رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تواضع وأطاع حتّى الموت حين كتب بولس إلى أهل فيلبّي دعاهم إلى الطاعة، لا له وحده، بل للذين جاؤوا بعده على »رئاسة« الكنيسة. فالذين اختارهم المسيح ليرشدوا المؤمنين، يشبهون الذين اختارهم الرسل ومن بعدهم كلّ »هيجومين« (رئيس دير) أو »إبيسكوبّس، أسقف« (مراقب ومناظر) في الكنيسة. ونحن لا ننسى الدياكونوس (الخادم) أي »مشمشنا« في السريانيَّة (شمّاس). والكلام واضح في الرسالة إلى العبرانيّين ولا يقبل أيَّ شكّ. فحين تحدَّث الكاتب عن بطرس وبولس اللذين ماتا شهيدين في زمن نيرون، دعاهما »هيجومين«. قال: »اذكروا مدبِّريكم الذين خاطبوكم بكلام الله، واعتبروا بحياتهم وموتهم واقتدوا بإيمانهم« (عب 13: 7). وحين تحدَّث عن الذين خلفوا الرسولين في رومة، ونحن لا نعرف أسماءهم، دعاهم الكاتب أيضًا »مدبِّرين« (هيجومين) باسم الرسولين كما باسم الرسل. هذا ما ندعوه التسلسل في الرسالة. فلا انقطاع منذ المسيح إلى الآن. والطاعة للمسؤول الآن تشبه الطاعة للرسل، بل للمسيح، بل لله. قال الربّ: »من سمع منكم سمع منّي، ومن رفضكم رفضني، ومن رفضني رفض الذي أرسلني« (لو 10: 16). أو كما في إنجيل متّى: »من قبلكم قبلني، ومن قبلني قبل الذي أرسلني« (مت 10: 40). قال الرسول: »فكما أطعتم كلَّ حين، أيُّها الأحبّاء، أطيعوني الآن في غيابي، أكثر ممّا أطعتموني في حضوري، واعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة« (فل 2: 12). تلك هي طريق الخلاص. في الطاعة. وعمليٌّا، البشريَّةُ كلُّها تعيش في الطاعة. فمن لا يخضع للآخر في أمر من الأمور؟ الملك نفسه يخضع للحلاّق. والوزير ترتبط حياته بخبز يقدِّمه الخبّاز... أمّا المخافة فتكون في الربّ، لا مخافة العبيد، بل مخافة الأبناء، بل مخافة العابدين كما يكونون في حضرة الله. فالله يدعونا إلى مثل هذه الطاعة. وما قال بولس هذا الكلام وكأنَّه تعليم خارج عنه، فهو أيضًا عاش الطاعة قبل أن يتحدَّث عنها. قال لأهل فيلبّي: »اقتدوا بي أيُّها الإخوة، وانظروا الذين يسيرون على مثالنا« (فل 3: 17). وقال لهم أيضًا: »واعملوا بما تعلَّمتموه منّي وأخذتموه عنّي وسمعتموه فيَّ ورأيتموه فيَّ، وإله السلام يكون معكم« (فل 4: 9). أربعة أفعال متلاحقة. أطاع بولس وهم يتعلَّمون منه الطاعة. أخذ عن المسيح الذي أطاع مشيئة الآب، فوجب أن يأخذوا منه. والسماع يصل إلى الأذن، والرؤية إلى العين. يكفي التلاميذ أن ينظروا إلى الرسول لكي يتعلَّموا ما هي الطاعة الحقيقيَّة، ولاسيَّما في وقت المحنة. قال الرسول لأهل كورنتوس: »كتبتُ إليكم لأختبركم وأرى هل تطيعونني في كلِّ شيء« (2 كو 2: 9). طلب منهم الرسول أن »يصفحوا« عمَّن أذنب إليهم. هل يطيعونه؟ طلب منهم أن يطردوا الزاني من جماعتهم بسبب الشكوك التي يتركها وراءه. (1 كو 5: 1ي). هل يتقبَّلون ما يعرضه عليهم؟ حذَّرهم من الذهاب إلى المحاكم ودعاهم إلى التوافق والتصالح (1 كو 6: 1ي). ماذا كان جوابهم؟ واستفاد الكورنثيّون من غياب رسولهم لكي يفتروا عليه. قالوا: »رسائل بولس قاسية عنيفة، ولكنَّه متى حضر بنفسه، كان شخصًا ضعيفًا وكلامه سخيفًا« (2 كو 10: 10). دافع بولس عن نفسه. بلا شكّ، وقال لهم: »ما نكتبه في رسائلنا ونحن غائبون نفعله ونحن حاضرون« (آ11). وسبق له وقال في الرسالة الأولى: »أيُّها تفضِّلون؟ أن أجيء إليكم بالعصا أم بالمحبَّة وروح الوداعة؟« (1 كو 5: 21). ولماذا قال هذا الكلام القاسي؟ لأنَّ البعض اعتبروا أنَّه لن يأتي إلى كورنتوس وبالتالي يستطيعون أن يفعلوا كما يشاؤون على مثال الخادم الشرّير الذي اعتبر أنَّ »سيِّده يتأخَّر، فأخذ يضرب رفاقه ويأكل ويشرب مع السكّيرين« (مت 24: 48-49). لماذا الكلام؟ هو يبقى كلامًا. فلا بدَّ من العمل. والطاعة لا تكون حين يرانا الناس، بل حين يرانا الله الذي يعرف ما في أعماق قلوبنا. فلماذا التحايل والتظاهر على ما قال الربُّ عن الكتبة والفرّيسيّين: »يقولون ولا يفعلون« (مت 23: 3)، فيبدون كالقبور المبيَّضة (آ27)؟ أمّا المثال الأعلى للطاعة فهو يسوع المسيح، فقال عنه الرسول: »ارتسم المسيح أمام عيونكم مصلوبًا« (غل 3: 1). عند الصليب تجلَّت طاعةُ المسيح في أبهى مظاهرها. في معرض الكلام عن تواضع يسود عظمته، قدَّم لنا بولس نشيدًا اعتادت أن تنشده الجماعة في كنيسة فيلبّي. أمّا النشيد فانطلق من »صورة«، إلى »صورة« (مورفي في اليونانيَّة)، من »صورة الله« إلى »صورة العبد«. نلاحظ هذا التنازل العجيب، هذا التواضع الذي لا يجاريه تواضع على الأرض. وحين نرى القدّيسين يتركون الغنى والعظمة والمُلك ليكونوا بجانب الفقراء والمرضى، نندهش منهم. هذا ما لا شكَّ فيه. شارل ده فوكو، ذاك الشابّ الذي كان من عائلة كبيرة وصاحب ثروة طائلة، صار خادمًا يكنِّس الدير عند الراهبات في فلسطين، قبل أن يمضي إلى الصحراء الجزائريَّة ويموت هناك ميتة يمكن أن يحسبها الناس »تافهة«. وفرنسيس الأسِّيزيّ الذي تخلّى عن كلِّ شيء فاستطاع أن يدعو الله »أباه« بدل الأب الذي حرمه من كلِّ شيء. ونقول الشيء عينه عن »مؤسِّسي« الرهبنات في لبنان، كانوا في حلب »المدينة العامرة وصاحبة الثقافة« فأتوا إلى الجبل اللبنانيّ يفتِّتون الصخور مع إخوتهم ويعيشون عيشة الفقر والامِّحاء. ولكن ما هذا بجانب ما فعله يسوع الذي ما اكتفى بأن يصير بشرًا، أن يظهر في »صورة إنسان« (فل 2: 7)، بل أخذ »المقعد الأخير« في القاعة، لا المقام الأوَّل مثل الكتبة والفرّيسيّين الذين »يحبّون مقاعد الشرف في الولائم ومقاعد الصدارة في المجامع، والتحيّات في الأسواق« (مت 23: 6-7). فمن تواضع إلى هذا الحدِّ، لا يستصعب الطاعة حتّى لمن هو أصغر منه. أما كان هكذا القدّيس شربل؟ فكما تجرَّد من المال فما نظر إليه، كذلك تجرَّد عن إرادته ورافق الربَّ يسوع حين رفعه على الصليب »يا أبا الحق«، التي بدأها على الأرض وأكملها في السماء. وما كانت طاعة يسوع لفترة معيَّنة، أو لبعض الأعمال المحدَّدة. فكما أحبَّ إلى الغاية (يو 13: 1)، أطاع حتّى الغاية، حتّى الموت. ما توقَّف في الطريق وما وضع شروطًا. هو الذي تخلّى عن إرادته كلِّيٌّا، فكيف يستعيد ما قدَّمه لأبيه السماويّ. قال لتلاميذه الذين حدَّثوه عن الطعام: »طعامي أن أعمل بمشيئة أبي الذي أرسلني وأتمِّم عمله« (يو 4: 34). إذا كان أرسل التلاميذ وقال لهم: »كما أرسلني الآب أنا أرسلكم أيضًا« (يو 20: 21)، فأيّ نوع من الرسالة يقوم بها، في اتِّحاد تامّ مع الآب، وهو الذي قال: »ما جئت لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني« (يو 6: 38). ويتواصل النشيد الذي أنشدته كنيسة فيلبّي، وقد يكون من تأليف الرسول نفسه: »أطاع حتّى الموت والموت على الصليب« (فل 2: 8). هذا ما نكتشفه في النزاع في جبل الزيتون. قال في صلاته: »يا أبي، إذا كان لا يمكن أن تعبر عنّي هذه الكأس، إلاَّ أن أشربها، فلتكن مشيئتك« (مت 26: 42). وسبق هذه الصلاة طلبة أخرى: »إن أمكن يا أبي، فلتعبر عنّي هذه الكأس، ولكن، لا كما أنا أريد، بل كما أنت تريد« (آ39). وكانت الصعوبة كبيرة. ما عرق الربُّ في نزاعه فقط، بل »كان عرقه مثل قطرات دم تتساقط على الأرض« (لو 22: 44). ومع ذلك فهو لم يتراجع: »لتكن إرادتك لا إرادتي« (آ42). وسيبقى طائعًا لمشيئة الآب حتّى النهاية. فقال وهو على الصليب: »تمَّ كلُّ شيء« (يو 19: 30). ما بقي شيء يقوم به في مشروع الآب الخلاصيّ. عندئذٍ أسلم الروح. هنا نقرأ في الرسالة إلى العبرانيّين ملخَّصًا عن حياة يسوع وموته. »وهو الذي في أيّام حياته البشريَّة، رفع الصلوات والتضرُّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر، ولمّا بلغ الكمال صار مصدر خلاص أبديّ لجميع الذين يطيعونه« (عب 5: 7-9). ذاك هو الابن في انحداره، ساعة أخلى ذاته، لاشى ذاته، صار أقلَّ من إنسان. وبما أنَّه أطاع، حمل الخلاص للبشر فقابل »آدم« الذي عصى، الذي خطئ، »فسادَ الموتُ البشر بخطيئة إنسان واحد« (رو 5: 15). وواصل الرسول كلامه: »فكما أنَّ خطيئة إنسان واحد قادت البشر إلى الهلاك، فكذلك برُّ إنسان واحد يبرِّر البشر جميعًا فينالون الحياة. وكما أنَّه بمعصية إنسان واحد صار البشر خاطئين، فكذلك بطاعة إنسان واحد يصير البشر أبرارًا« (آ18-19). فما أعظم الطاعة، وأيَّة نتيجة تقدِّم للبشريَّة. وإذا كان يسوع رضي أن يكون طائعًا حتّى الموت، فما يكون موقف التلميذ، مع العلم أنَّ ذاك الذي أطاع »رفعه الله جدٌّا وأعطاه اسمًا فوق كلِّ اسم« (فل 2: 19) بحسب مبدأ الإنجيل: »من اتَّضع ارتفع، ومن ارتفع اتَّضع« (لو 14: 11). لا طريق إلاَّ هذه، وهنيئًا لمن يأخذها ولو كانت ضيِّقة، صاعدة... فالنور ينتظرنا في النهاية. |
|