كتاب القديس أنبا صموئيل المعترف و أديرة الفيوم - المقدس يوسف حبيب
مقدمة
إن معظم الدراسات التي قام بها الأثريون والمهتمون بالآثار القبطية تركزت حول منطقة أديرة وادي النطرون، أما أديرة الفيوم فقد مر عليها العلماء والمؤرخون -رغم أهميتها البالغة فيما نلقيه من ضوء على الأحوال الدينية والاجتماعية والطقسية القبطية- مرورًا عابرًا ولم يذكروا عنها إلا النزر (القدر) اليسير، ولابد أن يأتي الوقت المناسب بمشيئة الله لهذا النوع من الدراسة.
وفي هذا البحث الذي تجده بين دفّتيّ هذا الكتاب يتضح أن أديرة الفيوم بلغت نيفًا وثلاثين ديرًا لها شأن يذكر في بسط (نشر) الحالة الدينية والاجتماعية للرهبان القديسين في أزمنة مختلفة، وهو العنصر الهام الذي يدور في إطاره نهج الكتاب.
و قد رجعنا إلى ما كتبه المؤرخون والأثريون من مصريين وأجانب، وترجمنا ما استطعنا الحصول عليه في نطاق بحث هؤلاء العلماء الذين توفروا على دراسة الآثار والتنقيب عن معالم حضارتنا القبطية المدفونة في الأطلال الدارسة ضمنوها (تضمنتها) أبحاثهم وأودعوها المكتبات الكبرى في شتى أنحاء العالم، مع التحليل والمقارنة بما يسمح به المقام.
كما نقلنا إلى العربية لأول مرة الكثير من آرائهم في أبحاثهم النادرة في هذا الشأن، مع بعض التعليقات للتوضيح كما أبدينا رأينا في بعض ما كتبوه، وبالأخص ما كتبه "نابيا أبت" وسنعود في الطبعة التالية إن شاء الرب وعشنا إلى إعادة درس موضوع أديرة الفيوم المتشعب النواحي والجدير بالبحث الطويل العميق لأهميته..
ولقد ظلت أديرة الفيوم قرونا طويلة عامرة بالرهبان وكان لها أهميتها كسائر الأديرة الأخرى ولكنها اندثرت ودُكَت معالمها.
وفي هذا الكتاب سيرة القديس أنبا صموئيل المعترف (الشهداء هم الذين سفكوا دمائهم من أجل السيد المسيح وماتوا قتلا بالسيف أو الحريق..الخ، أما المعترفون فهم الذين نالوا تعذيبات مريرة في الاضطهادات مثل قطع الأيدي أو الأرجل أو فقأ العينين كما حدث للقديس، هؤلاء مع الشهداء تكرمهم الكنيسة بالغ التكريم) الذي ذاق صنوف الاضطهادات والأتعاب من أجل السيد المسيح. وقد فصلنا سيرته وأتينا بأقواله ومواعظه الشهيرة ومعجزاته الكبيرة من مصادرها.
ذلك هو القديس الذي تعرفه البرية، وديانها (جمع وادي) وبراريها، كنائسها وأديرتها، رهبانها ومتوحديها في كل العصور. فترى كيف أتى المقوقِس إليه وكيف كان شأن القديس معه وكيف حطم آمال الخلقيدونيين بثباته وإيمانه وشجاعته وذكائه، وكيف سباه البربر وماذا كانت سيرته في السبي عند ذلك البربري الذي تولى أمره.. وغير ذلك من روائع الأعمال التي تدل عليها الآثار وبقايا الأطلال، ولم نترك ذلك مصدرا أو مرجعا هاما إلا واسترشدنا به أو نقلنا عنه أو ترجمناه إلى العربية، فلم تكن كثير من النقاط الهامة في هذا البحث نقلت إلى العربية رغم مرور الزمن الطويل ورغم أن سيرة القديس ملازمة لتاريخ الأديرة والكنائس بالفيوم.
فضلا عن ذلك ترى كيف نجا من الأسر فإن يد الخالق العظيمة وقدرته الأزلية ظاهرة في حياة القديس سواء في القيادة الروحية أو الخلاص من الشدة أو تدبير أبنائه أو معجزاته.
هذا القديس القوي دافع عن الإيمان المستقيم، حارب بدعة لاون ومجمع خلقيدونية، شجع الرهبان على احتمال كل ما يصادفهم من شدة وضيق، دخل آتون التجارب -وهو في السبي- التي لا يستطيع إنسان أن يصف قسوتها وخطرها المدمر على حياته الروحية، فلم يكتف القساة بالتعذيبات الجسدية بل تجاوزوها إلى أعنف التعذيبات الروحية، وهذه واضحة في قصة ربطه مع جارية حتى يرتكب الخطية، وخرج من كل هذه التجارب كما يخرج الذهب الخالص من بوتقة النار أكثر لمعانًا وبريقًا.
كان القديس أنبا صموئيل محبًا للطهارة منذ صباه، ميالا للهدوء والوحدة والاختلاء بالله، ولفرط حبه للعبادة اشتاق إلى الاندماج في سلك الرهبنة،انطلق بادئ الأمر إلى برية القديس مكاريوس الكبير وهناك تتلمذ للقديس أغاثون حوالي ثلاث سنوات، وبعد نياحته بفترة من الزمن رُسم قسًا على كنيسة القديس مكاريوس.
أثار الشيطان الحرب على الكنيسة وامتدت الحروب حتى أن الأديرة لم تسلم منها، فلما تولى المقوقِس الحكم من قِبًل الدولة الرومانية أرسل القائد إيريانوس وجنوده إلى برية شيهيت، دخل القائد كنيسة القديس مكاريوس وطلب الاجتماع بالشيوخ، وأمرهم بالخضوع للقرارات الخلقيدونية وإلا كانت عاقبتهم الموت الزؤام، فثار أنبا صموئيل ضده وشجع الرهبان على ألا يعترفوا إلا بالإيمان المستقيم، فأمر الوالي بتعذيبه وأوسعه الجنود ضربا في حنق وغيظ وصادفت الضربات إحدى عينيه ففقأتها وتدلت على خده، وعندئذ كف الجنود عن ضربه وأخرجوه من شيهيت.
أمره ملاك الرب أن ينطلق إلى منطقة الفيوم ناحية دير القلمون ويسكن هناك، فمضى إلى جبل القلمون وتتلمذ له كثيرون وعكفوا على الصوم والصلاة والعبادة الحارة، وإذ كان محبًا للوحدة بنى له مغارة على بعد ميل من الدير.
عاد المقوقِس مرة أخرى للاضطهاد فقصد جبل القلمون، فلما علم القديس أنبا صموئيل بذلك هرب مع جمع من تلاميذه، ولما وصل جنود الوالي لم يجدوا فيه أحدا سوى قيّم الكنيسة فأخذوا في تعذيبه حتى أقر باختفاء القديس أنبا صموئيل، ولما بثوا العيون في كل مكان بحثاَ عنه ووجدوه أوسعوه ضربا حتى يعترف بالمجمع الخلقيدوني ولكنه أصر على الإنكار فأبعدوه عن منطقة الفيوم.
ومرة أخرى عاد القديس إلى جبل القلمون، وكان عدو الخير يسهر حاسدًا فلم يدعه في سكون، فلما هجم البربر على الجبل -وكانوا يغيرون كثيرًا على البرية- قبضوا على القديس وسبوه إلى كورة بعيدة حتى كانت أيامه كلها تعذيبات وإهانات.
لكن الرب المتحنن دبر له من يعزيه إذ تقابل مع القديس أنبا يحنس القمص الذي كان في السبي قبله وقد مكث فيه زمانا طويلا.
وفي السبي نال القديس أعظم تجربة روحية مدمرة إذ ربطوه مع جارية نجسة وشريرة لإثارة شهواته وإرغامه على الخطية، لكن يسوع المخلص الذي يعطي مع التجربة المنفذ والذي لا يدعنا نُجرب فوق ما نحتمل، خلصه منها وضرب المرأة بالجُذام.
وقد منح الرب القديس مواهب شفاء عديدة، وشفى امرأة رئيسه في السبي فضلا عن العديد من المعجزات التي أجراها فأطلقه سيده مكرمًا يذهب حيثما يشاء.
عاد القديس إلى ديره بالقلمون وقضى فترة من الهدوء فيها بنى كنيسة باسم السيدة العذراء وديرًا، وتكاثر عدد تلاميذه جدًا وكان أشهرهم يسطس وأبوللو.
ولم يُنعم الرب عليه بمواهب الشفاء فحسب بل بموهبة إقامة الأموات أيضًا، وهكذا ذاع صيته في كل مكان حتى تنيح بسلام في شيخوخة صالحة بعد أن عاش ثمان وتسعين سنة وكانت نياحته في يوم 8 كيهك.
ومما هو جدير بالذكر أن المصدر الرئيسي للمعلومات عن أنبا صموئيل وتاريخ حياته بالكامل هو في مجموعة Morgan.. وقد ذكر ذلك "Evelyn White" في كتابه عن أديرة وادي النطرون، وهذه المجموعة اكتُشِفَت في صحراء الفيوم سنة 1910م، وتوجد نسخ منها بمكتبة المتحف القبطي وهي تقع في 56 مجلد ضخم باللغة القبطية باللهجة الصعيدية تتضمن أقوال وعظات وتراجم وتفاسير لم يسبق نشرها ونحتاج لفك ختومها إلى سنين طويلة وأزمنة مديدة من العارفين باللغة القبطية (نشرت من هذه المجموعة سيرة الشهيد إبيما وتطلب من مكتبة الشهيد مار جرجس باسبورتنج).
هذا والقديس أنبا صموئيل يذكر اسمه في مجمع القداس وفي التسبحة وهو من مشاهير القديسين في الكنيسة القبطية وديره لا يزال عامرًا إلى يومنا هذا بركة صلواته تكون معنا آمين.