رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الناصرة ترفض يسوع ابن بلدها لماذا؟
الأحد الرابع من السنة: النَّاصِرة ترفض يسوع ابن بلدها. لماذا؟ (لوقا 4: 21-30) النص الإنجيلي (لوقا 4: 21-30) 21 فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: ((اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم)). 22 وكانوا يَشَهدونَ لَه بِأَجمَعِهِم، ويَعجَبونَ مِن كَلامِ النِّعمَةِ الَّذي يَخرُجُ مِن فَمِه فيَقولون: ((أَما هذا ابنُ يوسُف؟)) 23 فقالَ لَهم: ((لا شكَّ أَنَّكم تَقولونَ لي هذا المَثَل: يا طَبيبُ اشفِ نَفسَكَ. فاصنَعْ ههُنا في وَطَنِكَ كُلَّ شَيءٍ سَمِعْنا أَنَّه جَرى في كَفَرناحوم)). 24 وأَضاف: ((الحَقَّ أَقولُ لكم: ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه. 25 ((وبِحقٍّ أَقولُ لَكم: ((كانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ الأَرامِلِ في أَيَّامِ إِيليَّا، حينَ احتَبَسَتِ السَّماءُ ثَلاثَ سَنَواتٍ وسِتَّةَ أَشهُر، فأَصَابَتِ الأَرضَ كُلَّها مَجاعَةٌ شديدة، 26 ولَم يُرسَلْ إِيليَّا إلى واحِدَةٍ مِنهُنَّ، وإِنَّما أُرسِل إلى أَرمَلَةٍ في صَرْفَتِ صَيدا. 27 وكانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرْصِ على عَهدِ النَّبِيِّ أَليشاع، فلَم يَبْرأْ واحِدٌ مِنهُم، وإِنَّما بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ)). 28 فثارَ ثائِرُ جَميعِ الَّذينَ في الـمَجمَع عِندَ سَماعِهِم هذا الكَلام. 29 فَقاموا ودَفَعوه إلى خارِجِ الـمَدينة وساقوه إلى حَرْفِ الـجَبَلِ الَّذي كانَت مَدينتُهم مَبنِيَّةً علَيه لِيُلقوُه عَنه، 30 ولَكِنَّه مَرَّ مِن بَينِهم ومَضى. مقدمة يصف لوقا الإنجيلي بدء رسالة يسوع في الجليل بالتبشير في مجمع النَّاصِرة حيث رفضه أهلها، وساقوه إلى حَرْفِ الـجَبَلِ لِيُلقوُه عَنه. وهذا الرفض يُعتبر صورة سابقة للرفض الذي يقاوم به قسم من اليهود رسالة سيدنا يسوع المسيح بالخلاص. وحكاية أهل النَّاصِرة مع يسوع هي حكايتنا معه في أيامنا الحاضرة. فكثيرون لا يقبلون المسيح في أوساطهم رباً ونبياً، وكثيرون يعتبرونه فقط بشرا سويا. ويسوع يصرّح هنا انه هو النبي المنتظر، وأنَّ النبوءات عن المسيح تُكمَل به وحده وان ساعته قد حانت. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 4: 21-30) 21 فَأَخَذَ يَقولُ لَهم: اليوم تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم تشير عبارة "اليوم" إلى "آنية" الخلاص التي مراراً ما لفت لوقا الإنجيلي الانتباه إليها (لوقا 2: 11 و3: 12و 5: 26و 13: 32 و19: 9 و23: 43)، وهو يوم الخلاص الحاضر بحضور يسوع كما أعلنه النبي (لوقا 2:11). ويعلق البابا فرنسيس "هذا "اليوم" الذي أعلنه يسوع في ذاك النهار، يصلح لأي زمن؛ ويذكّرنا بآنية وضرورة الخلاص الذي أتى به يسوع للبشرية. فالله يأتي لملاقاة رجال ونساء جميع الأزمنة والأماكن، في ظروف حياتهم الملموسة التي يعيشونها"(الأحد 31 /1/ 2016). أمَّا عبارة "تَمَّت هذه الآيةُ بِمَسمَعٍ مِنكُم" فتشير إلى برنامج الربّ يسوع الذي لم يختاره هو بل قد أعدّه الآب له. إنّه قدوم عهد النعمة الذي أنبا به النبي أشعْيا "روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنى وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفقراء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين لِأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرّبّ" (أشعْيا 61: 1-2) قد تمّ اليوم به. تحققت آية أشعْيا النبي في يسوع أمام الناس وبدأت رسالته التي أعلنها على الناس وظهرت شخصيته التي كشف عنها للناس. إنها أول تبشير يسوع في مجمع النَّاصِرة، وفيه صارحهم أنه هو الذي تُشير إليه النبوَّة، لأنه هو الذي بشَّر بكلمة الخلاص للشعوب الوثنيَّة، وكانوا مساكين معدمين، لا إله لهم ولا شريعة ولا أنبياء. ويصف يسوع مجيئه بانه يوم عهد النعمة الذي أنبأ به النبي أشعْيا، وآية حياة وحرية وخلاص. ونادى يسوع بسَنة مقبولة، هي علامة مجيئه الأول، ورسالة خلاصه. وجعل يسوع من نص أشعْيا ينبوع تعليمه وعمله الخلاصي، وكل هذا بفعل الروح الذي حلّ عليه في العماد. وخلاصة العظة هي إظهار يسوع أنَّ غاية مجيئه تكميل نبوءة أشعيا (61: 1-2). ولا نستطيع أن نتصور مقدمة أفضل من هذه المُقدِّمة؛ أنه أتى لكي يكُمِّل مقاصد الله الوراد ذكرها في هذه النبوءة. ويُعلق القديس كيرلس الكبير على هذه الآية بقوله "نطق المسيح المتجسِّد بهذه الكلمات لأنه إله حق من إله حق، وتجسَّد بدون أن يتغيَّر أي تغيير، ومُسِح بدُهن الفرح والابتهاج، ونزل عليه الروح القدس على شكل حمامة. وإننا نعلم أن الملوك والكهنة مُسِحوا في الزمن القديم حتى تقدَّسوا بعض التقديس، أمَّا المسيح فتمّ دهنه بزيت التقديس الروحي، متسلِّمًا هذه المسْحة ليس من أجل نفسه، بل من أجلنا، لأنه سبق أن حُرم الناس من الروح القدس". لقد مضى على نص أشعْيا مئات السنين، واليوم بالذات يُناشدنا الرب ويستجوبنا ليختبر مدى استجابتنا لهذه الآيات. فقراءة الكتاب المقدس وسيلة أكيدة تُوحِّدنا بفكرة يسوع. فهل نحن نطبِّق كلمة الله في وقتنا الحاضر على حياتنا؟ 22 وكانوا يَشَهدونَ لَه بِأَجمَعِهِم، ويَعجَبونَ مِن كَلامِ النِّعمَةِ الَّذي يَخرُجُ مِن فَمِه فيَقولون: أَما هذا ابنُ يوسُف؟ تشير عبارة "كانوا يَشَهدونَ لَه بِأَجمَعِهِم" إلى استعداد السامعين الطيِّبة وموافقتهم وتقوى الله فيهم (أعمال الرسل 10: 22) ومحافظتهم على الشريعة (أعمال الرسل 22:10). أمَّا عبارة "يعجَبونَ" فتشير إلى تأثر سامعي يسوع الشَّديد من تعليمه الذي يختلف عن تعليم علماء الشريعة. فهؤلاء يستندون في تعليمهم على أقوال القدماء، أمَّا تعليم يسوع فيستند على الآب السماوي. وهذه الدهشة تذكرنا بكلام حرس عظماء الهيكل والفِرِّيسيِّين “ما تَكلَّمَ إِنسانٌ قَطّ مِثلَ هذا الكَلام" (يوحنا 7: 46)؛ إن التعجب من فصاحة كلام يسوع والشهادة بجودته شيءٌ وقبول دعواه شيءٌ آخر. وكثيرون اليوم مثل أهل النَّاصِرة القدماء يمدحون الواعظ ويغفلون عن المقصود بوعظِهِ. أمَّا عبارة " كَلامِ النِّعمَةِ" فتشير إلى كلمات يسوع التي تنبع من النعمة وتحمل النعمة (أعمال الرسل 14: 3)، والنعمة هي إظهار محبة الله وحنانه ورحمته للخطأة بتسليم ابنه لنا، إذ أنَّ نعمة الله تُخلصنا من الخطيئة دون أن نستحق ذلك، كما يؤكده بولس الرسول في رسالته إلى تلميذه إِلى طيموتاوُسَ قائلا "يا ابنِيَ المُخلِصِ في الإيمان. علَيكَ النِّعمَةُ والرَّحْمَةُ والسَّلامُ مِن لَدُنِ اللهِ الآب والمسيحِ يسوعَ ربِّنا."(1 طيموتاوس 1: 2). ومن هنا جاءت تسمية الإنجيل "بشارة نعمة الله" (أعمال الرسل 13: 43). وكان بولس يبدأ رسالته بنعمة الله (1 قورنتس 1: 3). وتقابل لفظة نعمة في الأصل اليوناني χάρις، في العهد الجديد اللفظة العبرية חֵן وتعني تطلّع وهو ينحني، وفي المعنى الأدبي: تنازل، تعطّف، كما ورد مع نوح الذي نالَ حُظوَةً في عَينَيِ الرَّبّ " (التكوين 6 :8). وبما أن الناس في هذه الأيام مُضَّطربون وضائعون؛ نرى أنفسنا ملزمين أن نُريهم يسوع الذي فينا ووسطنا. أمَّا عبارة "أَما هذا ابنُ يوسُف؟" فتشير إلى سؤال أهل النَّاصِرة الذي يدلُّ على شيء من الحسد للمسيح والاستخفاف وعدم الإيمان به، لأنهم اعتقدوا انه ابن يوسف، وانه فقير، ابن نجار فأنكروا دعواه. ويعلق البابا الطوباوي بيّوس التاسع " فقد تزوّج يوسف من البتول مريم العذراء التي منها، وبقوّة الرُّوح القدس، وُلِدَ الرّب يسوع المسيح الذي أرادَ اعتبار نفسه ابن يوسف أمام الجميع" (مرسوم "للمدينة وللعالم" الصادر بتاريخ 8 كانون الأوّل 1870). ومن هذا المنطلق، سعي أهل النَّاصِرة بروح الشك والغموض حول يسوع، وفي ذلك تحقَّقت فيهم نبوءة ارميا " اسمعوا هَذا أَيُّها الأَغبياء الشَّعبُ الفاقِدُ اللُّبّ الَّذي لَه عُيونٌ ولا يُبصِر ولَه آذانٌ ولا يَسمعَ"(ارميا 5: 21). ولِمَا كان يسوع هو من أبناء النَّاصِرة وعامل مثل سائر العمال، صار الناس يتساءلون من أين له هذه الحكمة؟ كيف يُمكن أن يَدّعي أنَّه المسيح، أليس هو ابن يوسف؟ كيف لهذا الّذي نشأ فيما بيننا أن يتكلّم بكلام النعمة؟ من أين له الحكمة أنّ يُتمّم آيات الأنبياء؟ وذلك أنَّ أهل النَّاصِرة يعرفون يسوع على مستوى المعيشة العائلية، انه مواطنهم ونجَّار بلدهم، ويعرفون نَسبَه وسلالته البشرية، ويعرفون أنّه كان يُفسر التوراة بأسلوب شيّق جديد ومبتكر، ويجترح العجائب، ولكنَّهم لم يتمكنوا أن يتخطوا الظواهر البشرية للوصول إلى سر طبيعته الإلهية. إذ إنهم لم يؤمنوا بيسوع بل استهانوا به، رغم ما سمعوه، بحجّة أنهم يعرفونه. ويُعلق القديس أوغسطينوس" الويل، ثم الويل، لمن يحتفظون بالصمت تجاهك، لأنهم ثرثارون وهم خاسرون! قل لي، بحق مراحمك، قل لي، من أنت أيها الرب إلهي؟ من أنت لي؟ قل لنفسي:" أنا خلاصك". أمَّا عبارة " يوسُف " في الأصل اليوناني Ἰωσὴφ مشتقة من الاسم العبري יוֹסֵף (معناه يزيد)، فتشير إلى زوج مريم العذراء أم يسوع (لوقا 3: 23)، وهو من بيت داود من بيت لحم (متى 1: 20). هاجر إلى النَّاصِرة (لو 2: 4)، ومارس فيها مهنة النجارة (متى 13: 55). وكان يوسف عبرانياً باراً محافظاً على الفروض والطقوس اليهودية (لوقا 2: 21 -24)، وعلى الأعياد اليهودية (لوقا 2: 41). وبما أنَّ الإنجيل لا يذكر يوسف بل مريم فقط عند بدء رسالته العلنية بين الناس، وذلك على الأغلب دليل أن يوسف مات قبل أن يشرع يسوع في خدمته العلنية. وإضافةً إلى ذلك، أوصى يسوع يوحنا الحبيب بمريم أمِّه قبل موته على الصليب. فلو كان يوسف حياً في ذلك الحين، لما كان من داعٍ لمثل هذه التوصية (يوحنا 19: 25-27). 23 فقالَ لَهم: لا شكَّ أَنَّكم تَقولونَ لي هذا المَثَل: يا طَبيبُ اشفِ نَفسَكَ. فاصنَعْ ههُنا في وَطَنِكَ كُلَّ شَيءٍ سَمِعْنا أَنَّه جَرى في كَفَرناحوم تشير عبارة "لا شكَّ أَنَّكم تَقولونَ" في الأصل اليوناني Πάντως ἐρεῖτέ μοι (معناها بالتأكيد ستقولن لي) إلى إظهار يسوع الذي يعرف أفكار الحاضرين، وذلك بإجابته عنهم قبل أن يُظهروها بالكلام. أمَّا عبارة "يا طَبيبُ اشفِ نَفسَكَ" فتشير إلى مَثل مألوف لدى اليهود وكان يُطلق على جماعة الأطبَّاء والحُكماء، حيث انه إذا أُصيب طبيبٌ بالمرض قالوا له: "يا طَبيبُ اشفِ نَفسَكَ"، أي عالج مرضك قبل أن تدَّعي شفاء غيرك. حين يطبّق يسوع هذا المثل على أهل الناصرة فهو يعبّر في نظرهم عمّا هو ضروري لكي يتعرّفوا إلى يسوع: كما أنّ على الطبيب أن يستطيع تأمين الشفاء لنفسه ليحوز على ثقة زبائنه المقبلين وتقديرهم، فعلى يسوع أيضًا أن يبرهن على سلطانه الخلاصيّ أمام أهل بلده قبل أن يحاول أن يقنعهم. وبمعنى آخر، الطبيب الذي يدَّعي قدرته على شفاء المرضى، لا يستطيع شفاء غيره، بينما هو نفسه يُعاني من المرض. فأوضح المسيح لليهود أنهم يطلبون إليه أن يجري أمامهم مختلف المعجزات، خصوصًا وأن بلدته التي تربَّى فيها أحَق من غيرها بهذه القوَّات والعجائب وذلك لكي يُثبت لهم انه نبيَّاً. أمَّا عبارة "فاصنَعْ ههُنا في وَطَنِكَ كُلَّ شَيءٍ سَمِعْنا أَنَّه جَرى في كَفَرناحوم" فتشير إلى مطالبة سكان النَّاصِرة يسوع أن يُجري معجزات كما صنع في كفرناحوم، مع أن لوقا لم يُعلمنا حتى الآن عن عمل قام به يسوع في كفرناحوم سوى "انتَشَرَ خَبَرُه في النَّاحِيَةِ كُلِّها" (لوقا 4: 14). فسُكان النَّاصِرة يحتاجون إلى آية، إلى الخوارق والمعجزات لكي يصدِّقوه، ويؤمنوا به فوضعوا أنفسهم في ذات مستوى شيطان التجربة (لوقا 4: 9). لذلك لم يصنع يسوع آيات في وسطهم، لأنَّهم لا يستحقون، إذ لم يقبلوه ولم يؤمنوا به أنَّه الآتي لأجل خلاص النفوس. لو صنع يسوع المعجزات لأهل النَّاصِرة وقتئذٍ لَمَا اقتنعوا كما كان الأمر في سائر الأنبياء. إذ أنَّ المعجزة الوحيدة هي يسوع ذاته، كلمته، معجزة حياته، وشهادة موته. أما عبارة "وَطَنِكَ" فتشير إلى النَّاصِرة، وطن يسوع حيث عاش يسوع صبيا وشابا وتربّى فيها، لكنه وُلد في بيت لحم. أمَّا عبارة "كَفَرناحوم" في الأصل اليوناني Καφαρναοὺμ مشتقة من الاسم العبري כְפַר־נַחוּם (معناه قرية ناحوم) فتشير إلى قرية واقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبرية في أرض زبولون ونفتالي (متى 4: 13-16). وكانت مركزاً للجباية (مرقس 2: 1). وكان فيها مركزٌ عسكريٌ روماني (لوقا 7: 1 10). انتقل يسوع إليها من مدينة النَّاصِرة في وقتٍ مبكر من خدمته جاعلاً منها مركزاً له حتى أنها دعيت "مَدينته" (متى 9: 1)، وفيها شفى غلام قائد المئة (لوقا 7: 1-10) وحماة بطرس المحمومة (متى 8: 14-17) ورجل فيه روح نجس (لوقا 4: 31-37) والمفلوج الذي كان يحمله أربعة (مرقس 2: 1-13) وابن خادم الملك (يوحنا 4: 46-54) وغيرهم كثيرين من مرضى بأمراض مختلفة (لوقا 4: 23). وفيها نطق بخطاب "خبز الحياة" (يوحنا 6: 24-71). وفيها أيضاً دعا يسوع متى (لاوي) إلى الخدمة الإنجيلية، وكان هذا جالساً هناك عند مكان الجباية (متى 9: 9-13). ومع كل خدمة يسوع هذه ومعجزاته وتعاليمه فيها لم يؤمن سكانها، ولهذا تنبأ يسوع بخرابها الكامل " وأَنتِ يا كَفَرناحوم، أَتُراكِ تُرفَعينَ إِلى السَّماء؟ سَيُهبَطُ بِكِ إلى مَثْوى الأَمْوات"(لوقا 10: 15). هل نحن مثل سُكان النَّاصِرة نطالب بامتيازات بحجة مواطنتنا وجوارنا ليسوع فقط؟ 24 وأَضاف: الحَقَّ أَقولُ لكم: ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه تشير عبارة "ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه" إلى جواب يسوع على مثل بمثل، أي مثل"يا طَبيبُ اشفِ نَفسَكَ" بمثل "ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه".وتكلم يسوع ثلاث مرات بهذا المثل: هنا أول مرة ثم في زيارته الثانية إلى النَّاصِرة (متى 13: 57) والمرة الثالثة في الجليل (يوحنا4: 44). والمُراد بهذا المثل أنّ يسوع قَبِل على نفسه ما وقع على سائر الأنبياء، وهو أن لا إكرام له في وطنه. في الواقع، لم يقبل أهل النَّاصِرة يسوع ولم يرحِّبوا به كنبي في وطنه بل نبذوه (متى 13: 57). وأفهم يسوع أهل النَّاصِرة بهذا المثل أن المألوف منبوذ، بدليل أنه بعد سماعهم كلمات الحكمة والنعمة التي نطق بها احتقروه بقولهم: أليس هذا ابن يوسف؟ وقد حدث مثل ذلك في عَناتوت، وطن إرميا / إذ لم يُحسن سُكانها استقبال إرميا النبي بل نبذوه (إرميا 11: 21)؛ وأيضًا أشعيا وبقيَّة الأنبياء رفضهم أهل وطنهم اليهود. وبكلمة أخرى، تبُيّن هذه الآية أنَّ أهل النَّاصِرة استقبلوا يسوع استقبالا سيئاً على مثال الشعب اليهودي الذي سيحكم على يسوع في اورشليم. فقد رفض أهل النَّاصِرة يسوع بالرغم من انه ابن بلدهم، لأنهم ظنُّوا أنَّهم يستطيعون معرفته دون أن يؤمنوا به (متى 5: 29). فساورهم بسبب ذلك شك وعثار. ونحن نسلك سلوكاً مُشابهاً، إذ نعتبر الخبير بالنسبة لنا ذلك الشخص الّذي يأتي إلينا من بلاد بعيدة، وليس ابن مدينتنا الذي نعرف أهله ونَسبه. نحن نفضل الغريب على القريب، لان الغريب مُبهر وليس اعتيادي في حين القريب هو يحمل ثقافتنا وتفكيرنا. أمَّا عبارة "وطن" في الأصل اليوناني πατρίς فتشير إلى إمَّا إلى أرض الآباء في مجملها (يوحنا 4: 44)، وإمَّا إلى مسقط الرأس، وإمَّا إلى المدينة أو القرية التي تُقيم فيها العائلة، وهذا هو المعنى هنا. 25 وبِحقٍّ أَقولُ لَكم: كانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ الأَرامِلِ في أَيَّامِ إِيليَّا، حينَ احتَبَسَتِ السَّماءُ ثَلاثَ سَنَواتٍ وسِتَّةَ أَشهُر، فأَصَابَتِ الأَرضَ كُلَّها مَجاعَةٌ شديدة تشير عبارة "كانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ الأَرامِلِ في أَيَّامِ إِيليَّا، حينَ احتَبَسَتِ السَّماءُ ثَلاثَ سَنَواتٍ وسِتَّةَ أَشهُر، فأَصَابَتِ الأَرضَ كُلَّها مَجاعَةٌ شديدة" إلى معجزة الدقيق والزيت في صرفت لبنان (1ملوك 18: 1). أمَّا عبارة "في أَيَّامِ إِيليَّا حينَ احتَبَسَتِ السَّماءُ ثَلاثَ سَنَواتٍ وسِتَّةَ أَشهُر " فتشير إلى قصة إِيليَّا حيث يدور الكلام على ثلاث سنوات قحط (1ملوك 18: 1). أمَّا هنا في الإنجيل فالمحنة تدوم ثَلاثَ سَنَواتٍوسِتَّةَ أَشهُر إضافية كما يؤكد ذلك يعقوب الرسول "كانَ إِيليَّا بَشرًا مِثلَنا فصلَّى طالِبًا بإِلحاٍح أَلاَّ يَنزِلَ المَطَر، فلَم يَنزِلْ على الأَرضِ ثَلاثَ سَنواتٍ وسِتَّةَ أَشهُر " (يعقوب 5: 17). ومع أنّ المطر استمرّ نحو ثلاث سنوات، لكن الجوع حتماً استمرّ ستة أشهر بعد زوال المطر، حتّى ينضج الزرع. في هذه الإضافة، دلالة على المحنة المسيحانية كما وردت في نبوءة سفر دانيال "يَتَكَلَّمُ بِأَقْوالٍ ضِدَّ العَلِيّ ويَبتَلِي قِدِّيسي العَلِيّ وَينْوي أَن يُغَيِّرَ الأَزمِنَةَ والشَّريعَة وسيُسلَمونَ إلى يَدِه إلى زَمانٍ وزمانَينِ ونِصفِ زَمان" (7: 25). ويتساءل القديس أمبروسيوس " إِنِّي آتي مُنذُ ثَلاثِ سَنَواتٍ إلى التِّينَةِ هذه أَطُلبُ ثَمَراً علَيها فلا أَجِد " (لوقا 13: 7). أمَّا عبارة "إِيليَّا" في الأصل اليوناني Ηλίας مشتقة من الاسم العبري אֵלִיָּהוּ وفي العربية اليأس (معناه إلهي الله) فتشير إلى نبي عظيم عاش في المملكة الشمالية. وُلد في تِشبَةَ جِلْعادَ (1 ملوك 17: 1) ويلاحظ من النسخة السبعينية ومن تاريخ يوسيفوس أن تشبه واقعة في شرقي الأُردُنّ في جلعاد. وهي القرية التي ولد فيها إِيليَّا المعروف التِّشبِيُّ. وكان عادة يلبس ثوباً من الشعر (مسوحاً) و"على حَقوَيه إِزارٌ مِن جِلْد" (2 ملوك 1: 8) وكان يقضي الكثير من وقته في البَّريَّة (1 ملوك: 17: 5). فقد تنبأ إِيليَّا بأن الله سيمنع المطر عن بني إسرائيل. واعتزل النبي عند نهر كريت وكانت الغِربان في النص العبري הָעֹרְבִים (ويمكن ترجمتها العُربان) تعوله وتأتي إليه بالطعام، وبعد أن جفّ النهر ذهب إلى صرفت وبقي في بيت امرأة أرملة، ووفقاً لوعد النبي إِيليَّا لها: لم يفرغ من بيتها الدقيق والزيت طوال مدة الجفاف. ولمَّا مات ابن الأرملة صلى إِيليَّا فأعاد الله الحياة إلى الصبي (1 ملوك 17: 17-24). ثم بعث الله إِيليَّا ليمسح اليشاع نبياً ليخلفه (1 ملوك 19). النبي إِيليَّا الذي شفع للشعب بصلاته كان شخصا شعبيا في التقليد اليهودي (ملاخي 3: 23). وفي نهاية أيامه ذهب إلى الأُردُنّ مع اليشاع وضرب إِيليَّا مياه نهر الأُردُنّ بردائه فانشق الماء وسار النبيان على اليابسة، ثم جاءت مركبة وفرسان نارية وحملت إِيليَّا إلى السماء وترك ردائه لأليشاع (2 ملوك 2: 1 -18). أما في العهد الجديد فقد وعد الملاك أن يوحنا المعمدان سيتقدم المسيح برؤيا إِيليَّا وقوته (لوقا 1: 17) وفي هذا المعنى قال المسيح أن إِيليَّا قد جاء في شخص يوحنا المعمدان (متى 11: 14)، وقد ظهر إِيليَّا وموسى مع يسوع عند التجلي (لوقا 9: 28 -36)، ويذكر يعقوب وصلاة إِيليَّا لأجل امتناع المطر وصلاته لأجل نزول المطر كمثال لقوة صلاة البار (يعقوب 5: 17 -18). أمَّا عبارة " مَجاعَةٌ " في الأصل اليوناني λιμὸς وفي العبرية רָעָב فتشير إلى غياب المطر الضروريّ لغلّة صالحة، وأمَّا في مفهوم الكتاب المقدس فتدل على عقاب من السماء كما جاء في المزمور "دَعا بِالجوعِ على الأرض وقَطعَ سَنَدَ الخُبزِ كلَه" (مزمور 105 :16). لا تزال نداءات الله تقرع دوما باب حياتنا اليومية داعية التبرع ومدَّ يد الإحسان إلى الأرامل ولسد المجاعات الكثيرة. 26 ولَم يُرسَلْ إِيليَّا إلى واحِدَةٍ مِنهُنَّ، وإِنَّما أُرسِل إلى أَرمَلَةٍ في صَرْفَتِ صَيدا. تشير عبارة " أُرسِل إلى أَرمَلَةٍ في صَرْفَتِ صَيدا" إلى إعلان يسوع صداقته على مستوى البشريَّة كلها، لدى مقاومة أهل بلدته له حيث أنَّ هناكمقارنة بين القرى اليهودية وسكان القرى الوثنية حيث نعمة الله وخيراته تتدفّق عليهم. ويرى القديس أمبروسيوس " الأرملة التي أُرسل إليها إِيليَّا كانت رمزًا للكنيسة، التي جاء شعبها وقد جُمع من الأمم." أعطنا يا رب أن نضع مثل هذه الأرملة كل شيء في يدك، لا بل نهب مثلها كل شيء من أجل مجدك". أمَّا عبارة " صَرْفَتِ صَيدا" فتشير إلى مدينة فينيقية من أعمال صيدون كما ورد في الكتاب المقدس "قُمْ وآمض إلى صَرفَتَ الَّتي لصَيدون، واقِمْ هُناكَ، فقَد أمرتُ هُناكَ أمراةً أرمَلةً أن تُطعِمَكَ " (1 ملوك 17: 9). وكانت مدينة كنعانية واقعة بين صور وصيدا ونُسبت إلى صيدا لقرْبها منها. وقد بُنيت أولا على شواطئ وتمتد خرائبها كيلومتر ونصف. لكن منذ القرن الحادي عشر نقلها أهلها إلى تلة قرب البحر على بعد 23كم إلى شمالي صور و13كم إلى جنوبي صيدا خوفا من لصوص البحر. ولم تزل آثار المدينة القديمة على الشاطئ. أقام فيها إِيليَّا لما نضب نهر كريت وكانت قد استقبلته أرملة فيها ما طالت المجاعة إذ وثقت في كلمته التي نطق بها باسم الرب. وثواباً لإيمانها لم يفرغ الدقيق ولم ينقص الزيت من عندها من عندها وأعاد النبي لولدها الحياة (1 ملوك 17: 8-24)، ويُعلق القديس أمبروسيوس "أرملة صرفت صيدا تعطي نبيّ الربّ أولويّة أكثر من حياتها. في الحقيقة، هي لم تقدِّم القليل من الطعام فقط، ولكن قدَّمت رزقها كلّه؛ هي لم تترك لنفسها شيئًا. وكما أنّ ضيافتها أوصلتها إلى عطاء كامل، كذلك إيمانها أوصلها إلى ثقة تامّة". 27 وكانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرْصِ على عَهدِ النَّبِيِّ أَليشاع، فلَم يَبْرأْ واحِدٌ مِنهُم، وإِنَّما بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ تشير عبارة "إِسرائيل" في الأصل اليوناني Ἰσραὴλ المشتقَّة من الاسم العبري יִשְׂרָאֵל (معناها يجاهد مع الله أو لله يصارع) إلى يعقوب الذي صارعه الملاك حتى مطلع الفجر في فنوئيل في مخاضة يبوق (التكوين 32: 28) ثم إلى نسله (عدد 23: 7) وإلى كل الاثني عشر سبطاً كأمة واستمر كذلك من وقت افتتاح أرض كنعان على يد يشوع إلى موت سليمان الملك، وإلى شعب إسرائيل (عزرا 10: 5). أمَّا عبارة " البُرْصِ" فتشيرإلى مرض جلدي عضال يؤثر في الأعضاء التي يُصيبها، حيث تتساقط عقد الأصابع والأنف وسقف الحلق الخ. وقد يعيش به المريض طويلاً. وكثيراً ما يبدأ كنتوء (ورم) أو بياض كالقوباء. (الأحبار 13: 2 و3 و7 و8). وكان يُحكم على الأبرص أنه نجس، ويجب أن ينعزل عن الناس. وكان البرص داءً مكروهاً جداً عند اليهود ويعتبرونه قصاصا لهم من الله. أمَّا عبارة "النَّبِيِّ أَليشاع" في الأصل اليوناني Ἐλισαίου المشتقة من الاسم العبري אֱלִישָׁע (معناه الله خلاص) فتشير إلى أليشاع ابن شافاط من سبط يَسَّاكَر، وهو خليفة إِيليَّا في العمل النبوي في المملكة الشمالية. وقد أقام في آبل محولة في وادي الأُردُنّ. وجده إِيليَّا يحرث فدعاه للعمل النبوي، إذ طرح رداءه عليه (1 ملوك 19: 6)، ولقد أبرأ اليشاع المياه في نبعٍ عند أريحا بوضع ملح فيه (2 ملوك 2: 19-22). أمَّا عبارة "فلَم يَبْرأْ واحِدٌ مِنهُم" فتشير إلى عدم إشفاء النبي إخوته ولا مواطنيه ولا خاصته بل الشعب الغريب، الذي بلا ناموس ولا يدين بديانته (1 ملوك 17)؛ أفلا يدلُّ ذلك على أن الشفاء يتوقَّف على الإرادة وليس على جنس الإنسان وقوميته، وإن البركات الإلهيَّة يُنعم بها الإنسان حسب اشتياق قلبه الأقدس. أمَّا عبارة "بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ" إلى شفاء نعمان السوري بتوصية اليشاع أن يغتسل في الأُردُنّ فيبرأ من برصه (2 ملوك 5: 1-19). ويُعلق القدّيس الشماس أفرام السريانيّ "ليس مياه نهر الأردن هي الّتي طهّرت نُعمانُ السُّوريّ بل إنّ وصيّة الله هي الّتي أتمّت كلّ شيء" (شرح "الدِياطِسَّرون"). وأمَّا عبارة "نُعمانُ السُّوريّ" اسم سامي נַעֲמָן (معناه نعيم) فتشير إلى قائِد لِجيش بَنهَدد الثّاني مَلكِ أرام في دمشق في أواسط سورية الذي أصيب بمرض البرص وأخذ يبحث عن علاج. فذهب نعمان إلى اليشاع. ولكن اليشاع لم يقابله، واكتفى بان أرسل إليه رسولاً حمل له رأي النبي وهو أنَّ على نعمان أن يذهب إلى نهر الأُردُنّ ويغتسل في مياهه سبع مرات، ولما عمل نعمان السوري بأمر اليشاع النبي أُبرئ في الحال من برصه وآمن بالله (2 ملوك 5: 1-14). وكما رفض شعب إسرائيل مرسلي الله (إِيليَّا وأليشاع) فذهب كل منهما إلى الوثنيين، هكذا كان الأمر مع يسوع، في حالة رفضه من قبل اليهود توجّه إلى الوثنيين (لوقا 10: 13-15). ومن هذا المنطلق، نستنتج أنَّ عدم الإيمان يُبطل إلى حد ما قدرة يسوع على صنع المعجزات (متى 14: 2). والواقع لم يستطع يسوع إجراء المعجزات لعدم إيمان الحاضرين (مرقس 6: 5)، وليس معنى ذلك أنَّ هناك علاقة نفسية، كما لو كانت ثقة المريض شرطا لنجاح علاجه، لكن إن لم يكن هناك إيمان، خلت المعجزة من كل معنى، ولا يجوز أن يُقال أنَّ هناك معجزة. وفي الواقع، مراراً ما يَطلب يسوع الإيمان قبل أن يشفي (مرقس 2: 5) أو يربط بعد المعجزة بين شفاء المريض وإيمانه (مرقس 5: 34 و10: 52). أشار يسوع أن موقفه هذا تكرَّر من قبل مع إِيليَّا وأليشاع إذ تمتع الأمم بمعجزاتهم وليس أبناء وطنهم الذين لا يستحقون. كما أهمل إِيليَّا وأليشاع اليهود وصنعا معجزات بين الأمم لانهما وجدا الأمم أحق فيها من اليهود كذلك أهمل يسوع أهل النَّاصِرة وصنع المعجزات بين الغرباء. وهنا نفهم أسلوب الله، أن الله يمنع نعمه وبركاته عمن لا يستحقها. ومن هذه الآية نستنتج أنَّ خيرات الله لم تكن يوما وقفا على الشعب المختار، إنما جاء المسيح من اجل جميع الشعوب، وأن الوثنيين هم أقرب الخلاص من اليهود الذين يَدَّعون بأنهم مؤمنون. فالمسيح هو نهاية التعصب العرقي، لأنه جاء لفداء لخلاص الجميع بغض النظر عن العرق والجنس. 28 فثارَ ثائِرُ جَميعِ الَّذينَ في الـمَجمَع عِندَ سَماعِهِم هذا الكَلام تشير عبارة "ثارَ ثائِرُ جَميعِ الَّذينَ في الـمَجمَع" إلى ردة فعل أهل النَّاصِرة الذين انتقلوا من الإعجاب إلى عدم الفهم والعنف. وهذا الأمر يُثبت أنَّهم لم يكونوا مستعدين لاستقبال عطايا الله من ناحية، ويؤكد الرفض أيضا أنَّ النعمة هي للجميع ولا تُكرِه أحداً من ناحية أخرى. وهذا الأمر أغضب أهل النَّاصِرة كثيرا، لأنَّ يسوع حكم على موقفهم، واتهمهم بعدم الإيمان مثلهم مثل أهل مملكة إسرائيل الشمالية في أيام إِيليَّا وأليشاع وأثنى على موقف الأمم، لأنهم أكثر اهتماما بالله من اليهود. فقد فضَّل عليهم أهل كفرناحوم وهم من الأميّين غير اليهود. وفي الواقع لا أحد يريد أن يسمع حقيقة نفسه ويكره من يظهر له حقيقة خطاياه (رؤية 10:11). ويُعلق القديس أوغسطينوس "أصحيح أن بغضي لك شر كبير؟ وحسرتاه! قل لي من أنت أيها الرب إلهي؟ قل لنفسي:" أنا خلاصك". أمَّا عبارة "فثارَ ثائِرُ" في الأصل اليوناني καὶ ἐπλήσθησαν πάντες θυμοῦ (معناها مُلئوا الجميع غضبا) فتشير إلى غضب اليهود بسبب مقابلته إيَّاهم بغير المؤمنين الذين عبدوا البعل في أيام إِيليَّا وإظهاره عدم قبوله بصنع معجزة عندهم، لأنهم لا يستحقون ذلك. وفضَّل يسوع إعلان نعمته للأمم على إعلان نعمته لهم. أمَّا عبارة "الـمَجمَع" فتشير إلى مكان اجتماع اليهود لقراءة الكتب المقدسة والصلاة والتعليم. وفي المجمع علّم يسوع ومثله فعل بولس الرسول (أعمال الرسل :13: 15). 29 فَقاموا ودَفَعوه إلى خارِجِ الـمَدينة وساقوه إلى حَرْفِ الـجَبَلِ الَّذي كانَت مَدينتُهم مَبنِيَّةً علَيه لِيُلقوُه عَنه تشير عبارة "فَقاموا ودَفَعوه إلى خارِجِ الـمَدينة" إلى خطيئة اليهود التي سبق وتنبَّأ عنها النبي. فكان الرب يبسط مراحمه على الجموع، وكانوا هم يَكيلون له اللعنات. فليس عجيبًا أن يفقدوا الخلاص بسبب طردهم يسوع من المجمع" بحسب قول القديس أمبروسيوس. أمَّا عبارة "حَرْفِ الـجَبَلِ" فتشير إلى النَّاصِرة التي كانت مَبنية على سفح أكمه ويحيط بتلك الأكمة جبال اعلى منها؛ وهناك تقليد يشير إلى المكان بالقرب من الكنيسة المارونية الواقعة في البلدة القديمة قرب كنيسة البشارة في النَّاصِرة. وهناك تقليد من العهد الصليبي يُحدِّد "حَرْفِ الـجَبَلِ" بجبل القفزة. أمَّا عبارة "لِيُلقوُه عَنه" فتشير إلى تنفيذ عقوبة الرَجم عند اليهود حيث كانوا يُلقون المُتهم من فوق صخرة عالية، وكان من يلقيه هو الشاهد الأول. وإنْ لم يمتْ يُلقى الشاهد الثاني على قلبه حجرا ثقيلا. وإن لم يمت يقوم باقي الجماعة بإلقاء الحجارة عليه. وكان مثل هذه من عادات الرومانيين في إهلاك الناس. وكان اليهود يفعلون كذلك أحيانا، فمثلا أَمَصْيا، ملك اورشليم، قتل عشرة آلاف من الادوميين كما جاء في الكتاب المقدس "أَمَّا أَمَصْيا فتَشَدَّدَ وخَرَجَ بِشَعبِه ومَضى إِلى وادي المِلْح، وضَرَبَ مِن بَني سِعيرَ عَشرَةَ آلاف" (2 أخبار 25: 11). هذه خاتمة مؤسفة للّذين بدأوا يشهدون و "يتعجّبون". فمعاملة أهل النَّاصِرة ليسوع هي دليل ما قاله يوحنا الرسول في مقدمة إنجيله " جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه"(يوحنا 1: 11) ويُعلق البابا بندكتس السادس عشر "كان الأشخاص في البدء راضين عن يسوع! لكن يسوع لم يأت ليحظى على إجماع لدى البشر بل جاء ليشهد للحق (يوحنا 18، 37). النبي الحقيقي لا يُطيع الآخرين، إنَّما يُطيع الله وحسب، ويضع نفسه في خدمة الحق مستعداً أن يتحمل ثمن مواقفه" (عظة البابا 4/2/2013). 30 ولَكِنَّه مَرَّ مِن بَينِهم ومَضى تشير عبارة "مَرَّ مِن بَينِهم ومَضى" إلىقوة شخصية يسوع الذي جاز في وسطهم بقوَّة لاهوته، لانَّ ساعته لم تكن قد أتت بعد (يوحنا 7: 30)؛ وساعته هي في اورشليم كما صرّح جليا: "يَجِبُ عَلَيَّ أَن أَسيرَ اليَومَ وغَداً واليومَ الَّذي بَعدَهما لِأَنَّه لا يَنبَغي لِنَبِيٍّ أَن يَهلِكَ في خارِجِ أُورَشَليم" (لوقا 13: 33). وقد ظهرت قوة شخصية يسوع في مثل هذه الحالة عندما جاء حَرَسِ الهَيكَلِ والحَرَسِ الَّذينَ أَرسَلَهم عُظماءُ الكَهَنَةِ والفِرِّيسِيُّون ليلقوا القبض عليه في بستان الجسمانية " فلَمَّا قالَ لهم: أَنا هو، رَجَعوا إِلى الوَراءِ ووَقَعوا إِلى الأَرض" (يوحنا 18: 6). ويُعلّق القديس كيرلس الكبير على هذه الآية بقوله "المسيح في وسطهم ومضى إلى سبيله، ليس خوفًا من الألم، وإنما لأن ساعته لم تكن قد أتت بعد. كان المسيح في بدء عمله التبشيري، ولا يُعقل أن يترك ميدان العمل قبل نشر كلمة الخلاص والحق". ثانياً: تطبيقات نص الإنجيلي (لوقا 4: 21-30) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله نستنتج انه يتمحور حول رفض أهل النَّاصِرة ليسوع ابن بلدهم. وهنا نتساءل لماذا هذا الرفض، وهي ما عواقبه؟ وأين هو مكان الجبل الذي أراد أهل النَّاصِرة أن يطرحوا يسوع عنه؟ 1) لماذا رفض أهل النَّاصِرة يسوع؟ يَروي إنجيل لوقا أن يسوع بدأ رسالته في الجليل بمدينة النَّاصِرة بلدته الأصليَّة، وانتهت بحادثة التجلي في جبل طابور في الجليل. وعندما وصل يسوع إلى النَّاصِرة التي كان قد نشأ فيها، شرع في التعليم في المجمع بالقوة التي تلقاها عند عماده عن نص من سفر أشعْيا النبي " روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنى وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفُقَراء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين لِأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرّبّ وَيومَ آنتِقام لِإِلهِنا وأُعَزِّيَ جَميعَ النَّائحين"(أشعيا 61: 1-2). وطبّق يسوع النبوءة على نفسه، وشهد أهل النَّاصِرة لرسالته الفائضة بالنعمة وتفوّقه بكل ما سمعوه منه بأنفسهم في مجمعهم، وما سمعوه أنه صنع في كفرناحوم من معجزات كثيرة في المرضى والموتى والذين بهم مسّ من الشيطان، ومن تحويل الماء إلى خمرٍ في قانا الجليل. وبالرغم من كل ذلك رفضوه بسبب الحسد وعدم إيمانهم. ا) الرفض بسبب الحسد إن حسد أهل النَّاصِرة ليسوع نابع من أنه مواطنٌ متفوقٌ عليهم في شخصيته وفي رسالته العالمية. والحسد ينبع من انعدام الثقة، لا بالآخرين بل بالذات. الحسد هو النظرة الحقود إلى ما لدى الآخرين، هي نظرة عدم الرضى، والشعور الخبيث تُجاه الآخرين، والحسد يولد البغضاء، لأنَّه لا يمتلك ما يمتلكه الآخر، ويتمنى أن يتحول إليه ما لديه من نعمة أو أن يُسلبها. ويعلق أحد الفلاسفة "ما يثير في الناس الحسد ما لا يستطيعون هم أنفسهم أن يتمتعوا به". وتُعبَّر عن الحسد في العهد الجديد بالكلمة اليونانية φθόνος (متى 27: 18) وقد كان "الحسد" هو الذي دفع الكهنة ورؤساء الشعب لتسليم يسوع للصلب (متى 18:27)، والحسد يُدرج بين أشنع الخطايا "الزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة"(مرقس 22:7) ويُحذِّر الروح القدس المؤمنين من الحسد "الحَسَدُ والسُّكْرُ والقَصْفُ وما أَشبَه. وأُنبِّهُكم، كما نَبَّهتُكم مِن قَبْلُ، على أَنَّ الَّذينَ يَعمَلونَ مِثلَ هذِه الأَعمال لا يَرِثونَ مَلَكوتَ الله"(غلاطية 21:5). رفض أهل النَّاصِرة يسوع وقاوموه لحسدهم، لمجرد أنه من بلدهم، ومن أقربائهم وأهل بيتهم. فانطبق عليهم المثل "ما مِن نَبِيٍّ يُقبَلُ في وَطنِه ". وقد عبّر أهل النَّاصِرة عن رفضهم بتصريحهم المُدهش " أَما هذا ابنُ يوسُف؟ كان يسوع واحدا من أبناء مدينتهم ونشأ بينهم فكيف تظهر عليه مثل هذه النعمة ويقوم بمثل هذا التعليم؟ كيف يكون "ابن يوسف" هذا الذي يعرفونه جيداً، على هذا المستوى الرفيع من القول والعمل والحكمة؛ إنَّه ليس أفضل منهم، بل هو واحد منهم. لقد رفضوه لأنه كان واحداً نظيرهم، وأكثر من ذلك، كان يُغيظهم أنَّ آخرين يتأثرون فيه ويتبعونه. ظنوا أنهم يعرفونه ويعرفوا يوسف أبوه الذي كان يعمل نجاراً (مرقس 6:3)، لكنهم تناسوا من هو يوسف، مع انه من نسل داود، وتناسوا من هو يسوع الذي يجري كل المعجزات، وتوقَّفوا عند الوجه البشري ليسوع، وما استطاعوا أن يتجاوزوه ليروا فيه حامل كلمة الله بل هو" كلمة الله". فكرتهم المُسبقة، جعلت من المستحيل عليهم أن يقبلوا رسالته. فالمطلوب منا ألاَّ ندع الآراء المُسبقة تُعمينا عن الحق، بل أن نجتهد أن نرى يسوع على حقيقته. لم يرفض أهل النَّاصِرة يسوع فحسب، إنما غضبوا منه أيضا، لأنَّهم لم يفهموا أن يسوع، أحد أبناء قريتهم تكون له رسالة من السماء، وان رسالته العالمية مُقدّمة ليس فقط لليهود بل للوثنيين أيضا. وثارت ثائرة الحسد فيهم خاصة حين ذكر يسوع الحالات التي أظهر الله فيها إحسانه للأمم غير اليهودية، فامتلأوا غضبا وحاولوا التخلص منه، لانَّ يسوع يقول أنَّ الأمم أي الشعوب الوثنية غير اليهودية يهتمون بأخبار الله السارة أكثر من اليهود، وانَّ خيرات الله لم تكن يوما وَقفاً على الشعب اليهودي، بل من أجل جميع شعوب الأرض. ب) الرفض بسبب عدم إيمان يركز لوقا الإنجيلي على رفض أهل النَّاصِرة ليسوع الناصري وعدم الترحيب به ليس فقط لحسدهم بل أيضا لعدم إيمانهم، رغم ما سمعوه، بحجّة أنهم "يعرفونه". إذ رفضوا العلاقة التي يريد الله أن يُقيمها مع الإنسان من خلال يسوع المسيح، ابن بلدهم. وعبّروا عن هذا الرفض بالشك في حضوره الإلهي الفعاَّل في مجرى التاريخ حيث أخذوا يتساءلون "أمَّا هذا ابنُ يوسُف؟". وبالرغم من أنَّ يسوع كان يُعلم بكل حكمة وسلطة، لكن أهل النَّاصِرة لم يروا فيه سوى "ابن يوسف". عرفوا نسبه وسلالته البشرية، وعرفوا أهله وعلموا انه طاف في الجليل معلماً يفسّر التوراة بأسلوب جديد، ومبتكراً يختلف عن أسلوب الكتبة وصانع المعجزات. كانوا يعرفونه معرفة بشرية، ولكنهم لم يتخطوا هذه الظاهرة البشرية ليعرفوا حق المعرفة أنَّه ابن الله وانّه المسيح لخلاص البشري جمعاء. لم يستطع أهل النَّاصِرة إدراك حقيقة شخص يسوع. إن فكرة المسيح المنتظر السياسي تغلّبت على حقيقة الشخص الواقف أمامهم الذي هو المسيح المنتظر الوديع والمتواضع القلب الذي جاء يخلص الإنسان من خطيئته وضعفه البشري لمنحه السلام الداخلي، لأنَّهم لم يسمحوا للروح القدس أن يكونوا فقراء الروح لكي يستقبلوا بشرى يسوع المسيح المخلص فيروه على حقيقته الذي جاء ليتمم نبوءة أشعْيا النبي "مَسَحَني لِأُبَشِّرَ الفُقَراء" (لوقا 4: 18)؛ وهكذا الفقراء أهل قرى الجليل استقبلوه على عكس أهل النَّاصِرة. يوضِّح إنجيل مرقس سبب رفضهم وهو عدم إيمانهم "كانَ يَتَعَجَّبُ يسوع مِنْ عَدَمِ إِيمانِهم" (مرقس 6: 6). لم يستطع أهل النَّاصِرة إنكار حكمة يسوع وقوته، لكنهم كانوا في شك أنَّ مصدرهما كان من الله. والمعنى الضمني هو انه إذا لم يكن ما هو خارق للطبيعة آتيا من الله فلا بد َّ أنَّه صادرٌ عن الشيطان. هذا هو أساس عدم الإيمان، انه الإصرار في رفض قبول البيِّنات والاعتراف بوجود الله وقوته في المسيح يسوع. وجاء يسوع إليهم كنبي، لكنه لم يكن مقبولا كنبي في وطنه (لوقا 4:24). ولم يستطع أهل النَّاصِرة أن يستمعوا لرسالته الخالدة، لأنهم لم يستطيعوا النظر إلى ما وراء الإنسان، ولم يستطيعوا أن يؤمنوا برسالته. فأشار يسوع إلى عدم إيمانهم، مثلهم مثل أهل مملكة إسرائيل الشمالية في أيام إِيليَّا وأليشاع. ولم يكن يسوع أول نبي يُرفض في وطنه، فقد سبق أن اختبر إرميا رفض أهل وطنه له وأفراد عائلته له (إرميا 12: 5-6). وقد ذكّرهم يسوع بإِيليَّا الذي كيف لم يؤمن به إلاَّ الأرملة في صرفت صيدا وأليشاع الذي كيف لم يؤمن به إلاَّ نعمان السوري الأبرص. ويقوم عدم إيمانهم على عدم الاعتراف بان يسوع هو المسيح كما جاء في تصريح يوحنا الرسول " مَنِ الكَذَّابُ إِن لم يَكنْ ذاكَ الَّذي يُنكِرُ أَنَّ يسوعَ هو المسيح؟ هذا هو المسيحُ الدَّجَّال ذلك الَّذي يُنكِرُ الآبَ والاِبْن. 23 كُلُّ مَن أَنكَرَ الاِبْنَ لم يَكُنِ الآبُ معَه. مَن شَهِدَ لِلابْن كانَ الآبُ معَه " (1 يوحنا 2: 22-23). رفض اليهود تجسُّد ابن الله وعمله الفدائي وبالتالي نبذوا ألوهية المسيح، وولم يعترفوا بآيات "كلمة" الله" ولا طاعوه. وإن وجود غير مؤمنين في أهل النَّاصِرة شكّل حجر عثرة للمؤمنين. وإبدائهم عدم الإيمان تجاه يسوع المسيح كان لا بدّ أن يسبّب "ألماً ملازماً" في قلب كل مسيحي كما صرّح يوما بولس الرسول "إِنَّ في قَلْبي لَغَمًّا شَديدًا وأَلَمًا مُلازِمًا" (رومة 9: 2). بما أنَّ أهل النَّاصِرة لم يؤمنوا، لم يصنع يسوع معجزات كثيرة. وليس أمر كعدم الإيمان يمنع إظهار قوة الله كما جاء في تصريح مرقس الإنجيلي "لَم يَستَطِعْ أَن يُجرِيَ هُناكَ شَيْئاً مِنَ المُعجزات" (مرقس 6: 5-6). فالمعجزة ترتبط بالإيمان الذي هو جواب الإنسان على مبادرة الله المجّانية. ومع أنَّ الله قادر على كل شيء إلاَّ أنَّه لا يعمل معجزة إذا كان الإنسان رافضا وثائرا. لذلك كان في إمكان يسوع أن يصنع معجزات في النَّاصِرة، لكنه لم يشأ بسبب كبرياء أهلها وعدم إيمانهم بانَّه من الله فلم يقبلوا رسالته، لذلك توجّه يسوع إلى الوثنيين غير اليهود الذين تجاوبوا مع معجزاته ورسالته. ج) الرفض بسبب قساوة القلب. لم يذكر الإنجيل المقدس رفض أهل النَّاصِرة ليسوع بسبب عدم إيمانهم فقط بل ذكر سبب الآخر هو ما يُسمّيه الكتاب المقدّس قساوة القلب. إن عدم الإيمان يصبح تلك القساوة التي كان يتنبأ عنها أشعْيا "غَلِّظْ قَلبَ هذا الشَّعْب وثَقِّلْ أُذُنَيه وأَغمِضْ عَينَيه لِئَلاَّ يُبصِرَ بِعَينَيه ويَسمَعَ بِأُذُنَيه ويَفهَمَ بقَلبه وَيرجعَ فيُشْفى" (أشعْيا 6: 9-10). فالقساوة هي تصلّب الإنسان في انفصاله عن الله، ويُسمِّيه أيضا "عمى". وعبارة "قسى قلبه" معناه غلَظه، وصم الآذان، وأبقى الغشاوة على العين، بحيث يصبح الإنسان غليظ الرقبة، حجر القلب. فالقساوة صفة مميزة لحالة الإنسان الذي يرفض أن يتوب، ويبقى منفصلاً عن الله. ويعلق محمد الغزالي " وقد رأيتُ في تجاربي أنّ الفرق بين تديّن الشكل وتديّن الموضوع هو قسوة القلب أو رِقّته". مصادر القساوة هي: إمّا أنَّ الله يُقسِّي القلب أي يسمح بتقسيته؛ فلا يكون الله هو مصدر الخطيئة، بل القاضي الذي يدينه، وإمّا الإنسان الذي يُقسِّي نفسه بنفسه فعندها يرتكب خطيئة. فعلى سبيل المثال، فإن كان فرعون لم يأذن لإسرائيل بالانطلاق، فذلك إمّا لأن الله قد قسَّى قلبه (خروج 4: 21)، وإمّا لأن فرعون قسّى نفسه بنفسه (خروج 7: 13-14) وبولس يؤكد بوضوح: " إن الله يَرحَمُ مَن يَشاء وُيقَسِّي قَلْبَ مَن يَشاء" (رومة 9: 18(. ويُعلق ابن قيم الجوزية "ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب". سبب قساوة القلب هو عدم الاستعداد لقبول يسوع. يقول يوحنا الإنجيلي إن النور يُعمي القوم الذين ليسوا على استعداد لقبوله: "وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أعمالهم كانت سَيِّئَة. فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أعماله. وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إلى النُّور لِتُظهَرَ أعماله وقَد صُنِعَت في الله"(يوحنا 3: 19-21). لا يمكن لهذه القساوة أن تزول إلاّ بالتوبة كما جاء في ترنيمة صاحب المزامير "إِذا سَمِعتُم صَوتَه فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم كما في مَريبة وكما في يَوم مَسَّة في البَرِّيَّة" (مزمور95: 8). ولكن كيف يستطيع قاسي القلب أن يتوب؟ إن المؤمن يعرف أن الله يَقدر أن يُحطّم حتمية الشر، وأن يكشف طريق القلب " لِمَ ضَلَّلتَنا يارَبُّ عن طُرُقِكَ وقَسَّيتَ قُلوبَنا عن خَشيَتِكَ؟ إِرجِعْ إِلَينا مِن أَجْلِ عَبيدِكَ أَسْباطِ ميراثِكَ "(أشعْيا 63: 17). فالكلمة الأخيرة مرجعها إلى الله وحده. لذلك قد تنبأ النبي حزقيال بأن قلب الإنسان القاسي سيستبدل يوماً ما بقلب من لحم ٍ، وأن روح الله سيجعل مستطاعاً ما هو مستحيل عند الناس "أُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم، وأَجعَلُ روحي في أَحْشائِكم وأَجعَلُكمِ تَسيرونَ على فَرائِضي وتَحفَظونَ أَحْكامي وتَعمَلون بِها (حزقيال 36: 26-27). يحثنا يوحنا الإنجيلي وأخيرا أن نشاركه إيمانه بأن "يسوع هو المسيح، ابن الله" إذ اختتم إنجيله الطاهر بقوله "إِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" (يوحنا 20: 31)، إذ بفضل الإيمان "بالكلمة" المتجسد نصير أبناء الله (يوحنا 1: 9-14). 2)ما هي عواقب الرفض؟ يقود عدم الإيمان إلى القساوة (أشعْيا 6: 9-10) وعُمى البصيرة (أشعْيا 42: 19) التي تجعل صاحبها لا يطيق الاستماع إلى كلام سيدنا يسوع المسيح (يوحنا 8: 43-44) وبالتالي رفضه. وإن عواقب رفض سيدنا يسوع المسيح هي العقاب والرحمة. ا) العقاب: نتيجة الرفض هو عقاب الإنسان، ولكن الرحمة تبقى من قِبلِ الله. إن افتقاد الله في يسوع لم يكن في مجيء يُبهر العيون، ومن ثمة فإنه قد يُرفَض. ذلك هو الوجه المؤلم لهذا الافتقاد، كما يبرزه الإنجيل "جاءَ إلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" (يوحنا 1: 11). إن عدم الاعتراف الآثم هذا، سيحوّل النعمة إلى وعيد بالعقاب. ويل لمن لا يفطنون إلى معرفة "زمن الافتقاد"، الويل لأورشليم "يُدَمِّرونَكِ وأَبناءَكِ فيكِ، ولا يَترُكونَ فيكِ حَجَراً على حَجَر، لِأَنَّكِ لم تعرِفي وَقتَ افتِقادِ اللهِ لكِ"(لوقا 19: 44)، ويل لمدن البحيرة كما جاء في تأنيب يسوع لها "الوَيلُ لكِ يا كُورَزِين! الوَيلُ لكِ يا بَيتَ صَيدا! فلَو جَرى في صورَ وصَيدا ما جَرى فيكُما مِنَ المُعجِزات، لَأَظهَرتا التَّوبَةَ مِن زَمَنٍ بَعيد، فلَبِستا المُسوحَ وقَعَدتا على الرَّماد. ولكِنَّ صورَ وصَيدا سَيَكونُ مصيرُهما يومَ الدَّينونةِ أَخفَّ وَطأَةً مِن مصيرِكما. وأَنتِ يا كَفَرناحوم، أَتُراكِ تُرفَعينَ إِلى السَّماء؟ سَيُهبَطُ بِكِ إلى مَثْوى الأَمْوات (لوقا 10: 13-15). إن رفض اليهود هذا، يقدم كخاتمة مأساة لسلسلة طويلة من الرفض ومن عدم الاكتراث المُتكرِّر لافتقاد الرب. إن العقاب سيكون فظيعاً للذين سوف يرفضون الترحيب بابن الملك المرسل من قبل أبيه "ليأخذ ثمار" الكرمة (متى 21: 33-46). إن خراب أورشليم الذي كان نهاية العالم اليهودي (القديم)، هي علامة بيّنة لدينونة الله، وسوف يُشكِّل مقدمة منظورة لهذه الدينونة لدى مجيء ابن الإنسان في المجد (متى 25: 31-46). ب) الرحمة: الإنسان الذي لم يعترف بربّه (عاموس 4: 6-11)، يجب أن يكون مستعداً لقبول العقاب النهائي (4: 12)، لأنَّه حينئذ يتعرّض لخطر قساوة القلب. ولكنّ الله من جهته لا يتمسك برغبة المعاقبة؛ إنه دائماً على استعداد لكي "يتحوَّل" عن قراره، ويُغيّر إرادته كما جاء في الكتاب المقدس "فعَدَلَ الرَّبُّ عنِ الإِساءَةِ الَّتي قالَ إِنَّه يُنزِلُها بِشَعبِه" (خروج 32). إنه يُسرّ بأن يرى "المنافق يَتوبَ عن طرقِه فيَحْيا" (حزقيال 18: 23). فالله لم يرذل شعبه، بل بقيَ أميناً على وعوده (رومة 9: 6-29). ولا بدَّ أنَّ تتمَّ السيطرة يوما على عدم الإيمان "إذا كنا خائنين، يظل الله وفياً" (2 طيموتاوس 2: 13) ويُظهر للجميع رحمته تعالى غير المحدودة (رومة 11: 1-32). وعلى هذا النحو، فإن الله لا يزال الآن وعلى الدوام يُعرب عن رحمته. ويبدو إن سلطان يسوع مقيّدٌ بعدم الإيمان (لوقا 4: 23)، إلا أن عدم الإيمان هذا، قد يغلبه الآب السماوي الرحيم الذي هو منبع الإيمان، إذ يكشف يسوع سرَّ جاذبية الآب (يوحنا 6: 44). فالآب يُخفي سر يسوع عن أعين الحكماء (متى 11: 25-26)، ويكشفه للأطفال الذين يصنعون مشيئته (متى12: 46-50). 3) جبـل القفـزة:المكان التقليدي لمحاولة إلقاء يسوع عَنه: التسمية: سمّي الجبل الذي حاول اليهود إلقاء يسوع عَنه بجبل القفزة بناء على تقليد قديم يعود إلى العهد الصليبي. ويُقال أنَّ أهل النَّاصِرة حاولوا أن يلقوا بيسوع من فوقه، بعد عظته في المجمع، ولكنه مرَّ من بينهـم ومضى (لوقا 4: 16– 30). فالاعتقاد انه قفز منه، واستناداً على ذلك، أطلق الصليبيون على الجبل اسم لاتيني Saltus Domini أي " قفزة الرّب". وفي الإنكليزية Mount of the Precipice أي جبل "الهاوية" أو "الإلقاء في الهاوية" وعرف الجبل أيضا باسم "جبل القديم" "הרקדומים" وذلك للعثور على مغارة قديمة عثر فيها على مكتشفات ما قبل التاريخ. الموقع: يقع جبل القفزة إلى الجنوب من النَّاصِرة على بعد 2 كم. وهو جبل صخري يرتفع نحو 397 متراً من سطح البحر و280 م عن مرج بن عامر (مرج يزرعيل). ويبلغ مساحة قمة الجبل نحو 360 م 2 دائري. ويُشرف على جبل الطور ووادي الأُردُنّ وجبال الأُردُنّ ومرج بن عامر وجبال السامرة وجبال الكرمل. التاريخ: أشار الرهبان الفرنسيسكان عام 1926 إلى مغارة في الجبل تدعى مغارة النساك أو مغارة مريم أو مغارة القفزة الواقعة في وادي الحاج. وكان الفرنسيسكان ينظمون مسيرة إلى جبل القفزة للعبادة مرة في السنة في يوم الاثنين الواقع بعد الأحد الثالث من الصوم ذكرا لنية الإلقاء بيسوع من الجبل. وتوقفت هذه المسيرة السنوية عام 1970. ثم استعيدت فيما بعد سنة 2000 منتهية بالصلاة على قمة الجبل. في القرن العشرين كان يستخدم الجبل كمحجر. وأمَّا الآن يخترق الجبل شارع يمر داخل نفق ويربط بين العفولة ومرج ابن عامر وصولا إلى النَّاصِرة مباشرة. وفي عام 2009 هبط قداسة البابا بندكتس السادس عشر على جبل القفزة لدى زيارته التاريخية إلى الأرض المقدسة وأقام قداسًا على مدرج تمّ إنشاؤه للمناسبة، ويتسع إلى 7000 مقعد حجري و36000 مقعد عادي. وبلغ عدد المُصلين نحو 40000 نسمة لدى زيارة البابا، وهو أكبر تجمع مسيحي في تاريخ الأرض المقدسة المقدس. المعالمالأثرية: مغارة جبل القفرة: عرفت هذه المغارة من خلال زيارة الحجاج لها في طريقهم إلى النَّاصِرة في زيارة خاصة للمغارة وذلك لارتباطها بذكرى "القفزة" التي ورد ذكرها في إنجيل لوقا (4: 21 -30). تقع المغارة في أسفل الجبل في الجهة الغربية بقرب جدول ماء ينزل من الجبل. وتبلغ مساحة المغارة 2X 1.63م. قام القنصل الفرنسي نوفيل (Neuville) والبروفيسور شتكلس (Stekelis)في عام 1926بالتنقيب في الجبل فعثروا في المغارة على بقايا كنيسة بيزنطية لإكرام القديسة مريم العذراء وفيها أرضيّة فسيفسائية وقطع فخارية كالصحون والأباريق. وفي الكنيسة هناك حنية وكان جدرانها مغطاة برسومات القدِّيسين ولم يبق منها شيء على مر ّ العصور. وهناك صوامع كثيرة منتشرة حول المغارة. وقد ورد ذكر هذه الكنيسة في كتاب "ذكريات بيوت الله ". وبالقرب من المغارة بئران محفورتان في الصخر. ويبدو أن هذه الكنيسة هُدمت قبل وصول الصليبيين. وفي عام 808 كان يعيش في الموقع ثمانية رهبان. عُثر في جبل القفزة عام 1935 على مغارة وجدت فيها بقايا قديمة أهمها: آثار لمواقد نار وقطع فخارية وطبقات من الرماد وعظام حيوانات قارضة مثل الأيل المتشعب القرنين، والأيل الأحمر، والثور البري، والوعول والخنازير والخيول البَّرية. وكانت هذه المغارة تستخدم مأوى للصيادين والرعاة لفترات موسمية فقط. بعد إجراء الحفريات الجديدة في سنة 1954 اكَّد عالم الأثار الأب بغاتِّي أن جبل القفزة هو ليس المكان الذي تمَّ فيه الحدث الإنجيلي حيث حاول اليهود إلقائه من جرف الجبل كما ورد في الإنجيل "َقاموا ودَفَعوه إلى خارِجِ الـمَدينة وساقوه إلى حَرْفِ الـجَبَلِ الَّذي كانَت مَدينتُهم مَبنِيَّةً علَيه لِيُلقوُه عَنه" ( لوقا 4: 29) حيث أن النَّاصِرة كانت مدينة مبنيَّة على تله صغيرة إلى الشمال من كنيسة البشارة بالقرب من الكنيسة المارونية الواقعة في البلدة القديمة وهناك يحيي التقليد محاولة اليهود طرح يسوع من جرف الجبل. وبين الأعوام 1965 – 1969 أكمل المركز الوطني للأبحاث تحت إشراف عالم الآثار فندر مارش (B. Vandermeersch) الحفريات فعثر عام 1969 على هيكل عظمي لطفل مـــــــــن عصر الموستيـري (Mousterian) أي العــــــــصر الحــــجري القـــــــــــــــــــديم المتوسط (80،000 -60،000 ق.م). كما عُثر على 13 هيكلاً عظمياً بشريا كاملا، ستة أشخاص كبار وسبعة أطفال، وكان من بين هؤلاء المدفونين جثة رجل راقد في حُجرة مستلقياً على جانبه الأيمن، وقدماه مضمومتان ومثنيّتان باتجاه الصدر كما هو الوضع في الرحم. عاش إنسان جبل القفزة في المغارة قبل 50000 سنة وهو معاصر لإنسان نياندرتال. Neanderthal, أو الإنسان البدائي هو الذي استوطن أوروبا وأجزاء من غرب آسيا وآسيا الوسطى. وتعود آثار نياندرتال البيئية التي وجدت في أوروبا لحوالي 350,000 سنة مضت. ويقول علماء الآثار بان هذا الإنسان كمثل إنسان عتليت وإنسان جبل الكرمل هو الحلقة الناقصة في تطور الإنسان من أفريقيا إلى أوروبا. استخدمت هذه المغارة في القرن السادس الميلادي من قبل الرهبان البيزنطيين. وفي مغارة أخرى عثر على مذبح. كما عثر في قمة الجبل عثر على مجموعة من القبور والصهاريج وقطعة فسيفساء بمساحة 6 X10 م وقد اكتشف علماء الآثار مؤخرا 71 قطعة من المُغْرَة الحمراء red ochre -وهو شكل من أشكال أكسيد الحديد الذي ينتج الصباغ عند تسخينها -على العظام في كهف. والمُغْرَة (من اليونانية ὠχρός وتعني شاحب) حجر يستخرج منه صبغ أحمر بني مصفر. وتقول عالمة الآثار Hovers Erella من الجامعة العبرية في القدس: "هناك علاقة واضحة بين مغرة حمراء وعملية الدفن، ويبدو أنها قد تمَّ استخدامها كجزء من طقوس دينية". والمُغْرَة رمز الدم، ومن هذا المنطلق، فان استخدام الرموز تعود إلى 100000 وليس فقط 50000 كما كان يعتقد بعض العلماء. الخلاصة: جاء يسوع إلى النَّاصِرة حيث تربَّى وترعرع، ومع أن الجميع انجذبوا نحوه في بداية حديثه، وكانت عيونهم شاخصة إليه يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه، لكنهم سرعان ما تبدلت مشاعرهم نحوه حينما أعلن لهم حقيقة أنفسهم وتعثَّروا فيه لأنهم حسبوه ابن يوسف. وطلبوا منه أن يُريهم آيات تثبت صحة كلامه أنه المسيح المنتظر، كما فعل أهل كفرناحوم، ولكن الرب رفض طلبهم. وأراهم في تاريخ الأمم شخصيات أظهرت إيمانًا أفضل منهم، مثل نعمان السوري الذي ذكرت قصته مع النبي اليشاع (2 ملوك 5: 1-14)، وأرملة صرفت صيدا الذي جاء الحديث عنها مع النبي إيليا (1 ملوك 17: 8-24) فرفضوه وأرادوا أن يقتلوه مُلقين إياه من فوق الجبل، ولكن يسوع مرَّ في وسطهم ومضى ليس خوفًا منهم، وإنما لأنَّ ساعة تسليمه لنفسه لم تكن قد أتت بعد. لخصت رواية رفض أهل النَّاصِرة ليسوع تاريخ عمله مع اليهود "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله" (يوحنا 1: 14). وكما لم تقبله خاصته في مجمع النَّاصِرة لم يُقبل في هيكل أورشليم (يوحنا 2: 18 -21). بل اتخذت كلماته شهادة ضده عند محاكمته. أمَّا في النَّاصِرة فأخرجوه من المجمع وحاولوا قتله. لا يكفي امتيازات أهل النَّاصِرة من مواطنتهم وجوارهم ليسوع فقط ليعرفوه حق المعرفة، إنما لا بدَّ من الإيمان به. فموقف أهل النَّاصِرة مع يسوع هو موقفنا بالحقيقة معه في أيامنا الحاضرة. فكثيرون لا يقبلون المسيح في أوساطهم ربا ونبياً. وكثيرون يعتبرونه بشرا سويا فقط. وتعود الأسباب إلى حسد وجهل وكبرياء وعمى وكل ذلك يعود إلى مصدر رئيسي واحد هو "عدم إيمان". حكاية أهل النَّاصِرة مع يسوع هي حكايتنا معه في أيامنا الحاضرة. ونحن أيضاً مثل أهل النَّاصِرة، نعتبر أنفسنا رفاقه، نعتبر أنفسنا من تلاميذه، ونعتقد بأننا نعرفه جيداً وقريبين منه... لكننا في أوقات أخرى، نحن أيضاً، لا نتخذ من دينه إلا الاسم أو لا نعيش من إنجيله شيئا في الحياة. وربما لا نستقبله، كما فعل أهل النَّاصِرة، أو لا نستقبل كلامه كما يجب، خاصة عندما يكون كلامًا أو تعليمًا صعبًا ويتطلب نكران الذات وجهداً. كلُّ واحد منّا، يجب أن يُقرر، إمّا القبول بيسوع وتعليمه ووصاياه، وإمَّا رفض كل ذلك. وإنسان اليوم مضطرب وضائع. وهو بحاجة إلى معرفة الحق. ومعرفة المسيح هي معرفة الحق (لوقا 4: 22) فإن أردنا عالم اليوم أن يعرف الحق، علينا أن نُريه الحق الذي فينا ووسطنا من خلال أقوالنا وأعمالنا. وعالم اليوم بحاجة إلى شهادة حياة قبل شهادة تعليم، وفي هذا الصدد يقول القديس يوحنا ذهبي الفم "فمن لا يقدر أن يعلِّم نفسه ويحاول أن يصلح من شأن الآخرين يجد الكثيرون يسخرون منه. بالحري مثل هذا لا يكون له القدرة على التعليم مطلقًا، لأن أعماله تنطق بعكس أقواله" دعاء أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع، أعطنا النعمة أن نتحرَّر من كبريائنا وحسدنا فنومن بيسوع نبياً ورباً وإلها وليس فقط إنسانا، جاء من أجلنا، نحن الفقراء، الفقراء إلى الحُب، الفقراء إلى السلام، الفقراء إلى تَفَهِّم الناس لنا وقبلونا كما نحن. تعال يا رب، تعال وغيِّر قلبنا. تعال وقوي إيماننا، بعون أمنا العذراء آمين. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
رفض أهل الناصرة يسوع |
وطن يسوع هو الناصرة |
رفض اهل الناصرة ليسوع المسيح ابن الناصرة (مرقس 6: 1-6) |
الناصرة ترفض يسوع ابن بلدها |
مجيء يسوع إلى الناصرة وحده دون أن يصنع معجزة |