رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 107 - تفسير سفر المزامير كلمة الله واهب الشفاءفي المُقَدِّمة عن سفر المزامير سبق أن أوضحنا أن الكتاب الخامس من سفر المزامير يقابل السفر الخامس من أسفار موسى، أي سفر التثنية، الذي يعتبر سفر الشريعة، أو سفر كلمة الله. يبدأ هذا الكتاب بالمزمور 107 الذي يُقَدِّم لنا مفتاح الكتاب الخامس، وهو: "أرسل كلمته فشفاهم" (مز 107: 20). ضم هذا الكتاب: 1. المزمور الكبير، مزمور 119 يُعْتَبَر مذكرات داود النبي عن كلمة الله التي كان يعشقها ويتلذذ بها ويمارسها. 2. يحوي أيضًا مزامير المصاعد (مز 120-134) التي كان يترنم بها الصاعدون إلى بيت الرب حيث يتمتعون بوعود الله ووصاياه. 3. مزامير هاليل المصرية (مز 113- مز 118). 4. مزامير هلّلويا (146-150). [FONT=""]اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّابِعُ[/FONT] كلمة الله واهب الشفاء يُقَدِّم لنا هذا المزمور صورة حية عن كلمة الله المتجسد، غافر الخطايا، الذي يجمع كنيسته من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها. الطبيب الإلهي واهب الشفاء للنفس والجسد. 1. دعوة للاعتراف والشكر 1-3. 2. خلاص من تيه البرية 4-9. 3. خلاص من العبودية 10-16 4. خلاص من المرض 17-22. 5. خلاص من مخاطر الإبحار في العالم 23-32. 6. العناية الإلهية 33-43. من وحي المزمور 107 العنوان * "هلّلويا"، نتغنى بها بالحقيقة في أيام مُعَيَّنة، لكننا نفكر فيها كل يوم. فإن بهذه الكلمة نعني التسبيح لله، وإن كان ليس بفم الجسد، فبالتأكيد بفم القلب. "دائمًا تسبحته في فمي" (مز 34: 1). أما أن العنوان ليس فيه "هلّلويا" مرة واحدة بل مرتيْن، فهما لا يخصان هذا المزمور وحده، بل هذا المزمور والمزمور السابق له[1]. القديس أغسطينوس 1. دعوة للاعتراف والشكر يدعو المرتل الجماعة المقدسة أن تُقَدِّم اعترافًا عن الخطايا، وشكر لأمانة الله في عهده معهم، مؤكدًا صلاحه وحبه نحو المفديين. إنه ينقذ المؤمنين به، فقد أوفى ديونهم بدمه الثمين، وحررهم من عبودية إبليس، وجمعهم من كل المسكونة كشعبٍ مقدسٍ له. اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [1]. جاءت كلمة "احمدوا" هنا بمعنى "اعترفوا"، كما يقول كل من القديسين أغسطينوس ويوحنا الذهبي الفم وغيرهما أنه يلزمنا أن نعترف للرب أولًا من أجل إحساناته معنا، خاصة من أجل نعمته العاملة فينا فنمارِس الصلاح كعطية من عنده، وأيضًا الاعتراف بخطايانا لكي ننال مغفرة الخطايا. والجانبان مُكَمِّلان لبعضهما البعض. يترجمها القديس أغسطينوس"اعترفوا للرب لأنه حلو، لأن إلى الأبد رحمته". ويقول إن من لا يذوق عذوبة الله لا يقدر أن يعترف. * رحمته ليست إلى حين، كما لو كانت ليست إلى الأبد، فإنه لهذا الهدف رحمته الحالية على البشر هي أن يعيشوا مع الملائكة إلى الأبد[2]. القديس أغسطينوس القديس جيروم الأب أنسيمُس الأورشليمي الَّذِينَ فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ [2]. كان تعبير "مفديي الرب" مُحَبَّبًا جدًا لدى إشعياء النبي (إش 35: 9-10؛ 62: 12؛ 63: 4). فقد انكشف سرّ الصليب لإشعياء، وبالتالي تتطلع إلى كنيسة العهد الجديد التي يجمعها الرب من كل الأمم ككنيسة افتداها بدمه، وخلَّصها من عبودية إبليس. لذا يقول: "لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها. لا يوجد هناك بل يسلك المفديون فيها. ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنمٍ وفرحٍ أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم. ويهرب الحزن والتنهد" (إش 35: 9-10). * "ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد لعدو." يشير النبي هنا مباشرة إلى دعوة الأمم. نداؤهم يُمَثِّل الفكرة الرئيسية السريَّة للمزمور... كنا مسبيين في يد إبليس، لذلك جاء الرب وفدانا لكي يُحَرِّرنا من قبضته[4]. * يمسك العدو بنا في قبضته، ليس لأنه يحبنا، وإنما لأنه يبغضنا... يا لجلال قوة دم الرب وعظمته، فإنه حررنا من قبضة إبليس... أفاض الرب دمه مثل دهن الرحمة، وبدمه حرَّرنا... فقد كانت يد إبليس تمسك بنا في استعباده العالم كله[5]. القديس جيروم الأب أنسيمُس الأورشليمي مِنَ الْمَشْرِقِ وَمِنَ الْمَغْرِبِ، مِنَ الشِّمَالِ وَمِنَ الْبَحْرِ [3]. مفديو الرب القادمون من المشارق والمغارب والشمال هم الأمم الذين قبلوا الإيمان بالسيد المسيح. يقول النبي: "هؤلاء من بعيد يأتون، وهؤلاء من الشمال، ومن المغرب، وهؤلاء من أرض سينيم" (إش 49: 12). ويقول الإنجيلي: "ويأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب، ويتكئون في ملكوت الله" (لو 13: 29). يرى القديس جيروم أن النبي يذكر الغرب مرتيْن (لأن البحر غرب أورشليم) ولم يذكر الجنوب. وذلك في رأيه أن الجنوب يشير إلى بيت لحم حيث وُلد السيد المسيح فيها، جنوب أورشليم، وقد قيل أن الرب يأتي من الجنوب (حب 3: 3). وللأسف فقد رفض اليهود السيد المسيح، إذ يأتي الأمم من المشارق والمغارب إلى حضن إبراهيم، وأما أبناء هذا الجيل (اليهود) فيكونون في الخارج (مت 8: 10-12). * كما يظهر من النص، هذا المزمور لا يخُص شعب إسرائيل، بل هو أغنية كنيسة الله الجامعة المُنْتَشِرة في العالم كله[6]. * الآن لنفهم هؤلاء المفديين هم في كل دائرة الأرض. شعب الله هذا يتحرر من مصر العظمى والمتسعة، ويُقادون خلال البحر الأحمر (خر 14: 22)، أي خلال المعمودية ينتهي أعداؤهم. فإنه بالسرّ كما بالبحر الأحمر، أي بالمعمودية المُقَدَّسة بدم المسيح، يقتنون أثر المصريين، أي الخطايا، فتُغسل تمامًا... "هذه الأمور جميعها أصابتهم مثالًا وكُتبتْ لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور" (1 كو 10: 11)[7]. القديس أغسطينوس القديس كيرلس الكبير 2. خلاص من تيه البرية التيه في البرية في غاية الخطورة، غالبًا ما يؤدي إلى الموت. يتعرض الراحلون في البرية لفقدان الطريق الآمن، كما للجوع والعطش وحالة الإنهاك الشديد. كما لا توجد فيها مدينة آمنة من المخاطر، بل يتعرض المسافرون لوحوش البرية واللصوص. لهذا يتقدَّم الرب نفسه لشعبه بكونه الطريق الذي يحملهم فيه إلى حضن الآب، والخبز السماوي، والماء الحي، وواهب الراحة ومُشْبِع كل الاحتياجات والملجأ الآمن. تَاهُوا فِي الْبَرِّيَّةِ فِي قَفْرٍ بِلاَ طَرِيقٍ. لَمْ يَجِدُوا مَدِينَةَ سَكَنٍ [4]. ينطبق هذا القول على اليهود الذين تاهوا في البرية أربعين عامًا، ولم يعبروا إلى أرض الموعد، باستثناء يشوع بن نون وكالب. كما ينطبق على البشرية ككل، فقد عاشت كما في حالة تيه منذ سقوط آدم حتى جاء كلمة متجسدًا ليعبر بهم إلى حضن الآب، ويتمتعوا بأورشليم السماوية كوطنٍ يستقرون فيه أبديًا. يرى القديس جيروم أن الأمم تاهوا في البرية، ولم يجدوا المدينة. فقد بحث سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم عن المدينة، لكنهم تاهوا كمن في برية قاحلة. فإن تعاليم الفلاسفة دون طلب نعمة الله وعونه لا تُقَدِّم الطعام الحقيقي ولا المياه الحية. إنهم أشبه بالمرأة نازفة الدم التي أنفقت كل معيشتها على الأطباء ولم تُشف (لو 8: 43-49؛ مر 5: 25-35؛ مت 9: 20-23). لكنها عندما صرخت إلى الرب ولمستْ هُدب ثوبه شُفيتْ. * خرج من نظام الشركة نوع آخر من الساعين وراء الكمال، يُدعون بـ"المتوحدين" أي المنعزلين. وإذ لم يكتفوا بنصرتهم، إذ داسوا حيل إبليس الخفية تحت أقدامهم وهم يعيشون وسط الناس، اشتاقوا أن يدخلوا في حرب علانية ومعركة مكشوفة مع العدو. هكذا لم يخشوا التوغل في أعماق البرية، مقتفين آثار يوحنا المعمدان الذي قضى كل حياته في الصحراء، كذلك إيليا واليشع، إذ يتحدث الرسول عنهم قائلًا: "طافوا في جلود غنمٍ وجلود معزى معتازين مكروبين مُذَلّين، وهم لم يكن العالم مُستَحِقًا لهم، تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض" (عب 37:11-38). تكلم عنهم الرب مع أيوب بصورة رمزية قائلًا: "من سرَّح الفراءَ حُرًّا ومن فكَّ رُبُط حمار الوحش، الذي جعلتُ البرية بيته والسباخ مسكنه. يضحك على جمهور القرية. لا يسمع زجر السائق. دائرة الجبال مرعاه وعلى خضرةٍ يفتّش" (أي 5:39-8). أيضًا يقول سفر المزامير: "ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد العدوّ" ثم يكمل قائلًا: "تاهوا في البرية في قفر بلا طريق. لم يجدوا مدينةَ سكنٍ. جِياع عِطاش أيضًا أعيت أنفسهم فيهم. فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فأنقذهم من شدائدهم" (مز:107: 4-6). يصفهم إرميا أيضًا قائلًا: "جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ. يجلس وحده ويسكت لأنه قد وضعه عليهِ" (مرا 27:3، 28). وتخرج كلمات المرتل من القلب: "صرت مثل بومة الخِرَب. سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح (مز 6:102-7)[9]. الأب بيامون أَعْيَتْ أَنْفُسُهُمْ فِيهِمْ [5]. كثيرًا ما كان يتعرض المسافرون في البراري للجوع والعطش بسبب نقص الطعام والعطش بسبب نقص الطعام والماء. يعلن الله رعايته لمؤمنيه وسط برية هذا العالم. قيل بإشعياء النبي: "البائسون والمساكين طالبون ماء ولا يوجد. لسانهم من العطش قد يبس. أنا الرب استجيب لهم، أنا إله إسرائيل لا أتركهم. افتح على الهضاب أنهارًا، وفي وسط البقاع ينابيع. اجعل القفر أجمة ماء والأرض اليابسة مفاجر مياه" (إش 41: 17-18). إن كان الأمم قد صاروا أشبه بالبراري التي بلا ماء، إذ لم يتمتعوا بالشريعة ولا الآباء ولا النبوات، لكن الله، إله كل البشر، فجَّر في هذه البراري ينابيع الإيمان بالمسيح يسوع، فتحولتْ البراري إلى فردوس الله المُثْمِر. فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ [6]. يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن الأمم الوثنية والتي يدعوها العهد الجديد اليونانيين لم يكونوا في العهد القديم يدركون حال الشقاء الذي بلغوا إليه، لهذا لم يصرخوا إلى الله لكي ينجيهم مما هم عليه، فقام الأنبياء والصديقون يصرخون عنهم بمرارةٍ وفي أنين. كما حدث أيضًا حين جاء السيد المسيح، حيث لم يتقدم إليه المجانين ولا طلبوا منه الخلاص، لكن أقرباءهم العقلاء كانوا يأتون إليه ويسألونه عنهم. هكذا يليق بالأتقياء ألا يكفوا عن السؤال والطلبة، بل والصراخ من أجل الهالكين كي يعمل المخلص فيهم. * كان أتقياء الله يتلهفون في شفقةٍ من أجل هلاك أبناء جنسهم، ويصرخون ويطلبون حضور ابن الله إلى العالم كما أوحي إليهم. الأب أنسيمُس الأورشليمي لِيَذْهَبُوا إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ [7]. * إذ فشلوا أن يجدوا الطريق إلى مدينة سكن، قادهم (الرب) إلى طريقٍ مستقيم. أظهر لهم الطريق، لأنهم قبلًا وجدوا طرقًا ملتوية غير مستقيمة. "هداهم طريقًا مستقيمًا". قادهم "الطريق" إلى طريق مستقيم. الرب نفسه المخلص قادهم. قادهم الطريق، وجعلهم يسلكون فيه ذاك الذي هو الطريق والقائد في نفس الوقت... حتى يدخلوا المدينة بيتهم، يدخلون كنيسته التي بناها على نفسه الذي هو الصخرة والطريق والمُرْشِد[10]. القديس جيروم وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ [8]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فلنشكرْ الرب، مراحمه وعجائبه لأبناء البشر". يقف الإنسان في دهشة كيف يُقَدِّم النبي - في العهد القديم- ذبيحة شكر لله من أجل عجائبه مع بني البشر، أي مع الأمم، ما لم يكن قد ابتُلع في محبة الله المُعْلَنة بالصليب، ويرى كلمة الله يبسط يديه لكل البشرية في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، خاصة وأن هذه العبارة تكررت أربع مرات في نفس المزمور [ع 8، 15، 22، 31]. لقد كرر المرتل هذا التعبير: فليحمدوا الرب على رحمته لبني آدم" ثلاث مرات [8، 15، 31]، وكما يقول القديس جيروم أن في هذا تكريم للثالوث القدوس كما أعلنته الأناجيل. يُقدَّم الاعتراف بالحمد والشكر للحق الإنجيلي الذي قدَّم لنا شبعًا حقيقيًا لنفوسنا، وخبزًا سمائيًا [9]، لأنه كسَّر متاريس الهاوية، وحررنا من الجحيم [16]، وأيضًا وهبنا روح التسبيح في جو كنسي مبهج [32]. * يُقال عن ربنا نفسه إنه الطريق، لأنه يهدي المنقادين إليه لمعرفة أبيه، وإلى مدينة عامرة، وهي ملكوته حيث مسكن قديسيه. ويصل إلى هذه المدينة هؤلاء الذين يخرجون من اضطرابات وبلبلة الزمنيات. وكما أن اليهود لما عزموا على الإتيان إلى مدينة الله ساروا طريقًا قفرة ومتعبة وشاقة، كذلك سبيلنا نحن أيضًا أن نسلك طريقًا ضيقة لنصل إلى مدينة الله أورشليم السماوية. فإذًا لنشكره على مراحمه وعجائبه التي يصفها لبني البشر. ونحن نُقَدِّم له الشكر ليقتدي الغير بنا، ويتعلموا منا عجائبه، فينصلحون ويقوِّموا أعمالهم. الأب أنسيمُس الأورشليمي يوسابيوس القيصري وَمَلأَ نَفْسًا جَائِعَةً خُبْزًا [9]. يهتم الله بكل احتياجات مؤمنيه، لكي ما يشبعوا ويرتووا، ولا يحتاجون إلى شيء. وكما يقول إرميا النبي: "وأروى نفس الكهنة من الدسم، ويشبع شعبي من جودي يقول الرب" (إر 31: 14). ويقول المرتل: "يروون من دسم بيتك، ومن نهر نعمتك تسقيهم" (مز 36: 8). * يُقال عن الإنسان العديم الصلاح والخالي من البرّ إنه نفس خاوية وجائعة. هكذا كان اليونانيون (الأمم) قبل إيمانهم بالمسيح، فأشبعهم من خيراته عندما علَّمهم عمل البرّ. الأب أنسيمُس الأورشليمي 3. خلاص من العبودية تذل الخطية الإنسان وتُفْقِّده حريته، ليعيش كما في سجنٍ مظلمٍ، أبوابه نحاسية من يَقْدِر أن يُحَطِّمها؟ وعوارضه حديدية من يقدر أن يكسرها؟ يعيش الإنسان كمُقيَّدٍ بسلاسل خطيرة ثقيلة على الجسد والنفس. الْجُلُوسَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، مُوثَقِينَ بِالذُّلِّ وَالْحَدِيدِ [10]. في الحديث السابق كان يُشَبِّه البشرية بمسافرين رُحّل في وسط برية قاحلة، بلا طعام ولا شراب، ويقوم الرب نفسه بإعالتهم. الآن يتحدث عنهم كأسرى ومساجين يعيشون في مذلة، مُقَيِّدين بالحديد، وملقون في وسط ظلمة، يحتاجون إلى الله لينير ظلمتهم (مز 18: 28). يشتاق الله أن يُحَرِّرَ الأسرى ويطلق الذين في السجون، فإن الحرية هي أعظم هبة مُقدَّمة للإنسان. لأن الرب سامع للمساكين، ولا يحتقر أسراه" (مز 69: 33). "ليدخل قدامك أنين الأسير" (مز 79: 11). * كان واجب على اليونانيين (الأمميين) أن يدركوا بحكمتهم الطبيعية مُكَوِّن الكائنات من جمال المخلوقات ومحتوياتها وتدبيرها، كما كتب الرسول: "لأن أموره غير المنظورة تُرَى منذ خلْق العالم مُدرَكة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته حتى إنهم بلا عذر..." (رو 1: 20 الخ). ولكن ربنا يسوع المسيح لوفرة رحمته قد أشبعهم من الخيرات، وأنار ظلمتهم، ونجَّاهم من ضلال الموت، وفك قيودهم، قائلًا للمأسورين: اخرجوا، وللذين في: الظلمة اظهروا. الأب أنسيمُس الأورشليمي وَأَهَانُوا مَشُورَةَ الْعَلِيِّ [11]. ليس من ظلمة تسيطر على الإنسان مثل ظلمة الخطية والعصيان لله، وليس من طريق للأسر والحرمان من الحرية مثل رفض مشورة الله، فإن من ينتهك وصايا المحرر الإلهي يُلقي بنفسه في مرارة الذل والإهانة، ويحرم نفسه من الحرية الداخلية وسلام القلب. فَأَذَلَّ قُلُوبَهُمْ بِتَعَبٍ. عَثَرُوا وَلاَ مَعِينَ [12]. لا يستطيع القلب المتكبر والعاصي لإلهه أن يتقبَّل السلام في داخله، إنما يعيش في تعبٍ لا يُعَبَّر عنه. يسقط وليس من يعينه على القيام. فإن الله وحده، إله المتواضعين قادر أن يُعِين ويقيم إلى التمام. * لتجاهدوا ضد الشهوة، وإن توقف الله عن مساندتكم في جهادكم لا تقدرون أن تنتصروا. وعندما يضغط شركم عليكم تذل قلوبكم بتعبٍ. لهذا تعلَّموا أن تصرخوا بقلبٍ متواضع: "ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟!" (رو 7: 24)[12] القديس أغسطينوس فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ [13]. حين يدير الساقط وجهه نحو الله، يجده ينتظره لكي يُخَلِّصَه من شدائده، ويشرق بنوره عليه وينزع عنه الظلمة. أَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، وَقَطَّعَ قُيُودَهُمْ [14]. فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ، وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ [15]. لأَنَّهُ كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ، وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ [16]. إن كانت الخطية والعصيان يدخلان بالإنسان أو بالجماعة كما إلى حبسٍ مغلقٍ بمتاريس نحاسية وعوارض حديدية، فإن الله المحب للبشر يحسب نفسه كمن صار معهم سجينًا، ويود أن يرد لهم الحرية، برجوعهم إليه. عبَّر ميخا النبي عن ذلك بقوله: "يقتحمون ويعبرون الباب، ويخرجون منه، ويجتاز ملكهم أمامهم، والرب في رأسهم" (مي 2: 13). كما قيل بإشعياء النبي: "أنا الرب قد دعوتك بالبرّ، فأمسك بيدك... لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة" (إش 42: 6-7). وقيل في زكريا: "ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء" (زك 9: 12). * كيف كُسرتْ مصاريع النحاس وقُطعتْ العوارض الحديدية؟ بجسمه، فقد ظهر لأول مرة جسد يخلد ويحطم طغيان الموت[13]. * إن كان هؤلاء الذين جاءوا تحت التدبير القديم، ولم يكن بعد قد قُتِلَ الموت، ولا انكسرت المصاريع النحاسية، ولا قُطعتْ العوارض الحديدية، واجه الجسم نهايتهم، فأي عوز لنا إن كنا نحن بعد أن نلنا نعمة عظيمة هكذا، ولم نأخذ فقط إلى ذات المقياس للفضيلة كما نالوا هم، إنما صار الموت اسمًا مجردًا، لم يعد له حقيقة. فإن الموت لا يزيد عن أن يكون نومًا ورحلة وهجرة وراحة وميناءً هادئًا، وهروب من التعب، وتحرُّر من ارتباكات هذه الحياة الحاضرة[14]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي 4. خلاص من المرض الذين يعصون الوصية الإلهية، ويتمردون على الله هم جهلة وأغبياء، أو هم مرضى يحتاجون إلى الطبيب السماوي ليشفي نفوسهم. هذا ما لا يستطيع أحد أن يحققه سوى كلمة الله المتجسد. وَالْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ، وَمِنْ آثَامِهِمْ يُذَلُّونَ [17]. كثيرًا ما يُدعَى الخطاة العصاة جهلة، والأبرار حكماء، إذ يرتبط برّ الله بالحكمة الإلهية، والعصيان بالجهالة. يدعونا المرتل أن ننظر إلى أعماقنا، فما يحل بنا من مذلةٍ، غالبًا ما يكون السبب الحقيقي هو خطايانا. * إذ كرَّموا أنفسهم لا الله، وثبتوا برّهم، ولم يعرفوا برّ الله، صاروا في ذلٍ. وجدوا أنفسهم بلا عون بدون معونته، إذ اتكلوا على قوتهم وحدها[15]. القديس أغسطينوس وَاقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ [18]. غالبًا ما يسأم الإنسان في خطاياه الحياة، ولا يشعر بطعم الغذاء، إذ يفقد هدفه الداخلي. هذا يحرم الإنسان من الصحة، فيذبل جسمه كما تذبل نفسه. وعلى العكس، بالرجوع إلى الرب تفرح النفس وتتهلل، كما يستريح الجسم مع النفس. يرى القديس أغسطينوس أنهم كانوا يأكلون بغير حساب حتى ولو كرهًا، حتى وإن اشمأزت نفوسهم من الطعام، ظانين أن التخمة لن تقتلهم. * إنهم يعانون من التخمة. إنهم مرضى بالتخمة؛ إنهم في خطر منها. ربما ظنوا أنهم يموتون بسبب الجوع، لكن لن يموتوا بسبب التخمة[16]. القديس أغسطينوس فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ [19]. * هذا الإثم أذلهم وصيّرهم في حقارةٍ، عوض ما كانوا عليه من كرامة، وجعل نفوسهم تكره كل طعامٍ، أي كل تعليمٍ يغذي النفوس. لأن اليونانيين (الأمميين) لم يكونوا يقبلون نصيحةً ما، حتى ولا من علمائهم... لذلك حكموا على سقراط بالموت الشنيع، وأوقعوا على أتباع بيتاغورس، ودقوا أناكسارخوس في هاون، وغيرهم كثيرون عذبوهم وقتلوهم. لأنهم أرادوا أن يمنعوهم عن شنائعهم وإدمانهم في السوء... أما النبي فيقول هذا لكي يُظهِر قوة ربنا، لأن الذين كانوا لا يَقْبلون حتى ولا تعليم علمائهم، قبلوا بنشاطٍ كرازة الرسل الأميين، وذلك بفعل قدرة الله الذي استجاب صراخ أتقيائه، ونجَّاهم من تلك الشدائد المهلكة لنفوسهم. الأب أنسيمُس الأورشليمي وَنَجَّاهُمْ مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ [20]. كلمة الله الذي خلق كل شيءٍ من العدم هو الطبيب الإلهي، القادر أن يرد النفس كما الجسد إلى الصحة. تجسد كلمة الله وتأنس لكي بدمه المبذول على الصليب يرد لنا الصورة المفقودة، ويهبنا صلاحه وبرّه. إن كانت الخطية هي مرض يصيب النفس ويفسدها، فإن كلمة الله هو الطبيب القادر أن يقتلع المرض من جذوره، وعوض الخطية يهب برَّه عاملًا في المؤمن. * بهذا القول أوضح النبي جهارًا تجسد كلمة الله وحضوره إلى العالم بالجسد، لأن الكلمة الملفوظة لا يُقال عنها "أُرسلت". إذن هي كلمته الجوهرية، تُدعَى كلمة، لأنه يولد من الله الآب دون ألمٍ ولا فسادٍ، كما تولد الكلمة من العقل ولا تفارقه. هذا الابن (أُرسِل إلى العالم وهو مازال كائنًا في حضن الآب)، وبحضوره شفانا من أمراضنا المميتة، ونجَّانا من فسادنا. الأب أنسيمُس الأورشليمي الأب بيتر خرستولوجوس وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ [21]. وَلْيَذْبَحُوا لَهُ ذَبَائِحَ الْحَمْدِ، وَلْيَعُدُّوا أَعْمَالَهُ بِتَرَنُّمٍ [22]. يليق بالمؤمنين لا أن يشكروا الله فحسب، بل ويُقَدِّمون الشكر كذبيحة له، يقدمونها بترنمٍ وتسبيحٍ وفرحٍ. * يُعَلِّمنا النبي أن نشكره على هذا الخلاص العجيب، ونذبح له لا المواشي المفروضة في شريعة موسى، بل ذبيحة التسبيح الطاهرة البريئة من الدم. ترجمها أكيلا بأوضح قول: "ذبيحة إفخارستيا"، أعني بها الشكر. لأننا نحن أيضًا ندعو القداس الإلهي باليونانية إفخارستيا ευχαριστία، ونتلو فيه الإنجيل المقدس المخبر بأعماله بابتهاجٍ. الأب أنسيمُس الأورشليمي 5. خلاص من مخاطر الإبحار في العالم حياتنا في العالم رحلة خطيرة مثل سفينة تبحر في البحر، تتعرض لعواصف خطيرة وأمواج ثائرة. السيد المسيح وحده له سلطان كملك السلام وخالق المسكونة ومخلص البشرية أن يقود سفينة حياتنا، فتصير رحلة مبهجة مملوءة بالتسابيح. اَلنَّازِلُونَ إِلَى الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ، الْعَامِلُونَ عَمَلًا فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَة [23]. * بالحقيقة الإيمان ترنح والجسد وبدأ يغرق. فإنه ليس خطأ قيل أن الجسد هو سفينة النفس، كما هو مكتوب: "النازلون إلى البحر في السفن"[18]. القديس أمبروسيوس الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس غريغوريوس النيسي وَعَجَائِبَهُ فِي الْعُمْقِ [24]. تشهد أعماق المحيطات والبحار لأعمال الرب وعجائبه التي لا تُحصَى. أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحًا عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ [25]. بكلمة من الله يأمر الهواء وهو أكثر خفة من الماء، فتتحرك الرياح، وترفع أمواج البحر بقوةٍ شديدة. يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ يَهْبِطُونَ إِلَى الأَعْمَاقِ. ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالشَّقَاءِ [26]. تذوب نفوس البحارة، عندما يرون الأمواج تصعد بهم كما إلى السماء، ثم تهبط بهم كما إلى أعماق البحر أو المحيط. * بدون المسيح القائد السماوي لا يستطيع أحد أن يعْبرَ البحر الشرير، بحر قوات الظلمة، وأمواج التجارب المُرَّة، كما هو مكتوب: "يصعدون إلى السماوات ويهبطون إلى الأعماق" (مز 107: 26). ولكن المسيح له معرفة كاملة كقائدٍ، سواء من جهة الحروب أو التجارب، وهو يعْبرُ بالنفس فوق الأمواج الشريرة، كما هو مكتوب: "لأنه فيما هو قد تألم مجرَّبًا يقدر أن يعين المُجرَّبين". (عب 2: 18)[20]. القديس مقاريوس الكبير وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ [27]. تُبتلع كل أحاسيس البحارة، إذ تهرب منهم القدرة والخبرة أمام عُنْف الأمواج، ويتملكهم الخوف. فَيَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ، وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ [28]. إذ يشعر البحارة أنهم فقدوا كل معرفة، كما فقدوا سيطرتهم على السفينة، وتذوب نفوسهم من الخوف لا يعود لهم ملجأ سوى الرب نفسه القادر أن يخلصهم. يُهَدِّئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ، وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا [29]. فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا، فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْمَرْفَإِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ [30]. ليس من بهجة للإنسان مثلما تحدث عندما يحل الهدوء بعد عاصفة شديدة، وإزالة الخطر، والبلوغ إلى الميناء الذي كانوا يتجهون نحوه. إن كان البحارة يتهللون بالهدوء الذي يلحق بالعاصفة خلال التدخُّل الإلهي، كم بالأكثر يليق بنا أن نُسَبِّح الله حين يهب نفوسنا هدوءًا وسلامًا بعد الاضطرابات التي تحل بها. فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ، وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ [31]. * في كل موضع - دون أي استثناء - ليتنا نعترف للرب على رحمته، وليس على استحقاقاتنا، ولا على قوتنا، ولا على حكمتنا. ليكن محبوبًا في كل خلاص لنا، ذاك الذي يهتم بنا في كل ضيقة[21]. القديس أغسطينوس وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ [32]. * لترفعه الشعوب وتُسَبِّحه، والشيوخ والتجار والبحارة. فإنه ماذا يفعل في هذا المجمع؟ ماذا يقيم؟ متى يخلصه؟ ماذا يهبه؟ كما أنه يقاوم المتكبرين يعطي نعمة للمتواضعين (يع 4: 6). المتكبرون هم شعب اليهود الأول، والمتعجرفون، الذين يمجدون ذواتهم، معتمدين على أنهم ذرية إبراهيم، وأنه لهذه الأمة أُعطيَتْ وصايا الله (رو 3: 2). هذه الأمور لم تهيئهم للأمور السليمة، وإنما في كبرياء القلب اتسموا بالغرور أكثر من العظمة. ماذا إذن فعل الله، إذ قاوم المستكبرين، يعطي نعمة للمتواضعين، يقطع الأغصان الطبيعية بسبب كبريائها ويُطَعِّم أغصان الزيتون البرية بسبب تواضعها[22]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي 6. العناية الإلهية سلطان المُخَلِّص القدير بلا حدود، يعمل لحساب مؤمنيه، في يده أن يُغَيِّرَ حتى قوانين الطبيعة إن استدعى الأمر ذلك. يَجْعَلُ الأَنْهَارَ قِفَارًا، وَمَجَارِيَ الْمِيَاهِ مَعْطَشَةً [33]. الله في سلطانه أن يأمر المطر فيتوقف، عندئذ تجف الأنهار، وتتحول مجاري المياه إلى أرض يابسة. هكذا بدون نعمة الله، التي يبعث بها علينا كالمطر لا نحمل ثمر الروح، وتجف أعماقنا. يرى القديس أغسطينوس أن الأنهار تشير إلى اليهود الذين كان لديهم مياه النبوات، الآن لم يعد بينهم نبي، إذ جفت الأنهار. صارت مجاري المياه بِرَك مالحة. تبحث فيها عن الإيمان بالمسيح فلا تجد، تبحث عن نبي أو ذبيحة أو هيكل، فلا تجد. لماذا؟ "من شر الساكنين فيها" [34]. وَالأَرْضَ الْمُثْمِرَةَ سَبِخَةً مِنْ شَرِّ السَّاكِنِينَ فِيهَا [34]. تتحول الأرض المثمرة إلى برية قاحلة بلا ثمر، وذلك بسبب شر ساكنيها، إذ يَنزع الشر بركة الرب حتى عن الأرض التي نقطن فيها. هنا إشارة إلى ما حدث مع سدوم وعمورة التي قيل عنهما: "كجنة الرب كأرض مصر" (تك 13: 10). "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء" (تك 19: 24). يَجْعَلُ الْقَفْرَ غَدِيرَ مِيَاهٍ، وَأَرْضًا يَبَسًا يَنَابِيعَ مِيَاهٍ [35]. إن كان الله يسمح بأن تصير الأنهار قفرًا، فمن جانب آخر يجعل القفر جدول مياه يرويه، ويثمر بالبركات. * كانت (الكنيسة) أولًا عديمة الماء، أما الآن فانفجرتْ فيها أنهار التعاليم الإلهية والمعتقدات السليمة، التي من يُغرَس على مجاريها يكون كالشجرة التي تعطي ثمارها في حينه وورقها لا ينتثر. الأب أنسيمُس الأورشليمي فَيُهَيِّئُونَ مَدِينَةَ سَكَنٍ [36]. الله لا يُشبِع الجياع فحسب، وإنما يُقِيم منهم مدينة آهلة بالسكان، تتسم بالأمان مع الرخاء. وَيَزْرَعُونَ حُقُولًا، وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا، فَتَصْنَعُ ثَمَرَ غَلَّةٍ [37]. * كرَّامُنا يطلب ثمرًا. إن كان بالحق قَطَعَ الأغصان الأولى لأنها كانت عقيمة، فإننا سنلاقي نفس المعاملة إن كنا غير مُثْمِرين. الثمار أيضًا ليست فقط للجسم، بل وللنفس أيضًا. عندما يخدم الجسم الرب، فإن كلا من النفس والجسم يخدمان الله[23]. القديس جيروم وَلاَ يُقَلِّلُ بَهَائِمَهُمْ [38]. ثُمَّ يَقِلُّونَ وَيَنْحَنُونَ مِنْ ضَغْطِ الشَّرِّ وَالْحُزْنِ [39]. للأسف إذ يُقَدِّم الله للبشر بركات بسخاءٍ عظيمٍ وينمون ويكثرون جدًا، عوض تقديم ذبائح شكر له، غالبًا ما ينشغلون بالبركات وينغمسون في الملذات ويتجاهلون الرب واهب العطايا. * هذا القول على اليهود والأمميين الذين قاوموا الرسل وأتباعهم المسيحيين، وهموا على إبادة إيمان المسيح. الأب أنسيمُس الأورشليمي وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيق [40]. يبذل عدو الخير كل الجهد ليُضَلِّل الرؤساء والقادة، فهو يَعْلم "اضرب الراعي، فتتبدد الرعية". يقول المرتل: "يسكب هوانًا على رؤساء، ويضلهم في تيهٍ بلا طريق" (مز 107: 40). يظن أصحاب السلاطين أحيانًا أنهم فوق العدالة الإلهية. لقد قتل هيرودس الملك يعقوب بالسيف (أع 12: 2)، وقبض على بطرس ليقتله. وكصاحب سلطان صرخ الشعب: "هذا صوت إله لا صوت إنسان" (أع 12: 22)، ففي الحال ضربه ملاك الرب، لأنه لم يُعْطِ المجد لله، فصار يأكله الدود ومات. * ألاَّ يرى الإنسان في مثل هذه الأيَّام أن كل شخص يندفع إلى هنا وهناك مُرْتَبِكًا، عندئذ يقتنع بضرورة الطير من هذا الشغب (المعركة)، ويهرب في مأوى معتزلًا بعيدًا عن عواصف الأشرار وظلمتهم. عندما يحارب الأعضاء بعضهم بعضًا حتى لا تبقى المحبة إلاَّ بين أقليَّة... فإن كلمة "كاهن" تصير اسمًا أجوف، كما قيل: "يسكب هوانًا على رؤساء..." (مز ١٠٧: ٤٠). وليتها تقف عند حد كونها اسمًا أجوف...! فإن مهابتهم تُطرَد من النفوس ويحل محلها العار. لقد فتحنا للكل لا أبواب البرّ بل أبواب التعيير وتكوين أحزاب متكبِّرة، فلم نعطِ المكان الأول عندنا لمن يخاف الرب ويمتنع عن النطق بكلمة بطالة، بل أعطيناه لمن يستطيع مقاومة أخيه بطلاقة لسانه علنًا أو خفية، خافيًا وراء لسانه ضررًا وظلمًا، أو نقول بأكثر دقة، إنه يخفي سم الأفاعي. القديس غريغوريوس النزينزي وَيَجْعَلُ الْقَبَائِلَ مِثْلَ قُطْعَانِ الْغَنَمِ [41]. يُسَلِّم الرؤساء المتكبرين أنفسهم للمذلة خلال كبريائهم، بينما يتمتع المساكين المتواضعين بالبركات الإلهية، فيجعل من المسكين قبائل عظيمة مثل قطعان الغنم. * ماذا يعني هذا يا إخوة؟ الرؤساء يُهانون والمساكين يُساعَدون، المتكبرون يُطردَون، والمتواضعون يُسنَدون... هذا المسكين يصير بيوت كثيرة؛ هذا المسكين يصير أممًا كثيرة. وفي نفس الوقت كنائس كثيرة تصير كنيسة واحدة، أمة واحدة، بيت واحد، قطيع واحد[24]. القديس أغسطينوس وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ [42]. يتهلل أولاد الله بالعمل الإلهي الذي يكتم أفواه المتعجرفين، ويبارك المتواضعين ويسندهم. * يبصر المستقيمون ما اشتهى الأنبياء والصديقون أن يروه، الذين كانوا قبل المسيح، ويفرحون بأعمال رحمة الله وعدله. وأما ذوو الإثم، الذي هو الشيطان وأتباعه فيَسدُّون أفواههم. الأب أنسيمُس الأورشليمي العلامة أوريجينوس وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ الرَّبِّ [43]. يليق بالمؤمن أن يكون متعقلًا وحكيمًا، فيُدرك خطة الله، ويتعرَّف على مراحمه بفهم، ويتأمل أعماله. * تحتوي هذه الأقوال على نبوة، لذلك قال النبي إن فهمها يحتاج إلى رجلٍ حكيمٍ لكي يفهمها ويحفظها. الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس أغسطينوس من وحي المزمور 107 لك المجد أيها المُخَلِّص القدير! * أحمدك مع كل إخوتي من أجل رحمتك الفائقة. أعترف لك بخطاياي، وأفضح نفسي أمامك. فأنت غافر الخطايا، ومُنْقِذ النفوس من الفساد. على الصليب بذلت دمك الثمين كفارة عن خطاياي. أوفيت الدين عني. جمعتني مع كل إخوتي من كل المسكونة. لتضمنا جميعًا كنيسة مقدسة، تتمتع بالعرس الأبدي. * حياتي في العالم أشبه بتيه في البرية. قدَّمتَ لي ذاتك طريقًا، تحملني فيك، وتُقَدِّمني ابنًا لأبيك. لن أخشى الجوع في وسط البرية، إذ قدَّمتَ لي جسدك ودمك أتناولهما حياة أبدية. لا أخشى تعب البرية، فنيرك حلو، وحملك خفيف. عوض الإنهاك في البرية، أتمتع بالراحة فيك. عوض مخاطر البرية، أجدك الملجأ المملوء أمانًا! * كيف أخشى مذلة العبودية، وقد فتحتَ لي أبواب المعمودية، ووهبتني روح البنوة لله أبيك؟ لم تعد الحياة سجنًا مظلمًا، بل رحلة ممتعة في صحبتك، يا أيها النور الحقيقي. لا تقدر أبواب الجحيم أن تحبسني. فقد حطَّمتَ متاريس الهاوية. وقتلتَ الموت بموتك يا أيها القيامة. ليس من قيود نحاسية تُمَثِّل ثقلًا على جسدي، ولا من هموم تقدر أن تُحَطِّم نفسي. نفسي مع جسدي ينطلقان بروحك القدوس. يَعْبُران من مجدٍ إلى مجدٍ. * أعترف لك إنني في غباوة عصيتُ وصيتك. في جهالة تمرَّدتُ عليك يا كلي الحب! أصابتني الخطية كمرضٍ فتَّاكٍ. أنت هو الطبيب السماوي. أنت هو الدواء واهب الصحة. من أجلي تجسدتَ وصُلِبتَ وقُمتَ. أقمني من موت الخطية. اشفني من جراحات العصيان * حياتي صارت أشبه بسفينة تبحر في مياه هذا العالم. هوذا الأمواج عنيفة، ترفعني إلى فوق لتنزل بي إلى الأعماق. هوذا العواصف لا تهدأ قط. من له سلطان على العواصف والأمواج سواك. قُلْ كلمة يا ملك السلام، يا خالق الطبيعة ومُخَلِّص البشرية. قُلْ كلمة، فتسير سفينة حياتي بكلمتك. تتحول رحلتي إلى تسبيح لا ينقطع. أسير في شركة مع السمائيين. * عنايتك فائقة يا أيها الراعي الصالح. بكلمة تُحَوِّل القفر إلى أنهار مملوءة بمياه الروح. تُحَرِّك الطبيعة لحساب خلاص شعبك. تعطي المساكين غِنَى عجيبًا. وتقيم من الضعيف أممًا مقدسة! هب لي يا رب الحكمة والتَعَقُّل، فتمتلئ نفسي فرحًا بك، ولا يهدأ كل كياني عن التسبيح لك! |
|