في وسط البرية بدقة أفضل من أي مرشدٍ بشري... لم يسيروا على البر فقط بل وفي البحر كما لو كان أرضًا يابسة... قاموا بتجربة جريئة تخالف قوانين الطبيعة، إذ وطأوا البحر الثائر... ماذا أقول عن الصخرة التي أخرجت ينابيع ماء؟ وسحابة الطيور التي غطت الأرض بكثرتها...؟! ومع ذلك فإنه بعد عناية ملموسة عظيمة هكذا، وبركات لا يُنطق بها، ومعجزات قوية، واهتمام زائد، وتعليم مستمر... تذمروا بلا إحساس! أما أهل نينوى فبالرغم من كونهم شعبًا بربريًا وغريبًا، ليس له أية شركة في البركات، صغيرة أو كبيرة، لا بكلمات ولا بمعجزات ولا بأعمال، هؤلاء عندما رأوا إنسانًا مُنقذًا من الغرق لم يلتقِ بهم من قبل ولا سبق لهم أن عرفوه يدخل مدينتهم، قائلًا: "بعد (أربعين) يومًا تنقلب نينوى" (يون 3: 4) رجعوا وتابوا... ونزعوا شرورهم القديمة، وتقدموا في حياة الفضيلة بالتوبة... بالرغم من أن شعب نينوى لم يكن لهم أي نصيب من المعجزات التي للشعب اليهودي، لكن بقدر ما كان لديهم من استعدادٍ داخلي حسن، إذ أُعطيت لهم فرصة بسيطة استفادوا منها ليصيروا إلى حالٍ أفضل، بالرغم من جهلهم بالوحي الإلهي وابتعادهم عن فلسطين!]. * من لا يحزن على مثل هذه الأمور ويقول: "كيف صارت القرية (المدينة) الأمينة زانية؟!" (إش 1: 21)... خطبتها لنفسي بثقةٍ وفي طهارةٍ وبرٍ وعدلٍ وحنوٍ ورحمةٍ كما وعدتها بهوشع النبي (هو 2: 19)، لكنها ارتبطت بغرباء، بينما أنا رجلها حيّ! دُعيت زانية ولم تخف أن ترتبط برجل آخر. ماذا يقول قائد العروس (الصديق الذي يقودها من بيت أبيها إلى حجال العرس) بولس الإلهي الطوباوي الذي خلال تأمله وتعاليمه تركت بيت أبيها واتحدت بالرب؟ ألا يقول أيضًا في أسى خشية حدوث مثل هذه المتاعب: "الذي فزعت منه جاء عليّ"(أي 3: 25). "إني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 2) أنني بالحق دائمًا "أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح" (2 كو 11: 3)... القديس باسيليوس الكبير "هل يجف ثدي الصخرة؟أو هل يخلو الثلج من لبنان؟ أو هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟" [14] (LXX). يترجم البعض عبارة: "هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟" هكذا: "هل يخلو تربة من صخر، وثلج من لبنان؟" . إن كانت الصخور القاسية لا تخلو من تربة صالحة للزراعة، ولبنان لا تخلو من ثلج، وينابيع المياه لا تتوقف، فلماذا جف شعب الله هكذا ولم يوجد بعد فيه تربة صالحة تقدم ثمرًا روحيًا، أو نقاوة كالثلج، أو مياه الروح القدس؟! هكذا يحزن الله على شعبه الذي فقد كل صلاحٍ من ثمرٍ نافعٍ وطهارة وعمل الروح. يرى البعض أنه ُيقصد بالجبل الذي يعلوه الثلج هو حرمون. في الواقع يخلو منه الثلج في شهر يونيو، لكن تبقى قمته كما قمم بقية الجبال العالية يكسوها الثلج أغلب أيام السنة. * مَنهي هذه البتول التي ارتوت بمجاري الثالوث، والتي من صخرتها فاضت المياه، وثديها لم يتوقف وقد فاض عسلها؟! بحسب قول الرسول، الصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4)، فمن المسيح لم يتوقف ثديه، ولا البهاء عن الله، ولا النهر عن الروح. هذا هو الثالوث الذي عطر على كنيستهم الآب والمسيح والروح. القديس أمبروسيوس يقول العلامة أوريجينوس: ["هل يجف ثدي الصخرة؟ أو هل يخلو الثلج من لبنان؟ أو هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟" [14] (LXX). يتعلق الأمر هنا بأنواع مختلفة من المياه: في المقام الأول ثدي الصخرة؛ في المقام الثاني ثلج لبنان؛ وفي المقام الثالث المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة. هذه الأنواع الثلاثة من المياه هي التي تشتاق إليها نفوس الأبرياء الذين أصبحوا مثل الأيائل، حتى أن كل واحدٍ منهم يمكنه أن يقول: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" (مز 42: 1). من إذن أصبح مثل الإيل الذي يُقال عنه إنه عدو الثعابين بكل أجناسها وأنواعها ولا يتأثر بسمومها؟ من أصبح عطشانًا إلى الله فيقول "عَطَشت نفسي إلى الله الإله الحيّ" (مز 42: 2)؟" من أصبح عطشانًا إلى ثدي الصخرة، "والصخرة كانت المسيح"؟ من أصبح عطشانًا إلى الروح القدس فيقول: "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله"؟ إذا لم نعطش إلى هذه الثلاثة ينابيع من المياه معًا، لا نستطيع أن نجدأي واحدٍ منها على حدة. كان اليهود يعطشون إلى ينبوع واحد وهو الله الآب؛ لكن لأنهم لم يعطشوا إلى السيد المسيح ولا إلى الروح القدس؛ لم يستطيعوا أن يشربوا حتى من الآب. كذلك الهراطقة كان يبدو عليهم أنهم يعطشون إلى يسوع المسيح، لكنهم لم يعطشوا إلى الآب الذي هو رب الناموس والأنبياء، لذلك لم يستطيعوا أن يشربوا من السيد المسيح. وأيضًا الذين يتمسَّكون بالرب لكنهم يحتقرون النبوات لم يعطشوا إلى الروح القدس الموجود في الأنبياء، لهذا لن يشربوا أيضًا من الآب، ولا من السيد المسيح الذي وقف في الهيكل ونادى قائلًا: "إن عطش أحد فليقبل إلى ويشرب" (يو 7: 37). إذن ثديا الصخرة لن يجفا، لكنهما يجفان إذا تركا ينبوع المياه الحيَّة؛ إذا هما تركا الينبوع، ولم يُقل الينبوع تركهما. بالفعل، فإن الله لا يبتعد عن أحد، لكن الذين يبتعدون عنه يهلكون. الله على العكس، يقترب إلينا، ويذهب لملاقاة الإنسان الذي يرجع إليه. عندما رجع الابن الضال الذي أضاع ثروة أبيه، "إذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبَّله" (لو 15: 20). إذن ثديا الصخرة، أو ينابيع مياه السيد المسيح لن يجفَّا؛ كذلك الثلج الذي هو مياه الآب لن يخلو من لبنان. في الواقع أن البخور المقدس الذي توصى به شريعة الله والذي ُيقدم على المذبح يكون لونه أبيضًا ويدعى لبانًا أيلبنان (تدعى لبنان بالفرنسية Liban واللبان Libanos). إذن جبل لبنان له نفس اسم البخور، وينزل ثلجًا من على Liban مثل مياه الروح القدس التي ُيقال عنها: "هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة؟" إن مياه الروح القدس لا تنشف، ولا تهرب، ولكننا نحن بارتكابنا الخطية نهرب منها بدلًا من أن نشرب من تلك المياه المقدسة]. كثيرًا ما يكرر الله عتابه لشعبه قائلًا إنهم تركوه، أما هنا فلا يقف الأمر عند الترك إنما قد نسوه تمامًا: "لأن شعبي قد نسيني" [15]. نسوا الرب فاختاروا طريق الجحود، الذي في ظاهره مملوء ترفًا وبهجة، لكنه في حقيقته مملوء شُعبًا وغير سهلٍ؛ انحرفوا عن الطريق السماوي الملوكي. أبرز كيف حولتهم الخطية إلى الغباء والجهالة، فإنهم إذ ينسون الله من أجل الأوثان يصيرون مثل مسافرٍ في حالة ظمأ يترك الثلج الذي على قمم الجبال وقد ذاب ونزل على الجبال وفاض من الصخور كمجاري مياه نقية ونظيفة كالكرستال، حاسبًا أنه يجد ماءً أفضل في المياه الراكدة المملوءة طميًا. هل يفعل مسافر هكذا؟ أو هل يترك ماءً باردًايأتيمنأي مكانٍ آخر في وسط حر الصيف؟! تركوا الطرق القديمة التي عيَّنها الناموس الإلهي والتي سلكها القديسون، الطريق الآمن الملوكي العلوي، وانحرفوا إلى العبادة الوثنية. * هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يُحرمون من الوصول إلى المدينة التي وُجهت إليها أنظارنا. الأب إبراهيم يقول العلامة أوريجينوس: ["لأن شعبي قد نسيني، بخَّروا للباطل" [15]. كل إنسان يخطئ ينسى الرب، بينما البار يقول: "هذا كله جاء علينا وما نسيناك ولا خُنَّا في عهدك" (مز 44: 17). لقد نسى هذا الشعب الله، وبخَّروا للباطل. لنتأمل ماذا تعني هذه الآية: "بخَّروا للباطل"؟ يقول المزمور: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك". إذن صلاتي الرقيقة المكونة من أفكارٍ سماوية خفيفة والصادرة من قلبٍ لطيفٍ وخفيفٍ غير مثقَّل بهموم العالم تصعد أمام الله كرائحة بخور ذكيَّة. بما أن صلاة الإنسان البارهيرائحة بخور أمام الله، كذلك صلاة الإنسان الشريرهي أيضًا رائحة بخور، لكن كالبخور الذي قيل عنه: "بخَّروا للباطل" ]. إذ يصر الشعب على تجاهل الله إلهه، بل تناسيه تمامًا، يسقطون تحت التأديب: "لتجعل أرضهم خرابًا وصفيرًا أبديًا. كل مارٍ فيها يدهش وينغص رأسه. كريحٍ شرقيةٍ أبددهم أمام العدو. أريهم القفا لا الوجه في يوم مصيبتهم" [16-17]. يمكن تلخيص التأديب في الآتي: أولًا: "لتجعل أرضهم خرابًا [16]، كأن الأرض التي احتضنت الفساد والجحود ونسيان الرب لا تثمر إلا خرابًا. هكذا أرض الإنسان أي جسده الذي يتلذذ بالخطية، حاسبًا أن سعادته في ملذات الجسد يفقد حتى صحته وسلامته. ثانيا: لتجعل أرضهم... صفيرًا أبديًا" [16]. لقد فضلوا عدو الخير إبليس، الحية القديمة، عن خالقهم ومخلصهم، لهذا تتحول أرضهم إلى مسكن دائم للحيات، لا ُتسمع فيها إلا صفيرها. والعجيب أنه في السنوات الأخيرة بدأت تحتل الحية مركزًا خاصًا في العالم الحديث، فنرى في بعض المدن محاولة جادة لجذب الإنسان نحو الحية... على سبيل المثال في أستراليا في بعض دور الحضانة يعلمون الأطفال ما يسمى بـ"رقصة الحية"! ثالثًا: تصير موضع سخرية كل من يعبر بها: "كل مارٍ يُدهش وينغص رأسه" [16]. نغص الرأس يشير إلى السخرية والاستهزاء، مع حالة من الرعب والخوف مما يحدث، كما ُتستخدم كنوعٍ من الشماتة مع الدهشة على غباء هذا الشعب في علاقته بالله... رابعًا: تتعرض لهجوم العدو كريحٍ شرقية جافة وحارة وعنيفة تبددهم، ليس من يقدر أن يقف أمامها. خامسًا: يصرخون إلى الله لكنه لا يستجيب لهم في يوم مصيبتهم حتى يطلبون في جدية الرجوع إليه، لأنهم كسروا العهد معه. أعطوه القفا لا الوجه أي نبذوه، لذا يعطيهم هو أيضًا القفا لا الوجه، لأنه بالكيل الذي به يكيلون ُيكال لهم ويزداد، لكي يدركوا قيمة حرمانهم من الوجه الإلهي. هذههي أقصى عقوبة، أن يدير الله وجهه عنا. فإنه مهما بلغت التجارب في قسوتها يمكن احتمالها إن أدركنا أن الله يتطلع إلينا ويترفق بنا، أما إذا أدار وجهه عنا، فتتحول حياتنا إلى جحيم لا يُطاق، ونعاني من الشعور بالعزلة، الأمر الذي عانى منه آدم وحواء وهما في الفردوس! |
|