رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نهاية الأبرار والأشرار: 1. عجز الأشرار عن الإيفاء بديونهم وقدره الأبرار على العطاء. إن كان الأشرار يبذلون كل الجهد ليسلبوا الأبرار ممتلكاتهم ويحرمونهم حقوقهم بل يطلبون أنفسهم، إذا بهم حتى في هذا العالم يفقدون بركة الرب في حياتهم يقترضون ولا يقدرون على الإيفاء، بينما تملأ بركة الرب حياة الأبرار ليعطوا بسخاء وفرج. الاقتراض هنا لا يقف عند الأمور المادية وإنما بالأكثر الاحتياجات النفسية، فالشرير قد يكون غنيًا بماله لكنه بائس، يشعر بفقر داخلي ومذلة وحرمان، ينقصه الحب والفرح والسلام... يتوسل لكل أحد ليهبه كلمة حب صادقة أو يبعث فيه سلامًا.... أما البار فحتى في لحظات استشهاده يسكب على كل من حوله فرحًا وبهجة قلب، فتتحول أيام استشهادهم إلى أعياد مفرحة! "يستقرض الخاطئ ولا يفي. أما الصديق فيتراءف ويعطي" [21]. اقترض الشرير من الله نعمة الوجود، ونال منه بركات العاطفة والعقل والدوافع والجسد... وعوض أن يستخدمها لحساب ملكوت الله كآلات برّ لله يجعلها آلات إثم للخطية (رو 6: 13). أنه يقترض ولا يفي بل يقاوم دائنه، أما الصديق فيحمل طبيعة مخلصه، إذ يتراءف ويعطي حتى ذاته لأجل خلاص اخوته. الشرير تحل به اللعنة فيهلك، والصديق يرث أرض الموعد، كنيسة العهد الجديد بثرواتها الروحية. إحدى البركات التي وُعد بها المؤمنون الطائعون للوصية في العهد القديم قدرتهم أن يُقرضوا الغير وعدم احتياجهم أن يقترضوا من أحد (تث 15: 2؛ إش 24: 20). إحدى اللعنات التي تقع على مقاومي الله أن يضطروا على الاقتراض مع عجزهم عن إقراض الآخرين (تث 28: 44). رذائل الأشرار وعدم تقواهم وتهورهم تدخل بهم إلى حالة عوز . * إنه يأخذ (يقترض) ولا يوفي؛ فما الذي يرده؟ الشكر! أنه لا يفي الله الذي نال منه (العطايا) شكرًا، بل على النقيض إذ يرد له الخير شرًا وتجديفًا وتذمرًا وجحودًا... أما الآخر (الصديق) فيُظهر رحمة ويُقرض، طرقه سخية؛ لكن ماذا لو كان فقيرًا؟ حتى وإن كان فقيرًا فهو غني... ليس لديه ثروة من خارج لكنه يملك الرأفة في داخله. القديس أغسطينوس 2. يخسر الشرير ميراثه وحياته بينما يرث الصديق أرض الأحياء: "والذين يباركونه يرثون الأرض. والذين يلعنونه يُبادون" [22]. يبدو كأن الأبرار لا يملكون شيئًا مع أنهم يملكون كل شيء ويُغنون الكثيرين، وكما يقول الرسول بولس: "كفقراء ونحن نُغني كثيرين؛ كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10)، إذ يملكون نعمة الله وبركته. يمتلئ الأشرار جشعًا وظلمًا، ونهايتهم أنهم ينالون اللعنة ويبادون، بينما يُعرف الأبرار بالسخاء والرأفة فيمتلئون ويرثون الأرض. * إنهم يملكون البار (الله)، البار الحقيقي وحده الذي يبرر، هذا الذي كان فقيرًا على الأرض ومع ذلك جاء بهبات سخية عظيمة ليغني كل الذين وجدهم فقراء معوزين. أنه ذاك الذي يهب الروح القدس لقلوب المساكين، ويطهر النفوس باعترافها بالخطايا، ويملأها بكنوز البر. إنه ذاك الذي استطاع أن يُصيّر صياد السمك غنيًا بتركه شباكه جانبًا غير مهتمٍ بما يملكه ليضع قلبه على ما لا يملكه (الخدمة). القديس أغسطينوس * يَعد الله أولئك الذين يطلبون ملكوته وبره أن هذه كلها تزاد لهم. حيث أن كل شيء هو ملك الله فلا يعتاز من يملك الله شيئًا، ما دام لا يفتقر إلى الله نفسه. لقد وُهب دانيال طعامًا إلهيًا حين أُلقي في الجب بأمر الملك؛ بينما كانت الوحوش الضارية جائعة ولم تأكله إذا برجل الله يشبع. وهكذا إيليا في هروبه أطعمته الغربان، وخدمته في وحدته؛ فقدمت له الطيور طعامًا حين كان مضطهدًا . الشهيد كبريانوس 3. يجد الأبرار الله قائد حياتهم: "من قبل الرب تعتدل خطوات الإنسان، ويهون طريقه، وإذا سقط لا يضطرب، لأن الرب يسند يده" [23-24]. لله خطة في حياة كل إنسان شخصيًا، سواء كان كاهنًا أو راهبًا أو من الشعب؛ شيخًا أو شابًا أو طفلًا، رجلًا أو امرأة. كل نفس لها تقديرها ورسالتها الخاصة في عيني الله. وهو كآب لا يأتمن أحدًا غيره على تحقيق هذه الرسالة، حقًا يستخدم ملائكته خدامًا للعتيدين أن يرثوا الأرض، وأنبياءه ورسله وخدامه بل والطبيعة ذاتها، لكنه يبقى هو المخلّص الحقيقي لهم، يقدم لهم ذاته طريقًا. * لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبي ائتمنته على خلاصنا، بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست وشابهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، وصرت لنا وسيطًا مع الآب. وصالحت الأرضيين مع السمائيين، وجعلت الاثنين واحدًا . (قداس) القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس دخل الطريق (المسيح) طريق الآلام والصلب لكي يثبّت خطواتنا فنهوى الألم، ونسرُّ به لا من أجل الألم ذاته وإنما من أجل مشاركتنا للسيد المسيح طريقه ومشاركته إيانا آلامنا. * لكي يهوى الإنسان طريق الله، يوجه الرب نفسه خطواته، لأنه إن لم يوجه الرب خطوات الشر يضلون حتمًا في طريق الخطية، إذ هذه هي طبيعتهم؛ وإذ يضلون طويلًا في طريق معوجة يصير الرجوع بالنسبة لهم (بدونه) مستحيلًا. القديس أغسطينوس يمسك الرب بأيدينا كأب يدرب أطفاله الصغار، ويقتادهم بنفسه، يُسر بهم في طريقه، ويسرون هم به، لأنه يسير معهم ويعلن ذاته لهم ويسندهم في ضعفاتهم. في الطريق قد يسمح لهم بالسقوط لكي يكتشفوا ضعفهم، ويدركوا حاجتهم إلى قيادة روحه القدوس ومساندة نعمة الله لهم. يسقطون لكنهم لا يتحطمون، فإن عينيه تنظران إليهم، ويديه تمتدان لتنشلنا إن صرخنا إليه. يقول الرسول يعقوب "لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا" (يع 3: 2). هذه العثرات لا تجعلنا ننهار بل أن نرفع أعيننا دومًا لله القادر أن يقيمنا! يرى البعض أن السقوط هنا لا يعني السقوط في الخطية بل السقوط في المتاعب، فإن الله في كل الأحوال لا يترك مؤمنيه أبدًا ينهارون. 4. اختبار الأبرار نعمة الله: "كنت شابًا وقد شخت، ولم أرَ صديقًا قط مِن الرب مرفوضًا، ولا ذريته تلتمس خبزًا. النهار كله يرحم ويقرض، وزرعه يكون مباركًا" [25-26]. إذ يتحدث المرتل عن بركات الله التي تحل بالبار المملوء حبًا ورأفة وضياع الشرير الظالم، ربما يُسأل: هل حديثك هذا عملي وواقعي؟ لذا يجيب بأنه منذ صباه حتى شيخوخته لم يجد صديقًا أو بارًا واحدًا قد تخلى الله عنه أو رفضه، إنما يقف دائمًا بجانبه، بل وبجانب ذريته أيضًا. ربما يسمح الله أحيانًا إن يجوع بعض الأتقياء أو أولادهم، أو يعيشوا في عوز، لكنهم لن يتركهم إلى النهاية. يسمح بآلامهم لكنه لا يتخلى عنهم في تجاربهم، بل يبقى معهم، يحمل معهم أتعابهم وينجيهم، بل ويمنحهم نفسه شعبًا وغنى لهم. * لن يسمح الرب قط أن تهلك نفس بارة جوعًا، إذ يقول المرتل: "كنت شابًا وقد شخت، ولم أرَ صديقًا قد تخلى عنه ولا ذريته تلتمس خبزًا". إيليا كان يقتات بخدمة الغربان، وبأرملة صرفة صيدا التي توقعت موتها مع ابنها في ذات الليلة التي قضتها، فقد قدمت طعامًا للنبي إيليا ولم تعد طعامًا لنفسها. * محبة المال أصل كل الشرور. يتحدث الرسول عن الطمع بكونه عبادة أوثان (كو 3: 5). "اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت 6: 33). لن يسمح الرب أن يموت بار جوعًا؟! القديس جيروم يليق بالبار الذي يفتح قلبه وذراعيه للفقراء والمساكين ألا يرتبك بخصوص مستقبل أولاده بعد رحيله، فأنه يقدم لهم حياته المقدسة ميراثًا يسندهم أما الشرير فهو "تائه لأجل الخبز حيثما يجده" (أي 15: 23)، يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب فلا يعطيه أحد (لو 15: 16). * ليكن (الله) هو صيّ أولادك؛ ليكن هو كفيلهم، ليكن هو حاميهم بجلاله الإلهي ضد كل الأضرار الزمنية... هذا هو الميراث الموضوع في أمان والمحفوظ تحت وصاية الله. الشهيد كبريانوس * أنك أب ظالم وخائن ما لم تقدم لأبنائك مشورة خالصة، وأن تنظر إلى حفظهم في الدين والتقوى الحقيقة. يا من تهتم بالحري بأمورهم الزمنية وليس بممتلكاتهم السماوية، يا من تضعهم في وصاية الشيطان لا المسيح، تمارس خطيتين، وترتكب جريمة مزدوجة، وذلك بأنك لا تمد بنيك بعون الله أبيهم، وبتعليمهم أن يحبوا قنيتهم أكثر من المسيح . الشهيد كبريانوس يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا: "كنتُ شابًا والآن شخت" إنما هو السيد المسيح في جسده الكنيسة... كأن الناطق هنا هو الكنيسة، جسد المسيح، التي تقدم خبرتها عبر الأجيال. * جسد المسيح أي الكنيسة، مثل أي كائن بشري، كانت في بداية حياتها صغيرة كما ترون، والآن هي في نهاية العالم قد بلغت سن الكبر المثمر. فإن الكلمات: "حينئذ يكثرون في شيخوخة دسمة" (مو 92: 14) قيلت عن الكنيسة التي تزدهر بين الأمم كلها. حديثها كحديث إنسان واحد بخصوص صباه وتقدمه في السن الحالي، فإنها قد فحصت كل شيء، فإنها بالكتاب المقدس عرفت كل الزمان، وها هي تعلن في رفعة وتحذير: "والآن قد شخت، ولم أرَ صدّيقًا تُخلي عنه ولا ذريته تلتمس خبزًا". الخبز هو كلمة الله التي لا تُحْرَم منها قط شفتا البار (مت 4: 3-4). القديس أغسطينوس 5. يختبر البار الحياة الأبدية الصالحة: "حد عن الشر واصنع الخير واسكن إلى دهر الدهور" [27]. هذه هي الوصية السابعة حيث يلتزم البار ألا يحد عن الشر فحسب، وإنما يمارس العمل الإيجابي أي يصنع الخير، بمعنى يلتزم البار ألا يتشبه بالأشرار في ممارستهم للظلم وإنما يليق به أيضًا أن يسلك بروح الرب الصالح. هذه الوصية تحمل في ذاتها مكافأة، إذ يلحقها المرتل بالقول "واسكن في دهر الدهور"، وكأن الامتناع عن الشر وصنع الخير هو دخول إلى عربون الحياة الأبدية حيث لا يوجد إثم بل صلاح دائم. الشر يعطي لذة مؤقتة سرعان ما تزول، بل وتتحول إلى مرارة، أما الخير فيدخل بنا إلى تذوق المباهج الإلهية الأبدية. سبق لنا الحديث عن الجانبين: السلبي والإيجابي في حياة المؤمن التقي (مز 34: 13). * لا تظن أنك تصنع خيرًا إن كنت لا تسلب إنسانًا ثيابه. حقً إنك بهذا حِدت عن الشر، لكن يليق بك ألا تقف عند هذا الحد بلا ثمر؛ فالأعظم من عدم سلب ثياب إنسان هو أن تكسو عريانًا. القديس أغسطينوس * يليق بكل من يريد أن يخلص ألا يقف عند الامتناع عن الشر بل يلزمه أن يصنع الخير أيضًا... فالإنسان الذي اعتاد أن يغضب دائمًا لا يكفي أن يكف عن الغضب بل يلزمه أن يتعلم الحلم... هذا هو الحيدان عن الشر وصنع الخير، فكل رذيلة تضادها فضيلة . الأب دوروثيؤوس 6. يتمتع الأبرار بعدل الله أبديًا: "لأن الرب يحب الحكم ولا يهمل أصفياءه، يحفظهم إلى أبد الأبد" [28]. يحب الرب الحكم أو "الحق"، بكونه هو الحق، ويُسر بأن ينصف مظلوميه، يبقى أمينًا مع من أحبهم وأحبوه. قد يسمح لهم بالمتاعب إلى حين، إنما ليعلن رعايته لهم أبديًا. إنه يحفظهم إلى أبد الأبد، وكأنهم كنز السماء! * "لأن الرب يحب العدل ولا يهمل قديسيه". الوسيلة التي يتمم بها هذا هي أن حياة القديسين مخبأة فيه، فبينما الآن يتعبون ويكدّون على الأرض، يشبهون الأشجار التي تراها في الشتاء بلا ثمار ولا أوراق، لكن حينذاك يشرق أمامهم كشمس جديدة، فتظهر الحيوية التي تكمن في الجذور في ثمارهم... قد تحتقرون قديسًا حين يكون تحت التأديب، أنكم ترتجفون حين ترونه ملتحفًا بالكرامة. القديس أغسطينوس ربما يسأل أحد: حقًا لا يتخلى الله عن قديسيه؛ فالثلاثة فتية القديسون الذين سبحوه في النار لم تمسهم النار، بينما المكَّابيون وهم قديسوه هلكت أجسادهم في النار مع أنهم لم يتخلوا عن إيمانهم، فلماذا؟ يجيب القديس أغسطينوس، قائلًا: [اصغِ إلى ما جاء بعد ذلك: "يحفظهم إلى أبد الأبد" [28]. إن كنتم ترغبون في أن يعيش (القديسون) بضع سنوات إضافية، فبهذا الافتراض لا يأخذ الله قديسيه. لكن الله لم يتخل علانية عن الثلاثة فتية، كما لم يتخل عن المكابيين سرًا. الأولون وُهبوا الحياة الزائلة (بالجسد) ليُخزوا غير المؤمنين، أما الآخرين فقد كللهم سرًا ليُدين ضلال المضطهدين]. 7. يرث الأبرار الأرض ويسكنون فيها أبديًا [29]. وقد سبق لنا الحديث عن هذه الأرض التي يرثها الصابرون منتظروا الرب والودعاء. 8. ينعم الأبرار بالحكمة السماوية: "فم الصديق يتلو الحكمة، ولسانه ينطق بالحكم. ناموس الله في قلبه، ولا تتعرقل خطواته" [30]. لم يسبق أن صادفتنا كلمة "الحكمة" في سفر المزامير من قبل، وهي تشير إلى معرفة الإرادة الإلهية والأمور المقدسة الصادرة عن كلمة الله، بسكنى روحه القدوس وخلال خبرة الشركة مع المخلص. عطية الله لأتقيائه أن يتمتعوا بالسيد المسيح عاملًا في فمهم وعلى لسانهم وفي قلوبهم وسلوكهم، إذ هو الحكمة التي يتلوها الصديق، وهو العدل (الحكم) الذي ينطق به لسانه، وهو ناموس الله المتجلي في قلبه وقائد خطواته. يليق بالمؤمن أن يجاهد بالنعمة الإلهية لكي ينعم بالشركة مع المسيح، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله معكم شريطة ألا يفارقكم كلمته]. وفي نفس الوقت يدرك أن تمتعه بالكلمة هو عطية مجانية يهبها الله لأحبائه المتجاوبين مع حبه. يركز سفر المزامير كثيرًا على الفم بكونه، أما أداة لإبليس الكذّاب وأبي الكذابين يقدم خلاله الخداع والغش والتجاديف، أو أداة الله يعلن خلاله حكمته وأسراره الفائقة. المؤمن التقي أشبه بقيثارة تعزف أسرار الله أوتارها القلب والفم والعمل! الكل يتناغم معًا في انسجام، ما ينطق به اللسان يتفق مع ما في القلب، ويتجاوب معه السلوك. 9. خطوات الصديق لا تتقلقل ولا تنحرف عن الطريق الملوكي: "ناموس الله في قلبه، ولا تتعرقل خطواته" [31]. سرّ التزامه بالطريق الملوكي حبه للوصية الإلهية من كل القلب، وطاعته لها في حياته العملية. الوصية بالنسبة له ليست ثقلًا وإنما سندًا له، تحفظه في الطريق الملوكي فلا تتعرقل خطواته. بها يتشبه بالله خالقه، وبها يدخل إلى الحضن الإلهي، بفضل روح الله القدوس الذي أوصى لنا بالكلمة والذي يسندنا لنعمل بها. 10. لا سلطان للشرير على الصديق: "يتفرس الخاطئ في الصديق، ويلتمس أن يقتله؛ والرب لا يبقيه في يديه. ولا يدحضه في الحكم إذا ما هو دانه" [32-33]. يبدو كأن الصديق دائمًا في قبضة الشرير، لكن الله لا يتركه هكذا. إنه يخلصه كما خلص داود من يد شاول، ومردخاي من يد هامان، وبطرس من قبضة هيرودس. وإن لم يكن ثمة مهرب من أيدي الأعداء لسببِ أو آخر في قصد الله، فإنه يفتح أبواب السماء ويأخذ قديسه إلى الفردوس كما فعل مع اسطفانوس وكل الشهداء. لقد ترك الآب ربنا يسوع كما في أيدي أعدائه، لكن لم يُبقه هكذا، إذ قال السيد المسيح لبيلاطس: "ليس لك سلطان عليَّ إن لم تكن قد أعطيت من فوق"، كما قال: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (يو 22: 53)؛ وكأن الظلمة قد نالت سلطانًا إلى ساعةٍ على السيد المسيح حتى يتم الخلاص بصلبه. ربما يشير المرتل هنا إلى الدينونة الأخيرة، حيث يتم القضاء ويصدر الحكم العادل كما حدث مع المرأتين المتنازعتين على طفل كل منهما تَدّعي أنها أمه. ففي وقت ما ظهر سليمان الحكيم كمن لا ينحاز لأي منهما، لكن في النهاية أمَّن حقوق الأم الحقيقية المحبة لطفلها وحَفَظها. هكذا قد يصمت الله إلى حين لسبب ما، لكنه في الوقت المعين يصدر الحكم. * يُسلَّم الجسد في قبضة المضطهدين، لكن الله لا يترك تقيّه هناك، من الجسد الأسير يحضر (الله) النفس ظافرة... ما تحتاج إليه هو ألا تسقط فريسة خلال الشهوة في قبضة شريرة، لئلا برغباتك في الحياة الزمنية تسقط بين مخالب (الشهوة) ومن ثم تخسر الحياة الأبدية. القديس أغسطينوس هكذا لا يخاف الأبرار من قبضة أيدي الأشرار، فإن الله في حبه وبره وعدله ينقذ الأبرار من أيديهم، يخلص نفوسهم ويمجدها أبديًا، لكنهم بالحق يخافون الشر ذاته لئلا يقبض عليهم فيسقطون تحت الحكم ويهلكون. إنهم قديسو الله ينالون حرية مجد أولاد الله، فلا يقوى أحد على إيذائهم، إذ يقول القديس أكليمندس الإسكندري:[بالنسبة للصديق حتى الأرض تصير له سماءً. ما أن يُسحب الشيطان من حياته الداخلية حتى يقيم الله ملكوته داخل هذا الإنسان، فلا يقوى شيء ما على أذيته]. 11. يرتفع الأبرار بالله وينحدر الأشرار أو يُستأصلون: الوصية الثامنة في هذا المزمور هي: "تمسك بالرب واحفظ طريقه، ويرفعك لترث الأرض وتعاين الخطاة إذ هم استأُصلوا" [34]. إذ نتمسك بالرب السماوي "يرفعنا" كما من المزبلة لنشاركه المجد الأبدي، بينما يُحرم الأشرار من هذه العطية إذ هم يُستأصلون بحرمانهم من الله مصدر حياتهم وانحدارهم مع إبليس أبيهم. 12. بعكس الأبرار يفتقر الأشرار إلى المجد الداخلي إذ يسعون نحو المجد الباطل: "رأيت المنافق يرتفع ويتعالى مثل أرز لبنان، وجزت فإذ ليس هو. التمسته فلم أجد مكانه" [35-36]. عبثًا يسعى الأشرار إلى مجد هذا العالم، لأنهم سيهلكون مع مجدهم. حقًا يبدو أنهم ناضرون في هذا العالم وإلى حين، ومتشامخون كأرز لبنان، لكن هوذا الفأس قد وُضعت على أصل الشجرة، "فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تقطع وتلقى في النار" (مت 3: 10؛ 7: 19). لقد رأى نبوخذنصَّر المتكبر نفسه شجرة في وسط الأرض كبرت وقويت وبلغ علوها إلى السماء ومنظرها إلى أقصى كل الأرض، أوراقها جميلة وثمرها كثير وفيها طعام للجميع وتحتها استظل حيوان البر وفي أغصانها سكنت طيور السماء وطعم منها كل بشر، وقد أصدر القدوس أمره: "اقطعوا الشجرة واقضبوا أغصانها وانثروا أوراقها وابذروا ثمرها ليهرب الحيوان من تحتها والطيور من أغصانها، ولكن اتركوا ساق أصلها في الأرض وبقيد من حديد ونحاس في عشب الحقل... (دا 4). صار نبوخذنصَّر الملك العظيم كالحيوان مرذولًا ومطرودًا حتى تأدّب. ويرى المرتل في الأشرار أنهم يعبرون فلا يوجدون، وكأنهم أشبه بممثلين قاموا بدورهم على خشبة المسرح ثم نزلوا عنها فاختفى اسمهم وغناهم ومجدهم وسلطانهم. يتحدث أليفاز التيماني عن الغبي الشرير، فيقول "إني رأيت الغبي يتأصل وبغتة لَعَنتَ مربضه" (أي 5: 3). قيل أيضًا: "صوت رُعوب في أذنيه في ساعة سلام يأتيه المخرب..." (أي 51: 21). * التكبر والغرور والغطرسة والافتخار بعجرفة هذه كلها لا تنبع عن تعاليم المسيح الذي علمنا الاتضاع بل عن روح ضد المسيح الذي يوبخه الرب بالنبي القائل: "وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السموات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله" (إش 14: 13-14). الشهيد كبريانوس * لنهرب من هنا، حيث ما يوجد هو كلا شيء، فإن كل ما نظنه مكرمًا إذا به فارغ، ومن يظن نفسه شيئًا إذا به غير موجود، نعم هو كلا شيء تمامًا. "رأيت الشرير يرتفع ويتعالى مثل أُرز لبنان، وجزت فإذ ليس هو" [35، 36]. اجتز مثل داود، كعبد صالح فيُقال لك: "اجتز ومِل إلى المائدة". اجتز مثل موسى لكي ترى إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فترى رؤيا عظيمة. هذه رؤيا عظيمة، لكن إن أردت أن تنظرها فاخلع حذاءك من قدميك، انزع كل رباطات الشر، وأنتزع رباطات العالم، اترك خلفك النعلين اللذين هما أرضيين. نفس الأمر أرسل يسوع الرسل بدون نعال، وبدون مال أو ذهب أو فضة، حتى لا يحملوا الأمور الزمنية معهم. القديس أمبروسيوس * كل من يتعاظم ينحدر. تعاظم قايين على أخيه هابيل فقتله، فلُعن وصار هاربًا متشردًا في الأرض. أيضًا تعاظم أهل سدوم على لوط فأنزل الله عليهم نارًا من السماء وأحرقهم وانقلبت المدينة عليهم. تعاظم أيضًا عيسو على يعقوب واضطهده، ونال يعقوب بكوريته وبركته. تعاظم أولاد يعقوب على يوسف، ثم عادوا فسجدوا أمامه في مصر. تعاظم فرعون على موسى وشعبه، فغرق فرعون وجنوده في البحر الخ... الأب أفراهات يختتم المزمور بتأكيد التزام الأبرار بالوداعة والسلوك باستقامة لينالوا الخلاص والنصرة من قبل الرب الذي يتكلون عليه، مؤكدًا أن نهاية المنافقين مخالفي الناموس هي الهلاك. |
|