19 - 05 - 2014, 03:13 PM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
نمو الروح الرهبانية
إنَّ سِيَر وأعمال مشاهير آباء البريَّة، والذين كان لهم دورًا هامًا في تشكيل وصياغة الرهبنة، تُقدِّم لنا بوضوح صورة عن تطور ونمو الفِكْر والحياة الرهبانية.
وكان الأنبا أنطونيوس أوِّل شخصية مُؤثرة وهامة في الرهبنة الأولى، ويُعتبر ”أبو الرهبنة“ رغم أنه لم يكُن الأوَّل في ذلك المجال، فقد سبقهُ آخرون في حياة الرهبنة وعاشوا على حدود قُرى مصر ومنهم أخذ القديس أنطونيوس إرشاده (11)، ولكن هؤلاء المُجاهدين لم يعرفوا البريَّة البعيدة، أمَّا الأنبا أنطونيوس فقد دخل إلى ”البريَّة الجُوانية“ (12) وبعد عشرين عامًا من حياة الوحدة، خرج القديس أنطونيوس وقام بإرشاد الرُّهبان الذين عاشوا مُتتلمذين له مُلتفين حوله.
وبسبب شُهرة فضائله، كان للأنبا أنطونيوس تأثيره الكبير على مُعاصريه و”أقنع الكثيرين أن يختاروا حياة الوحدة، فنشأت الأديُرة حتّى في الجبال، وصارت البريَّة مدينة مليئة بالرُّهبان الذين تركوا مُدُنِهِمْ ودخلوا في المواطنة السمائية“ (13).
وفي البراري القبطية بمناخها الدافئ الجاف، وبمغائرها الطبيعية في الجبال، وجد الآلاف من الرُّهبان الموضِع المثالي لهم ليجاهدوا فيه، ففي جبل نتريا وحده كان هناك خمسة آلاف راهب يعيشون بطُرُق مُتنوعة كما يُخبرنا بالاديوس (14).
أمَّا الخطوة التالية نحو تنظيم أفضل للرهبنة، فقد قام بها القديس باخوميوس أب الشركة (292 – 346 م) والذي أنشأ أوَّل أديُرته في طبانيس Tabennisi (طبانيس: أو كما يُلقِبها البعض طبانسين معناها نخيل إزيس وهي تقع على الضفة اليُمنى للنيل أمام بلدة دندرة في المكان الذي يتجه فيه النيل إلى الغرب) عام 323 م، وعند نياحته كان القديس باخوميوس قد أسَّس تسعة أديُرة للرُّهبان، وديرين للرَّاهبات، وكان إجمالي عدد هؤلاء الرُّهبان والرَّاهبات نحو عشرة آلاف.
والقديس الأنبا باخوميوس أيضًا هو أوَّل مُشرِّع رهباني، وكانت الفكرة الأساسية في قانونه هي أن يضع قانون جهاد روحي مُشترك يستطيع جميع الرُّهبان أن يُتمموه ويُبلِّغوه، ثم يُشجعهم بعد ذلك أن يرتقوا في جهاداتِهِم لقامات أعلى، كلٍّ بحسب اشتياقاته وقُدراته (15).
وبعد الأنبا باخوميوس، كان القديس الأنبا شنوده رئيس المُتوحدين (348 – 466 م) أهم شخصية في الرهبنة القبطية، وكان مُشرِّعًا شهيرًا وكاتبًا معروفًا باللُغة القبطية، وفي قانونه، اختلف عن باخوميوس وتحدَّث عن نذر رهباني مكتوب يُوقَّعه الرُّهبان.
أمَّا القديس باسيليوس الكبير (330 – 379 م) أبو الرهبنة الشرقية، فقد قدَّم بقانونه فكرة الأديُرة الصغيرة التي يضُم كلٍّ منها ما بين ثلاثين إلى أربعين راهبًا، وأكَّد بالأكثر على التعليم وعلى الثقافة.
وكذلك انتشرت الحركة الرهبانية في كلّ منطقة الشرق الأوسط، وكان هناك رُهبان في وسط وصعيد سوريا بحسب سوزومين المُؤرِخ (16). وأرمينيا وفارس (إيران)، كان إيلاريون (انظُر كتابنا ”القديس إيلاريون الكبير“، الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) ويوستاثيوس وشاريتون Hilarion, Eustathius and Chariton هم رُواد الرهبنة في فلسطين بينما قدَّم چيروم (340 – 420 م) ويوحنا كاسيان (انظُر كتابنا ”القديس يوحنَّا كاسيان“، الذي سننشره هنا في موقع الأنبا تكلا من سلسلة آباء الكنيسة - إخثوس ΙΧΘΥΣ ) الرهبنة للغرب ونشراها فيه، وسُرعان ما صارت الرهبنة جزءً من خريطة حوض البحر الأبيض المُتوسط، وغدت قُوَّة فعَّالة تستخدمها الكنيسة في مواجهة الهراطقة والوثنيين (17).
وكلمة رهبنة monasticism، والتي تعني المُؤسسة التي تُقيم وتُنظِّم الظروف النُسكية والاجتماعية للحياة المُشتركة أو لحياة الوحدة التأمُلية، تأتي من الكلمة اليونانية ”موناخوس Monacos“ التي تعني أصلًا ”وحيد أو مُتوحد“ وفيما بعد (ربما في بدايات القرن الرَّابِع) صارت تعني الإنسان الذي يحيا حياة رهبانية حتّى لو كان يحيا مع آخرين، ويبدو أنَّ أوِّل استخدام لكلمة موناخوس بمعنى ”راهب“ كان في ”حياة أنطونيوس“ بقلم البابا أثناسيوس، الذي يستخدم أيضًا كلمة ”دير - Monastery“ رغم أنه في سيرة الأنبا أنطونيوس يجب أن تُفهم هذه الكلمة بالمعنى اللغوي الضيِّق أي قلاية مُتوحِد، وليس مسكن لجماعة من الرُّهبان كما صارت تعني بعد ذلك.
وكلمتي ”راهب“ و”دير“ نقرأهُما في كتاب ”الأقوال Apophthegmata“ وفي كتابات بالاديوس وباسيليوس ونيلوس، وتُسمَّى حياة الراهب أو الراهبة باسم ”الحياة الرهبانية“ وفي سوريا تُسمَّى ”أبيلوثا Abbiloutha“ أي ”الحُزن“، وسوف نُقدِّم في الفصل الثاني من هذه الدراسة مُصطلحات أكثر خاصَّة بالتدابير والرُّتب الرهبانية.
كان هذا عرضًا موجزًا للغاية للرهبنة الأولى، التي استمرت وعاشت عبر القرون، ولا زالت حيَّة قوية مُزدهرة حتّى الآن.
|