الرب معنا
المزمور السادس والاربعون
1. المزمور 46 هو مزمور شكر ينشده الشعب بسبب الخلاص الذي صنعه الله من أجل مدينة أورشليم التي اختارها من بين كل المدن مقامًا لسكناه فلن تتزعزع. كُتب هذا المزمور على ما يبدو، حين تراجع سنحاريب الملك الأشوري من أمام أسوار أورشليم (سنة 701 ق. م.) لما ضرب الله جيشه بالوباء (2 مل 19: 35- 73): أيكون قُرئ في القرن الرابع من جديد، ثم أنشد داخل الهيكل ليغذّي ويقوّي عواطف الايمان عند الشعب الراجع من الجلاء، ويذكّره بمواعيد اله العهد الى صهيون؟ ظلّت هذه الحادثة عالقة بأذهان الناس بعد أجيال من وقوعها لأنهم رأوا فيها العربون لما سيعطيه الله في المستقبل لشعبه من خلاص وخيرات في نهاية الازمنة.
2. مدينة الله الملك ملجأ لنا لأن رب الكون معنا.
- يقسم المزمور إلى ثلاثة أبيات. البيت الأول (آ 2- 4): نحن واثقون بالرب لأنه سور منيع ضدّ كل الهجمات، وعوننا الأكيد وقت الضيق. البيت الثاني (آ 5- 8): الله يحمي أورشليم ويدافع عنها لتصبح ملجأ للذين يحتمون فيها. الرب القدير (رب الجنود) معنا، اله يعقوب ملجانا. في البيت الثالث (آ 9- 12)، يحثّ المرتّل الشعب على نشيد عرفان جميل لما صنعه الله لأورشليم ولما يصنعه للأرض كلها حين يحطّم كل قوّة بشريّة مخاصمة وينهي كل الحروب: أزال الحروب إلى أقاصي الأرض، كسر القوس وقطع الرمح، وأحرق المركبات بالنار.
3. نجا الشعب بحياته لما التجأ إلى أورشليم بعد أن خرّب الملك سنحاريب كل مدن يهوذا (2 مل 18). فأورشليم تحمي من يلتجئ اليها ليس فقط من نكبات الحرب، بل من الزلازل أيضًا والآفات (أصاب الوباء جيش ملك أشور ولم يصب مدينة أورشليم). وهذا النصر الذي يحرزه الله هو صورة عن نصره على المياه العظيمة الأولى التي صرعها الله وسجنها (أي 38: 8- 11، تك 1) في بداية الكون وما يزال ينتصر عليها. فانتصار الله الدائم على قوى الشر ارتبط بحادثة معيّنة هي خلاص أورشليم من يد الملك الأشوري، ونراه ظاهرًا في الكوارث والآفات: فالزلزال الذي تحدّث عنه عاموس (1: 1) أيقظ في قلب الشعب ثقة بتدخّل الله (أش 33: 22: الرب ملكنا فهو يخلّصنا) تستند إلى مواعيده (يوء 4: 16: الله ملجأ شعبه وسور لأبناء اسرائيل. إر 16: 19: الرب عزي وحصني وملجأي) وإلى ما اختبره الشعب في تاريخه: لا تخف، يقول الرب لصهيون ولشعبه (أش 40: 9؛ 41: 10- 14).
ينشد المرتّل نشيده للرب ولمدينته فيقابل بين المياه التحتية (التي تحت الأرض والتي تهدّد الكون كما في الطوفان)، ونهر قدرون الذي ينعش أورشليم وسكانها، فيدلّ على سيطرة الله على المياه وحضوره في أورشليم. من خلال هذا المزمور نحن أمام صورة عن نهر الفردوس المتفرّع إلى أربعة جداول (تكوين 2) والذي ينبع من الهيكل كما قال حزقيال (47: 1 ي: مياه تخرج من تحت عتبة بيت الله) ويوئيل (3: 18: يخرج ينبوع من بيت الرب) وزكريا (14: 8) وأشعيا (30: 25؛ 41: 18؛ 43: 19). هذا النهر يحيي كل شيء ويكون في الوقت ذاته حدودًا طبيعيّة تحمي الشعب (خر 19: 23) وتمنع الامم الوثنية من الوصول إلى أورشليم (أش 52: 1: استيقظي، إلبسي عزك يا صهيون، إلبسي ثياب فخرك يا أورشليم يا مدينة القدس، فإنه لا يعود يدخلك من بعد أغلف ولا نجس). يذكر المرتّل طلوع الفجر وهي الساعة التي فيها هربت جيوش سنحاريب تاركة حصار أورشليم. ويذكر عبارة "الرب معنا" مردّدًا قول أشعيا النبيّ إلى الملك أحاز عن عمانوئيل أي الله معنا (أش 7: 14؛ 8: 8- 10).
يدعو المرتّل الشعب ليأتي ويرى ما فعله الرب من هرب الاشوريين بعد دمار جيشهم، إلى نيران الفرح التي أشعلها الرب. ويدعو باقي الشعوب لأن يرجعوا إلى الرب اله اسرائيل كما قال أشعيا 33: 13: "اسمعوا أيها البعيدون ما صنعت، واعرفوا أيها القريبون أعمالي العظيمة". ولكن أعظم وأعجب عمل يقوم به الربّ، ليس فقط خلاصًا عابرًا و(أورشليم سوف تُنهب وتُهدم فيما بعد) بل خلاص دائم عندما يزيل الله كل ما له علاقة بالحرب في نهاية الازمنة، كما قال أشعيا (2: 4: يضربون سيوفهم سككًا وحرابهم مناجل، فلا يتعلمون الحرب من بعد) وهوشع (2: 18: أكسر السيف والقوس وأزيل الحرب من الأرض) وحزقيال (39: 3). أجل ستزول كل حرب، ليس فقط عن أرض أورشليم بل عن الأرض كلها. وبعدها يتدخّل الله لينبّه الامم بوجوب الامتناع عن كل حرب والاقرار بسلطان الله.
4. يتخذّ المزمور 46 وجهة معاديّة عندما يوجّه قلوبنا إلى اله العهد الذي يخلّص مدينته المقدّسة ويحمي العالم من كل الحروب. فأورشليم المشعّة المتجدّدة، هي صورة عن العالم الجديد الذي ننتظره في المسيح. بهذا الموضوع تقول الرسالة إلى العبرانيين (12: 22- 24) داعية المؤمنين إلى الثقة بالله: "أنتم اقتربتم من جبل صهيون، من مدينة الله الحيّ، من أورشليم السماوية وآلاف الملائكة في محفل عيد، من محفل الابكار المكتوبة أسماؤهم في السماوات، من الله ديّان البشر جميعًا، من أرواح الأبرار الذين بلغوا الكمال، من يسوع وسيط العهد الجديد".
5. تأمّل
أول نشيد من أناشيد صهيون يتلى في ليتورجيا تُقام في أورشليم، فينشد الله الذي هو ملك في شعبه. مثل هذه المزامير تنشد عادة انتصار الله. أما في مز 46، فالمؤمنون يعلنون إيمانهم الواثق ساعة تعرف المملكة اليأس العميق. نجد هنا صرخة إيمان. وما يبرّر هذا الايمان، نشيد النص في النهاية. والقرار (أو: الردّة) الذي يتكرّر يلوّن المزمور كلّه بلونه: الرب القدير معنا، ملجأنا إله يعقوب (آ 8، 12).
وينطلق المؤمن في صرخة إيمان أمام التهديد الذي يحسّ به الشعب. لم يعد الرب فقط قوّة المؤمنين (29: 11)، بل صار ملجأهم (أش 14: 32) وعونًا لهم في ساعات الضيق. لا يرتجف المؤمن حتى لو كادت الأرض كلها تتزلزل من هجمات بحر هائج. فالطوفان نفسه لم يؤثّر على البار نوح وعياله. فلماذا يؤثّر اليوم على أورشليم؟ قد تنزلق الأرض تحت أرجل الشعب، ولكن الله هو هنا، فلا داعي للخوف. إن كنتم لا تؤمنون فلن تأمنوا. أي إن لم يكن عندكم إيمان، فلا تكونون في أمان. وكما قال يسوع لتلاميذه: لماذا أنتم خائفون، يا قليلي الايمان؟ لو كان عندكم إيمان قدر حبّة الخردل، لما كنتم تخافون.
وما هو سبب هذا الهدوء رغم قوّة العاصفة؟ فكما كانت سفينة نوح تسبح فوق مياه الطوفان، هكذا ترتفع صهيون فوق المياه. ولا ننسى هنا أن سفينة نوحُ بُنيت مثل هيكل أورشليم في طوابق ثلاثة. فقد كانت رمزًا إلى خلاص يرسله الربّ من صهيون، ومن الهيكل، مركز حضوره. فالمياه التي تعجّ تجد أمامها مياه شيلوحا التي تسيل بهدوء من تحت المذبح كما يقول حزقيال. مياه الأنهر تحمل الخراب والدمار. أما المياه الخارجة من الهيكل فتحمل الحياة حتى إلى البحر الميت كما يقول النبيّ زكريا.
قد يأتي الليل بضيقه، ولكن يتبعه الصباح حاملاً الهدوء والصفاء. وحين يطلع النهار، يبدو بشكل ظهور إلهي يحمل الغلبة لشعبه ولمؤمنيه. قد تهجم الجيوش. وتدمّر الممالك. ولكن الرب يرعد فيتراجعون. هو سيّد التاريخ، وهو يوجّه مصير الأمم. فلماذا نخاف؟ أما عندنا إيمان!