رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
في بناء فضائل النفس و الانسجام فيما بينها القديس دورثاوس أسقف غزة 149. يقول الكتاب عن القابلات اللواتي كنّ يحـافظـن علـى حيـاة الذكـور الإسرائيليين: بمخافتهن لله صنعن بيوتاً (خر 1 : 21). هل هي بيوت مادية؟ وكيف يمكن لنا القول أنّهن بنين مثل هذه البيوت بمخافتهن لله؟ بينما يقال لنا على عكس ذلك، إنه من الأفضل لنا أن نتخلى بمخافة الله حتى عمّا نملكه (متى 19 : 29). إذاً ليست هي بيوتاً مادية، بل بيت النفس الذي نبنيه بحفظنا وصايا الله. بهذه الكلمة يعلمنا الكتاب أن مخافة الله هي التي تؤهل النفس أن تحفظ الوصايا، وبهذه الوصايا يُشيّد بيت النفس. لنسهر إذاً على أنفسنا أيها الإخوة، ونحن أيضاً لنتخذ مخافة الله، ونبن بيوتاً نجد فيها ملجأً في أوان الشدة، في الشتاء مع وجود برق ورعد، لأن الفصل الشديد يمسي شقاء كبيراً للذي لا منزلَ له. 150. ولكن كيف يشيّد بيت النفس؟ يمكن أن نتعلّم هذا بدقة من خلال البيت المادي. الذي يريد أن يبني هذا البيت عليه أن يؤمّن عليه من كل جانب، لذا يرفعه من الجوانب الأربعة، وليس من واحد فقط مهملاً الجوانب الثلاثة الأخرى. وإلا فإنه لا يستطيع أن يصل إلى شيء بل يضيع تعبه، ومصاريفه تصبح كلها باطلة. هكذا يحصل مع النفس. يجب على الإنسان أن لا يهمل أي عنصر من عناصر البناء، بل يهتم بإقامته بشكل متساوي الأطراف متناسق الجوانب. هذا ما يقوله الأب يوحنا: أود لو يأخذ الإنسان شيئاً من كل فضيلة، وأن لا يتمسّك كما يفعل البعض بفضيلة واحدة ويستقر عليها دون أن يمارس سواها مهملاً الفضائل الأخرى?. ويمكن لهم أن يتميّزوا بفضيلة واحدة ومن ثم لا يتضايقون من الهوى المعاكس لهذه الفضيلة. لكنّ الأهواء الأخرى تعتريهم، وتطغي عليهم، وهم لا يهتمون بها متصورين أن عندهم شيئاً كبيراً. يشبهون إنساناً بنى حائطاً وحيداً، ورفعه عالياً، ثم أخذ يتطلع إلى علوّه ظاناً أنه قد قام بعمل عظيم، دون أن يعلم أن أول ريح يمكنها أن تسقط البيت. وهذا لأنه يرتفع وحده دون أن يستند إلى جدران أخرى. ولا يصلح الحائط الوحيد أن يكون ملجأ لأننا سوف نجد أنفسنا في العراء من الجوانب الأخرى. لذا علينا أن لا نتصرف هكذا، بل من أراد يبني بيتاً يكون له ملجأ عليه أن يشيده و يؤمن مَن عليه من كل الجوانب. 151. وإليكم الطريقة: أوّلاً أن يضع الأساس وهو الإيمان لأنه بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله(عبر 11 : 6). وعلى هذا الأساس يشيد بيتاً متناسقاً. هل له ظرف يطيع فيه؟ فليضع حجراً للطاعة. هل أغاظه أحد الإخوة؟ ليضع حجراً للصبر. هل له أن يمارس العفة؟ فليضع حجراً لها. هكذا أمام كل فضيلة تظهر أمامه، عليه أن يضع حجراً منها في بنائه، وهكذا يرتفع البناء من كل جانب بحجر الرأفة، بحجر قطع الإرادة، بحجر الوداعة وسواها من الحجارة . . . وعليه أن يهتم خاصة بالثبات والجرأة اللذين هما حجرا الزاوية: لأنها هي التي تجعل البناء متيناً، تجمع الجدران فيما بينها وتمنعها أن تُلوى وتتضعضع. بدونها لا نستطيع أن نتمم أية فضيلة. لأن النفس بدون أية جرأة (الشجاعة) لا تثبت، وبدون ثبات (المثابرة) لا يقوم أي شيء حسن. لذلك يقول السيّد: بثباتكم تقتنون نفوسكم (لوقا 21 : 19). وعلى الباني أن يضع كل حجر على الطين، لأنه إن وضع الحجارة على بعضها البعض بدون طين تتزعزع ويسقط البيت. والطين هو التواضع لأنه مصنوع من تراب يدوسه الجميع. فضيلة بدون تواضع ليست فضيلة. وكما يقول كتاب أقوال الآباء الشيوخ: كما لا نستطيع أن نشيد سفينة بدون مسامير هكذا لا نستطيع أن نخلص بدون تواضع. لذا علينا ــــــ إن فعلنا أمراً صالحاً ــــــ أن نفعله بتواضع لكي يتوطّد عن طريق التواضع. وعلى البيت أن تكون له وصلات، وهي التمييز (الحكمة والإفراز) الذي يقوّم البيت ويجمع الحجارة فيما بينها، يدعم البناء ويعطيه في آن واحد منظراً لائقاً. سقف البيت هو المحبة التي هي كمال الفضائل كما أن السقف هو كمال البيت (كولسي 3 : 14). بعد السقف يأتي سور السطح. ما هو هذا السور؟ لقد كُتب إذا بنيت بيتاً جديداً وشيدت له سطحاً فاصنع سوراً لسطحك لئلا يسقط عنه أحد من أولادك الصغار(تث 22 :8). السور هو التواضع الذي هو إكليل الفضائل وحافظها. كل فضيلة يجب أن ترافقها فضيلة التواضع. كما أن كل حجر كما قلنا موضوع على طين هكذا يحتاج كمال الفضيلة إلى التواضع. لأن القديسين استخدموه سبيلاً طبيعياً لكي يصلوا إلى التواضع. وأقول لكم دائماً: كلما اقترب الإنسان من الله عرف نفسه خاطئاً. أمّا هؤلاء الأطفال الذين قد يسقطون من سقف البيت فهم الأفكار الصالحة، التي تولد في النفس ويجب علينا أن نحافظ عليها بالتواضع، حتى لا تسقط من السطح أي من كمال الفضائل. 152. ها هو البيت قد اكتمل. عنده رباطات، عنده سقف وأخيراً عنده سور. هكذا أصبح البيت كاملاً. ترى ألم يعد ينقصه شيء؟ نعم لأننا نسينا شيئاً وما هو؟ أن يكون الباني حاذقاً. وإلا كان البناء غير مستقيم تماماً إلى أن يأتي يوم نراه فيه مهدماً على الأرض. الباني الحاذق هو الذي يعمل بمعرفة، يمكن لنا في الواقع أن نبدأ بعمل الفضيلة، ولكن كوننا لا نعملٍ بمعرفة يضيع تعبنا أو نبقى مشتتين لا نحظى بكيفية إتمام عملنا. نضع حجراً وننزعه أو أننا نضع حجراً واحداً وننزع اثنين. مثلاً يأتي أحد الإخوة ويقول لك كلمة غير لائقة أو مؤذية. وأنت تصمت وتعمل له مطانية (أي سجدة). هكذا فإنك تضع حجراً. وبعدها تقول لأخ آخر: أساء فلان إليَّ وقال لي كذا وكذا وأنا لم أكتف بالصمت بل فعلت له سجدة هكذا فإنك تكون قد وضعت حجراً، والآن أنت تنزع اثنين. ويمكن لنا أن نفعل مطانية رغبة في المديح وهكذا يقترن التواضع بالمجد الباطل. هذا ما يعني بالقول إننا وضعنا حجراً واحداً ونزعنا اثنين. الذي يعمل مطانية بمعرفة يؤمن حقاً أنه ارتكب خطأ. وهو مقتنع تماماً أنه هو سبب الشر. هذا ما يعني بالقول أننا قد صنعنا سجدة بمعرفة. وآخر يمارس الصمت ولكن بدون معرفة لأنه يعتقد أنه يعمل عملاً فاضلاً. لكنه لم يفعل شيئاً البتة. الذي يصمت بمعرفة يحسب نفسه غير مستحق للكلام كما يقول الآباء؛ وهذا هو الصمت الممارس بمعرفة. وآخر لا يعتبر نفسه كثيرٍاً، لكنه يعتقد أنه يفعل شيئاً عظيماً عندما يتواضع. أنه لا يعلم أنه لا يفعل شيئاً لأنه لا يتصرف بمعرفة. الذي لا يعتبر نفسه كثيراً بمعرفة هو الذي يحسب نفسه وكأنه لا شيء، غير مستحق أن يُعَدّ بين البشر كما كان الأب موسى يقول عن نفسه: يا عبد السوء أنت لست بإنسان فكيف تقيم بين الناس؟. 153. إليكم مثلاً آخر: إنسان يخدم مريضاً ويرجو منه أجراً. هذا أيضاً ليس عملاً بمعرفة. إن حدث وحصل له إساءة يتخلى للحال عن عمله المحسن ولا يعود يتممه بخير، لأنه لم يكن يقيم عمله بمعرفة. على العكس الذي يخدم مريضاً بمعرفة، يعمل في سبيل الحصول على الرأفة وعلى أحضان الرحمة. إن كان له مثل هذا الهدف عند ذلك يمكن أن تأتيه تجربة من الخارج، أن لا يتحمله المريض مثلاً بينما هو يصبر عليه وبدون اضطراب منتبهاً إلى هدفه، وعالماً أن المريض يصنع له خيراً أكثر مما يصنعه هو بالمريض. الحق أقول لكم كل مَن خدم مريضاً بمعرفة يرتاح من الأهواء والتجارب. لقد عرفت أخاً يتعذب بسبب رغبة دنيئة وقد تحرّر من عذابه لأنه خدم مريضاً مصاباً بالديزنتارية. ويحدثنا إفاغريوس عن أخ يضطرب من جراء أوهام ليلية،وقد تحرّر منها بواسطة شيخ كبير أرشده إلى خدمة المرضى مقترنة بالصوم. وعندما سأله أحد الإخوة عن سبب ذلك أجاب: لا شيء يطفئ مثل هذه الأهواء أكثر من الرحمة. من يتنسك بدافع المجد الباطل، أو لأنه يُخيّل إليه أنه يمارس الفضيلة، ذاك أيضاً لا يعمل بمعرفة. من هنا ينتج أنه يبدأ في ازدراء أخيه معتبراً نفسه وكأنه شيء. لا لأنه يضع حجراً وينزع اثنين فقط بل لأنه بإدانته لأخيه يخشى أن يسقط الحائط بكاملة. الذي يتقشف بمعرفة، هذا لا يعتبر نفسه فاضلاً ولا يُفتّش أن يُمدح كناسك لكنه بالتقشف يرجو اكتساب الحكمة ومنها يتوصّل إلى التواضع، لأن طريق التواضع، كما يقول الآباء، تكمن في الأتعاب الجسدية المحققة بمعرفة . . . بكلمة، علينا أن نمارس كل فضيلة بشكل يسمح لنا باكتسابها وبتحويلها إلى عادة. عندئذ نكون ـــــ كما قلنا ـــــ كالباني الحاذق والجيد الذي يستطيع أن يبني بيته بنياناً متيناً. 154. كل من يريد أن يصل بمعونة الله إلى هذه الحالة من الكمال لا يقول: الفضائل عظيمة لكنني لا أستطيع أن أصل إليها?. الكلام هذا يشبه قول الذي لا يرجو معونة الله؛ ولا يود أن يعمل أي صلاح. تفحصوا في إحدى الفضائل، ترون أن إكتسابها يعود إلينا إن نحن أردنا. مثـلاً يقـول الكتـاب: أحبب قريبك كنفسك (لاويين 19 : 18) لا تتطلع كم أنت بعيد عن هذه الفضيلة و لا تخـشـى قائـلاً: كيف أستطيع أن أحب القريب كنفسي؟ كيف أهتم بآلامه وكأنها آلامي أنا، تلك التي هي مخفية في قلبه والتي لا أراها ولا أعرفها كما أعرف آلامي؟?. أقول لك لا تغذّي مثل هذه الأفكار، ولا تتصور أن الفضيلة صعبة المنال. ابدأ دائماً بالعمل وضع ثقتك بالله وبيّن له رغبتك ونشاطك وسوف ترى العون الذي سيوفر لك بغية النجاح. واليك هذا المثل: افترض أن لديك سلّميين، الواحدة منتصبة نحو السماء والأخرى هابطة نحو الجحيم. وأنت على الأرض بين الاثنين. لا تقل: كيف أطير عن الأرض وأصل دفعة واحدة على ما هو في أعلى السلّم؟. إن هذا القول لمستحيل، والله لا يطلبه منك. بل أنتبه هنا على الأقل من أن لا تنزل أسفل إلى تحت لا تؤذي قريبك، لا تجرحه، لا تتكلم ضدّه، لا تهنه، ولا تزدرٍه، ثم حاول أن تفعل شيئاً من الخير بتعزية أخيك بكلمة، بتحننك عليه ملبياً إحدى حاجيّاته. لأنه بقدر ما تساعد قريبك تتوصل إلى أعلى السلم، إلى العمل من أجل فائدته وصلاحه، كمثل فائدتك وصلاحك. وهذا هو تفسير القول: أحبب قريبك كنفسك. وإن طلبنا وجدنا وإن التجأنا إلي الله أنارنا. لأن السيد يقول في الإنجيل اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم (متى 7 : 7) (لوقا 11 : 9). يقول اسألوا لكي نتوسّل في الصلاة و اطلبوا أي ابحثوا عن كيفية الوصول إلى هذه الفضيلة، ترى ما الذي يجلبها إلينا، ماذا نعمل لاكتسابها؟. هذا الفحص اليومي هو الذي يحقق القول: اطلبوا تجدوا. أخيراً اقرعوا أي اعملوا الوصايا لأننا نقرع بأيدينا والأيدي تعني العمل بها. إذاً لا نكتفي بالسؤال بل علينا أن نطلـب ونعمـل مجتـهـدين في أن نكـون كمـا يقول الرسول: مستعدين لكل عمل صالح . . . (2 تيمو 3 : 17). إذاً ماذا نقول؟ إن أراد أحد أن يبني سفينة فهو يهيّئ كل ما هو بحاجة إليه من أصغر المسامير والقطع الخشبية حتى الزفت والكتان. كذلك إن أرادت المرأة أن تصنع مهارة ما، فهي تهيئ حتى الإبرة الصغيرة والخيط الرفيع. والاستعداد لكل عمل صالح، هذا هو بالضبط أن نعد كل ما هو ضروري للقيام بهذا العمل. 155. لكن نحن أيضاً مستعدين لكل عمل صالح، مستعدين بالكلية أن نتمم مشيئة الله بمعرفة كما يريد هو ويشاء وبحسب رغبته. يقول الرسول: كل ما يراه الله حسناً، كل ما يسرّه، كل ما هو كامل(رومية 12 : 2). ما معنى ذلك؟ كل شيء يحصل إمّا بسماح من الله وإمّا بمسرّته كما يقول النبي: أنا هو الله مبدع النور وخالق الظلمة (إشعياء 45 : 7)، وأيضاً: أيكون في المدينة شر ولم يفعله الرب(عاموس 3 : 6). والشر هنا هو المصائب كلها أي المصائب التي تحصل من أجل تأديبنا وبسبب خطيئتنا: الجوع، الطاعون، الجفاف، الأمراض، الحروب. هذه البلايا لا تحصل بموجب مسرّة الله بل بسماح منه. وهو يسمح أن نبلى بها من أجل فائدتنا. والله لا يريد أن نسعى وراءها ونساهم فيها. إن سمح الله مثلاً بهدم إحدى المدن فهو لا يريد أن نسرع ونشعل فيها النار ونحرقها. ولا أن نأخذ الفأس ونهدمها. إن سمح الله بعذاب أحد الإخوة أو بمرضه فهو لا يريد أن نعذبه بأنفسنا ونقول له: بما أن إرادة الله هي التي جعلته مريضاً فلا يجدر بنا أن نصنع له رحمة. الله لا يريد ذلك منا، لا يريدنا أن نساهم في إرادته عندما تكون على هذا المنوال. فهو يريد منا أن نكون صالحين، حينما يفعل شيئاً لا يريدنا أن نفعله. إذاً إلى أين يريد أن نوجه إرادتنا؟ إلى ما يريده من الصلاح، لكل ما يوافق مسرّته أي إرادته الحسنة، لكل ما يوافق إحدى الوصايا: أن نحب بعضنا بعضاً، أن نكون رحماء، أن نعمل الإحسان . . . هذا ما يفسّر القول: الله يريد كل شيء حسناً. وكيف نفهم أيضاً العبارة: كل ما يسرّه. حتى وإن عملنا عملاً صالحاً نحن لا نعمل بالضرورة ما يسرّ الله. وإليكم السبب. هناك إنسان مثلاً يلتقي بصبية يتيمة وجميلة. يعجب بجمالها. يأخذها ويربيها كيتيمة. هذا ما يريده الله وهو حسن. لكنه لا يسرّ الله. ما يسره هو الإحسان المعمول لا بفكر بشري بل من أجل الخير في حد ذاته وبدافع الرحمة هذا ما يسرّ الله. وأخيراً ما هو كامل هو الإحسان المعمول به بدون حساب، بدون تباطؤ وبرودة بل بكل قوة، ومن أعماق القلب. هو أن نعطي وكأننا نأخذ، نحسن وكأنه يُحسن إلينا. هذا هو المقصود بالعبـارة ?ما هو كامل?. نعمل كما يقول الرسول: كل ما يراه الله حسناً، كل ما يسره، كل ما هو كامل. وهكذا نكون قد عملنا بمعرفة. 156. علينا أن نعرف خير الإحسان وفضيلته. إنه عظيم وله حتى القدرة على رفع الخطايا حسب قول النبي: فداء نفس الإنسان غناه الخاص (أمثال 13 : 8). افتدِ خطاياك بالإحسان (دانيال 4 : 24). والرب قال: كونوا رحماء كما أن أباكم الذي في السماوات رحوم (لوقا 6 : 36). لم يقل صوموا كما يصوم أبوكم ولا كونوا فقراء كما أن أباكم فقير، بل قال: كونوا رحماء كما أن أباكم الذي في السماوات رحوم. هذه هي الفضيلة التي تتشبه بالله بصورة خاصة. هي شيء خاص بالله لذا علينا كما قلنا سابقاً أن نضع هذا الهدف نصب أعيننا وأن نعمل الإحسان بمعرفة. لأنه يوجد نوع كبير من المبررات في عمل الإحسان. الواحد يمارسه لكي يبارك حقله، والله يبارك الحقل . الثاني من أجل خلاص سفينته والله ينقذ سفينته. الآخر من أجل أولاده والله يحفظ كل واحد منهم. وآخر أيضا لتكريم نفسه والله يكرّمه. الله لا يرفض أحداً بل يعطي كل واحد ما يريد شرط أن لا يؤذي نفسه، لكن هؤلاء نالوا أجرتهم ولم يحفظوا شيئاً لدي الله. إذ إن الهدف المتوخي لم يكن صلاح النفس. لقد عملت الإحسان لكي يبارك حقلك؟ لقد باركه الله. وأنت فعلت الإحسان من أجل أولادك؟ لقد حفظهم الله. وأنت لكي تكرّم؟ فكرّمك الله. ماذا يبقى إذاً على الرب تجاهك؟ لقد دفع لك الأجرة التي كنت تطلبها. 157. وآخر يعمل الإحسان لكي ينجو من العقاب الآتي. هذا يعمل لصالح نفسه. يعمل بحسب الله لكن ليسٍ كما يريد الله. هو بعد في حالة العبد. لأن العبد لا يعمل إرادة سيّده طوعاً، بل لأنه يخشى العقاب. هكذا يعمل ذاك لكي ينجو من العقاب والله ينجيّه. والآخر يعمل الإحسان لكي ينال أجرة. هذا أفضل من الأوّل. لكنه هو أيضاً لا يعمل كما يريده الله. فهو ليس بعد في منزلة الابن. كما أن المرتزق لا يعمل إرادة سيده، إلا لكي يحصل على أجرة، هذا أيضاً يعمل من أجل المكافأة. هناك إذاً ثلاث حالات يمكن لنا أن نعمل فيها الخير كما يقول القديس باسيليوس. ولقد ذكرتها لكم سابقاً (المقطع 48). إما أن نعمله خوفاً من العقاب ونكون في منزلة العبد. وإمّا طلباً للمكافأة ونكون في منزلة الأجير أو نعمله من أجل الخير في حد ذاته فنكون في منزلة الابن. فالابن لا يعمل إرادة أبية بدافع الخوف. ولا بدافع الحصول على أجرة. بل لأنه يريد أن يخدمه ويكرّمه ويريحه. هكذا علينا أن نعمل الإحسان. من أجل الخير بحدّ ذاته، برأفة على بعضنا البعض كما لو كان لأعضائنا الخاصة. خادمين الآخرين كما لو كنا مخدومين من قبلهم، مُعطين إياهم وكأننا نأخذ منهم. هذا هو الإحسان المعمول بمعرفة، وهكذا كما قلنا، نوجد في مرتبة الابن. 158. لا يستطيع أحد أن يقول: ?أنا فقير ولا أقدر على الإحسان، لأنه حتى وإن لم تستطيع العطاء على مثال الأغنياء الذين كانوا يلقون نقودهم في الخزانة. (مر قس 12 : 41) ، (لوقا 21 : 3). أعطِ فلسين كالأرملة الفقيرة، والله سوف يتقبلهما أفضل من عطايا الأغنياء. أليس عندك هذان الفلسان؟ لديك على الأقل القوة لممارسة الرحمة في خدمة أخيك المريض. وإن عجزت عن هذا يمكنك توجيه كلمة تعزيه لأخيك. اعمل له رحمة عن طريق الكلام، واسمع مَن يقول: كلمة صالحة هي أفضل من العطاء(حكمة سيراخ 18 : 16). لنفترض أنك لا تقدر أن تعمل إحساناً لأخيك بكلمة، يمكنك أن تشفق عليه عندما يغضب تجاهك، واحتمله في غضبه. ذلك لأنك تراه مضطرباً بسبب العدوّ المشترك. فبدل أن تغيظه حافظ على الصمت وارحمه فتبعده عن عدوّه. وإن أخطأ إليك أخوك ارحمه واغفر خطيئته، حتى تحصل أنت بدورك على مغفرة الله. لأنه قيل: اغفروا يغفر لكم(لوقا 6 : 37). هكذا فإنك تعمل بالرحمة لفائدة نفس أخيك عندما تغفر له خطاياه التي ارتكبها. الله قد أعطانا القدرة ـــــ إن نحن أردنا ـــــ أن نغفر بعضنا لبعض خطايانا. إن لم يكن بمقدورك أن تعمل الرحمة من أجل جسد أخيك، فاعملها من أجل نفسه. وأية رحمة أعظم من رحمة النفس؟ لأنه في الواقع كما أن النفس أثمن من الجسد كذلك الرحمة بالنفس أرفع من الرحمة بالجسد. لا يستطيع إذاً أحد أن يقول: ?أنا لا أستطيع أن أعمل الرحمة. كل واحد يستطيع بحسب إمكاناته ووضعه، شرط أن يجتهد كل واحد في عمل الخير بمعرفة ويهتم به، كما أوضحناه بالنسبة لكل فضيلة، فالعامل بمعرفة هو الباني ذو الخبرة الذي يبني بيته بنياناً متيناً ويقول فيه الإنجيل: الرجل العاقل يبني بيته على الصخر (متى 7 : 24)، فلا يمكن أن يزعزعه شيء. ليعطينا الله المحب البشر أن نصغي إلى ما نسمعه ونعمل به حتى لا تكون هذه الكلمات دينونة لنا في وقت الحساب. له المجد إلى أبد الدهور. آمين. |
|