الوحي والسيد المسيح
الإنجيل، كما بيّنا ليس هو رسالة أو نصوص دينية نزلت على المسيح من الماء كما هو الحال في أسفار أنبياء العهد القديم والذين أعلن الله عن ذاته وأرسل رسالاته إلى الأرض بواسطتهم وعن طريقهم وذلك بطرق الوحي المتنوعة مثل الرؤى والأحلام والتكلم مع بعض الأنبياء كموسى "فمًا إلى فم"؛ إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم أكلمه. أما عبدي موسى… فمًا إلى فم أتكلم معه وعيانًا أتكلم معه لا بالألغاز" (33)، "وكلمت الأنبياء وكثرت الرؤى وبيد الأنبياء مثلت أمثالًا" (34)، ومثل إرسال الملائكة برسالات محدده أو عن طريق الوحي بالروح مثلما أوحى الله لنوح ببناء الفلك (36). إنما الإنجيل هو ما عمله وعلمه المسيح ذاته، والمسيح لم تنزل عليه رسالة من السماء بل هو ذاته نزل من السماء، فهو نفسه "كلمة الله الذاتي" و "صورة الله غير المنظور" و "بهاء مجده (الله الآب) ورسم جوهره"، وقد كلمنا الله به وفيه ومن خلاله مباشرة :
"الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواع وطرق كثيرة. كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء الذي به أيضًا عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (37).
ولن المسيح هو كلمة الله الذاتي النازل من السماء فهو أعظم من الملائكة الذين حملوا رسالات السماء إلى الأنبياء وأعظم من الأنبياء الذين حملوا رسالات السماء إلى البشرية، والفرق بينه وبينهم هو الفرق بين "ابن الله" وخدام الله وعبيده. يقول الكتاب عن الفرق بينه وبين الملائكة:
أنه "أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسما أفضل منهم. لمن من الملائكة قال قط أنت أبنى أنا اليوم ولدتك. وأيضًا أنا أكون له أبًا وهو يكون لي أبنًا. وأيضًا متى أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله. وعن الملائكة يقول الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار. وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور… ثم لمن من الملائكة قال قط أجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطنًا لقدميك. أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (38).
فالمسيح هو الأعز وهو الابن، ابن الله، والبكر الذي تسجد له جميع ملائكة الله، والجالس عن يمين الله الآب، بينما الملائكة هم أرواحًا خادمة وساجدة للسيد المسيح.
ويقول الوحي الإلهي عن الفرق بين المسيح والأنبياء في المقارنة بين موسى أعظم أنبياء العهد القديم وبين المسيح "حسب أهلًا لمجد أكثر من موسى بمقدار ما لباني البيت من كرامة أكثر من البيت… وموسى كان أمينًا في كل بيته كخادم شهادة للعتيدان يتكلم به. وأما المسيح فكابن على بيته" (39). موسى خادم في بيت الله وإنما المسيح هو ابن الله وصاحب البيت ذاته..
الفرق بين المسيح وبين الملائكة والأنبياء هو الفرق بين "الابن" و "الوارث" و "صاحب البيت" وبين الخدام والعبيد في ليت الله، بين ابن الله وخدام وعبيد الله. ويبين لنا السيد المسيح نفسه الفرق بينه كابن الله وبين الأنبياء كخدام الله وعبيده في مثل الكرم والكرامين الأردياء:
"كان إنسان رب البيت غرس كرمًا وأحاطه بسياج… وسلمه إلى كرامين وسافر. ولما قرب وقت الأثمار أرسل عبيده إلى الكرامين ليأخذوا أثماره. فأخذ الكرامون عبيده وجلدوا بعضًا وقتلوا بعضًا قائلًا يهابون أبنى. وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه. فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه" (40).
السيد المسيح يصف الله الآب هنا ب "صاحب الكرم" ويصف الأنبياء "بالعبيد" وقادة إسرائيل "بالكرامين الأردياء" ويصف نفسه ب "الابن، أبنه، أبنى، الوارث، أي أبن الله".
ولأنه ابن الله بينما الملائكة والأنبياء هم خدام الله وعبيده، فقد وصف نفسه بأنه "الأعظم"، أعظم من الملائكة وأعظم من الأنبياء بل "وربهم" جميعًا؛ فقال إنه "أعظم من يوحنا المعمدان" (41) و "أعظم من يونان" (42) النبي، و"أعظم من سليمان" (43)، و "أعظم من يعقوب" (44)، و "أعظم من إبراهيم" "ورب" إبراهيم "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (45)، و "أعظم من داود" و "رب" داود "وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلًا: ماذا تظنون في المسيح. ابن من هو؟ قالوا ابن داود. قال لهم فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا قال الرب لربى.. فإن كان داود يدعوه ربًا فكيف يكون أبنه؟" (46)، كما وصف نفسه بأنه "أعظم من الهيكل" (47). فهو الأعظم في السماء وعلى الأرض والمسجود له من جميع الخلائق في السماء وعلى الأرض "لكي تجثوا باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض. ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (48). وكان هو رجاء جميع الأنبياء وقد تنبئوا جميعًا عنه في كل أسفارهم "ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب… مكتوب عنى في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" (49)، وجميع الأنبياء اشتهوا أن يروه وأن يسمعوه "أن أنبياء وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا. وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا" (50). وهذا ما أعلنه هو ذاته.
وبالتالي فقد كانت رسالته مختلفة عن جميع الأنبياء، وكان شخصهن هو، هدف وغاية رسالات الأنبياء، وكما كان هو غاية إعلانات السماء والإعلان السمائي الأخير، والذي فيه تجلى الله على الأرض ظهر في الجسد، فقد كان الإنجيل، إنجيله، إنجيل المسيح، هو محور وجوهر وخلاصة وختام الوحي الإلهي والنبوة "فإن شهادة يسوع هي روح النبوة" (51).