أنا نائمة، وقلبي مستيقظ (ب)
(نش 5: 2)
تقول العروس في النشيد "أنا نائمة، وقلبي مستيقظ. صوت حبيبي قارعًا: افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. لأن رأسي إمتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل" "قد خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟! قد غسلت رجليَ، فكيف أوسخها؟! حبيبي مدّ يده من الكوة، فأنت عليه أحشائي.." (نش5: 2-4).
أنا نائمة وقلبي مستيقظ:
يقول الرب "اسهروا وصلوا، لئلا تدخلوا في تجربة" "اسهروا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ابن الإنسان" (لو12: 40) "لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا" (مر13: 36)..
إذن فكل نفس نائمة هي ساهية عن خلاص نفسها، غفلانة كسلانة لا تدري ما هي فيه. ونسيت تحذير الكتاب: لئلا يأتي بغتة فيجدكم نيامًا"..
أما هذه النفس التي تقول أنا نائمة وقلبي مستيقظ، فإن حالها عجيب.. هل هي تخدع نفسها، وتدعى اليقظة بينما هي نائمة؟!.
كيف تظن أنها مستيقظة القلب بينما هي نائمة؟! كثير من الناس يقول الواحد منهم "أنا أحب الرب من كل قلب. الله هو كل شيء في حياتي". فإن سألته عن صلواته وتأملاته وقراءاته الروحية واعترفاته وتناوله، يقول لك..
حقًا، إنني مقصر جدًا في كل هذا، ولكني مع ذلك أحب الله.. روحياتي واقفة، نفسي نائمة، ومع ذلك فقلبي مستيقظ.
والأعجب من هذا، إنسان آخر، يقول لك إنني في عمق الخطية، ومع ذلك فأنا أحب الله. نفسي نائمة، وقلبي مستيقظ..
وتتعجب أنت من هذا: كيف تكون محبة الله في قلب هذا الإنسان، وهو في عمق الخطية؟! ألم يقل الرب "من يحبني، يحفظ وصاياي" فكيف لا يحفظ وصاياه، ويقول "أنا أحبه".. ألم يقل يوحنا الحبيب "كل كم يخطئن لم يبصره ولا عرفه" (1يو3: 6)..
الظاهر أن هناك أناسًا يظنون أن عاطفة المحبة نحو الله تكون في القلب فقط، دون أن تظهر في الأعمال ولا في السيرة والسلوك، ودون أن يعبروا عن محبتهم تعبيرًا عمليًا يظهرها ويؤكدها..
لا تكفي يقظة القلب، إن كانت الحياة نائمة.. المفروض أن القلب المستيقظ يدفع الإنسان باستمرار إلى العمل الروحي.. إن الإيمان دون أعمال ميت كما قال الرسول (يع2: 26). ما فائدة محبة القلب، وما معنى محبة القلب، إن كنت نائمًا وكسلانًا ولا تعمل ما تستوجبه تلك المحبة؟ ما معنى أن يكون الغصن حيًا، إن كان لا يزهر ولا يثمر.. ؟!
والغرابة أنه على الرغم من هذا الكسل والنوم، ما تزال النفس تقول "حبيبي".. "صوت حبيبي قارعًا" "حبيبي مد يده من الكوة فأنت عليه أحشائي" "قمت لأفتح لحبيبي.. فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحول وعبر"..
أهو حبيب حقًا، إذن هو "تعب المحبة"؟!
الله أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد.. الرب أحبنا فمات عنا، أنت تحبين، فماذا فعلت في التعبير عن حبك؟!
هذا الحبيب الذي أحبك يقرع على الباب، ولا تفتحين.. !! يظل في انتظارك حتى تمتلئ رأسه من الطل، وقصصه من ندى الليل، وأنت نائمة، تحتجين بأنك قد خلعت ثوبك، وغسلت رجليك، وتتركينه، مقدمة له شتى الأعذار.. ثم تجرؤين أن تسمى هذا حبًا؟!
إن الحب النظري لا ينفع شيئًا، لابد أن يكون حبًا عمليًا لقد قال يوحنا الرسول "لا نحب بالكلام، ولا باللسان، بل بالعمل والحق" (1يو 3: 18).
هذه النفس تفكر في ذاتها أكثر مما تفكر في الله.. تفكر في ثوبها وفي رجليها وفي راحتها، ولا تفكر في حبيبها الواقف منتظرًا الذي امتلأ رأسه من الطل.. الذاتية تمنعها من البذل، وحب الراحة يعطلها.
هذه النفس تريد أن تجمع بين الله والعالم بين محبة الله ومحبة ذاتها. لا تريد أن تتعب. لا تريد أن تدخل من الباب الضيق. تريد حبًا بدون صليب..
ماذا لو أن الله أحبنا، دون أن يصعد على الصليب؟!
ماذا لو أحبنا دون أن يبذل ذاته عنا؟!..
إذن لماذا لا نفعل مثله في المحبة الباذلة؟! ولكن هذه النفس المسكينة في سفر النشيد، تريد أن تحب الله وهى نائمة. و: انها تقول لله "أحبك يا رب، وأحب النوم أيضًا. أتراني أجمعكما معًا؟".
هذه العروس تقول في النشيد "قلبي مستيقظ". أهي بالفعل يقظة حقيقية؟ وإن كانت كذلك، فما هي فاعليتها؟
هناك يقظة عقلية، ويقظة أخرى عملية.
قد يكون القلب مستيقظًا: يحس أن هذا خطأ، ومع ذلك يقع فيه. يستطيع أن يميز صوت الله من صوت الغرباء، ومع ذلك لا يتبع صوت الله.. إنها صورة شرحها بولس الرسول في رسالته إلى رومية "الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي أريده فإياه أفعل" (رو7: 18، 19).
إذن قد يكون القلب مستيقظًا، والإرادة ضعيفة. الضمير ميتقظ، ولكن لاعزيمة ولا إرادة. ونتيجة الضعف يسقط الإنسان في الشر الذي لايريده، كبطرس حينما أنكر سيده.
صوت حبيبي قارعًا، أفتحي لي..
إن قول الرب لها "أفتحى لى" يعني إنها مغلقة أمامه. قد أغلقت نفسها على ذاتها تحوصلت داخل هذه الذات.. داخل عبارات ثوبي، ورجلي، وراحتي، ونومي..
كثيرًا ما تقف الذات عقبة في طريق الله..
تسأل إنسانًا أن يصلي، فيقول لك: وقتي، شغلي، دروسي.. تسأله أن يصوم. فيقول لك: رغباتي، شهواتي، غرائزي، جسدي، أفكاري.. دائمًا قبل كل شيء، والله هو آخر الكل..
وقد يصلي الإنسان، ولكن ذاته تكون كل شيء في صلاته، ينسى الله في صلاته، ولا يتذكر سوى طلباته. هي ذاته موضع اهتمامه، وليس محبة الله.
هذه الأعذار تدل على أن النفس "تركت محبتها الأول، المحبة التي كانت مشتعلة قبلًا. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها. وأعذار كثيرة لا يمكن أن تعوقها.
إنها في القلب فقط، لأن القلب مستيقظ، ولكنه ليس في الإرادة لأنها نائمة.
"افتحي لي يا أختي، يا حبيبتي، يا حمامتي، يا كاملتي. فإن رأسي قد إمتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل".
كلام عاطفي ومؤثر، قد يلين الحجر. ولكن هناك نفوسًا قاسية لا تلين مهما كلمها الرب بحب ورفق..
كثيرًا ما تقف قساوة القلب حائلًا بين الإنسان والله. لذلك ينصحنا الرسول قائلًا "إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" (عب3). وفي قصة عذراء النشيد، نجد أنها على الرغم من قساوة قلبها، ومن رفضها وعم استجابتها، لا تزال تبرر أخطاءها بالأعذار..
غسلت رجلي، فكيف أوسخهما؟!
القديس أوغسطينوس يتأمل هذه العبارة من زاوية الخدمة..
كأن العروس تعتذر عن القيام بالخدمة مكتفية براحتها في الهدوء والتأمل، وفي ذلك تقول للرب: في طريقي إليك، في خدمتي لك، سأطأ الأرض، ستلمس قدماي التراب والمادة، فاتسخ.. سأصطدم بالناس وبعوائق الخدمة والعثرات، فأتسخ.. وأنا قد غسلت رجلي في المعمودية، وخرجت طاهرة، كيف أوسخهما؟!
نعم، قد تتسخ رجلاك في طريق الخدمة، ولكن عزاءنا في ذلك أن السيد المسيح غسل أرجل التلاميذ. وقال لهم"أنتم الآن طاهرون" (يو13: 10)..
أدخلي في الخدمة، وواجهى العثرات والمعطلات، وثقى أن يد الله ستكون معك، وستغسل كل ما يتسخ فيك.. موسى النبي الوديع الذي كان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس، دخل في الخدمة (غلا4: 2)، وغضب، وكسر لوحي العهد المكتوبين بأصبع الله. وبولس الرسول أضطر ان يغير صوته في الخدمة، وأن يقول أفيأتيكم بعصا، وقال "أيها الغلاطيون الأغبياء" (غلا3: 10) وقال أيضًا "قد صرت غبيًا وأنا أفتخر، أنتم ألزمتونى" (2كو12: 11).
وفي كل ذلك غسل المسيح أرجل رسله وتلاميذه..
"أنا نائمة وقلبي مستيقظ".
هل تدل هذه العبارة على حب بغير عمل، أم على حالة فتور، أم تدل على النفس البشرية، أم اعتذارها عن الخدمة؟