رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 23 (22 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير مزمور الراعيأو مزمور الباراقليط تسبحة ثقة مزمور ملوكي ليتروجي ارتباطه بالمزمور السابق مزمور سرائري الخطوط العريضة للمزمور راعيّ ماذا يقدم لنا الراعي؟ 1. "في مراعٍ خُضْرٍ يُرْبِضني" 2. "إلى مياه الراحة يوُرِدني" 3. "يَهديني إلى سُبُل البِرّ" 4. "وأيضًا إذ سرت في وادي ظل الموت 5. "عصاك وعكازك هما يُعزيّانني" 6. "تُرتّب قدامي مائدة تجاه مضايقي" 7. "مسحت بالدهن رأسي" 8. "كأس سكرك، ما أمجدها؟!" راعيّ الصالح تسبحة ثقة: يُعتبر هذا المزمور من أعذب ما ورد في سفر المزامير، بكونه تسبحة ثقة؛ فالسمة الغالبة عليه هي اليقين والثقة في الله حيث يرتمي المرتل على صدر الله كطفل وقت السِلْم والسكون[461]. في هذا المزمور يختفي بوق الحرب لتظهر قيثارة السلام التي لا تعود تُصْدِر لحنًا حزينًا بل سيمفونية حب مفرحة تتغنى بالله كراعٍ صالح قائد حكيم وصديق شخصي للنفس البشرية. يحب اليهود الأرثوذكس هذا المزمور، ويستخدمه اليهود المصلحون Jews Reformed للعبادة في المجمع. وجد آباء الكنيسة الأوائل بهجتهم وسرورهم وتهليلهم فيه، إذ رأوا فيه رعاية الراعي الصالح وعنايته بقطيعه. حسنًا اختاره القديس أغسطينوس كتسبحة للشهداء[462]. يعتقد كثيرون أن هذا المزمور هو أحد المزامير الأولى التي نظمها داود النبي؛ وتُشكّل عادات حياته الأولى كراعٍ للغنم لتصورات الجزء الأول من المزمور. يُعتَبر داود بحق هو أنسب شخصية تكتب مزمورًا تقويًا رعويًا كهذا[463]. يقول الأسقف وايرز Weiswe: [إن المؤلف اختبر خلال الخدمة الإلهية بركات الشركة مع الله. إذ كان يسترجع حياته الماضية فيراها وقد عبرت تحت رعاية الله اليقظة الساهرة وسط كل أنواع الضيقات. هذه الرعاية الإلهية أو قيادة الراعي تحتضن كل عضو من شعب الله بل وكل الشعب كجماعة. ويمكن لهذه الخدمة الإلهية أن تصير تسبحة حمدٍ لله، حيث قاد الراعي (مز 80: 1) الشعب المتمتع بالعهد وعَبَر به خلال تاريخ الخلاص، خاصة في نصرة الخروج التي انتهت بما ناله الشعب من سلام في أرض الرب أو أرض الموعد (إش 40: 11؛ 63: 14؛ حز 34؛ مز 95: 7؛ 100: 3)]. مزمور ملوكي ليتروجي: يرى A.L. Merrilأن هذا المزمور يصف طقس تتويج الملك، يتضمن موكبًا يبدأ من الهيكل ويستمر إلى الينبوع، وربما يشمل الطوف حول المدينة المقدسة (مز 48: 13 الخ). ربما يُستخدم هذا المزمور في تجليس الملك (مَن نسل داود) أولًا بكون هذا التجليس ليس إلا رمزًا لرعاية السيد المسيح نفسه (ابن داود) الملك الراعي المحب لشعبه، غير المتسلط. ثانيًا، لكي يتأكد الشعب عند تجليس الملك أن الراعي الحقيقي ليس الملِك ولا القيادات المدنية أو الكنسية إنما الله نفسه الذي يرعى الكل ويهتم بالنفس والجسد معًا. يرى E. Vogt أن هذا المزمور مرتبط بذبيحة الشكر التي يقدمها زائر للأماكن المقدسة من أجل تمتّعه ببركة معينة، فيكون كمن عَبَر بوادٍ مظلم [4] ليدخل إلى بيت الله[464]. ومع كل عطية نتمتع بها نرى يدّ الله الحانية ورعايته الفائقة لنا، إذ يقودنا في وادي هذا العالم لنسكن معه أبديًا في مَقْدسه السماوي [6]. ارتباطه بالمزمور السابق: في المزمور السابق نرى صورة رائعة للراعي المتألم، وهنا نجد صورة مبهجة للقطيع المملوء فرحًا وشَبَعًا. في المزمور السابق نرى الراعي وقد عُلّق على الشجرة لكي يحمل أتعاب شعبه، ويَعْبر بهم خلال صليبه إلى الأمجاد... هنا يتقدم الراعي قطيعه ليدخل بهم في استحقاقات دمه إلى مراعٍ خضراء، هي فردوسه المشبع للروح، يدخل بهم إلى جداول مياه مُنسابة وسط المراعي، هي جداول روحه القدوس المروي للأعماق الداخلية. ما كان يمكننا أن نتمتع بهذا المزمور "جوهرة المزامير" ما لم نَتقبَّل عمل المسيح الخلاصي وندخل إلى المزمور السابق بكونه "قدس الأقداس". ما كنا نختبر عذوبة رعاية المسيح ما لم نتعرف على دمه المهراق لأجلنا. لا يمكن للنفس أن تترنم "مسكني في بيت الرب طول الأيام" [6]. ما لم يصرخ المخلص: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟!" (مز 22: 1). صار متروكًا حتى كما من الآب وهو واحد معه في الجوهر ومساوٍ له، لا ينفصل عنه لكي نصير نحن غير متروكين منه أبديًا. مزمور سرائري: يختفي وراء بساطة هذا المزمور العمقُ مع القوة. لقد وجد المسيحيون الأوائل في هذا المزمور رمزًا لأعمال السيد المسيح القدسية السرائرية. لهذا جعلوه من صُلْب ليتورجيا العماد، ففي ليلة عيد القيامة (الفصح المسيحي) كان المعمدون حديثًا غالبًا يترنمون به بعد نوالهم سرى العماد والميرون، وقد لبسوا الثياب البيضاء وحملوا المشاعل، مُسرعين تجاه مذبح الرب بالفرح يشتركون في المائدة السماوية. ومازالت كنيستنا تترنم بهذا المزمور يوميًا أثناء تسبحة الساعة الثالثة، تذكارًا لحلول الروح القدس على التلاميذ في تلك الساعة، هذا الروح الذي لا يزال عاملًا في الكنيسة، خاصة في الأسرار الإلهية المقدسة. الخطوط العريضة للمزمور: يبرز هذا المزمور الله المخلص من جوانب ثلاثة: المخلص كراعٍ صالح، المخلص كقائد يدخل بنا في سُبًل البرّ، المخلص كصديق يستقبلنا في بيته المقدس كل أيام حياتنا. 1. راعيّ [1-3 (أ)]: يمثل داود ربنا، المسيّا الراعي، يهوه الراعي. يُستَهلُّ المزمور في سطوره الأولى بإلقاء الضوء على أكثر الصور شعبية في الكتاب المقدس: صورة الراعي (تك 49: 24؛ حز 34: 11-16). في لفظة "راعٍ" يستخِدم داود أكثر التشبيهات الإيضاحية التي تكشف عن التصاق الراعي برعيته، فهو يعيش مع قطيعه، وهو كل شيءٍ بالنسبة للقطيع: يقُوته ويغذيه ويقوده ويوجهه ويعالجه ويحميه. نرى في كل تشبيهات المزمور رقة وعذوبة تخترقان القلوب التي تتلامس مع النعمة الإلهية الحانية. فما هو أعذب وأحلى من تقديم الله كراعٍ؟! 2. قائدي في سبُلُ البر [3 ب-4]: السبُلُ التي يسلكها القطيع إما أن تكون مَعيبة أو تُبرّئ اسم راعيها الصالح. تتحقق وعود الراعي وإرادته المقدسة خلال عنايته وحمايته اللتين يُظهرهما المرتل، وهكذا يُعلِن الله عن ذاته خلالهما. 3. صديقي ومضيفي [5-6]: لقد أُعدَّ وليمة عائلية بذبيحة نفسه لكي يُشبِعني ويهبني فرحًا مبهجًا. راعيّ: "الرب راعيّ فلا يُعوزني شيء" [1]. اعتادت الأمم الشرقية أن تدعو حكامها وملوكها الصالحين "رعاة". عندما يدعو الكتاب المقدس الله "ربنا" و"ملكنا" و "الخالق" الخ... فإننا عادة نشعر بقدرته وقوته ومجده في خوف ورعدة، لكن بتَسْميته "الراعي" نتذوَّق بالحري حلاوته ورقّته وتعزيته لنا وعنايته بنا - وبنفس الشيء تقريبًا عندما ندعوه "أبانا". إنني بلا شك لا أعتاز شيئًا البتة، إذ هو بنفسه يصير طعامي وشرابي وملبسي وحمايتي وسلامي وكل عوني لحياة كلها بهجة. حضوره الواهب النِعَمْ في قلبي يهبني شبعًا وكفاية. إذ يقبل الموعظ (طالبُ العماد) الرب راعيًا له، ويصير من قطيعه، يشترك في جسده ودمه المبذولين، فماذا يحتاج بعد ذلك؟ في المسيح يسوع لا يحتاج المؤمن شيئًا، إلا ما يجده في المسيح، أو بمعنى أدق يحتاج إلى السيد المسيح نفسه. هذه هي أحاسيس القديس أمبروسيوس[465] وهو يرى الكنيسة -ليلة عيد القيامة- وقد صارت سماءً، وجموع المعمَّدين حديثًا قد نالوا روح التبنّي، يُسْرِعون مع صفوف المؤمنين بالتسبيح والترنيم نحو المائدة الإلهية، يَنْعمون بما تشتهي الملائكة أن تطَّلِع إليه! * هناك حِمْلٌ واحد حَمَلْتَه على كتفيك، "طبيعتنا البشرية[466]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص يحدثنا العلامة أوريجانوس عن عناية الله ورعايته الفائقة، بكونها رعاية دائمة وشاملة ودقيقة تحتضن كل شيء حتى شعور رؤوسنا، بل ومن أجلنا يهتم الله حتى بالخليقة غير العاقلة: * إنه بعنايته يهتم بنا يوميًا، بصفة عامة وعلى وجه الخصوص، علنًا وخفية، حتى وإن كنا لا ندرك ذلك[467]. * إننا نعترف بعقيدة أكيدة وثابتة، أن الله يعتني بالأشياء القابلة للموت، وليس شيء ما في السماء أو على الأرض ليس تحت عنايته[468]. * العناية الإلهية تضم الخليقة العاقلة أولًا، ولكن نتيجة لذلك فهي تضم الحيوانات غير العاقلة لأجل نفع الإنسان[469]. *ما يحدث في حياة البشر... لا يتم بمحض الصدفة، ولا بطريقة عشوائية، وإنما بهدفٍ سامٍ محسوب، يشمل حتى شعر الرأس (مت 10: 3). هذا الأمر لا يخص القديسين وحدهم كما يظن البعض، وإنما يشمل كل البشر. فإن العناية الإلهية تمتد لتشمل العصفورين اللذين يُباعان بفلس (مت 10: 29)، سواء فهِمْنا مثل العصفورين بطريقة روحية أو رمزية[470]. * تحتضن العناية الإلهية كل شيء حتى أن شعور رؤوسنا محصاة لدى الله[471]. العلامة أوريجانوس والآن ماذا يقدم لنا الراعي؟ 1. "في مراعٍ خُضْرٍ يُرْبِضني" إنه يقود الموعوظين إلى تلك المراعي التي فيها يتهيأون لنوال المعمودية. وإذ ينالون روح التبني تبقى نفوسهم تغتذي يوميًا من مرّعْي كلمة الله الذي لا يجف. هذا المرعى هو إنجيل خلاصنا الذي يردُّنا إلى الفردوس الحق. يرعى الحمَل هناك، وهو حيوان مُجْتر (يأكل كثيرًا ثم يَجْتَرُّ ما أكله ليُعيد مضغه من جديد). * المراعي الخضراء هي الفردوس الذي سقطنا منه، فقادنا إليه السيد المسيح، وأقامنا فيه بمياه الراحة، أي المعمودية. القديس كيرلس الإسكندري من أجلنا افتقر السيد المسيح لكي نغتني به؛ وفي فقره لم يشعر قط بالعوز. لقد صنع عجائب ومعجزات لراحة أحبائه لا لمجده الذاتي ولا لراحته الخاصة. بهذه الروح يسلك كل مسيحي ارتبط بمسيحه كعضو في جسده. مسيحنا يهبنا حياته مَرْعَى لا يجف؛ إذ قد يموت الوالدان الأرضيان في أية لحظة، أما راعينا الصالح فلن يموت! 2. "إلى مياه الراحة يوُرِدني" [2]. إذ ينال القطيع قسطًا وافرًا من الطعام يقتاده الراعي إلى مَجْرَى مائي أو إلى ينبوع يفيض مياها عذبة متجددة ليشرب الكل ويرتوا منها، ويتقوى كيانهم وينتعشوا. لا يستطيع القطيع أن يذهب إلى ينابيع المياه من تلقاء نفسه إنما يحتاج إلى قيادة الراعي حيث يُورِد قطيعه أو يهديه إلى ما يناسبه. ما هي مياه الراحة؟ لقد دُعِى الهيكل "بيت قرار" (1 أي 28: 2)، أي "منزل الراحة" أو "مكان الراحة" حيث يستقر فيه تابوت الرب (مز 132: 8، 14). ومن تمَّ فأنَّ ماء الراحة يشير إلى الله الراعي الذي يستضيف المرتل في بيته الخاص به ليُرويه ويهبه راحة. المعمودية هي بلا شك مياه الراحة، التي ترفع ثقل أحمال الخطية. يقول القديس أغسطينوس: [يوردنا على مياه المعمودية حيث يُقيمنا ويدربنا ويرعانا، هذه التي تهب صحة وقوة لمن سبق له أن فقدهما]. ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [إننا في هذه المياه نجد راحتنا[472]، بدفننا مع المسيح في شِبه موته، لكننا لا ندخل إلى الموت بل إلى ظلّه كقول المرتل [3]. *يوجد أيضًا ماء نضعه في جرن نفوسنا، ماء صادر عن الجزَّة المذكورة في سفر القضاة (قض 6: 37)، وماء ورد في سفر المزامير [2]. إنها مياه رسالة السماء. ليت هذا الماء، أيها الرب يسوع، يأتي إلى نفسي، وإلى جسدي، حتى أنه خلال رطوبة ذلك الغيث (مز 75: 11) تخْضرُّ وديان عقولنا ومراعي قلوبنا. لتأتي عليّ قطراتك فتهبني نعمة وخلودًا. اغْسل درجات عقلي فلا أخطئ إليك. اغْسل أعماق نفسي فأستطيع أن أمحو اللعنة، ولا أعاني من لدغة الحية (تك 3: 15) في عَقِبْ نفسي؛ فقد أمرت الذين يتبعونك قائلًا لهم أن يدسوا الحيات والعقارب (لو 10: 19) بأقدام لا يُصيبها ضرٌر. لقد فديْت العالم فَافْدِ نفسَ خاطئٍ واحدٍ[473]. القديس أمبروسيوس في الانتقال من مَرْعّى إلى مَرْعّى يقودني عابرًا بيّ البرية القاحلة الجرداء. إنه يُجنّبُني الشقوق حتى لا تزِلَّ رجلي وينكسر ساقي، أو يقودني بعيدًا عن المناطق المملوءة أشواكًا حتى لا يمسك بالصوف فأرتمي بين الأشواك. حقًا إنه يَهديني إلى السُبُل السليمة بعيدًا عن الحفر والفخاخ. وهو يفعل هذا من أجل اسمه بكوننا نحن جسده. ما هي سُبُل البِرّ هذه إلا بِرّ المسيح. فإنه يقودني إلى ذاته، بكونه "الطريق". لأدركه كصلاحي الذي يقودني ضد قوة الخطية. يجتذبني إليه بحبال محبته الإلهية، ويهبني شركة طبيعته: القداسة والنقاوة والحب والاتضاع الخ... مسيحنا هو "سُبُل البر" أو "الطريق" الآمِنُ الذي يحملنا بروحه القدوس إلى حضن الآب دون أن يصيبنا ضرُر أو نعتاز إلى شيء، إنما ننمو في النعمة والحكمة. *النمو في الحكمة يجده الساعون نحو خلاصهم، فتتحقق رغبتهم خلال فهمهم للحق الذي في الكلمة الإلهية، وسلوكهم في البِرِّ الحقيقي. هذا يقودنا إلى إدراك كيف يكون المسيح هو الطريق. في هذا الطريق لا نأخذ معنا زادًا ولا مِزْودًا ولا ثوبًا، ولا نحمل عصا، ولا تكون لنا أحذية في أرجلنا (مت 10: 10)؛ فإن الطريق نفسه مُشْبع لكل احتياجات رحلتنا؛ مَنْ يسير فيه لا يعتاز إلى شيء. مَنْ يسير فيه يلتحف بثوب يليق بدعوة العرس. وفي هذا الطريق لا يجد الإنسان ما يُزْعِجه، إذ يقول سليمان الحكيم إنه لا يجد "طريق حيَّة على صخرة" (أم 30: 19). وأنا أضيف أنه لا يجد طريقًا لأي حيوان مفترس. لهذا فلا حاجة إلى عصا مادامت لا توجد آثار خليقة معادية. وبسبب صلابته يُدعى الطريق "صخرة، حتى لا يمكن لأي كائن ضار أن يَلْحق به[474]. العلامة أوريجانوس حقًا إن هذا الطريق ضيق، إذ لا يقدر كثيرون أن يحتملوا السير فيه، لأنهم مُحبّون لأجسادهم[475]. العلامة أوريحانوس 4. "وأيضًا إذ سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا، لأنك أنت معي" [3]. نحن ندخل مع المسيح في موته بغير خوف إذ هو معنا...، ونبقى دومًا نختبر الموت مع المسيح بفرح إن مارسنا سرّ التوبة والاعتراف بمفهومه الحق، أي بتسليم النفس بين يدّي الروح القدوس الذي يُبكّتنا ويُتوّبنا ويردنا إلى سُبُل البرّ لأجل إسمه. ما هو معنَى ظل الموت؟ أ. بما أن الموت هو أسوأ الشرور في نظر الناس، فإن ظله يُشير إلى زمان الحزن العظيم والظلمة والتجارب، أو قد يعني ظلُّ الموت المعاناةَ من الآلام. فالمتاعب - مهما اشتدت - لا توقف مسيرتنا نحو الأبدية، ولا تُرْهِبنا، ولا تحكم رجاءنا بالخوف، مادمنا نتمتع بالمعية مع المخلّص. هنا يتحدث المرتل بدقة عجيبة، فهو في حالة "سَيْر"، لا يعرف التوقف... إنه دائم التقدم بخطىً ثابتة في الطريق الملوكي، مهما اشتدت الضيقات. وهو يسير في "وادٍ" وليس على قمم الجبال... فالسير في الوادي هو عبور في هدوء... إذ يشعر المؤمن بنوع من الهدوء والسلام مع الآمان. يُدعى الوادي "ظل الموت" وليس "موتًا"، إذ بَطَل سلطان الموت. أخيرًا ما يشغل قلب المؤمن هو معية الله أو الحضرة الإلهية كعربون للقاء مع الله وجهًا لوجه بعد عبوره الحياة الزمنية. ب. حديث المرتل يشير إلى نوع من التحالف بين المؤمن والموت نفسه، فهو لا يهابه بل يتحالف معه أو يدخل معه في عهد كي يَعْبر خلاله إلى الحياة الأبدية؛ يحسبه طريقًا للتمتع بالحياة الأخرى. ج. يُشير ظل الموت إلى شركتنا في موت المسيح، إذ نقبله بفرح لنوالنا قوة قيامته ومجدها. بقوله: "إذ سرت" يقصد سلوك المؤمن أو مَسَار حياته كزمن قصير. فالسيد المسيح الراعي الصالح سار بنفسه في ظل الموت في أيام تجسده، ودخل القبر ذاته حتى نقبل أن نسلك معه ذات الطريق. *لأنه كما سار الرب في وادي ظل الموت حيث وُجِدتْ نفوس الموتي؛ لكنه قام بالجسد بعد ذلك؛ ومن بعد القيامة صعد بها إلى السموات، فمن الجَلّى أن نفوس تلاميذه أيضًا التي لحسابها عانى الرب كل ما عاناه سوف تنطق إلى ذات الموضع غير المنظور الذي عَيَّنه لهم الله. وهناك تبقى حتى القيامة تنتظر ذلك الحدث. ثم تَسْتَلِم أجسادهم، وتقوم بكليّتها، أي بالجسد، كما قام الرب، وهكذا يأتي التلاميذ إلى حضرة الله[477]. القديس إيريناؤس العلامة أوريجانوس 5. "عصاك وعكازك هما يُعزيّانني". العصا هي للقيادة والدفاع أم العكاز فهي للسند. يرى القديس أكليمندس الإسكندري أنها عصا التعليم، عصا القوة التي أرسلها الرب من صهيون (مز 110: 2): [هكذا هي عصا قوة التعليم: مقدَّسة ومُلَطّفة ومُخلّصة[479]]. *كيف تِخلّص الحكمة نفس الشاب من الموت؟ ما هي نصيحتها له كي لا يموت...؟ تقول: "إنْ ضرَبْتُه بعصا لا يموت" (أم 23: 13)... ويخبرنا العظيم داود أن تلك العصا تُعزّى ولا تَجْرح! القديس غريغوريوس أسقف نيصص في الشرق الأوسط عادة ما يكون للراعي الآتي: أ. ثوب بسيط يستخدمه أثناء الرعاية بخلاف ثوبه الذي يحضر به الحفلات أو عندما يشترك في المجاملات... هذا الثوب يُشير إلى إخلاء السيد المسيح ذاته إذ أخلَى ذاته عن مجده ليحمل طبيعتنا البشرية ويحتلّ مركز العبد حتى يضمنا نحن العبيد فيه ويّدخل بنا إلى شركة مجده. ب. عصا تُسْتَخدم في حماية القطيع من الحيات والحيوانات المفترسة. وهي تُشير إلى صليب رب المجد الذي به حَطَّم سلطان عدو الخير، وقتل الخطية، وأفسد سلطان الموت. ج. عكاز يستخدمه للاستناد عليه، وأيضًا ليمسك به خروفًا جامحًا يحاول الهروب بعيدًا عن القطيع... يُشير إلى تأديب المخلص مؤمنيه بعصا الأبوة الحانية الحازمة. د. آنية زيت، ليُطبّب بها جراحات خرافه، تُشير إلى المسحة المقدسة. ه. مزمار يعزف عليه ليعلن بهجته بعمله الرعوي، إشارة إلى الفرح في المسيح يسوع، حيث تُسبّحه النفس مع الجسد كما على قيثارة الحب. و. سكين يستخدمها عند الضرورة، تُشير إلى عمل الروح القدس الذي يفصل الخير عن الشر. "عصاك وعكازك هما يُعزيّانني": إذ يملك الرب على شعبه بالصليب كما بقضيب مُلْكِه - يثق المرتل كل الثقة في قيادة الراعي الإلهية، حتى إنْ قاده في سُبُل الجبال الخطرة! 6. "تُرتّب قدامي مائدة تجاه مضايقي" [5]. ربما عنى المرتل بأن الله الذي يهتم بنا إذ يرى العدو قائمًا ضدنا يُعِدُّ بنفسه لنا المائدة لكي نأكل في غير عجلة، دون ارتباك أو اضطراب، ويُجْلِسنا لنَنْعم بالقوت دون أن نخاف العدو الذي يَطرِق أبوابنا... إنه يهبنا سلامًا وشبعًا وسط المعركة الروحية بكوننا خاصته المحبوبة! في حبه لنا يُقدّم لنا المائدة بنفسه بعدما يغسل أرجلنا مع تلاميذه. الراعي الذي وهب شعبه خروجًا منتصرًا يقدم لهم مائدة أثناء تِرْحالهم ألا وهي المنّ. لقد حاول الأعداء إعاقة الرحلة نحو المسكن الإلهي، لكنهم خزوا حين رأوا نعمة الله المقدمة لشعبه. في مواضع أخرى في سفر المزامير كثيرًا ما يُقدّم الشكر ويتبعه أو يصحبه وجبة ذبيحية أي مائدة مقدسة (مز 22: 26؛ 63: 6) أو ذبائح (مز 66: 13 الخ؛ 116: 17 الخ). ربما كان مقاومو داود يجولون في الهيكل بينما كان هو يُقدم ذبيحة الشكر لله لذا صار يردد هذه العبارة: "هيأت قدامي مائدة تجاه مضايقي". يمنحنا ربنا يسوع المسيح مائدة جسده ودمه المبذولين التي تُخزِى الأعداء المقاومين. وكأن وجود عدو الخير لا يُزعجنا ولا يَحرمنا من التمتع بالوليمة المقدسة. *عندما يقول الإنسان لله: "رتَّبتَ قدامي مائدة"، فإلى أي شيء يُشير سوى هذه المائدة السرائرية الروحية التي رتبها الله لنا؟! رتبها قبالة الأرواح النجسة! حقًا لأن تلك (مائدة الشياطين) هي اختلاط بالشياطين، أما هذه فهي شركة مع الرب![481]. القديس كيرلس الأورشليمي القديس كيرلس الإسكندري 7. "مسحت بالدهن رأسي" [5]. المسيح بالدهن يُشير إلى وجود علاقة شخصية بين الراعي وقطيعه، كما يكشف عن حالة فرح وشبع. قديمًا متى كان الناس في حزن كانوا يغطون أنفسهم بالتراب والرماد، وإذا ما فرحوا كانوا يغتسلون ويدهنون أنفسهم بالزيت (أي 2: 12؛ 42: 16؛ صم 12: 20). وكان مسح الضيوف بالزيت علامة تكريم لهم وترحيب بهم؛ وكأن المرتل يقول لراعيه: "إنك تعاملني كضيف نال القبول عند مائدتك التي أَعْدَدْتَها لي". هذا وقد كانت عادة دهن الرأس شائعة (مز 92: 10؛ عا 6: 6؛ مت 6: 17؛ لو 7: 38، 46). تحقق مسح هرون كرئيس كهنة أثناء الرحلة في البرية حيث كان الله الراعي قائدًا لشعبه نحو أرض الموعد. بهذه المسحة اعلن الله عن عنايته الإلهية، إذ قبل الله الإنسان خلال الكهنوت كنصيبه الخاص، وقدم نفسه نصيبًا للإنسان. الآن، في سرّ المسحة (الميرون) يُمْسَح كل مؤمن ككاهن عام ليصير في ملكية الله، ويقبل الله ملكًا له ونصيبه الخاص. خلال هذه المسحة يَتقبَّل من يدّي الله روح الفرحة والبهجة بعمل الروح القدس فيه، بإعلان إنجيل المسيح كأخبار سارة عاملة في حياتهم كل يوم، وكتجديد مستمر وتقديس دائم للإنسان الداخلي وكل أعضاء الجسم لحساب ملكوت الله. *مَسَح بالزيت رأسك على الجبهة، لأن الختم الذي أخذته هو من الله، حفر الختم قداسة الله. القديس كيرلس الأورشليمي 8. "كأس سكرك، ما أمجدها؟!" [5]. تُستخدم الكؤوس في رعاية الغنم؛ والكأس عادة هو كتلة حجرية منحوتة ومجوفة طولها 30 بوصة وعرضها حوالي 18 بوصة وارتفاعها 18 بوصة. توجد الكؤوس في مواضع كثيرة عند الآباء والينابيع المنتشرة في برية يهوذا. يجرف الرعاة الماء ويسكبونه في الكأس، ولأن الكأس تتعرض للشمس يكرر الراعي سَكْب الماء فيها حتى تفيض، فتبرد الكأس، ثم يدعو خرافه لتشرب دون أن يتوقف عن صب الماء. بهذا يتأكد أن الماء يبقى باردًا، وأنَّ لدى الخراف ما يكفيها ويزيد من الماء. حتى إذا ما تراجعت الخراف لتستريح قليلًا يحتفظ الراعي بالكأس ذات الماء الجاري حتى تشرب خرافه ميأهًا عذبة... ربما هذا ما يعنيه النص العبري "كأسي رَيَّا". ولعل هذه الكأس ذات الماء الدائم التجديد يُشير إلى مراحم راعينا الصالح الجديدة كل صباح وخيراته اليومية (مرا 3: 23؛ مز 68: 19)[482]. الإنسان الذي يتقبَّل مع كل صباح مراحم الله وخيراته الجديدة يفيض شكرًا وتسبيحًا حتى وإنْ كانم لا يملك إلا لقمة يابسة، أما مَنْ لا يتلمّسُ هذه البركات فإنه وإنْ اقتنى العالم كله بين يديه تكون كأسه مشققة لا تضبط ماءً. جاءت الترجمة السبعينية هكذا: "كأس سكرك، ما أمجدها؟!" الخمر تفرح قلب الإنسان كرمز لحضور روح الله واهب النعم، الذي يحيّي نفس المؤمن ويحركها نحو السماء. لقد انسكب الروح على التلاميذ أو على الكنيسة في يوم الخمسين فملأها وفاض كأسها، وظن اليهود أنهم سَكْرَى (أع 2: 15). * تُسْكِرنا كأس الرب، إذ تُنْسينا فكرنا (في الزمنيات)، وتقود النفس إلى الحكمة الروحية... إنها تحرر النفس، وتَنزع الغم...! إنها تهب راحة للنفس، إذ تقدم لها فرح الصلاح الإلهي عوض كآبة القلب القائم بسبب ثقل أحمال الخطية[483]. القديس كبريانوس هل يحيا الحَمَل في بيت الراعي؟ نعم. حينما وبخ ناثان داود على خطيته قدم له مثلًا خاصًا بالفقير الذي لم يكن لديه سوى نعجة واحدة صغيرة اشتراها ورباها وكبرت معه ومع بنيه جميعًا. كانت تأكل من لقمته، وتشرب من كأسه، وتنام في حضنه، وكانت له كإبنة (2 صم 12: 1-3). هكذا اِقْتنانا الراعي وقَبِلنا كابنته الوحيدة، وأعدَّ لنا في بيته موضعًا، حتى نتعبه أينما ذهب. يُعلِن المرتل أنه يسكن في بيت الراعي، الكنيسة، أيقونة ملكوته السماوي الأبدي وعربونه. يجد المؤمن بهجته أنْ يتعبَّد ويخدم ويسكن مع ربه المحبوب في الكنيسة وكأنما يسكن معه في سمواته أبديًا. غاية رعايته لنا أن نستقر معه في مَقْدسه الإلهي! راعيّ الصالح * أيها الراعي الصالح، يا من تملك على القلب بالحب لا بالسلطة، اِحْملني إلى مرعاك فلا اعتاز شيئًا! * صليبك فتح لي مَرْعَي الفردوس، وحَصَّن أبوابه ضد كل عدو! جنبك المفتوح أفاض له مياه الراحة، أغْتسِل بكُليّتِي فأحمل شركة الطبيعة الإلهية بمعموديتك، وأشرب فتلتهب أحشائي بنار حبك! * صرتَ لي الطريق، تحملني إلى حِضْن أبيك! قدمتَ لي صليبك عصا وعكازًا لحمايتي ومعونتي! تمسحني بدهنك فأتقدس لك بكُليّتِي * تحملني في ضعفي على مِنكبيك! تقودني وسط آلام الحياة بنفسك، وأخيرًا تستقر بي في بيتك السماوي لأُوجد معك أبديًا! |
|