الكنيسة والهراطقة
ويروى التاريخ الكنسي، كيف أن الرسل والآباء واجهوا الهراطقة، ومن بين ما رواه عن القديس يوحنا الحبيب أنه دخل ذات مرة حماما ليستحم وإذا به يعلم بوجود كيرنيثوس المبتدع فيه، فخرج مسرعا إلى خارج لأنه لم يطق البقاء معه تحت سقف واحد، ونصح مرافقيه أن يقتدوا به قائلا لهم (لنهرب لئلا يسقط الحمام، لأن كيرنيثوس عدو الحق موجود داخله).
وتكشف لنا رسائل القديس كلمنضس الروماني (92 م.) عن حزمه الشديد ضد الهرطقات ومقاومتها ومواجهة أصحاب البدع والمنشقين على الكنيسة، مع فتح باب التوبة أمام الراغبين منهم في العودة إلى الأحضان الكنسية.
كذلك جاهد القديس أغناطيوس الأنطاكى ضد الهراطقة بكل حزم، محذرا أولاده من المنحرفين لكونهم ذئاب ترتدي ثياب الحملان، يتسللون إلى الكنيسة للخطف والهدم، وقد طالب شعبه أن يلتف حول الاكليروس بروح الحب والطاعة لأجل سلامة الكنيسة الواحدة الوحيدة.
ويؤكد أن الأسقف يمثل المسيح نفسه وانه مسئول عن المؤمنين، والشركة معه ابتعاد عن الخطأ والوقوع في الهراطقة، وعلى الأسقف أن يقود قطيعه، ويكونون هم معه برأي واحد، مرتبطين معه ارتباط الأوتار بالقيثارة "صلاة واحدة، توسل واحد، ذهن واحد".
ويحذرنا الشهيد الأنطاكي من الناس الذين يتلفظون باسم الله رياءًا وخداعًا ويقومون بأعمال لا ترضيه (يجب أن تبتعدوا عن هؤلاء كابتعادكم عن الوحوش المفترسة، إنهم كلاب إستكلبت تعض غدرًا، تجنبوهم لان الشفاء من عضهم عسير، لا تخدعنَّكُم طرقهم ولا التعاليم الغريبة لأنكم أبناء الله، ولا تسمحوا للذين يزرعون زرعا فاسدا أن يلقوا بِذارهم)..
وقد شبه الهراطقة بحيوانات شريرة، فحيث الانقسام والانشقاق هناك لا يسكن الله، ومن يصنع الانقسام في الكنيسة لن يرث ملكوت السموات.
ومن المعروف أيضا أن القديس بوليكاربوس أسقف سميرنا كان يقاوم بشدة، لأنه تلميذ يوحنا الحبيب الذي حذر من السلام عليهم، وأوصى بعدم قبولهم في البيوت..
ويذكر التاريخ أن القديس بوليكاربوس التقى بالهرطوقي مرقيون، فسأله الأخير "أتعرفني؟" أجابه "أعرفك، أنت بكر الشيطان".
يشهد التاريخ أيضًا أن القديس بوليكاربوس رد كثيرين من الذين انحرفوا وراء الهراطقة، ورجع على يديه بعض المنشقين الذين انزلقوا وراء الهراطقة المعاندين.
وقد صاحب الهرطقات والبدع ازدهار في الكتابات اللاهوتية والعقيدية، وهى ظاهرة طبيعية تحدث عندما تستجيب النفوس لعمل روح الله في أزمنة الاضطهاد والانحرافات الهرطوقية، التي تصبح بمثابة معصرة العنب أو فرك الزهور ذات الرائحة الطيبة، فهي تسفر عن معرفة إلهية حقيقية غير كاذبة ودفاعيات وكتابات تكشف لنا الكثير من أعماق الإيمان المسيحي المستقيم، وفي هذا المجال نجد العديد من الكتاب الذين يطلق عليهم اسم "الآباء الملتمسون أو المدافعون" (Apololgists)، الذين كرسوا أقلامهم للدفاعيات، كذا الآباء العظام أعمدة الإيمان ومعلمي المسكونة البابا بطرس خاتم الشهداء والبابا اثناسيوس حامى الايمان، والبابا كيرلس عمود الدين والبابا ديسقوروس بطل الأرثوذكسية، الذين دافعوا عن الإيمان في الصراعات العقيدية لأجل الحق في زمن المجامع المسكونية.،لم يدافعوا عن معرفة مجردة منفصلة عن تدبير الخلاص. بل جاهدوا لكي يحددوا بدقة شديدة التعليم بمعناه العام وفي إطاره المتكامل.
فالعقائد التي صاغتها الكنيسة في مجامعها المسكونية لم تكن أراء فردية، بل هي إيمان وحياة وخبرة قديسي الكنيسة الذين حملوا المسيح والروح {1كو 2: 16} وهكذا بقيت الكنيسة دائما ثابته على اساسها الأول حافظة هويتها الذاتية فتستمر وحدة إيمانها عبر الدهور حسب مشيئة الرب {يو 17: 20}.
وللقديس ايريناؤس رؤيته المتميزة في هذا المنحى فيرى أن الكنيسة هي نبع الحق الوحيد وذخيرته، وقانو الحق أي الإطار التعليمي الكنسي الذي تسلمته الكنيسة والذي يختلف تماما ويُضاد تعليم الهراطقة هو نفس التعليم في كل مكان، إذ أن الذين يرغبون في رؤية الحق يمكنهم أن يلاحظوا التسليم الرسولي المُسْتَعْلَن في العالم كله، وكل الذين يساموا أساقفة في الكنيسة على أيدي الرسل القديسين والذين خلفوهم حتى يومنا هذا لم يعملوا أبدا ولم يعرفوا أبدا تلك السخافات التي يصنعها الهراطقة وسط الكنيسة.
ويركز على أن الكنيسة كلها تؤمن إيمانا واحدا لأن لها قلبا واحدا، وفي وحدة تكرز بإيمانها وتعلم وتسلم، لأن لها فما واحد one mouth لأنه على الرغم من تعدد اللغات في العالم إلا أن التقليد الكنسي هو هو نفسه لا يتغير.
وقد كان للقديس إيرنياؤس أبو التقليد وقفته الدفاعية عن سلامة التعليم، فيعرف اللاهوتي الموهوب بين الذين لهم سلطان التعليم في الكنيسة، بأنه هو الذي لا يقول شيئا مختلفا عن التقليد الذي استلمته (ليس التلميذ أفضل من المعلم {مت 10: 24}، فالتلميذ الروحي هو الذي تسلم بالحق روح الله، وهو الذي سوف يقاضى الذين يسببون الانقسامات، الذين ليس فيهم أثر من محبة الله، الذين تنفتح عيونهم على منافعهم الذاتية دون النظر إلى وحدانية الكنيسة، ومثل هؤلاء الناس لأي سبب تافه يقسمون جسد المسيح ويمزقونه ويبذلون قصارى جهدهم لتمزيقه، يتحدثون عن السلام وهو صناع حروب.
وينصح القديس إيريناوس بوجوب الابتعاد عن الهراطقة وعدم عقد الخدمات غير القانونية، لأنها تستعفي عن التقليد الرسولي وخلفاء الرسل، ولا تملك النعمة.
ويوصى بمقاومة الهراطقة لأنهم كالحيات الناعمة يحاولون أن يفلتوا من أيدينا، وعلينا أن نحاصره من كل جهة حتى إذا قطعنا عليهم منافذ الهروب نستطيع أن نجتذبهم إلى الحق مرة أخرى..
ولا ينبغي قط أن نفتش عن الحق أو نطلبه من الخارجين عن الكنيسة، لان في الكنيسة استودع الرسل وديعتهم، كما يصنع الأغنياء، إذ هي باب الحياة والآخرون هم سُرَّاق ولصوص، علينا أن نتجنبهم ونلتصق بغيرة الحب لكل شيء داخل الكنيسة.
ويؤكد العلامة الافريقى ترتليان على أن الكنيسة مستودع الإيمان وحامية الإلهام وهو وحدها وريثة الحق وصاحبة الأسفار المقدسة وحافظة العقيدة، وهى وحدها وريثة الرسل الشرعية، كنيسة الروح القدس.
ويقول العلامة أوريجين أن كنزه هو كنيسته، وأن في هذا الكنز يوجد رجال هم آنية غضب لذلك يأتي وقت يفتح الرب فيه كنز الكنيسة لان الكنيسة الآن مغلقة وآنية الغضب فيها مع آنية الرحمة {رو 9: 22} والزوان مع الحنطة، ومع السمك الطيب هناك السمك الذي لابد أن يطرح بعيدًا للهلاك.