كان هادريان شابًا يعمل رئيسًا للموظفين الذين يعملون مع غالريوس حاكم الشرق الذي كان يحاكم المسيحيين في عهد دقلديانوس. وقد حدث أن غالريوس ذهب إلى نيقوميديا فقدموا له ثلاثة وعشرين مسيحيًا لمحاكمتهم، أظهروا شهادة مدهشة لإيمانهم، وكان ذلك سببًا في تأثر هادريان الوثني لدرجة كبيرة بما كان يرى من شجاعة المسيحيين، فسأل عن سرها. فلما جاءوا بأولئك المسيحيين إلى ساحة القضاء أمام غالريوس الذي ثار لإجابتهم ونادى على الموظفين ليكتبوا مذكرة. سأل هادريان: "هل أكتب مذكرة باسمي معهم؟ فأنا مسيحي أيضًا". - هل جننت؟ أتريد أن تفقد حياتك؟ - لست مجنونًا يا سيدي، وإنما كنت من قبل مجنونًا بالفعل، وأما الآن فإني كامل العقل. - أصمت والتمس العفو مني، واعترف أمام الجميع بأن ما قلته كان خطأ منك، ولسوف أمحو قولك هذا من مضبطة المحكمة. - كلا وإنما الأجدر لي أن أسأل العفو من الله عن كل أفعالي الشريرة السابقة وأخطاء حياتي. - هل ستضحي وتعبد الآلهة كما أفعل أنا وكل أحد؟ - أنت على خطأ. ولِمَ تسوق الآخرين إلى الخطأ فتضيع نفسك وكل أنفس هؤلاء اليتامى الذين تسوقهم إلى عبادة آلهة لا حياة فيها، ويتركون الله الذي خلق السماوات والأرض والبحر وكل ما فيها؟ - أتظن أن آلهتنا هكذا صغيرة، بينما هي عظيمة؟ - لا أظن أنها صغيرة أو عظيمة، إنها لا شيء على الإطلاق. - اعترف للآلهة حتى تتعطف عليك وتردّك بكرامة إلى وظيفتك السابقة. إنك لست كالآخرين المسجونين معك، فإنك ابن رجل شريف، ومازلت في ريعان شبابك، وأمامك المجال واسعًا للترقي. أما هؤلاء فهم مخلوقات بائسة من الفلاحين. - إنك تقول ذلك لأنك تعرف شيئًا عن أسرتي وأسلافي وبيتي. ولكنك لو عرفت شيئًا عن هؤلاء القديسين وغناهم الروحي، والمسكن الذي يتطلعون إليه لألقيت بنفسك عند أقدامهم، وتوسلت إليهم أن يصلوا من أجلك، بل أنك ستحطم آلهتك بيديك. عندئذ أمر غالريوس جنده بأن يلقوا هادريان على الأرض ويوسعوه ضربًا وهم يرددون: "لا تجدف على الآلهة". ظل غالريوس يحاول مع هادريان، وأمر الجند أن يتوقفوا عن ضربه لأن الجسم الرهيف لا يقدر أن يحتمل أكثر من ذلك، ثم قال غالريوس: - أنظر كيف أود أن أنقذك؟ اذا دعوت الآلهة بلسانك فقط (أي بدون تقديم قرابين) سأستدعي أطباء حالًا لعلاج جراحاتك وتكون معي اليوم في قصري. - أنا مستعد أن أفعل ذلك لو أن الآلهة وعدت بصوت مسموع أن تفعل ما قاله الإمبراطور. - ماذا تقول؟ إنها لا تقدر أن تتكلم. - لماذا إذن تقربون قرابين لأشياء لا تقدر أن تتكلم؟ نُقِل هادريان إلى السجن. ميراث عجيب:
أُخبِرت زوجته ناتاليا - التي كانت هي نفسها مسيحية وتزوجا منذ 13 شهرًا فقط - بما حدث، فأسرعت إلى السجن وأخذت تُقَبِّل السلاسل التي كان زوجها مقيدًا بها، قائلة: "طوباك يا هادريان، لأنك وجدت الكنوز التي لم يتركها لك أبوك وأمك، والتي سيحتاجها حتى الأغنياء في اليوم الذي لا ينفع فيه الأب ولا الأم ولا الأبناء ولا الأصدقاء ولا ممتلكات العالم". توديع زوجته:
تركته ناتاليا وذهبت لرعاية رفقائه المسيحيين في السجن وتوجيههم. وحين علم هادريان بقرب موعد محاكمته قدّم رشوة للسجان حتى يُسمح له بالذهاب لتوديع زوجته. في طريقه إلى المنزل أُخبِرَت ناتاليا بمجيء زوجها فظنَّت أنه أنقذ نفسه بإنكار الإيمان، فأوصدت في وجهه الباب. لكنه أخبرها بالحقيقة وأن بقية المسجونين رهائن إلى حين عودته للسجن، فتعانقا وقبَّلا بعضهما وصحبته ناتاليا للسجن مرة أخرى. وقد بقيت هناك أسبوعًا لرعاية المعترفين وتضميد جراحاتهم، حتى أُحضِر هادريان أمام الإمبراطور ورفض التبخير للأوثان، فجُلِد وأعيد للسجن ثانية. ناتاليا تخدم المسجونين:
أتت سيدة أخرى لرعاية المعترفين، ولما علم الإمبراطور بذلك منع النساء من زيارة المسجونين، فحلقت ناتاليا شعرها وتخفَّت في زي الرجال وقدّمت رشوة للجند ودخلت مثل الرجال، وطلبت من زوجها حين يذهب للمجد في السماء أن يصلي لأجلها حتى تكمل جهادها وتلحق به.
مساندة زوجته له حُكِم على الشهداء بتقطيع أطرافهم، وطلبت ناتاليا أن يبدأوا بزوجها حتى تتجنب مشاهدة عذاباتهم كلهم. أسرعت نَتاليا من قاعة المحكمة إلى زنزانة المعترفين الآخرين وأخبرتهم أن استشهاد زوجها قد بدأ، وطلبت صلواتهم لمعاضدته. وحين أتوا به إلى الآلة تقدمت هي وكشفت أطراف زوجها ثم سجدت بجواره حين كانت عظامه تتهشم إلى أن قُطِعت يديه ورجليه. يقال أن زوجته ناتاليا كانت تمسك بيديه وقدميه وهي تسند إيمانه أثناء هذه العملية البشعة، ولم يلبث هادريان أن مات متأثرًا بما لحق به من تعذيب. فأخفَت ناتاليا أحد كَفَّيه بين ملابسها قبل جمع أجساد الشهداء لحرقها. ولكن في تلك اللحظة هبَّت عاصفة ممطرة أطفأت النار فجمع المسيحيون في نيقوميديا أجساد الشهداء ودفنوها بالقرب من بيزنطية. بعد مدة سافرت ناتاليا إلى بيزنطة (القسطنطينية) هربًا من مضايقة أحد جنود الإمبراطور الذي أراد الزواج منها، وأخذت معها كنزها الثمين: كف هادريان في ستر أرجواني ككنز ثمين. وبعد وصولها بفترة قصيرة تنيحت بسلام ودفنت مع الشهداء وحُسِبت من ضمنهم، وكانت نياحتها سنة 304 م. العيد يوم 8 سبتمبر. * يُكتَب أيضًا: نتاليا، أناطوليا، نتالي، ناتالي.