القديس بوليكاربوس
بقلم المتنيح الأنبا غريغوريوس
القديس بوليكاربوس(ومعني اسمه باليونانية الجزيل الثمار) هو من الآباء الرسوليين. والآباء الرسوليون هم الذين عاصروا الآباء الرسل وعاشوا بعدهم.
ولد بوليكاربوس من أبوين مسيحيين نحو سنة69م, وتتلمذ علي القديس يوحنا الرسول أحد الاثني عشر المعروف بالحبيب, وبيوحنا الرائي-وهو الذي رسم يوليكاربوس أسقفا علي مدينة أزمير- ولذلك قال عنه المؤرخ بوسابيوس القيصري في كتابهتاريخ الكنيسة أنه-أي بوليكاربوس-تسلم من الرسل الحق الواحد الوحيد الذي سلمته إلينا الكنيسة(كتاب 4:14:4) وقال عنه القديس إيريناوس:أن بوليكاربوسعاشر يوحنا (الرسول) وسائر الذين رأوا الرب(يسوع). وكان دائما يروي عن القديس يوحنا الرسول ماسمعه منه ومارآه في حياته. من ذلك مارواه عن يوحنا الرسول أنه لما ذهب إلي الحمام العام في أفسس ورأي كيرنثوس الهرطوقي, بداخل الحمام, خرج علي الفور من الحمام مهرولا من دون أن يستحم, وهو يردد قائلا:فلنهرب لئلا يسقط علينا الحمام لأن كيرنثوس عدو الحق, بداخله, وكانت أزمير أو سميرنا في ذلك الوقت مدينة عظيمة من مدن آسيا الصغري, وكانت زاهرة بالعلوم وبالصناعة والتجارة الواسعة. ولما كان بوليكاربوس يتميز بالتقوي والفضيلة والحكمة والعلم, فرأي القديس يوحنا الرسول أن يسلمه قيادة هذه المدينة الكبيرة التي كانت أيضا تتجاذبها تيارات فكرية مختلفة, وقد انتشرت فيها هرطقات قوية. وكان علي بوليكاربوس الأسقف أن يواجه كل هذه التيارات التي تتجاذب سفينة الكنيسة المسيحية في نشأتها الفتية.
وبوليكاربوس هو بذاته الأسقف الذي وصفه المسيح له المجد في الرؤيا ليوحنا الرسول بأنه ملاك الكنيسة التي في أزمير أو سميرنا وقد كان يوحنا الرسول هو الأب الروحي الأكبر لجميع كنائس آسيا.
جاء في سفر الرؤيا:
واكتب إلي ملاك الكنيسة التي في أزمير(سميرنا): هذا ما يقوله الأول والآخر, ذاك الذي مات وعاد إلي الحياة, أنا أعرف أعمالك وضيقتك وفقرك مع أنك غني, وتجديف القائلين أنهم يهود, وماهم بيهود بل هم مجمع للشيطان. لاتخف ألبتة مما أنت عتيد أن تتألم به. هوذا إبليس مزمع أن يلقي بعضا منكم في السجن لكي تجربوا وسيصيبكم ضيق عشرة أيام.فكن أمينا حتي الموت, وأنا أعطيك إكليل الحياة. من كان له أذن, فليسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب, فلا يؤذيه الموت الثاني(الرؤيا2:8-12).
هذه العبارات الجميلة تحمل رسالة من السيد المسيح له المجد, علي يد عبده ورسوله القديس يوحنا اللاهوتي, إلي الأسقف بوليكاربوس, وهي تنطوي علي شهادة رائعة من الرب يسوع عن بوليكاربوس وأعماله الصالحة وتقواه وقداسة سيرته ثم أيضا كفاحه ونضاله من أجل الإيمان المسيحي, في محاربته لليهود وغير اليهود من الهراطقة وأصحاب المدارس الفكرية المنحرفة, كما تحمل تشجيعا له علي احتمال ما سيصيبه حاضرا ومستقبلا, من جراء ذلك, من آلام, وما سينزل عليه وعلي المسيحيين من شعبه من اضطهادات ومضايقات, ويحثه مع ذلك هو وشعبه علي الثبات والصمود والاستمساك بالإيمان بكل أمانة وإخلاص. فإنه بهذا الثبات يرث ملكوت السموات, وينجو من الهلاك الأبدي في جهنم المتقدة بالنار والكبريت, وهي الموت الثاني(سفر الرؤيا20:6, 14), (21:8).
ويذكر عن القديس بوليكاربوس أنه وضع مقالات كثيرة وميامر عدة عن الميلاد المقدس, وعن تدبيرات المخلص, وعن العذراء القديسة مريم, وعن الموت, وعن الجحيم, والعذاب الأبدي وما إلي ذلك. وبفضل جهاده جذب إلي الإيمان المسيحي كثيرين, فضلا عن أنه ثبت بمواعظه وتعاليمه وحسن سيرته وقدوته, المؤمنين من المسيحيين, فازدهرت الكنيسة وانتعشت روح الإيمان والتقوي والقداسة.
وبينما كان بوليكاربوس يقود الكنيسة في أزمير وتوابعها, ويناضل عن الإيمان المسيحي ضد اليهود وضد الهراطقة الغنوسيين من أمثال كيرنثوسcerinthius وماركيونmarcion وفالنتينوس valentinus وأتباعهم...علم بوليكاربوس بأن القيصر تراجانtrajan (53-117) قد حكم علي القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية بأن يموت في روما, وذلك بأن يطرحوه للوحوش الضارية لتفتك به, وكان أغناطيوس صديقا حميما لبوليكاربوس, فاستقبله في أزمير وهو في طريقه إلي روما وعانقه مرحبا به, بل انحني وقبل بفمه السلاسل التي كان أغناطيوس مقيدا بها. أما القديس أغناطيوس فلما رأي صديقه بوليكاربوس والمؤمنين بالمسيح من حوله فرح كثيرا بنتائج خدمة شريكه في الخدمة الرسولية وثمارها, وشجعه علي كفاحه ونضاله من أجل الإيمان, وخطب في المؤمنين وحياهم علي شجاعتهم وعدم تهيبهم غضب الحكام والجند الذين يسوقونه إلي موته ثم باركهم واستأنف مسيرته مع الجند, وكان بوليكاربوس والمسيحيون يشيعونه بصلواتهم مع دموعهم.
فلما بلغ القديس أغناطيوس مدينة ترواسtroas كتب من هناك إلي صديقه بوليكاربوس وإلي بعض المؤمنين في أزمير رسائل تفيض روحانية وتقوي, فلما علم أهل فيلبي بشأن هذه الرسائل كتبوا إلي القديس بوليكاربوس يرجونه أن يبعث إليهم بهذه الرسائل. فجمعها بوليكاربوس وأرفقها بكتاب منه يشرح فيه الإيمان المسيحي مؤيدا بما سمعه من معلمه القديس يوحنا الرسول وسائر القديسين, وصار مجموع هذه الرسائل التي كتبها القديس اغناطيوس والكتاب الذي أضافه القديس بوليكاربوس, وثيقة إيمانية صارت جزءا من تراث الكنيسة الأدبي والروحي, وظلت كنائس آسيا تقرأها علي منابرها فترة طويلة من الزمن.
وقام القديس بوليكاربوس- وكان في نحو الثمانين من عمره-برحلة إلي روما مارا بمرسيليا, لزيارة صديقه أنيقيتوس anicetus أسقف روما(155-166)م, فرحب به أسقف وروما الشعب الروماني, وكان موضع احترامهم جميعا وتقديرهم, نظرا لما اشتهر به من الفضل والحكمة والغيرة الرسولية, وسلامة التعليم, فضلا عن فصاحته وبلاغته. وقد دعاه صديقه أسقف روما إلي خدمة القداس الإلهي, وأتاح له فرصة لمباشرة الوعظ والتعليم لتثبيت الإيمان في نفوس المؤمنين, وتحذيرهم من ضلالات الهراطقة من أمثال فالنتينوس ومارقيون ومن إليهم ممن انتشرت تعاليمهم في روما أيضا, فهدي بتعاليمه الكثيرون إلي الإيمان المستقيم.
ولما كان بوليكاربوس قد نزل في مرسيليا في طريقه إلي روما, فإن فرنسا تعتبره واحدا من رسلها, كما أنه قد بعث إليها من بشر بالإنجيل في بلادها وهدي شعبها إلي الإيمان بالمسيح. وظلت باريس حتي قيام الثورة الفرنسية(1789-179)م تفاخر معتزة باحتفاظها ببعض ذخائر القديس بوليكاربوس فيها.
استشهاد القديس بوليكاربوس:
وعاد القديس بوليكاربوس بحفاوة ومحبة وتقدير عظيم من روما بعد أن قضي فيها شهورا عدة إلي أزمير, واستأنف جهاده وخدمته لشعبه. وبعد عودته ثار اضطهاد عنيف ضد المسيحيين في كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية. وذهب الجند لكي يعتقلوه فلم يحزن ولم يضطرب, بل علي العكس رحب بأن يموت شهيدا من أجل المسيح, وطلب أن يمهلوه ساعة يصلي فيها ويودع شعبه, وأمر للجند بطعام. أما هو فأخذ يصلي من أجل شعبه ومن أجل كل العالم أخيارا وأشرارا, مؤمنين وغير مؤمنين. وبعد الصلاة شرع يوصي شعبه بأن يثبوا علي الإيمان وأنباهم بأنهم سوف لا يرون وجهه بعد اليوم, فبكوا وتعلقوا به وحاولوا منعه لكنه رجاهم أن لايعيقوه عن شرف الاستشهاد, من أجل الإيمان, ثم ذهب مع الجند. وفي الطريق رآه رجل غني كان من كبار ضباط الشرطة وكان راكبا في عربة فاخرة فأشفق علي شيخوخته ودعاه إلي أن يصعد إلي المركبة معه. فقبل بوليكاربوس أن يصعد إلي المركبة. بيد أن الغني شرع يلاطفه, ويذكره بشيخوخته ويغريه علي أن ينكر المسيح ويبخر للأوثان تلبية لأوامر القيصر, فينجو من عقابه. فأجابه القديس بعد أن أصغي إلي حديثه كله, قائلا: لا شئ يثنيني عن محبة المسيح, لا الحديد, ولا النار, ولا السجن, ولا النفي , ولا كل أنواع المصائب التي تقع علي رأسي. عندئذ استشاط الغني غضبا, ودفع القديس عن المركبة إلي الأرض, فسقط بوليكاربوس الشيخ وترضض جسمه وانفك عظم كتفه وتسلخت قصبة رجله, ومع ذلك تحامل علي نفسه ونهض يسبح الله ويشكره, واستأنف السير مع الجند إلي أن وصل إلي ساحة الاستشهاد.
فلما أبصره الحاكم ابتدره بقوله:يابوليكاربوس, أشفق علي شخيوختك. ماشأنك وهذه الخزعبلات المسيحية؟ قدم القربان للآلهة واشتم المسيح, فتنجو من عذاب الموت الشنيع.
فأجاب القديس: لقد مضي علي ست وثمانون سنة في خدمة المسيح, ولم يصنع بي سوءا, فلماذا أنكره وأشتمه, وكيف أجدف علي ملكي ومخلصي, وأنا عليه أتوكل, وهو موضوع سعادتي وعنوان مجدي؟
فغضب الحاكم من جواب بوليكاربوس, ومع ذلك حاول أن يثنيه عن إيمانه بالمسيح فلم يفلح. فهدده بطرحه للوحوش, فلم يتزعزع, بل قال: إنت بها. فقال له الحاكم: إن كنت تستخف بالوحوش فسأجعل النيران تلتهمك إلا إذا تبت. فقال بوليكاربوس للحاكم: إنك تهددني بالنار التي تشتعل ساعة, ولكنها بعد قليل تنطفئ, لأنك تجهل نار الدينونة العتيدة والقصاص الأبدي المحفوظ للأشرار. ولكن لماذا تتباطأ؟هل افعل ماتريد! قال القديس هذا, وقد امتلأ قوة وشجاعة, وعلت محياه علائم الفرح وسمات النعمة.
عنذئذ أمر الحاكم بأن يهتف المنادي بالناس بأن بوليكاربوس لايزال مصرا علي الاعتراف بالمسيح. إنه ثلاث مرات أقر بأنه مسيحي, فارتفعت أصوات الوثنيين واليهود, في غضب عظيم:هذا هو أبو المسيحيين. هذا هو معلم بلاد آسيا. إنه عدو آلهتنا...فليحرق بوليكاربوس حيا.
وعلي الفور شرعت الجماهير في جمع أخشاب وأحطاب من المصانع والحمامات, وكان اليهود علي عادتهم أشد الناس حماسا في ذلك.
ولما أردوا تسميره علي القائمة, أبي وقال: دعوني, فإن الذي يمنحني القوة لاحتمل النار فسوف يمنحني القوة للثبات في النار من غير جفول, فلا حاجة بكم إلي أن تسمروني بالمسامير, فلم يسمروه واكتفوا بأن وثقوا يديه خلف ظهره أما هو فأخذ يصلي قائلا: أيها الآب....يا إله الملائكة والقوات وكل الخليقة...إنني أباركك لأنك حسبتني أهلا لهذا اليوم وهذه الساعة, حتي أنال نصيبا مع الشهداء,ولأشارك في كأس المسيح لقيامة الحياة الأبدية للنفس والجسد...ليتني أقبل اليوم أمامك بين أولئك كذبيحة مقبولة...أنت الإله الحق المنزه عن الكذب...ليكن اسمك يارب مباركا إلي الأبد...
ولم يكد ينهي صلاته حتي كان لهب النيران قد تصاعد من حوله من كل جهة,إلا أنه لم يمسه بأذي, وإنما ظلله, فظهر القديس في وسط النار وفوق رأسه قبة من النور, والنار من حوله لاتحرقه وكأنها سور يحميه, ورائحة عطرية تفوح من جسده, وكأنها رائحة بخور زكي. فتعجب الناس وذهلوا لهذا المنظر الرائع. فأمر الحاكم أحد الجنود أن يستل سيفه ويغمده في قلب الأسقف القديس. فانقض الجندي عليه وطعنه في قلبه. فسقط الشيخ علي الفور. ثم تفجرت الدماء من صدره غزيرة. فأطفأت النار, ورأي الحضور حمامة بيضاء تنطلق من وسط النار وتطير نحو السماء...ولابد أن تكون هذه الحمامة البيضاء هي روح الشهيد القديس بوليكاربوس أسقف أزمير.
وكان استشهاده في يوم عظيم, في يوم سبت الفرح أو سبت النور السابق علي عيد القيامة المجيد من سنة 166 أو 167م, وجمع المؤمنون عظامه ودفنوه باحترام عظيم.
وتعيد كنيستنا القبطية لاستشهاده في التاسع والعشرين من شهر أمشير القبطي(ويقابل حاليا الثامن من مارس) بينما تحتفل به كنائس الروم وكنائس الغرب في 23 من فبراير-شباط.
القديس بوليكاربوسبقلم المتنيح الأنبا غريغوريوسالقديس بوليكاربوس(ومعني اسمه باليونانية الجزيل الثمار) هو من الآباء الرسوليين. والآباء الرسوليون هم الذين عاصروا الآباء الرسل وعاشوا بعدهم.
ولد بوليكاربوس من أبوين مسيحيين نحو سنة69م, وتتلمذ علي القديس يوحنا الرسول أحد الاثني عشر المعروف بالحبيب, وبيوحنا الرائي-وهو الذي رسم يوليكاربوس أسقفا علي مدينة أزمير- ولذلك قال عنه المؤرخ بوسابيوس القيصري في كتابهتاريخ الكنيسة أنه-أي بوليكاربوس-تسلم من الرسل الحق الواحد الوحيد الذي سلمته إلينا الكنيسة(كتاب 4:14:4) وقال عنه القديس إيريناوس:أن بوليكاربوسعاشر يوحنا (الرسول) وسائر الذين رأوا الرب(يسوع). وكان دائما يروي عن القديس يوحنا الرسول ماسمعه منه ومارآه في حياته. من ذلك مارواه عن يوحنا الرسول أنه لما ذهب إلي الحمام العام في أفسس ورأي كيرنثوس الهرطوقي, بداخل الحمام, خرج علي الفور من الحمام مهرولا من دون أن يستحم, وهو يردد قائلا:فلنهرب لئلا يسقط علينا الحمام لأن كيرنثوس عدو الحق, بداخله, وكانت أزمير أو سميرنا في ذلك الوقت مدينة عظيمة من مدن آسيا الصغري, وكانت زاهرة بالعلوم وبالصناعة والتجارة الواسعة. ولما كان بوليكاربوس يتميز بالتقوي والفضيلة والحكمة والعلم, فرأي القديس يوحنا الرسول أن يسلمه قيادة هذه المدينة الكبيرة التي كانت أيضا تتجاذبها تيارات فكرية مختلفة, وقد انتشرت فيها هرطقات قوية. وكان علي بوليكاربوس الأسقف أن يواجه كل هذه التيارات التي تتجاذب سفينة الكنيسة المسيحية في نشأتها الفتية.
وبوليكاربوس هو بذاته الأسقف الذي وصفه المسيح له المجد في الرؤيا ليوحنا الرسول بأنه ملاك الكنيسة التي في أزمير أو سميرنا وقد كان يوحنا الرسول هو الأب الروحي الأكبر لجميع كنائس آسيا.
جاء في سفر الرؤيا:
واكتب إلي ملاك الكنيسة التي في أزمير(سميرنا): هذا ما يقوله الأول والآخر, ذاك الذي مات وعاد إلي الحياة, أنا أعرف أعمالك وضيقتك وفقرك مع أنك غني, وتجديف القائلين أنهم يهود, وماهم بيهود بل هم مجمع للشيطان. لاتخف ألبتة مما أنت عتيد أن تتألم به. هوذا إبليس مزمع أن يلقي بعضا منكم في السجن لكي تجربوا وسيصيبكم ضيق عشرة أيام.فكن أمينا حتي الموت, وأنا أعطيك إكليل الحياة. من كان له أذن, فليسمع ما يقوله الروح للكنائس. من يغلب, فلا يؤذيه الموت الثاني(الرؤيا2:8-12).
هذه العبارات الجميلة تحمل رسالة من السيد المسيح له المجد, علي يد عبده ورسوله القديس يوحنا اللاهوتي, إلي الأسقف بوليكاربوس, وهي تنطوي علي شهادة رائعة من الرب يسوع عن بوليكاربوس وأعماله الصالحة وتقواه وقداسة سيرته ثم أيضا كفاحه ونضاله من أجل الإيمان المسيحي, في محاربته لليهود وغير اليهود من الهراطقة وأصحاب المدارس الفكرية المنحرفة, كما تحمل تشجيعا له علي احتمال ما سيصيبه حاضرا ومستقبلا, من جراء ذلك, من آلام, وما سينزل عليه وعلي المسيحيين من شعبه من اضطهادات ومضايقات, ويحثه مع ذلك هو وشعبه علي الثبات والصمود والاستمساك بالإيمان بكل أمانة وإخلاص. فإنه بهذا الثبات يرث ملكوت السموات, وينجو من الهلاك الأبدي في جهنم المتقدة بالنار والكبريت, وهي الموت الثاني(سفر الرؤيا20:6, 14), (21:8).
ويذكر عن القديس بوليكاربوس أنه وضع مقالات كثيرة وميامر عدة عن الميلاد المقدس, وعن تدبيرات المخلص, وعن العذراء القديسة مريم, وعن الموت, وعن الجحيم, والعذاب الأبدي وما إلي ذلك. وبفضل جهاده جذب إلي الإيمان المسيحي كثيرين, فضلا عن أنه ثبت بمواعظه وتعاليمه وحسن سيرته وقدوته, المؤمنين من المسيحيين, فازدهرت الكنيسة وانتعشت روح الإيمان والتقوي والقداسة.
وبينما كان بوليكاربوس يقود الكنيسة في أزمير وتوابعها, ويناضل عن الإيمان المسيحي ضد اليهود وضد الهراطقة الغنوسيين من أمثال كيرنثوسcerinthius وماركيونmarcion وفالنتينوس valentinus وأتباعهم...علم بوليكاربوس بأن القيصر تراجانtrajan (53-117) قد حكم علي القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية بأن يموت في روما, وذلك بأن يطرحوه للوحوش الضارية لتفتك به, وكان أغناطيوس صديقا حميما لبوليكاربوس, فاستقبله في أزمير وهو في طريقه إلي روما وعانقه مرحبا به, بل انحني وقبل بفمه السلاسل التي كان أغناطيوس مقيدا بها. أما القديس أغناطيوس فلما رأي صديقه بوليكاربوس والمؤمنين بالمسيح من حوله فرح كثيرا بنتائج خدمة شريكه في الخدمة الرسولية وثمارها, وشجعه علي كفاحه ونضاله من أجل الإيمان, وخطب في المؤمنين وحياهم علي شجاعتهم وعدم تهيبهم غضب الحكام والجند الذين يسوقونه إلي موته ثم باركهم واستأنف مسيرته مع الجند, وكان بوليكاربوس والمسيحيون يشيعونه بصلواتهم مع دموعهم.
فلما بلغ القديس أغناطيوس مدينة ترواسtroas كتب من هناك إلي صديقه بوليكاربوس وإلي بعض المؤمنين في أزمير رسائل تفيض روحانية وتقوي, فلما علم أهل فيلبي بشأن هذه الرسائل كتبوا إلي القديس بوليكاربوس يرجونه أن يبعث إليهم بهذه الرسائل. فجمعها بوليكاربوس وأرفقها بكتاب منه يشرح فيه الإيمان المسيحي مؤيدا بما سمعه من معلمه القديس يوحنا الرسول وسائر القديسين, وصار مجموع هذه الرسائل التي كتبها القديس اغناطيوس والكتاب الذي أضافه القديس بوليكاربوس, وثيقة إيمانية صارت جزءا من تراث الكنيسة الأدبي والروحي, وظلت كنائس آسيا تقرأها علي منابرها فترة طويلة من الزمن.
وقام القديس بوليكاربوس- وكان في نحو الثمانين من عمره-برحلة إلي روما مارا بمرسيليا, لزيارة صديقه أنيقيتوس anicetus أسقف روما(155-166)م, فرحب به أسقف وروما الشعب الروماني, وكان موضع احترامهم جميعا وتقديرهم, نظرا لما اشتهر به من الفضل والحكمة والغيرة الرسولية, وسلامة التعليم, فضلا عن فصاحته وبلاغته. وقد دعاه صديقه أسقف روما إلي خدمة القداس الإلهي, وأتاح له فرصة لمباشرة الوعظ والتعليم لتثبيت الإيمان في نفوس المؤمنين, وتحذيرهم من ضلالات الهراطقة من أمثال فالنتينوس ومارقيون ومن إليهم ممن انتشرت تعاليمهم في روما أيضا, فهدي بتعاليمه الكثيرون إلي الإيمان المستقيم.
ولما كان بوليكاربوس قد نزل في مرسيليا في طريقه إلي روما, فإن فرنسا تعتبره واحدا من رسلها, كما أنه قد بعث إليها من بشر بالإنجيل في بلادها وهدي شعبها إلي الإيمان بالمسيح. وظلت باريس حتي قيام الثورة الفرنسية(1789-179)م تفاخر معتزة باحتفاظها ببعض ذخائر القديس بوليكاربوس فيها.
استشهاد القديس بوليكاربوس:
وعاد القديس بوليكاربوس بحفاوة ومحبة وتقدير عظيم من روما بعد أن قضي فيها شهورا عدة إلي أزمير, واستأنف جهاده وخدمته لشعبه. وبعد عودته ثار اضطهاد عنيف ضد المسيحيين في كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية. وذهب الجند لكي يعتقلوه فلم يحزن ولم يضطرب, بل علي العكس رحب بأن يموت شهيدا من أجل المسيح, وطلب أن يمهلوه ساعة يصلي فيها ويودع شعبه, وأمر للجند بطعام. أما هو فأخذ يصلي من أجل شعبه ومن أجل كل العالم أخيارا وأشرارا, مؤمنين وغير مؤمنين. وبعد الصلاة شرع يوصي شعبه بأن يثبوا علي الإيمان وأنباهم بأنهم سوف لا يرون وجهه بعد اليوم, فبكوا وتعلقوا به وحاولوا منعه لكنه رجاهم أن لايعيقوه عن شرف الاستشهاد, من أجل الإيمان, ثم ذهب مع الجند. وفي الطريق رآه رجل غني كان من كبار ضباط الشرطة وكان راكبا في عربة فاخرة فأشفق علي شيخوخته ودعاه إلي أن يصعد إلي المركبة معه. فقبل بوليكاربوس أن يصعد إلي المركبة. بيد أن الغني شرع يلاطفه, ويذكره بشيخوخته ويغريه علي أن ينكر المسيح ويبخر للأوثان تلبية لأوامر القيصر, فينجو من عقابه. فأجابه القديس بعد أن أصغي إلي حديثه كله, قائلا: لا شئ يثنيني عن محبة المسيح, لا الحديد, ولا النار, ولا السجن, ولا النفي , ولا كل أنواع المصائب التي تقع علي رأسي. عندئذ استشاط الغني غضبا, ودفع القديس عن المركبة إلي الأرض, فسقط بوليكاربوس الشيخ وترضض جسمه وانفك عظم كتفه وتسلخت قصبة رجله, ومع ذلك تحامل علي نفسه ونهض يسبح الله ويشكره, واستأنف السير مع الجند إلي أن وصل إلي ساحة الاستشهاد.
فلما أبصره الحاكم ابتدره بقوله:يابوليكاربوس, أشفق علي شخيوختك. ماشأنك وهذه الخزعبلات المسيحية؟ قدم القربان للآلهة واشتم المسيح, فتنجو من عذاب الموت الشنيع.
فأجاب القديس: لقد مضي علي ست وثمانون سنة في خدمة المسيح, ولم يصنع بي سوءا, فلماذا أنكره وأشتمه, وكيف أجدف علي ملكي ومخلصي, وأنا عليه أتوكل, وهو موضوع سعادتي وعنوان مجدي؟
فغضب الحاكم من جواب بوليكاربوس, ومع ذلك حاول أن يثنيه عن إيمانه بالمسيح فلم يفلح. فهدده بطرحه للوحوش, فلم يتزعزع, بل قال: إنت بها. فقال له الحاكم: إن كنت تستخف بالوحوش فسأجعل النيران تلتهمك إلا إذا تبت. فقال بوليكاربوس للحاكم: إنك تهددني بالنار التي تشتعل ساعة, ولكنها بعد قليل تنطفئ, لأنك تجهل نار الدينونة العتيدة والقصاص الأبدي المحفوظ للأشرار. ولكن لماذا تتباطأ؟هل افعل ماتريد! قال القديس هذا, وقد امتلأ قوة وشجاعة, وعلت محياه علائم الفرح وسمات النعمة.
عنذئذ أمر الحاكم بأن يهتف المنادي بالناس بأن بوليكاربوس لايزال مصرا علي الاعتراف بالمسيح. إنه ثلاث مرات أقر بأنه مسيحي, فارتفعت أصوات الوثنيين واليهود, في غضب عظيم:هذا هو أبو المسيحيين. هذا هو معلم بلاد آسيا. إنه عدو آلهتنا...فليحرق بوليكاربوس حيا.
وعلي الفور شرعت الجماهير في جمع أخشاب وأحطاب من المصانع والحمامات, وكان اليهود علي عادتهم أشد الناس حماسا في ذلك.
ولما أردوا تسميره علي القائمة, أبي وقال: دعوني, فإن الذي يمنحني القوة لاحتمل النار فسوف يمنحني القوة للثبات في النار من غير جفول, فلا حاجة بكم إلي أن تسمروني بالمسامير, فلم يسمروه واكتفوا بأن وثقوا يديه خلف ظهره أما هو فأخذ يصلي قائلا: أيها الآب....يا إله الملائكة والقوات وكل الخليقة...إنني أباركك لأنك حسبتني أهلا لهذا اليوم وهذه الساعة, حتي أنال نصيبا مع الشهداء,ولأشارك في كأس المسيح لقيامة الحياة الأبدية للنفس والجسد...ليتني أقبل اليوم أمامك بين أولئك كذبيحة مقبولة...أنت الإله الحق المنزه عن الكذب...ليكن اسمك يارب مباركا إلي الأبد...
ولم يكد ينهي صلاته حتي كان لهب النيران قد تصاعد من حوله من كل جهة,إلا أنه لم يمسه بأذي, وإنما ظلله, فظهر القديس في وسط النار وفوق رأسه قبة من النور, والنار من حوله لاتحرقه وكأنها سور يحميه, ورائحة عطرية تفوح من جسده, وكأنها رائحة بخور زكي. فتعجب الناس وذهلوا لهذا المنظر الرائع. فأمر الحاكم أحد الجنود أن يستل سيفه ويغمده في قلب الأسقف القديس. فانقض الجندي عليه وطعنه في قلبه. فسقط الشيخ علي الفور. ثم تفجرت الدماء من صدره غزيرة. فأطفأت النار, ورأي الحضور حمامة بيضاء تنطلق من وسط النار وتطير نحو السماء...ولابد أن تكون هذه الحمامة البيضاء هي روح الشهيد القديس بوليكاربوس أسقف أزمير.
وكان استشهاده في يوم عظيم, في يوم سبت الفرح أو سبت النور السابق علي عيد القيامة المجيد من سنة 166 أو 167م, وجمع المؤمنون عظامه ودفنوه باحترام عظيم.
وتعيد كنيستنا القبطية لاستشهاده في التاسع والعشرين من شهر أمشير القبطي(ويقابل حاليا الثامن من مارس) بينما تحتفل به كنائس الروم وكنائس الغرب في 23 من فبراير-شباط.