رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
انيسيفورس ووفاؤه لست أعلم من وضع المثل العربى القديم ، عن الغول والعنقاء والخل الوفى ، ... وعد الصديق الصحيح الوفى خرافة من الخرافات فى عالم الناس ، مثل الغول أو العنقاء ، مع أن رحمة اللّه ونعمته وإحسانه أعطت التاريخ البشرى فى كل جيل وعصر أمثلة نادرة من الوفاء الذى يعلو كثيراً على الفكر والتصور والخيال ، ... كان أنيسيفورس بالتحقيق تكذيباً خالداً لهذا المثل القديم.. والرجل ينهض فى كل العصور صورة مثلى للخل الوفى !! .. وبولس يستعرض هذا الوفاء فيجده رائعاً وعجيباً من كل جانب ، فهو أولاً وفاء الخدمة ، وما أجمل الكلمة « أراحنى » ... ولم تكن الراحة هنا وقتية أو محدودة بل « مراراً كثيرة » أو فى لغة أخرى إن الرسول وهو يستعرض شريط الذكريات ، يتوقف عند محطات كثيرة للراحة ، وجد فيها أنيسيفورس ينتظره هناك ، دون أن يتخلف قط عن تزويده بكل أسباب الراحة المادية والأدبية والروحية بسخاء وكرم، ... هل عاد جائعاً ذات يوم بعد جهاد طويل فى الخدمة المضنية ، ليرى المائدة الحافلة مجهزة له بكرم كثير ، ليس صنفاً واحداً من الطعام بل أصنافاً متعددة ، فى وليمة المحبة السخية، التى هتف إزاءها بولس إن لفظاً أو حساً : « أراحنى » ... هل دخل الرسول البيت منهكاً متعباً لا يكاد يقوى على الحركة بعد رحلة طويلة أو سفرة متعبة ، ليجد العلية المجهزة والسرير المريح ، ليضطجع عليه ، وهو يتمتم ، وقد ألقى بجسده فوقه : « أراحنى » .. وهل عاد ذات مساء بعد ضربات قاسية موجعة ، وجراح بالغة ، ليأوى إلى المكان الذى يجد فيه من ينحنى على جراحه يغسلها ويضمدها ويفعل كل ما فى وسعه لإزالة أوجاعها وآلامها !! ؟ ... بل هل عاد أكثر من ذلك بالجراح النفسية العميقة ، وهو يحارب الوحوش فى أفسس ، ويواجه الغدر ، والخيانة ، والمؤمرات ، وما أشبه ، فوجد الابتسامة المريحة والتشجيع الكامل ، والشركة الودودة، والعطف البالغ الذى يغطى كل متاعبه وضيقاته وآلامه ، وسكن بولس إلى هذه كلها وهو يتمتم : « أراحنى » ... والسؤال هل يمكن أن يوجد « أنيسيفورس » فى كنائسنا فى كل مكان فى هذه الأيام ، وهل يمكن أن نراه فى الشيخ المحب أو الشماس المساعد أو العضو الذى يريد أن يرفع عن كاهل الراعى الكثير من الآلام والمتاعب ، ... آمل ذلك كثيراً لأن هذه هى الرسالة المسيحية الصحيحة الموضوعة على كل مؤمن فى خدمة يسوع المسيح ، وأود أن نراه دائماً وكثيراً جداً ، وليس كاحسان الندى المتقطع ، أو كمن يبدأ حسناً ليتحول إلى النقيض ، ... أو كما تقول الأقصوصة التى تخيلها أحدهم وهو يصور الكنيسة على شكل عربة يقودها الراعى والشيوخ من الخلف يدفعونها فتسير بيسر وسهولة والجميع يرنمون ويغنون ، ... على أن الراعى بعد فترة من الزمن لاحظ صعوبة الحركة فى العربة ، وتعجب ، والتفت إلى الوراء ليرى الشيوخ وقد ركبوا ليصبحوا عبئاً بعد أن كانوا معينين ، ... أشكر اللّه لأننى ، طوال خدمتى الرعوية ، لم أعرف هذا الصنف من الناس ، بل على العكس رأيت الكثيرين من الأحباء الأوفياء من شيوخ وكل واحد منهم أنيسيفورس فى الخدمة المشتركة ليسوع المسيح !! .. على أن وفاء أنيسيفورس كان أكثر من ذلك كان وفاء الحركة الباحثة المجدة ، .. إن الوفاء الصحيح يتحول شعلة فى القلب ، وناراً تتلظى بين الجوانح فى الحضور أو الغيبة على حد سواء، ... لم يتتغير إحساس أنيسيفورس تجاه بولس لمجرد أنه رحل من أفسس إلى رومة ، على مبدأ القائلين إن « البعيد عن العين بعيد عن القلب » ، .. ولم يحاول الرجل أن يعتذر بأن العناية سمحت بأن يبعد بولس عنه ما يقرب من ألف ميل ، وهو ليس مسئولا عن القريب البعيد فى حظه أو بؤسه ، مادام بعيداً عنه فيما وراء البحر الكبير الذى يفصل بين أسيا وأوربا ، ... إن بعض الناس وربما من بين المحبين الأتقياء ، من ينفض عن كاهله وضميره كل إحساس بالالتزام للذين تغربوا وبعدوا ، ولم يعد الاتصال بهم أو الاقتراب منهم ، سهلاً ميسوراً ، .. كلا إن أنيسيفورس كان يحمل حباً لبولس سواء كان فى أفسس أو روما أو فى أى مكان على ظهر الأرض ، .. وهو لابد يتغلب على كافة المتاعب والمشقات بحثاً عن صديقه الحبيب وأخيه العظيم فى المسيح يسوع !! .. وهو يطلب بولس بأوفر اجتهاد . والسؤال هنا كيف حدث هذا الاجتهاد ، لقد اختلف الشراح والمفسرون ، فمنهم من اعتقد أن أنيسيفورس ذهب إلى روما لغرض من أغراض التجارة ، وإذ وجد فى المدينة الكبيرة أخذ يفتش عن بولس هناك ، .. غير أن ألكسندر هوايت لا يقبل هذا الرأى أو يؤمن به ، إذ يعتقد أن أنيسيفورس أخذ رحلته من أفسس إلى روما سعياً وراء بولس وهو يطلبه بأوفر اجتهاد !! .. وأياً كان التفسير الصحيح فان هذا لا يقلل البتة من المشقات المضنية التى لاقاها الرجل حتى وصل إلى بولس ، وقد كان السفر فى ذلك الوقت من أشق الأمور وأصعبها ،.. والسؤال لماذا لم يتعرف أنيسيفورس على بولس بسهولة؟ لقد كان بولس فى ذلك الوقت فى سجنه الأخير ، وربما كان الرعب قد وقع على الجميع ممن يعرفون بولس ، وكانوا يلتقون فى الخفاء فى أماكن متغيرة حتى لا يقبض عليهم فى عهد الطاغية نيرون، كما أن السجون كانت كثيرة فى روما ، والتزم أنيسيفورس أن ينتقل من سجن إلى سجن باحثاً عن صديقه المحبوب ، ولم يهدأ أو يسترح حتى عثر عليه فى واحد منها !! .. فإذا أضفنا إلى ذلك أن وفاء أنيسيفورس لم يتأثر بالآخرين ، والوفاء الصحيح لا يتغير بذبذبة الناس أو تقلبهم أو تغير عواطفهم ، .. بدأ أنيسيفورس رحلته ، وهو لا يعبأ بأن جميع الأسيويين ارتدوا عن بولس ، ومهما كانت دوافع ارتدادهم ، فإن قلب الرجل لم يتأثر بالجميع ، بل لعله ازداد حباً وعطفاً على صديقه المنكوب فى الآخرين !! .. إن الوفاء الصحيح لن يقويه أو يشدده كثرة الأوفياء الآخرين أو شخصياتهم أو حيثياتهم، ... لقد وقف أنيسيفورس إلى جانب بولس لأنه كان يؤمن أن بولس يقف بجلال وبهاء إلى جانب قضية المسيح العظيمة !! .. على أن عظمة هذا الوفاء تظهر فى أنه الوفاء فى المحنة ، وقد تخيل ألكسندر هوايت صورة اللقاء بين بولس وأنيسيفورس ، ولم يكن بولس فى سجنه الأخير عند معذبيه وسجانيه أكثر من سجين ، وربما لا يعرف باسمه بل بمجرد رقم يعطى له كما يعطى لغيره من المساجين ، فإذا كان الرجل عند أنيسيفورس أعظم رجل فى عالم الأحياء ، فإنه عند الرومان ليس أكثر من رقم قد لا يكون معروفاً على الإطلاق ، .. وأنيسيفورس يسأل هنا وهناك ، ويكد نهاراً وليلا ، حتى يعثر عليه آخر الأمر فى زنزانته الضيقة ، والسلسلة فى يديه ، وذهل الجندى الحارس عندما رأى أنيسيفورس يطوق بولس بالحب والحنان والقبل والدموع ، والجندى يتعجب لهذا المنظر المثير العجيب بين الرجلين على نحو غير مألوف أو معروف بين الناس !! .. إن السلسلة التى كان يخجل منها الكثيرون ممن كانوا أصدقاء الأمس ، واليوم هم متباعدون ، هذه السلسلة تحولت ذهباً صافياً فى فكر أنيسيفورس يزين معصم الرسول ، ومجداً خالداً وليس عاراً كما يراها الخونة الهاربون، .. « لم يخجل بسلسلتى » .. أى أنيسيفورس !! إننا نحنى رؤوسنا خجلا أمام نبلك العظيم أيها الشريف بين الناس وبين المؤمنين على حد سواء !!؟ وكم يتوارى الكثيرون عن الوقوف إلى جانب أبطال الصليب ، الذين يسيرون وراء سيدهم حاملين عاره !! .. لم يكن الأمر عند أنيسيفورس مجرد الوقوف بدون خجل إلى جانب بولس ، بل كان أكثر من ذلك الوفاء الشجاع فى وقت الخطر الرهيب المفزع الذى سلط فيه نيرون أبشع اضطهاد على المسيحيين فى روما ، ... ومع ذلك فإن أنيسيفورس لا يبالى بالخطر أو الموت ، وهو يبحث عن صديقه المحبوب ، ... ولعل السر فى ذلك ليس مجرد الحب القوى العميق الذى يربط بين قلب وقلب ، بل بالأحرى الإيمان المسيحى ، الذى يسمو بهذا الحب ، ويطبعه بطابعه السماوى القدسى ، وأنيسيفورس يؤمن بأن الوفاء لا يجوز أن يتراجع البتة مهما كان الخطر أمام الخدمة المسيحية ، بل بالأحرى إن المسيحيين فى حاجة إلى الإقدام الشجاع والتضامن فى قلب الكوارث والمحن ، وهنا يلمع الوفاء على أجمل صورة معروفة بين الناس . كتب ريموند فوسدك مقالا رائعاً عن الإيمان فى وقت الخطر ، وهو يؤكد أن أعظم الأعمال التى حققها الإنسان تمت فى أوقات كان العالم خلالها يجتاز أقسى المحن ويقول : « كان القديس جيروم قد انتهى لتوه من ترجمته اللاتينية للكتاب المقدس وهو قابع فى صومعته فى بيت لحم عام 140 ميلادية ، وقد بدأ فى إعداد تعليقاته عندما سمع أن روما المدينة الخالدة ، ورمز الخلود عنده للمسيحية قد نهبها ألريك القوطى وجيشه من البرابرة ، وبدا لجيروم أن عمله أصبح لا جدوى منه فكتب يقول فى يأس. «ماذا بقى لنا إذا هلكت روما» ... لقد خيمت على العالم العصور المظلمة لمدة سبعمائة عام مليئة بالمحن ، .. ولكن بقى شئ آخر هو الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس الباقية إلى اليوم،. فمن صفحاتها برزت أمجاد المسيحية بعد ذلك : « كاتدرائية شارتريه » « الكوميديا الإلهية لدانتى» ولوحات ميخائيل أنجلو ، وموسيقى آلام القديس متى لباخ ، .. وهكذا استمدت العصور التالية ازدهارها من دير عاش فيه منذ قرون رجل حطمته كوارث عصره ، ولكنه مضى فى أداء عمل يؤمن به .. لقد خلق عمل القديس جيروم على مر القرون أكثر مما دمره ألريك وخلفاؤه بكثير .. تلك هى النقطة التى يجب أن تظل ماثلة فى أذهاننا ، بعد أن بدا أن القوى الهمجية قد اقتحمت حدود عصرنا فى القرن العشرين ، كما فعلت فى القرن الخامس ... إن الأعمال الفذة التى حققها الإنسان كانت أكثر حدوثاً فى سنوات القلق ، ففى خلال أعمال العنف التى اجتاحت القرنين الثانى عشر والثالث عشر ارتفعت كاتدرائية شارتريه وأبراج كاتدرائية ساليسبورى التى كانت مجد عصرها فى ذلك الحين !! .. وانجز ملتون أعظم أعماله خلال فوضى الحرب الأهلية ، وألف بيتهوفن وجوته أعمالها الخالدة بينما كانت جيوش نابليون تشق طريقها عبر أوربا ... إننا نعلم أن أجدادنا الأولين كانوا محاطين بالخوف دائماً ، غير أن فيضاً من الجرأة والشجاعة الفائقة كان يتدفق دائماً عبر التاريخ فى وجه الظروف المعاكسة ، كانت هناك مرونة ورفض لقبول الهزيمة ، وإنكار عنيد لفكرة أن الحياة الإنسانيــــة لن تنهــــض فوق الكارثة !! .. الخ .. فى الحقيقة عندما نتأمل لقاء بولس وأنيسيفورس ، والرسول فى زنزانته مقيد بالأغلال والسلاسل ، وعلى مقربة من الموت ، لا نستطيع البتة أن نفصل بين وفاء الرجل الأسيوى القديم وبين الإيمان المسيحى الكامن وراء قصة هذا الحب النادر بين الناس !! .. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
انيسيفورس Onesiphorus |
حب توما وغَيْرته ووفائه لسيده يسوع |
نبذة عن القديس انيسيفورس الرسول |
انيسيفورس صديق المطفيين |
انيسيفورس وجزاؤه |