شرح الكتاب المقدس - العهد القديم - القس أنطونيوس فكري
يشوع 2 - تفسير سفر يشوع
آية (1): "فأرسل يشوع بن نون من شطيم رجلين جاسوسين سرًا قائلًا اذهبا انظرا الأرض وأريحا فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب واضطجعا هناك." أريحا = تبعد 5ميل عن نهر الأردن، 20 ميل عن أورشليم في اتجاه شمال الشرق. وكانت خطة يشوع العسكرية أن يبدأ بأريحا فهي قائمة عند مدخل الممرات الجبلية المؤدية للبلاد الكنعانية، فهي المدخل الشرقي لكنعان ومن يحتلها يسهل دخوله لكل المدن الهامة. ويشوع فضل أن يكون دخوله من الشرق وليس من الجنوب فمن ناحية الجنوب توجد تحصينات قوية لسبب خوفهم من مصر فضلًا عن أن اقتراب جيوشه من مصر سيكون سببًا في مناوشات عسكرية مع مصر وهو لا يريد هذا، ومن ناحية أخرى فتحصينات الكنعانيين من ناحية الشرق ضعيفة فهم اعتمدوا على الأردن كعائق مائي يحول دون تقدم جيوش الأعداء. ويشوع أرسل جاسوسين ليعرفا طرق الاقتراب لأريحا ويعرفا استعدادات الدفاع. فالجواسيس والخطط العسكرية لا مانع منها فمع وعود الله لا مانع من التخطيط والتدبير. امرأة زانية اسمها راحاب = كانت صاحبة خان (فندق) لذلك نزل الجاسوسين عندها وكلمة صاحبة خان وكلمة زانية تقريبًا هما نفس الكلمة، فقديمًا كانت صاحبة الخان ليست بعيدة عن الشبهات في نظر الناس. ولعل سلمون زوجها كان أحد الجاسوسين (مت5:1) وعمومًا فسلمون زوجها هو شخص منسبط يهوذا وهو أبو بوعز زوج راعوث وراحاب هذه بإيمانها صارت رمزًا لدخول الأمم للإيمان بل صارت أمًا للمسيح. فالله لا يرفض الأمم بل يرفض رجاساتهم. وهنا نرى الجانب البشري في الخلاص ألا وهو الإيمان الحي العامل الذي جعل راحاب تحمي الجاسوسين وتطلب حمايتهما لها ولأسرتها. وإن كان يشوع يرمز للمسيح فالجاسوسين يرمزان لتلاميذ المسيح وهم إثنين رمز لإرسال المسيح رسله لليهود والأمم. ولاحظ أنه كان هناك عشرات الأماكن في أريحا يمكن أن يذهب لها الجاسوسين لكنهما ذهبا إلى راحاب وهذه ليست مصادفة فلا توجد مصادفات في حياتنا بل هو تدبير إلهي محكم. فلو ذهب الجاسوسين لأي أحد آخر غير راحاب لقتلا ولما آمنت راحاب. إذًا كل أمور حياتنا ليست من تدبير المصادفات بل هي يد الله التي تقود دون أن ندري. وراحاب هذه آمنت بالله فوجدت خلاصًا رغمًا عن خطاياها السابقة. وهي سمعت عن عمل الله مع الشعب كما سمع كل أهل المدينة وهي وحدها آمنت، فالإيمان مسئولية شخصية بل طلبت حماية الشعب لها وهذا هو الإيمان العملي الذي خلصها (عب31:11 + يع25:2). ولاحظ خلاص راحاب بإيمانها بينما هلك شعب الله وماتوا في البرية بسبب عدم الإيمان. فراحاب إذًا اغتصبت بإيمانها المواعيد الإلهية وتوبتها، والتوبة كما يقول الآباء تحول الزاني لبتول.
راحاب الزانية تخبئ الجاسوسان - يشوع 2: 6 الآيات (2-5): "فقيل لملك أريحا هوذا قد دخل إلى هنا الليلة رجلان من بني إسرائيل لكي يتجسسا الأرض. فأرسل ملك أريحا إلى راحاب يقول اخرجي الرجلين اللذين أتيا إليك ودخلا بيتك لأنهما قد أتيا لكي يتجسسا الأرض كلها. فأخذت المرأة الرجلين وخبأتهما وقالت نعم جاء إلى الرجلان ولم اعلم من أين هما. وكان نحو انغلاق الباب فيالظلام انه خرج الرجلان لست اعلم أين ذهب الرجلان اسعوا سريعًا وراءهما حتى تدركوهما."
هاج ملك أريحا على الجاسوسين، وروحيًا نفهم أن مع كل إرسالية إلهية أو عمل إلهي يهيج عدو الخير ليبعث إرسالية شيطانية بقصد تحطيم الإيمان (إيمان راحاب) وإرهاب خدام الله (الجاسوسين). نحو إنغلاق الباب= قرب الوقت الذي يغلق فيه باب المدينة.
آية (6): "وإما هي فأطلعتهما على السطح ووارتهما بين عيدان كتان لها منضدة على السطح." منضدة = كانوا يرصون عيدان الكتان بعضها فوق بعض بنظام خاص. وكانوا يضعونها على السطح تحت ضوء وحرارة الشمس لتيبس ثم يأخذون الألياف لتغزل وتنسج، والعيدان يستخدمونها كوقود. وإذا فهمنا أن الكتان في بياضه يرمز للحياة السماوية النقية يصير لما فعلته راحاب معنى روحي رائع. فالمسيح أرسل رسله إلى الأمم= يشوع أرسل الجاسوسين إلى أريحا (وإلى راحاب). والأمم آمنوا بالمخلص بقلوبهم وأخفوا إيمانهم في قلوبهم= وراحاب أخفت الجاسوسين في منزلها. والإيمان جعل المؤمنين يرتفعون لحياة سماوية نقية = كما صعدت راحاب للسطح والكتان رمز للنقاوة.
آية (7): "فسعى القوم وراءهما في طريق الأردن إلى المخاوض وحالما خرج الذين سعوا وراءهما أغلقوا الباب." المخاوض = المعابر التي يعبرون فيها نهر الأردن خوضًا بالقدمين وهي الأماكن الضحلة أو بالقوارب والجسور في الأماكن العميقة.
الآيات (8-11): "و اما هما فقبل ان يضطجعا صعدت اليهما إلى السطح. وقالت للرجلين علمت ان الرب قد اعطاكم الأرض وان رعبكم قد وقع علينا وان جميع سكان الأرض ذابوا من اجلكم. لاننا قد سمعنا كيف يبس الرب مياه بحر سوف قدامكم عند خروجكم من مصر وما عملتموه بملكي الاموريين اللذين في عبر الاردن سيحون وعوج اللذين حرمتموهما. سمعنا فذابت قلوبنا ولم تبق بعد روح في إنسان بسببكم لان الرب الهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت."
هذا الكلام تحقيق لنبوة موسى (خر14:15-16) بل لاحظ أن راحاب استخدمت نفس كلمات موسى "ذابوا من أجلكم" فأعمال الله بل حتى نشيد موسى وصل لهم. فالله لا يترك نفسه بلا شاهد.
آية (12-17): "فالان احلفا لي بالرب واعطياني علامة امانة لاني قد عملت معكما معروفا بان تعملا انتما أيضًا مع بيت ابي معروفا. وتستحييا ابي وامي واخوتي واخواتي و كل ما لهم وتخلصا أنفسنا من الموت. فقال لها الرجلان نفسنا عوضكم للموت ان لم تفشوا امرنا هذا ويكون اذا اعطانا الرب الأرض اننا نعمل معك معروفا و امانة. فانزلتهما بحبل من الكوة لان بيتها بحائط السور وهي سكنت بالسور. و قالت لهما اذهبا إلى الجبل لئلا يصادفكما السعاة واختبئا هناك ثلاثة ايام حتى يرجع السعاة ثم اذهبا في طريقكما. فقال لها الرجلان نحن بريئان من يمينك هذا الذي حلفتنا به."
هناك سؤال!! ألم تخن راحاب شعبها؟ بل هي كانت على ثقة أن الله يريد هذا وهي أطاعت الله أكثر من الناس وهي تأكدت من هلاك أريحا بأمر الرب فربطت نفسها مع شعب الله. وها نحن بالإيمان متأكدون من هلاك العالم أو على الأقل أننا نحن سنموت ونترك العالم فهل ربطنا أنفسنا بالله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). ومحبة راحاب لأهلها هو نفس ما ردده بولس الرسول (رو1:9،2) فإيمانها لم يكن فيه أنانية ولا انعزالية.
هذه المرأة الأممية التي شربت التعاليم الوثنية وتعلمت عبادة الأوثان والزنا حينما سمعت ما عمله الله مع شعبه صدقت الواقع والنبوات وتركت كل الجهل الذي عاشت فيه وآمنت بل طلبت وتشفعت عن أهلها. وهي غالبًا سمعت عن طريق نزلاء فندقها عن عمل الله مع شعبه ولذلك سمع كل سكان أريحا. لكنها هي وحدها استجابت لعمل الله في قلبها.
الآيات (18-21): "هوذا نحن ناتي إلى الأرض فاربطي هذا الحبل من خيوط القرمز في الكوة التي انزلتنا منها واجمعي اليك في البيت اباك وامك واخوتك وسائر بيت ابيك. فيكون ان كل من يخرج من ابواب بيتك إلى خارج فدمه على راسه ونحن نكون بريئين واما كل من يكون معك في البيت فدمه على راسنا اذا وقعت عليه يد. و ان افشيت امرنا هذا نكون بريئين من حلفك الذي حلفتنا. فقالت هو هكذا حسب كلامكما وصرفتهما فذهبا وربطت حبل القرمز في الكوة." الحبل القرمزي = قال بعض المفسرين أن الحبل القرمزي هو نفس الحبل الذي نزل عليه الجاسوسين من الكوة وهو نفسه الذي كان على راحاب أن تربطه على كوتها والبعض قالوا بل هو حبل آخر. والحبل القرمزي يشير لدم المسيح "فبدون سفك دم لا تحدث مغفرة" (عب22:9 + 1بط18:1،19). فإذا فهمنا هذا لابد أن يكون الحبل الذي نجا به الجاسوسين هو نفس الحبل الذي نجا به بيت راحاب وراحاب نفسها، والحبل يرمز لدم المسيح. وهذا هو نفس ما حدث للشعب الذي نجا بدم خروف الفصح ليلة الخروج من مصر حينما وضعوا الدم على أبوابهم. ولاحظ أن من سيكون خارج البيت في الحالتين يهلك والبيت يرمز للكنيسة فلا خلاص خارج الكنيسة.
آية (22): "فانطلقا وجاءا إلى الجبل ولبثا هناك ثلاثة أيام حتى رجع السعاة وفتش السعاة في كل الطريق فلم يجدوهما."
غالبًا حدد ملك أريحا 3 أيام للسعاة يفتشون خلالها عن الجاسوسين لذلك طلبت منهم راحاب أن يختبئوا 3 أيام في الجبل. وروحيًا الجبل يشير للمسيح (دا 34:2،35) الذي يجب أن يختبئ فيه كل من يريد أن ينجو ويهرب من يد إبليس أي ملك أريحا وجنوده السعاة الذين يسعون لهلاك كل مؤمن. لذلك نصلي رفعت عيني إلى الجبال (مز1:121). ولذلك طلب إبليس من المسيح أن يلقي نفسه من على الجبل فهو يحب أن يسقط كل إنسان ليتحطم. ولاحظ أن رقم (3) يتكرر فعلينا أن نظل محتمين بالجبل ثابتين فيه حتى قيامتنا بالجسد الجديد أو بثباتنا فيه تكون لنا الحياة المقامة مع يسوع القائم من بين الأموات، الحياة المنتصرة.
الآيات (24،23): "ثم رجع الرجلان ونزلا عن الجبل وعبرا وأتيا إلى يشوع بن نون وقصا عليه كل ما أصابهما. وقالا ليشوع أن الرب قد دفع بيدنا الأرض كلها وقد ذاب كل سكان الأرض بسببنا." إن الرب قد دفع بيدنا = لقد نزلا الجاسوسين عن الجبل لا ليتركوا الحياة المقامة بل ليبشروا بما نالوه من قوة الإيمان وما نالوه من عون إلهي. هم نزلوا لإخوتهم ليفرحوا قلوبهم فيصعد الجميع للجبل ويحصل الجميع على الحياة المقامة.
ما أعظم راحاب التي قبلت الإيمان (الجاسوسين) وتحولت حياتها الزانية لطهارة (الكتان) واحتمت بدم المسيح (القرمز) وتشفعت عن أهلها ليخلصوا مثلها.