رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
عُمَّاد يسوع: وظهوره نبيا ومسيحا وابن الله
الأحد الثالث بعد الميلاد: عُمَّاد يسوع: وظهوره نبيا ومسيحا وابن الله (لوقا 3: 15-16، 21-22) النص الإنجيلي (لوقا 3: 15-16، 21-22) 15 وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح. 16 فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. 21 ولَمَّا اعتَمَدَ الشَّعبُ كُلُّه واعتَمَدَ يَسوعُ أَيضاً وكانَ يُصَلِّي، اِنفَتَحَتِ السَّماء، 22 ونَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة، وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت. المقدمة نحتفل اليوم بعيد عُمَّاد يسوع، ويمثل هذا العُمَّاد على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن ظهور يسوع للجموع، والناس كانوا ينتظرون مسيحا في وجه وطني وعسكري وسياسي، ولكن لوقا الإنجيلي أوضح أن يسوع هو النبي و"المسيح ألآتي" وابن الله، الذي تضامن مع شعبه ليُخلصهم من خطاياهم؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا ((لوقا 3: 15-16، 21-22) 15 وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح. تشير عبارة " وكانَ الشُّعبُ يَنتَظِر" إلى انتظار الشعب اليهودي إلى المسيح المُخلص، لأنه لم يكن هناك نبي في إسرائيل لفترة تزيد على أربعمائة عام. واعتقد كثيرون أن النبوءة ستعود إلى الظهور مع مجيء المسيح (يوئيل 2: 27)؛ ومن هذا المنطلق، نجد يوحنا المعمدان يشهد شهادته الأخيرة ليسوع " أَنتُم بِأَنفُسِكم تَشهَدونَ لِي بِأَنِّي قُلتُ إِنِّي لَستُ المَسيح، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يوحنا 3: 28). نحن نعيش في زمن لم يعد الناس ينتظرون فيه شيئا، واستسلموا لعيش الوقت الحاضر فقط، وهم يئنُّون تحت نير الظلم والإرهاق، فهل نسمح لكلمة الربّ أن تعمل وتوقظ فينا الأمل؟ أمَّا عبارة "كُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا " إلى تساؤل أفراد الشعب عن هوية يوحنا المعمدان إذا كان هو المسيح المنتظر "إِذ أَرسَلَ إِلَيه اليَهودُ مِن أُورَشَليمَ بَعضَ الكَهَنَةِ واللاَّوِيّينَ يَسأَلونَه: مَن أَنتَ؟" (يوحنا 1: 19). أمَّا عبارة " هل هو الـمَسيح" فتشير إلى سؤال تلاميذ يوحنا المعمدان، هذا السؤال الذي بقي زمناً طويلا يراود ذهنهم: هل معلمهم هو المسيح المنتظر الذي تتكلم عنه النبوءات أم لا؟ لِعلَّ السبب في ذلك ما رأوه فيه من تقشُّف شديد في أكلِه وشُربه ومَلبسه وقوة كلماته وحزمه في تبكيته الخطأة (متى 3: 4-7)، ومن جرأته وسلطانه على قلوبهم فظنَّوه أنه قادر أن يُخلِّصهم من الرومان. ويُعلق العلامة أوريجانوس "من المؤكَّد أن يوحنا كان إنسانًا غريبًا يستحق إعجابًا شديدًا من كل الناس، حيث كانت حياته مختلفة تماماً عن بقيّة الناس". ومن الواضح أنَّ يوحنا المعمدان كان نبياً عظيما، وكان الشعب واثقاً من أنَّ عصر المسيح الذي طالما انتظروه قد جاء. لكن يوحنا المعمدان أوضح قائلا" لَستُ المَسيح، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يوحنا 3: 29)، واكد مرة أخرى قبل نهاية سألته قائلا " لَمَّا أَوشَكَ يوحَنَّا أَن يُنهِيَ شَوطَه قال: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاه. ها هُوَذا آتٍ بَعدي ذاكَ الَّذي لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" (أعمال الرسل 13: 25). وشهد يوحنا شهاديته الأخيرة "أَنتُم بِأَنفُسِكم تَشهَدونَ لِي بِأَنِّي قُلتُ إِنِّي لَستُ المَسيح، بل مُرسَلٌ قُدَّامَه" (يوحنا 3: 28). أمَّا عبارة " الـمَسيح" في الأصلاليوناني Χριστός، (فمعناها الممسوح بالزيت من اجل خدمة معينة: الملك (1صموئيل 16: 10) والكاهن (خروج 40: 13-15)، فتشير إلى "المشيح" הַמָּשִׁיחַ المنتظر المُخلص وليس مسيحا مثل سائر المسحاء بل "المسيح". وفي المسيحية، المسيح هو الكلمة المُتجسِّد وابن الله. ولكن اليهود كانوا ينتظرون مسيحا في وجهٍ وطنيٍ وعسكريٍ وسياسي ٍوقومي ٍكما يبدو من اتهاماته ليسوع المسيح أمَّام بيلاطس "وَجَدْنا هذا الرَّجُلَ يَفتِنُ أُمَّتَنا، ويَنهى عَن دَفْعِ الجِزيَةِ إلى قَيصَر، ويَقولُ إِنَّه المسيحُ المَلِك" (لوقا 23: 2). 16 فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين: ((أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار. تشير عبارة "فأَجابَ يوحنَّا قالَ لَهم أَجمعين" إلى جواب يوحنا الذي انتهز الفرصة لتوضيح الفرق بينه وبين المسيح. ويوكِّد بولس الرسول هذه الحقيقة في وعظته في أنطاكية بسيدية :"لَمَّا أَوشَكَ يوحَنَّا أَن يُنهِيَ شَوطَه قال: مَن تَظُنُّونَ أَنِّي هو؟ لَستُ إِيَّاه. ها هُوَذا آتٍ بَعدي ذاكَ الَّذي لَستُ أَهلاً لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" (أعمال الرسل 13: 25). أمَّا عبارة "أَنا أُعَمِّدُكم بِالماء" فتشير إلى المعمودية الخاصة بيوحنا المعمدان المرتبطة بالتوبة والتي تُمهِّد لمعمودية الروح القدس التي أتى بها يسوع (متى 3: 11)؛ فمعمودية يوحنا تُعرَض على الجميع ولا تُمنح إلاَّ مرة واحدة، كاستعداد أخيرٍ للدينونة، وإلى معمودية آخر الأزمنة (مرقس 1: 8). وهذه المعمودية تشترط تحولا باطنياً (متى 3: 2)، وتهدف إلى "مغفرة الخطايا" التي كان الشعب ينتظرها منذ ذلك الحين. وهي تختلف أيضا عن الاغتسال الذي كان يُمارس يوميا في الدين اليهود للتطهر من النجاسات الطقسية كما كان الحال في جماعة الاسينييِّن في قمران، وكذلك تختلف عن معمودية الدخلاء التي كانت تطهِّرهم لتمكنهم من الاتصال باليهود (مرقس 1: 4). أمَّا عبارة "مَن هُو أَقوى مِنِّي" فتشير إلى شهادة يوحنا المعمدان الذي اعترف أن يسوع أقوى منه، رغماً أنه أتى بعده في التاريخ. ويُضيف يوحنا الإنجيلي "بَينَكم مَن لا تَعرِفونَه (يوحنا 1: 27)؛ وفي هذا الصدد يقول القديس أمبروسيوس، أحد آباء الكنيسة: " لم يقصد يوحنا بهذه المقارنة إثبات أن المسيح أقوى منه، حيث أن لا مقارنة بين ابن الله والإنسان؛ إذ يوجد أقوياء كثيرون، فإبليس قوي (مرقس 3: 27)، لكن لا يوجد من هو أقوى من المسيح، دليل ذلك أن يوحنا لم يشأ أن يقارن نفسه بالمسيح بقوله: " لَستُ أهلاً لِأَن أَنَحنِيَ فأَفُكَ رِباطَ حِذائِه". تُطلق وصفة القوة على الله في العهد القديم كما ورد في نبوءة دانيال "أَيُّها السَّيِّدُ الإِلهُ العَظيمُ الرَّهيب" (دانيال 9: 4). والقوة هي من صفات المسيح كما أعلن أشعيا النبي "يَحِلُّ علَيه روحُ الرَّبّ روحُ الحِكمَةِ والفَهْم وروحُ المَشورَةِ والقُوَّة روحُ المعرفةِ وتَقوى الرَّبّ" (أشعيا 11: 2)؛ وتَظهر قوة يسوع في قهره الشياطين أثناء التجارب الثلاثة (مرقس 3: 27) وسلطانه على المرض والموت والطبيعة والإنسان؛ حيث تمتع يسوع بقوة الله القدير، فأقام الموتى، ومنح البصر للعُمي، وشفى الكُسْحان والعُرْج كما ورد في إنجيل متى "فَتَعَجَّبَ الجُموعُ لَمَّا رأَوا الخُرسَ يَتَكَلَّمونَ والكُسْحانَ يَصِحُّونَ والعُرْجَ يَمشونَ مَشياً سَوِيّاً والعُميَ يُبصِرون"(متى 15: 31)، وهدّأ البحر الهائج (متى 5: 26)، وغفر الخطايا (متى 9: 6)، وغيّر حياة كثيرين مثل بطرس ويعقوب ويوحنا (مرقس 5: 37)؛ أمَّا عبارة "مَن لَستُ أَهلاً لأن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه" فتشير إلى عمل من أعمال العبيد (يوحنا 13: 4-17). ويُعد عملً مُذِلا، لا يُفرض حتى على عبدٍ يهوديٍ (يوحنا 13: 4-17). فالتلميذ يُعفى من هذا العمل تجاه معلمه. لكنها إشارة إلى إعلان يوحنا المعمدان عن اكتشاف سر عظمة يسوع الإلهية، وعن عجزه لإدراك سرّ تجسده، كيف صار كلمة الله إنساناً. كان يوحنا المعمدان يعتبر نفسه أقل من تلميذ المسيح مما يدل على وداعته المشهورة "لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر. ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يوحنا3: 30). ويُعلّقَّ القديس يوحنا الذهبي الفم "اليدّ التي أكَّد أنَّها غير مستحقة أن تمس حذاءه سحبها المسيح على رأسه!". فأعلن يوحنا المعمدان هنا أنه خادم لسيِّده، وأن المجد والكرامة والسجود والعظمة لا تليق إلا بالمسيح الذي اسمه يفوق كل اسم؛ وفي هذا الصدد يقول القديس يوحنا الذهبي الفم "هذا هو دور الخادم الأمين ليس لأنه لا يَنسب لنفسه كرامة سيِّده فحسب، إنما لأنه يمقت ذلك أيضا عندما يقدِّمها له كثيرون". أمَّا عبارة "النَّار" فتشير إلى عمل الله الذي يُطهِّر (ملاخي 3: 2) ويمتحن (1بطرس 1: 7). وقد تتخذ النار معنى الغضب (متى 3:12) والغضب يدلُّ على موقف الله من الخطيئة وتعامله معها وعقابه لها كما جاء في نبوءة أشعيا النبي "هُوَذا آسمُ الرَّبِّ آتٍ مِن بَعيد غَضَبُه مُضطَرِمٌ ووَعيده شَديد وشَفَتاه مُمتَلِئتانِ سُخطاً ولِسانُه كنارٍ آكِلَة" (أشعيا 30: 27-33). لكن يسوع يظهر بمظهر العبد الوديع المتواضع (متى 12: 18-21)، الذي يقول عنه بولس الرسول أنَّه ينجِّي من الغضب "تَنتَظِروا أَن يَأتِيَ مِنَ السَّمَواتِ ابنُه الَّذي أَقامَه مِن بَينِ الأَمْوات، أَلا وهو يسوعُ الَّذي يُنَجِّينا مِنَ الغَضَبِ الآتي"(1 تسالونيقي 1: 10). أمَّا عبارة " إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" فتشير إلى الفرق بين عمل يوحنا المعمدان الذي يمتاز بمعمودية الماء وعمل المسيح الذي يمتاز بمعمودية الروح القدس. وليس المقصود هنا العنصرة (أعمال الرسل 1: 5) أو المعمودية المسيحية (أعمال الرسل 11: 16)، بقدر ما هو عمل الخلاص الذي افتتحه يسوع والتطهير والتقديس بالروح القدس. وتُعلن هذه الآية تفوق يسوع المسيح على يوحنا المعمدان خاصة تجاه بعض الجماعات التي ظلت ترتبط بيوحنا المعمدان (أعمال الرسل 19: 1-7). وترمز معمودية يوحنا إلى الاغتسال من الخطايا للتوبة والإصلاح، أمَّا معمودية يسوع بالروح القدس والنار فتتضمن القوة المطلوبة لعمل إرادة الله. شهد يوحنا للمسيح الحقيقي، معلنًا أنه ليس هناك مجال للمقارنة بين السيِّد المسيح وبينه، وبين معموديَّة السيِّد ومعموديَّته. أمَّا عبارة "الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار" فتشير إلى شيء واحد. الروح القدس الذي يمتحن كالنار، وفي هذه الحالة تكون "واو" العطف تفسيرية. ويُعلق القديس ايرونيموس " الروح القدس هو نار كما جاء في أعمال الرسل، إذ حلّ على المؤمنين على شكل ألسنة ناريّة. (أعمال الرسل 2: 3)؛ وهكذا تحقَّقت كلمة المسيح: "جِئتُ لأُلِقيَ على الأَرضِ ناراً، وما أَشدَّ رَغْبَتي أَن تَكونَ قدِ اشتَعَلَت!" (لوقا 12: 49). والروح القدس هو نار الله التي تحرق الحثالة في حياة المؤمن وتلهب من اجل الله. وفي الواقع، ترمز المعمودية بالنار إلى عمل الروح القدس في جلب دينونة الله على من يرفض التوبة كما جاء في تعليم بولس الرسول "هذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 13). وقد حلَّ الروح القدس في يوم الخمسين. وفي هذا اليوم يُرجَّح أنَّ المعمودية التي تنبأ بها المعمدان كوِّنت: "لَمَّا رَفعَهُ اللهُ بِيَمينِه، نالَ مِنَ الآبِ الرُّوحَ القُدُسَ المَوعودَ بِه فأَفاضَه" (أعمال الرسل 2: 33). وقبل صعود يسوع إلى السماء وعد تلاميذه بانه سيتعمَّدون بالروح القدس " وأمَّا أَنتُم فتتُعَمَّدونَ بالرُّوحِ القُدُسِ بَعدَ أَيَّامٍ غَيرِ كثيرة" (أعمال الرسل 1: 5). وهكذا حدَّدت شهادة يوحنا المعمدان دور يسوع وشخصه وأظهرت كرازته تفوق المعمودية بالروح القدس والنار على معموديته بالماء (متى 3: 14، ويوحنا 3: 23-30). 21 ولَمَّا اعتَمَدَ الشَّعبُ كُلُّه واعتَمَدَ يَسوعُ أَيضاً وكانَ يُصَلِّي، اِنفَتَحَتِ السَّماء، تشير عبارة "ولَمَّا اعتَمَدَ الشَّعبُ كُلُّه" إلى اعتماد الشعب كله على يد يوحنا المعمدان كتمهيدٍ لاعتماد يسوع والوحي الذي يليه. أمَّا عبارة "أعتمد" في الأصل اليوناني ἐβαπτίσθη فتشير إلى التغطيس في الماء مما يدل على موته وتقدمة ذاته. الماء الذي يرمز إلى الموت، صار يرمز بقوة الروح إلى الحياة والخليقة الجديدة (التكوين 1: 2). وباعتماده خضع يسوع لإرادة الآب ووضع نفسه في عِداد الخاطئين متضامناً معهم، وحاملا على نفسه خطيئتهم؛ إنه "حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29). ويُعلق البابا فرنسيس "بمجيئه إلى الأردن واعتماده على يد يوحنا، أظهر يسوع تواضعه وشفقته على الجموع، وانحناؤه على الجراح البشريّة ليشفيها". وسار يسوع في مسيرة التوبة التي سار فيها شعبه ليأخذ مكان الخاطئ، ولم يُلاحَظُ وجوده أحد: فهو واحد ٌ من الآخرين، واحدٌ بين كثيرين للتضامن معهم ليُخلِّصهم. وعلى الرغم من عدم كونه خاطئاً، إلا أنه إصطفّ مع الخطأة كي يتلقّى المعموديّة، ويكون إنساناً وسط البشر. فعُمَّاد يسوع يدل على بداية خدمته العلنية حوالي سنة 27، وكان عمره نحو 30 سنة (لوقا 3: 23). وبكلمة أخرى، اعتمد يسوع ليس لأنه خاطئ بل لأجل تتميم كل بر (متى 3: 15)، ولأجل تضامنه مع الخطأة " أُحصِيَ مع العُصاة"(أشعيا 53: 12)، وكعمل تكريسي لرسالته ليبدأ رسميا في خدمته العلنية (يوحنا 1: 31-34)، ولأجل تقديس المياه ولتقديم لنا مثالا لإتباعه، وهنا يُعلق القديس مكسيموس "أعتمد يسوع لا ليُقدَّس بالمياه، بل ليُقدِّس المياه، فيُطهر بطهارته كل ما تمسه المياه"(CLL 23; 398-400). وأخيرا تقدّم المسيح إلى المعمودية من اجل أن تتبعه الشعوب المسيحية بثقة وإيمان. وهناك أسباب أخرى أضافها القديس ايرونيموس "لقد تلقّى يسوع معموديّة يوحنّا لثلاثة أسباب. الأوّل، وبما أنّه وُلِد إنسانًا، أراد تحقيق جميع الفرائض الوضيعة للشريعة؛ والثاني لتشريع معموديّة يوحنّا من خلال معموديّته؛ والثالث ليُظهِر-عندما قدّس ماء الأردن-حلول الرُّوح القدس في معموديّة المؤمنين من خلال هبوطه في شكل حمامة"(القدّيس ايرونيموس، شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3). ولم يُذكر يوحنا المعمدان في إنجيل لوقا وذلك دلالة على انتهاء زمن يوحنا علما أن لوقا روى قصة يوحنا منذ ولادته حتى إلقائه في السجن عن يد هيرودس (لوقا 3: 19-20). أمَّا عبارة "يَسوعُ " في الأصل اليوناني Ἰησοῦς مشتقة من العبرانية יֵשׁוּעַ (معناها الله يُخلص) فتشير إلى اسم علم أطلقه الملاك جبرائيل على ابن مريم “فَستحمِلينَ وتَلِدينَ ابناً فسَمِّيهِ يَسوع" (لوقا 1: 31). ويُعبر هذا الاسم عن هوية يسوع ورسالته حيث انه من خلاله يلخص الله كل تاريخه الخلاصي في سبيل البشر، لأن الله به " يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" (متى 1: 21)، وفي هذا الصدد يقول بطرس الرسول "لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أعمال الرسل 4: 12). أمَّا عبارة "كانَ يُصَلِّي" فتشير إلى لقاء يسوع مع آبيه السماوي بحسب عادته قبل جميع الأحداث الحاسمة المُختصَّة برسالته. وصلاته هنا كانت هي السبب في انفتاح السماء وظهور الأقانيم الثلاثة. وينفرد لوقا الإنجيلي في ذكر حياة الصلاة في يسوع في تسع مناسبات أخرى في إنجيله وهي: بعد إبراء الأبرص (لوقا 5: 16)، ولدى اختيار الرسل الاثني عشر (لوقا 6: 12)، وقبل كشف هويته الإلهية (لوقا 9: 18) وقبل التجلي (لوقا 9: 29) ولدى كشفه أسرار الملكوت (لوقا 10: 21) ولدى تعليمه الصلاة الربِّية (لوقا 11: 1) وصلاته لبطرس لكيلا يفقد إيمانه (لوقا 22: 32) وفي بستان الزيتون (لوقا 22: 44) ولدى موته على الصليب (لوقا 23: 34، 46). أمَّا مضمون صلاته فنجده في الصلاة الربية أو الصلاة في بستان الجسمانية. أمَّا عبارة " اِنفَتَحَتِ السَّماء" فتشير إلى رؤية رؤيويه مأخوذة من سفر حزقيال " اِنفَتَحَتِ السَّموات" (حزقيال 1: 1)، وهي تدل على علامة تدخل الله لتحقيق مواعده خاصة بإرسال الروح القدس (أشعيا 63: 19) وتدل أيضا على انه بالإمكان رؤية الأمور السماوية (يوحنا 3: 12-13، وأشعيا 64: 1) والكشف عن وحي سماوي (أشعيا 63: 19). انفتحت السماء وبدأ عهدٌ جديدٌ بين الأرض والسماء. قد انفتحت أمَّام أعيننا الرّوحيّة فصارت أبواب السماء مفتوحة أمَّامنا، مفتاحها في يدّي عريسنا ورأسنا يسوع المسيح، بل صارت حياتنا الداخلية ذاتها سماوات مفتوحة يسكنها رب السماء! وكما يقول القديس كيرلس أسقف الإسكندرية: "انفتحت السماوات فاقتربَ الإنسان من الملائكة المُقَدسين". وانفتاح السماء يضع حدا لكل المسافات التي تفصل ما بين الله والإنسان. وهكذا أصبحت الحياة الإلهية في متناول الجميع من خلال إنسانية يسوع. ومنذ ذاك الحين لم يعد الله يُرسل أنبياء، لأنه في يسوع اقتربت السماء من الأرض "ها إِنِّي أَرى السَّمواتِ مُتَفَتِّحَة، وابنَ الإِنسانِ قائِمًا عن يَمين الله" (أعمال الرسل 7: 56). لقد غيَّر الله التاريخ بيسوع المسيح. 22 نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة، وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: ((أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت)). تشير عبارة "نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه" إلى يسوع الذي هو المُخلص الموعود به كما تنبا أشعيا: "هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي قد جَعَلتُ روحي علَيه"(اشعيا42: 1). ولا يعني ذلك أنَّ يسوع لم يكن واحدا مع الروح منذ ولادته أو بالأحرى منذ الأزل. لكن نزل الروح الآن ليُجهّزه لخدمته العلنية. ويُعلق القديس كيرلس أسقف الإسكندرية "نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه وذلك كإنسان. هو ابن الله الآب، مولود منه ومساوٍ له في الجوهر"(PG 73: 751). ينال يسوع الروح كسائر الأنبياء لينقل كلمة الله " رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ" (لوقا 4: 18 -19). الروح القدس حلَّ على جسد المسيح، ليَحلَّ بعد ذلك على كنيسة المسيح أي جسده السرِّي، وعلى البشرية جمعاء. أمَّا عبارة "في صورةِ جِسْمٍ كَأَنَّهُ حَمامَة" فتشير إلى الصورة التي ظهر بها الروح بهيئة جسمية ظاهرة للعيان خاصة ليوحنا المعمدان، كي تدل على خلق العالم الجديد الذي تمّ خلال معمودية يسوع، وذلك وفقاً للتقاليد اليهودية، إذ كانت ترى حمامة في روح الله المرفرف على المياه كما جاء في بدء سفر التكوين "ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه" (التكوين 1: 2). ويُعلق القديس كيرلس أسقف الإسكندرية "كان المسيح هو أول من قبل الروح لكونه بكر الطبيعة المجدّدة" (PG 73: 751). أمَّا عبارة "حَمامَة" فتشير إلى الروح الذي حلّ على المياه في بدء الخليقة الأولى (التكوين 1: 3)، وهو يحلّ الآن على مياه نهر الأردن ليُخرج الخليقة الثانية، أبناء الله. وهناك من يرى الحمامة في سفينة نوح التي تحمل غصن السلام والتي تدل على الحياة بعد الموت (التكوين 8: 8-12)، وبعضهم اعتبرها أنها تمثِّل شعب الله، أو تشير إلى محبة الله الذي نزل على الأرض (نشيد الأناشيد 2: 14) وآخرون أشاروا بالحمامة إلى الرب الذي يُشبه طيراً يغمر فراخه لحمايتها "قد رأَيتُم ما صَنَعتُ بالمِصرِيِّين وكَيفَ حَمَلتُكم على أَجنِحَةِ العِقْبان وأَتيتُ بِكُم إِلَيَّ" (خروج 19: 4). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لماذا ظهر الرُّوح القدس على شكل حمامة؟ لأنّ الحمامة ناعمة ونقيّة والرُّوح القدس هو روح النقاوة والسلام"(يوحنا الذهبي الفم، عظات حول إنجيل القدّيس متّى، العظة رقم 12). أمَّا عبارة "وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماء" فتشير إلى صوت الآب السماوي، وهو قول نبوي، أنَّ يسوع الذي وضع نفسه في عداد الخاطئين هو ابن الله في الواقع كما يؤكد ذلك يوحنا المعمدان "َأَنا رأَيتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله" (يوحنا 1: 34). وهذا الصوت كان مُوجّها لا إلى يسوع وحده، بل إلى الحاضرين وبواسطتهم لجميع الشعوب. أمَّا عبارة "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب" فتشير إلى تنصيب يسوع ملكاً للقيام برسالته كما ورد في سفر المزامير" أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ"(مزمور 2: 7) وإلى إعلان الآب أن يسوع هو ابنه الحبيب وموضوع مسرّته ومعزَّته، ويستعيد هذا القول نبوءة ناثان "أَنَّا أَكونُ لَه أبًا وهو يَكون لِيَ ابنًا" (2 صموئيل 7: 14). فيسوع هو ابنه الحبيب (مزمور 2: 7)، وقد ورد هذا التعبير احدى وأربعين مرة في إنجيل مرقس وهو موضع معزة الله الخاصة (أشعيا 42: 1). هو يدل هذا الإعلان على قبول الآب لتكريس الابن نفسه ومصادقته على السنوات الثلاثين السابقة في حياته غير العلنية. والابن الحبيب تعني الابن الوحيد الذي يرتبط بالآب بعلاقة لا مثيل لها، بعلاقة لا يمكن أن تكون لأي إنسان. وتلمح إلى ما قال صاحب المزامير " أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ " (مزمور2: 7). إنه نفس الإعلان الذي نطق به الآب وقت التجلي "هذا هَو ابنيَ الحَبيبُ الَّذي عَنهُ رَضيت، فلَهُ اسمَعوا " (متى 17: 5). أمَّا كلمة "الحَبيب" فتشير إلى ذبيحة إسحاق "خُذِ اَبنَكَ وَحيدَكَ الَّذي تُحِبُّ" (التكوين 22: 2). وينبغي ألاَّ نفهم من هذه الكلمات أنَّ يسوع قد أدرك لأول مرة علاقته الفريدة بالآب، بل كان مُدركاً لها منذ طفولته كما صرّح يسوع لأبويه يوسف ومريم "ولِمَ بَحثتُما عَنِّي؟ أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟" (لوقا 2: 49)؛ وأمَّا عبارة "عَنكَ رَضيت" فتشير إلى اقتباس من النشيد الأول للعبد المتألم لأشعيا النبي "هُوَذا عَبدِيَ الَّذي أَعضُدُه مُخْتارِيَ الَّذي رَضِيَت عنه نَفْسي" (أشعيا 42: 1)، وتدل علىأنَّاختيار الله ليسوع ابنه لم يكن اعتباطا بل اختيارا من اجل القيام برسالته، اختار الله يسوع، موضع معزَّته الخاصة كي يُحمِّله رسالة معلناً انه ابنه الوحيد والحبيب (مرقس 12: 16). فكان صوت الآب إعلانا رسميا من الآب للابن، وتصديقا لرسالته وقبولا لتكريس الابن نفسه العلني لذاته القدوس لدى شعب الله. وهكذا يشير لوقا الإنجيلي في هذه الآية إلى صورتين نبويتين، صورة ابن الملك داود (2 صموئيل 7: 14) وصورة الخادم (العبد) الذي يأخذ على عاتقه خطايا جماعة الناس (أشعيا 53: 12). وفي خلفية المسيح الملك يظهر العبد المتألم ( أشعيا 53). ونلاحظ، أخيراً، في هذا المشهد الأقانيم الثلاثة: الله واحد ولكنه في نفس الوقت ثلاثة أقانيم: الآب يتكلم، والابن يُعمَّد، والروح القدس ينزل على الابن للدلالة على انه المُخلص الموعود به (أشعيا 11: 12). ويعلق القديس ايرونيموس "إنّه سرّ الثالوث الذي ظهر في هذه المعموديّة. الرّب يسوع قَبِل العُمَّاد، والرُّوح القدس نزل على شكل حمامة، وسمعنا صوت الآب الذي شهد لابنه"(شرح لإنجيل القدّيس متّى، 3). ومع أنَّ الله ثالوث فان أول لقاء للإنسان معه يجب أن يكون دائما في المسيح. وهذه الآية تدل على بداية رسالة يسوع لدى شعب الله، وهي الخلاص الذي دشّنه يسوع تطهيراً من الخطايا وتقديساً للشعب. ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 3: 15-16، 21-22) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (لوقا 3: 15-16، 21-22)نستنتج أنَّ لوقا الإنجيلي لا يُركّز الاهتمام على معمودية يسوع بقدر ما يركز على الوحي السماوي الذي يتبعها. ظهر يسوع للبشريّة من خلال عُمَّاده المقدّس انه النبي، والمسيح المنتظر، وابن الله. 1) يسوع هو النبي (لوقا 3: 22) يذكر إنجيل لوقا أن الروح القدس نزل على يسوع (لوقا 3: 22) ليدّل على أنَّ يسوع نال الروح كسائر الأنبياء لنقل كلمة الله " رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء وأَرسَلَني لأُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم وأُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين وأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرَّبّ" (لوقا 4: 18 -19). النَّبيّ هو الذي أَنْبأَ عن الله، والنُّبُوءَةُ هي تبليغُ وحْي اللهِ إلى النّاس، حيث أن التعريف الكتابي للنبي أنه هو الشخص الذي يُعلن إرادة اللّه والمستقبل للشعب، كما يرشده الوحي الإلهي. وعلاوة على مناداته بالقضاء على الخطأ، والدفاع عن الحق والبر، والشهادة لسمو الأخلاق على الطقوس الشكلية، فإن النبوّة هي وثيقة الارتباط بمقاصد نعمة اللّه نحو شعبـه (ميخا 7: 20، أشعيا 3:60). ومن هذا المنطلق، النبي هو من يتكلم بما يُوحى به إليه من الله، فأقواله ليست من بنات أفكاره، ولكنها من مصدر أسمى. فالأنبياء الحقيقيون إنما يتكلمون بما يضعه الله في أفواههم، أو يكشفه لعقولهم (أشعيا 2: 1)، كل هذا الوصف ينطبق على المسيح، لأنه هو كلمة الله نفسه من ذات الله. يختلف مفهوم النبوة والأنبياء في العهد الجديد قليلا عن مفهوم العهد القديم، لأنه في العهد القديم كانت وسيلة اتصال الله بالشعب من خلال النبي فقط أي من الله للنبي ثم للشعب، ولكن العهد الجديد من الرب نفسه للشعب. كما جاء في تعليم صاحب الرسالة للعبرانيين “بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. (العبرانيين 1: 1-2). فالرب يسوع المسيح هو ابن الله أي من ذات الله فله ملئ اللاهوت، وهو كلمة الله ذاته هو الذي يُكلم البشر ويُخبرهم بالأشياء الخفيَّة والمستقبلية أيضا؛ وتعريف النبي هذا ينطبق على المسيح، لأنه يُخبر بأمور مستقبلية، ولكن هذا لا يلغي ألوهيته. نشاهد في يسوع الكثير من الملامح النبوية. فهو يكشف مضمون " علامات الأزمنة " (متى 16: 2-3)، ويعلن نهايتها "فها إِنِّي قد أَنْبَأتُكم" (متى 24: 25). وموقفه إزاء القيم التقليدية هو عودة إلى النقد الذي أبداه الأنبياء بصرامة إزاء علماء الشريعة "الوَيلُ لَكُم يا عُلَماءَ الشَّريعَة، قَدِ استَولَيتُم على مِفتاحِ المَعرِفة، فلم تَدخُلوا أَنتُم، والَّذينَ أَرادوا الدُّخولَ مَنَعتُموهم"(لوقا 11: 52)، وغضبه " ضد الرياء" أو المُراءة" الديني "أَيُّها المُراؤُون، أَحسَنَ أَشَعْيا في نبوءته عَنكم إِذ قال هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيْه وأمَّا قَلبُه فبَعيدٌ مِنِّي"(متى 15: 7)، وفتح الجدال في صفة أبناء إبراهيم ، موضع افتخار اليهود " إِنَّ أَبانا هو إبراهيم فقالَ لَهم يسوع: لَو كُنتُم أَبناءَ إِبراهيم، لَعَمِلتُم أَعمالَ إِبراهيم" (يوحنا 8: 39)، وتوضيح ميراث روحي ، وتطهير الهيكل (مرقس 11: 15- 17)، والإعلان عن عبادة ، حقيقية كاملة بعد وقوع خراب بناء الهيكل (يوحنا 2: 16). وأخيراً يشهد يسوع-وهذا ما يربط خاصة بينه وبين الأنبياء القدماء-كيف أن رسالته تُرفض (متى 13: 13-15)، وتُنبذ من تلك المدينة، أورشليم، قاتلة الأنبياء "أُورَشَليم أُورَشَليم، يا قاتِلَةَ الأَنبِياء وراجِمَةَ المُرسَلينَ إِليَها، كَم مَرَّةٍ أَرَدتُ أَن أَجمَعَ أَبناءكِ، كما تَجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تحتَ جنَاحَيها! فلَم تُريدوا. هُوَذا بَيتُكم يُترَكُ لَكم قَفْراً"(متى 23: 37-38). وبقدر ما تكون نهايته تقترب، يتولى يسوع إعلانها ويشرح معناها، من حيث كونه نبيّاً يتنبأ عن نفسه، مُبيِّناً بذلك أنه لا يزال سيداً لمصيره، أو يقبله برضى حتى يُتمِّم قصد الآب، كما صورته الكتب المقدسة. فلا غرو، مع هذه المواقف المصحوبة بعلامات إعجازية، أن تلقِّب الجموع يسوع تلقائياً بلقب نبي كما حدث بعد إحياء ابن أرملة نائين "فاستَولى الخَوفُ علَيهم جَميعاً فمَجدَّوا الله قائلين: قامَ فينا نَبِيٌّ عَظيم، وافتَقَدَ اللهُ شَعبَه"! (لوقا 16:7)، وكما اعترف به اعمى بركة سلوام " فقالوا: أَيضاً لِلأَعمى: ((وأَنتَ ماذا تَقولُ فيه وقَد فَتَحَ عَينَيكَ؟)) قال: إِنَّهُ نَبِيّ " (يوحنا 9: 17) وكذلك اعترفت به نبياً المَرأَة السامرية " يا ربّ، أَرى أَنَّكَ نَبِيّ "(يوحنا 4: 19)، لأنها شعرت أن المسيح قادرٌ أن يرى ما لا يراه الآخرون، ويعلم الغيب فهو نبي. "وكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هذَا الْكَلاَمَ قَالُوا: هذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ" (يوحنا 9: 40). وفي بعض الحالات يَدل هذا اللقب على النبيِّ الأعظم، الذي سبق وتكلمت عنه الكتب المقدسة، فاعلنه واعلن أتباع المسيح ومن شفاهموأعدائه في حياته عنه : فبعد معجزة الخبز والسمكتين حول بحيرة طبرية " لَمَّا رأَى النَّاسُ الآيةَ الَّتي أَتى بِها يسوع، قالوا: حَقاً، هذا هوَ النَّبِيُّ الآتي إلى العالَم" (يوحنا 6: 14)؛ ويرى فيه الناس أنه نبي الأزمنة الأخيرة الذي يرسله الله إلى العالم ليتزعم حركة تحرير قومي وُقيم سلطان إسرائيل (يوحنا 1: 21)؛ وقد اعترف به نبياً أيضا " أُناسٌ مِنَ الجَمعِ بعد أن سَمِعوا كلامه عن الماء الحي : هذا هو النَّبِيُّ حَقاً! " (يوحنا 7: 40). وبعد أن ضرب الأمثال في الهيكل للشعب على سماع عظماء الكهنة والفريسيين " حاولوا أَن يُمسِكوه، وَلكِنَّهم خافوا الجُموعَ لأَنَّها كانت تَعُدُّه نَبِيّاً" (متى21: 46)؛وكذلك قال كل الجموع الذين كانوا في انتظاره عند دخوله أورشليم: " "هَذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ" (متى 21: 10-11). غير أن يسوع لا يُطلق على نفسه هذا اللقب إلاَّ عرضاً حينما قال " لا يُزدَرى نَبِيٌّ إِلاَّ في وَطَنِه وبَيتِه " (متى 13: 57).ومن ثم لن يكون لهذا اللقب إلا مجال بسيط في فكر الكنيسة الناشئة كما جاء في عظة بطرس للشعب "فلَقَد قالَ موسى: ((سيُقيمُ لكُمُ الرَّبُّ إِلهُكم مِن بَين إِخوَتِكم نَبِيًّا مِثْلي، فإِلَيه أَصْغوا في جَميعِ ما يَقولُ لَكُم" (أعمال 3: 22) حيث يظهر يسوع هنا بمظهر النبي الشبيه بموسى كما وصفه قَلاوبا، أحد تلميذي عماوس بعد قيامة الرب من الأموات "كانَ نَبِيّاً مُقتَدِراً على العَمَلِ والقولِ عِندَ اللهِ والشَّعبِ كُلِّه،" (لوقا 24: 19)، ونستنتج مما سبق أن يسوع بتجسده اخذ جسداً بشرياً، مما اضفى عليه صفة النبي، لأنه يُخبر بفمه البشري أموره اللاهوتية والخفيَّة والمستقبلية. لكنه هو أكثر من نبي، لان رسالته هي البشرى النهائية، وهو نفسه موضوعها، إنه المسيح ابن الله الحي وشخصيته تتجاوز من كل الوجوه التقليد النبوي. فيسوع هو المسيح و"عبد الله المتألم" وابن الإنسان. أمَّا السلطان الذي أُعطي له من أبيه، فهو أيضاً بجملته سلطانه الخاص كليّاً: إنه سلطان الابن، الأمر الذي يضعه فوق كل صفوف الأنبياء كما جاء في تعليم صاحب الرسالة إلى العبرانيين "إِنَّ اللهَ، بَعدَما كَلَّمَ الآباءَ قَديمًا بِالأَنبِياءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً بِوُجوهٍ كَثيرة، كَلَّمَنا في آخِرِ الأَيَّام هذِه بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيء وبِه أَنشَأَ العالَمِين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه. وبَعدَما قامَ بِالتَّطْهيرِ مِنَ الخَطايا، جَلَسَ عن يَمينِ ذي الجَلالِ في العُلَى" (عبرانيين 1: 1-3). إنه يستمد من الله الآب كلامه، ولكنه-كما يقول يوحنا الإنجيلي هو "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً" (يوحنا 1: 14). وفي الواقع، فأي نبي كان يمكنه أن يقدّم ذاته باعتباره مصدراً للحق، والحياة. "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة" (يوحنا 14: 6). إن الأنبياء كانوا يردِّدون: " هذا وحي الله! أمَّا يسوع فيقول: "الحق الحق أقول لكم "، وإذن، فإن رسالته وشخصه ليسا من ذات المستوى النبوي. والفارق الهائل بين استعلان الله بالكلمة على فم الأنبياء وبين استعلان في المسيح كالفرق بين أن نعرف شيئًا عن الله وبين أن نراه ونسمعه ونلمسه وإن كان كلام الله بالأنبياء لا يزول بل يتحقق في الحال، فبالأولى كلمة المسيح التي تخلق. ونرى هنا وحدة العهدين فالله الذي كلمنا في الأنبياء هو نفسه الذي كلمنا في ابنه، ولكنه الآن في صورة أكمل إعلانه. في العهد القديم رأينا ظلال الحقائق، أمَّا الآن فنرى الحق عينه بل أعطانا الله الروح القدس الذي به نعرف عقل الله وفكر الله ونرى صورة للمجد (1قورنتس 9:2-11). 2) يسوع هو المسيح (لوقا 3: 15) يبين لنا نص إنجيل لوقا أنَّ يسوع ليس فقط نبي بل هو المسيح المنتظر. "كانَ الشُّعبُ يَنتَظِر، وكُلٌّ يَسأَلُ نَفسَه عن يوحَنَّا هل هو الـمَسيح" (لوقا 3: 15). لفظة "المسيح" مشتقة من اللغة العبرية والآرامية، (המָשִׁיחַ (معناها المسيا)، وأمَّا اللفظة اليونانية فهي Χριστός أي المسيح وتعني الممسوح. ويُعلق القديس ايرينيوس " أنَّ في اسم المسيح يُضمَر من مَسَح، ومن مُسِح، والدهن الذي به مُسح: الماسح هو الآب، والمسموح هو الابن، وقد مُسح بالروح الذي هو الدُّهن" (الرد على الهرطقات 3:18،3). يشير الاسم إلى ربط شخص المسيح برجاء أبناء الشعب العبري في العهد القديم والعهد الجديد. في العهد القديم كانت لفظة المسيح (الذي مسح) تنسب إلى الملك والنبي والكاهن. وكانت المسحة الإلهية تُكرّس الملوك من أجل رسالة مرتبطة بقصد الله نحو شعبه. وبفضل المسح بالزيت الذي يرمز إلى تقليد السلطة من قبل روح الله (1 صموئيل 9: 16، 13)، كان الملك يُكرس لوظيفة تجعل منه نائب الله في إسرائيل كما هو الحال في شان شاول الملك (1 صموئيل 9، 10) وداود الملك (2 صموئيل 2: 4، 5: 3) وسليمان الملك (1 ملوك 1: 39) ومن ارتقوا من ذريته إلى السلطة الملكية (2 ملوك 11: 12، 23). بهذه المسحة يصبح الملك "مسيح الله" (2 صموئيل 19: 22)، وبالتحديد شخصاً مُكرساً يجب على كلّ مؤمن أن يُقدِّم له إكراماً دينياً (1 صموئيل 24: 7). لم يكن المسح عادة للأنبياء المكرّسين لوظيفتهم بمسح الزيت، إلا بطريقة عارضة. مثلا أن الله أمر إيليا بأن "يمسح أليشاع نبياً بدلاً منه" (1 ملوك 19: 16). وفي الواقع، فإن مسح الروح هذا الذي يحصل عليه النبي هو ما يتحدث عنه أشعيا (61: 1)، عندما كرّسه هذا المسح ليُعلن البشرى السارة للفقراء " رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء" (لوقا 4: 18). وقد أطلق مرة لفظ "مسحاء" على أعضاء شعب الله بصفتهم "أنبياء الرب " (مزمور 105: 15). أمَّا مسح الكهنة فيعود إلى ما بعد السبي فكان يُمنح المسح عظيم الأحبار (خروج 29: 7). ومنذ ذلك العصر يصبح عظيم الأحبار الممسوح "المسيا" في زمانه (الأحبار 4: 3). ويشمل المسح أيضا جميع الكهنة (خروج 28: 41). يعطي إذن الفكر اليهودي عن الأزمنة الأخيرة مكاناً هاماً لانتظار المسيح: مسيح ملك ينتظره الجميع، ومسيح كاهن في رأي بعض الأوساط اليهودية. ولكن مواعيد الكتب المقدّسة لا تنحصر في هذه المسيحانية بأحلام نهضة سياسية، بل تعلن أيضاً تأسيس ملكوت الله على يد يسوع المسيح. في العهد الجديد بشَّر الملاك الرعاة بميلاد يسوع على انه المسيح الذي وعد به إسرائيل: "وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ" (لوقا 2: 11). وقد وظهر تكريسه المسيحاني الأزلي في حياته الأرضية في أثناء اعتماده على يد يوحنا المعمدان "اللهَ مَسَحَه بِالرُّوحِ القُدُسِ والقُدرَة" (أعمال الرسل 10: 38) "لِكَي يَظهَرَ أَمْرُه لإِسْرائيل "(يوحنا 1: 31) على انه مسيحه. أدهش الناس بقداسته وسلطته وقدرته موقف معاصري الذين أخذوا يتساءلون قائلين: "أَتُراهُ المَسيح؟" (يوحنا 4: 29، 7)) وألحُّوا عليه في أن يُعلن هو بصراحة عن نفسه "إِن كُنتَ المَسيح، فقُلْه لَنا صَراحَةً" (يوحنا 10: 24). وانقسم الناس إلى قسمين تجاه يسوع بكونه المسيح كما ورد في إنجيل يوحنا "فوقَعَ بَينَ الجمَعِ خِلافٌ في شأنِه" (يوحنا 7: 43). فمن جهة، اتفقت السلطات اليهودية على أن تطرد من المجمع كل من يعترف بأن يسوع هو المسيح (يوحنا 9: 22). ومن جهة أخرى، اعترف الكثيرون صراحة بأنه هو المسيح، أوّلهم تلاميذه، (يوحنا 1: 41)، ثم مرثا في الوقت الذي أعلن أنه القيامة والحياة (يوحنا 11: 27). وأخيرا يضفي جواب بطرس "أنت المسيح" طابعاً رسمياً خاصاً (مرقس 8: 29). لكن هذا الجواب، ما يزالُ ناقصاً، لأن لقب "المسيح" معرّض أن يُفهم في إطار تطلع إلى مَلكٍ زمنيٍ سياسيٍ (يوحنا 6: 15). لم يطلق يسوع على نفسه لقب "المسيح" سوى مرة واحدة، وذلك في حواره مع المرأة السامرية: "إِنِّي أَعلَمُ أَنَّ المَشيحَ آتٍ، وهو الَّذي يُقالُ لَه المسيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء". قالَ لَها يسوع: "أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يوحنا 4: 25-26). وفي الواقع، كان يسوع يحظر الشياطين أن يعلنوا أنه هو المسيح (لوقا 41:4). ولكنه، بعد اعتراف بطرس، أوصى الاثني عشر، ألا يُخبروا أحداً بأنه المسيح (متى 16: 20). قَبِلَ يسوع لقب "المسيح" الذي كان من حقه (يوحنا 4: 25-26)، ولكن لا على سبيل الإطلاق، لان فئة من معاصريه كانوا ينظرون إلى هذا اللقب نظرة بشرية سياسية في جوهرها (متى 22: 41-46). لذا شرع يسوع في تنقية مفهوم فكرة "المسيح". فعندما كان الناس يقولون ليسوع "أنت المسيح"، يجُيبهم: على ابن الإنسان أن يتألم، وهكذا يربط بين فكرة المسيح وإعلان الآلام والقيامة (متى 16: 16). ولم ينكر يسوع هذا اللقب في محاكمته الدينية واستحلاف عظيم الأحبار له بل أعطاه معناً متسامياً، أنه هو ابن الإنسان المزمع أن يجلس عن يمين الله (متى 26: 63-64). وبدأ هذا الاعتراف مع بدء آلامه. وكان هذا الاعتراف سبب الحكم عليه كما أكده عَظيمُ الكَهَنَة: "أَستَحلِفُكَ بِاللهِ الحَيّ لَتَقولَنَّ لَنا هل أَنتَ المسيحُ ابنُ الله"، فقالَ له يسوع: "هو ما تقول" (متى 26: 65-66). فلم يعد لقب المسيح مجال لمجد زمني، إنما في المجال الروحي. لم تتردد الكنيسة من إعلان لقب "المسيح"؛ فإنها على ضوء قيامة يسوع قامت بإعلان أنَّ يسوع هو المسيح Χριστός (خرستوس). ويظهر يسوع هكذا باعتباره ابن داود الحقيقي كما ورد في نسبه كما ورد في إنجيل متى "نَسَبُ يَسوعَ المسيح اِبنِ داودَ ابنِ إِبْراهيم (متى 1: 1)، حُبل به بقوة الروح القدس كما بشّر الملاك مريم العذراء" (لوقا 1: 35) ليرث عرش داود أبيه (لوقا 1: 32) ويقود إلى غايته هذا الملك، بتأسيسه ملكوت "الله على الأرض" وذلك عن طريق قيامته من بين الأموات لذلك لم يتردد بطرس الرسول بعد قيامة يسوع أن يُعلن أمره أمَّام شعب الله " فَلْيَعْلَمْ يَقينًا بَيتُ إِسرائيلَ أَجمَع أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا " (أعمال الرسل 2: 36). ونستنتج مما سبق أنه بعد قيامة يسوع فقط، استطاع التلاميذ أن يفهموا ماذا ينطوي عليه هذا اللقب: "أمَّا كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده؟" (لوقا 24: 26)؛ لأنه كما ورد في الكتب المقدّسة، "كُتِبَ أَنَّ المَسيحَ يَتأَلَّمُ ويقومُ مِن بَينِ الأَمواتِ في اليَومِ الثَّالِث، وتُعلَنُ بِاسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم" (لوقا 24: 46 -47). لقد أصبحت تسمية " المسيح" في زمن الرسل اسم علم ليسوع. ولم تتردّد الكنيسة الأولى في الاعتراف ليسوع بأرفع الألقاب، ألا وهو لقب الرب كما جاء في عظة بطرس السول الأولى "أَنَّ يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا (أعمال الرسل 2: 36)، و"المسيح الرب" (لوقا 2: 11)، و"ربنا يسوع المسيح"(أعمال 15: 26)، وهو ابن الله بالمعنى الحصري (رومة 1: 4)، وهو الإله الحق (رومة 9: 5). ولم يعد أيضا لقب المسيح بالنسبة إلى بولس الرسول لقباً من الألقاب، بل أصبح اسم علمٍ خاصٍ دون أل التعريف "فإِنَّنا نُبَشِّرُ بِمَسيحٍ مَصْلوب" (1 قورنتس 1: 23) ولذا تقوم بشارة بولس بمثابة إعلان أيضاً عن المسيح المصلوب الذي مات من أجل قوم كافرين " لَمَّا كُنَّا لاَ نَزالُ ضُعَفاء، ماتَ المسيحُ في الوَقْتِ المُحدَّدِ مِن أَجْلِ قَوْمٍ كافِرين "(رومة 5: 6-8). وأخيرا يجمع لقب المسيح في ذاته كلّ الألقاب الأخرى، ويحمل كلّ الذين خلّصهم المسيح، بحق، اسم "المسيحيين" (أعمال 11: 26). 3) يسوع هو ابن الله(لوقا 3: 22). لم يكن يسوع مجردا واحداً من بين الأنبياء، أو المسيح المنتظر فحسب، إنما هو أيضا ابن الله الوحيد الذي يفوق سلطانهم وقوتهم كما أوحى الله بهذا اللقب في العُمَّاد " َأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت" (لوقا 3: 22). لقد شهد صوت الله في العُمَّاد أن يسوع هو ابن الله حقا. الألوهية المسيح سر عظيم. وليس بالأمر السهل تأكيد مثل هذا السر وإثباته. فكان يسوع إنسانا، وكان من الصعب أن نعرفه لأول وهله انه كان الرب، الله محجوب، الله المستتر في ناسوته. كان لقب ابن الله في العهد القديم يُعطي للملائكة كما ورد في سفر أيوب " واتَّفَقَ يَومًا أَن دَخَلَ بَنو اللهِ لِيَمثُلوا أمَّامَ الرَّبّ ” (أيوب 1: 6)، وكان يعطي أيضا للشعب المختار " إِسْرائيلُ هو آبنِيَ البِكْر " (خروج 4: 22) وكذلك يعطى هذا اللقب أيضا لأبناء إسرائيل "أَنتُم أَبْناءٌ لِلرَّبِّ إِلهِكم" (تثنية الاشتراع 14: 1)، ولملوكهم " أَنَّا أَكونُ لَه أبًا وهو يَكون لِيَ ابنًا " (2صموئيل 7: 14). في ذلك العهد، كان لقب ابن الله تعني بنوة بالتبني والتي تجعل بين الله وخليقته علاقات أُلفة خاصة. أمَّا في العهد الجديد فيكشف لوقا الإنجيلي في فترة اعتماد المسيح عن صوت الآب يعلنه ابنه الحبيب "وَأَتى صَوتٌ مِنَ السَّماءِ يَقول: ((أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت " (لوقا 3: 22). ولقد ذكر لوقا قبل ذلك أنَّ يسوع كان أبنا منذ اللحظة الأولى من حياته كما بشّر الملاك جبرائيل لرمي العذراء "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى "(لوقا 1: 35)، وان يسوع أدرك هذا الأمر لمَّا بلغ سن الرشد. ألم يَقلْ لمريم ويوسف عندما بحثا عنه في الهيكل "أَلم تَعلَما أَنَّه يَجِبُ عَليَّ أَن أَكونَ عِندَ أَبي؟"(لوقا 2: 49). لم يتردد يسوع أن يعلن عن نفسه انه ابن الله الوحيد " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3:16)، ويؤكد يسوع هذه الهوية لليهود بقوله لهم "فكَيفَ تَقولونَ لِلَّذي قَدَّسَه الآبُ وأَرسَلَه إلى العالَم: أَنتَ تُجَدِّف، لأَنِّي قُلتُ إِنِّي ابنُ الله؟ (يوحنا 10: 36). وهو يطلب الإيمان باسم ابن الله الوحيد " مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد" (يوحنا 3: 18). لقد أشار يسوع إلى نفسه بانه " قد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء، فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ الابنَ إِلاَّ الآب، ولا مِن أَحدٍ يَعرِفُ الآبَ إِلاَ الآب" (متى 11: 27). وقد ميّز يسوع بنوّته من بنوَّة تلاميذه بقوله " أَبي وأَبيكُم، وإِلهي وإِلهِكُم" (يوحنا 20: 17). لم يتردد الناس أيضا أن يكشفوا ويؤمنوا أن يسوع ابن الله. نرى اعمى في اورشليم يتدرج إيمانه بيسوع: قال إنه الإنسان الذي يفضله على باقي البشر ثم أعلن " إِنَّهُ نَبِيّ" ثم أنه من الله "فلَو لم يَكُن هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لَما استَطاعَ أَن يَصنَعَ شَيئاً". ثم يؤمن به كابن لله ويسجد له وهذه هي الاستنارة (يوحنا 9: 1-41). اعترف بطرس الرسول في قيصرية فيلبس قائلا : "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ " (متى 16: 16)، وكان يدل على المعنى الحرفي كما يتبيّن من جواب يسوع له "طوبى لَكَ يا سِمعانَ بْنَ يونا، فلَيسَ اللَّحمُ والدَّمُ كشَفا لكَ هذا، بل أَبي الَّذي في السَّمَوات" (متى 16: 17). وإيمان بطرس الذي أعلنه سيكون منذ البدء ركيزة الإيمان الرسولي وأساسا للكنيسة. وتؤيّد حادثة التجلي اعتراف بطرس الرسول أنَّ يسوع هو المسيح ابن الله الذي تمّ إعلانه في قيصرية فيلبُس (لوقا 9: 18-21). فتكشف حادثة التجلي مجد يسوع بإعلان ألوهيته، فهو ليس مجرد نبي عظيم، بل إنه ابن الله ذاته الذي طال انتظاره. وظهر يسوع أنَّه ابن الله من خلال النور الإلهي الذي كان يحمله يسوع على هذه الأرض وقد ظل مختبأ وراء تواضع جسده، لكنه ظهر في التجلي. إذ "تَبَدَّلَ مَنظَرُ وَجهه، وثِيابه البِيضاء المتلألئة كَالبَرْق"؛ وحيث أنَّه ابن الله، فهو " شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه "(عبرانيين 1: 3). أمَّا صوت الآب "هذا هوَ ابنِيَ الَّذي اختَرتُه، فلَه اسمَعوا" (لوقا 9: 35) فيذكّرنا بنبوءة تخص ُّالمسيح وبنوته الإلهية موكِّدة ما جاء في سفر المزامير "أُعلِنُ حُكمَ الرَّبّ: قالَ لي: أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ" (مزمور 2: 7). لم يتردد يسوع في إنجيل لوقا أن يعلن أمَّام مجلس شيوخ الشعب، وبطلب من المدَّعين عليه انه ابنُ الله "فقالَ لَهم: أَنتُم تَقولونَ إنِّي هو " (لوقا 22: 70). وفكان الجواب غير مباشر. وأمَّا في إنجيل مرقس نجد جواب يسوع مباشر أمَّام محكمة المجلس اليهودي لدى سؤال عظيم الكهنة ليسوع: " فسأَلَه عظيمُ الكَهَنَةِ ثانيةً قالَ له: أَأَنتَ المسيحُ ابنُ المُبارَك؟)) فقالَ يسوع: ((أَنا هو. وسَوفَ تَرونَ ابنَ الإنسانِ جالِساً عن يَمينِ القَدير، وآتِياً في غَمامِ السَّماء"(مرقس 14: 61 – 62)، فكان جواب يسوع واضحا انه ابن الله. وينسب يسوع إلى نفسه صلاحيات إلهيه ووظائف محفوظة لله. أنه يجلس عن يمين الله فيقاسمه قدرته ويمارس الدينونة التي تشمل الكون كله. وهذه هي البشرى التي افتتح مرقس إنجيله "بَدءُ بِشارَةِ يسوعَ المسيحِ آبنِ الله" (مرقس 1: 1)؛ وأخيراً اعترف قائد المئة أمام يسوع المصلوب:" كانَ هذا الرَّجُلُ ابنَ اللهِ حَقّاً!" (مرقس 15: 39). يستطيع المؤمن أن يُعطي يسوع المسيح اسم "ابن الله" بعد السر الفصحى فقط. إذ ظهرت في قيامته بنوة يسوع الإلهية في قوة بشريته المُمجَّدة كما جاء في تعليم بولس الرسول " جُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات، أَلا وهو يسوعُ المسيحُ ربّنا " (رومة 1: 4). واعترف يوحنا الرسول بهذه البنوّة الإلهية "رأَينا مَجدَه مَجداً مِن لَدُنِ الآبِ لابنٍ وَحيد مِلؤُه النِّعمَةُ " (يوحنا 1: 14)، كذلك اعترف بولس الرسول بان يسوع "ابن الله " لدى اهتدائه على طريق دمشق:" لَمَّا حَسُنَ لدى اللهِ الَّذي أَفرَدَني، مُذ كُنتُ في بَطْنِ أُمِّي، ودَعاني بنِعمَتِه، أَن يَكشِفَ لِيَ ابنَه لأُبَشِّرَ بِه بَينَ الوَثنِيَّين" (غلاطية 1: 15-16). )،" فأَخَذَ لِوَقتِه يُنادي في المَجامِعِ بِأَنَّ يسوعَ هو ابنُ الله"(أعمال الرسل 9: 20). لنتذكّر اليوم، في عيد عُمَّاد الرب يسوع، يومَ معموديتنا؛ وأننا جميعًا مُعَمَّدون. إنها فرصة لنجدّد معموديّتنا التي تتطلّب الالتزام بشخص يسوع النبي والمسيح وابن الله وبتعاليمه ووصاياه لنحيا نحن أيضًا حياةً جديدة كأبناء الله وورثة الملكوت وأعضاء حية في الكنيسة (رومة 6: 3-4) ولنرفع الشكر من أجل هذه العطيّة. السنيَّة. الخلاصة عُمَّاد يسوع هو من الأحداث النادرة التي أوردها الإنجيليّون الأربعة. إذ يشكّل هذا العُمَّاد في كل الأناجيل نقطة الانطلاق في حياته العلنيّة. إذ يتلقى يسوع في أثناء هذا الحدث العلني، وحياً خفيا هو في مطلع تبشيره، كما كانت دعوة الأنبياء في مطلع رسالتهم: انه النبي الذي ينزل الروح القدس عليه (لوقا 4: 18) وابن الله والمسيح الذي أنبأ به العهد القديم. حيث كانت معموديته بالماء فرصة سانحة للوحي الذي يلي ذلك، وهو شهادة الآب "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضيت" (مرقس 3: 11). نرى في نصّ لوقا الإنجيلي أولاً: شهادة يوحنا المعمدان ليسوع، ثانياً: انفتاح السماء فوقه بعد صمتٍ طويل وثالثاً: نزول الروح القدس على يسوع مانحا إياه طابع الملكيّة والنبوءة والحبرية الكهنوتية، ورابعاً: صوت الآب عنه: "أنت ابني الحبيب، بك رضيت"، وهذا استشهاد من نشيد "العبد المتألم" في فصل 53 من سفر أشعيا الذي يربط عُمَّاد الرب يسوع بآلامه وموته وقيامته ويعطي لعيد عُمَّاد الرب طابع عيد القيامة. نستنتج أن عُمَّاد المسيح هي آية عظيمة فهو علامة على تنصيبه ملكا وتكريسه علنا لرسالته الجديدة التي بدأت بنزول الروح القدس عليه وبشهادة من الآب لابنه يسوع أنه النبي والمسيح وابن الله. ومن هذا المنطلق، اعتمد يسوع ليس لأنه بحاجة إلى مغفرة، أو رحمة، إنما اعتمد من اجل أن يعرفه الناس فيه المسيح الآتي والمنتظر، ويؤمنوا به، ومن اجل أن يتم أمام الناس كل برٍّ. انتهز يوحنا هذه الفرصة موضِّحا الفرق بينه وبين المسيح. فيوحنا لا يملك إلا أن يُعمد بالماء، أنه الصوت الذي يُعد الطريق فقط، أنه يحاول أن يُمهِّد القلوب لتستطيع أن تقبل معمودية يسوع التي تمنح الروح القدس فيُطهر المعمَّدين من خطاياهم ويُنقيهم كتنقية الذهب من الشوائب بالنار. ولكنه لم يملك التمييز بين النفوس الذين أمامه، أمَّا المسيح ابن الله فهو قادر أن يدين ويفصل بين النفوس التائبة والنفوس الرافضة. أعطي لنا المسيح ابن الله الروح القدس في المعمودية، وهذا الروح ليس كلمة ولا صورة، بل انه شخص حيّ يعمل فينا. فمن خلال المعمودية يدخل المعتمد إلى حياة الله التي ظهرت بيسوع المسيح، ويدخل يسوع على حياة المعتمد، فيصبح الاثنان شخصاً واحداً فتصبح القداسة في متناول أيدينا وضمن إمكانياتنا البشرية. ومن هذا المنطلق تصبح المعمودية باسم يسوع هي الدخول إلى الخلاص الذي حققّه المسيح، إذ بالمعمودية تموت طبيعتنا الخاطئة مع المسيح فنقوم معه إلى حياة جديدة. وبكلمة، بالمعمودية ندخل إلى الإسرار الفصحية: نموت ونقوم مع المسيح ونشارك في موته وقيامته (رومة 6: 1). دعاء أيها الآب السماوي، نسألك باسم ابنك يسوع، الذي اعتمد في مياه نهر الأردن، أن تُعمِّدنا بالروح القدس فنرى في يسوع النبي والمسيح وابن الله حقا فنعيش على صورته وخطاه في البر والقداسة ونصبح هياكل لسكنى للروح القدس لنكون "بِلا لَومٍ ولا شائبة وأَبناءَ اللهِ بِلا عَيبٍ في جِيلٍ ضالٍّ فاسِد نضيء ضِياءَ النَّيِّراتِ في الكَون متمَسِّكين بكلمةِ الحياة" (فيلبي 2: 15-16). آمين |
|