منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 25 - 06 - 2014, 12:06 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المُضطّهِد الأصولي النزعة

يكتب الدكتور مراد وهبه: “إنّ الأصوليّة أيًّا كانت سمتها الدينيّة.. تمزج المطلق بالنسبي والحقيقة الأبديّة بالحقيقة العابرة، وبذلك تدافع عن حقيقة لاهوتيّة ماضويّة، وكأنّها رسالة أبديّة موجّهة ضدّ حقيقة لاهوتيّة راهنة، فتعجز عن التعامل مع الوضع الراهن، ليس لأنّها مجاوزة لهذا الوضع ولكن لأنّها تتحدّث عن وضع ماضوي فتمنح مصداقيّة أبديّة لرؤية نسبيّة. وفي هذا السياق تصبح الأصوليّة مُمهِّدة لما أسمّيه: صراع المطلقات.. إنّ الحوار يفترض التسامح، أي يفترض مشروعيّة الرأي المخالف. فإذا ارتقى الرأي والرأي المخالف إلى مستوى المطلق، تحوّل الحوار إلى نقيضه، أي إلى صراع، لأنّ المطلق بحكم طبيعته لا يقبل التعدديّة.”(1)
لقد حلَّل القديس بولس حالته قبل التحوُّل للمسيح قائلاً:
  • «أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ كِيلِيكِيَّةَ وَلَكِنْ رَبَيْتُ فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ مُؤَدَّباً عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ النَّامُوسِ الأَبَوِيِّ. وَكُنْتُ غَيُوراً لِلَّهِ كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ الْيَوْمَ» (أع22: 3).
  • «أنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً. وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ ايمَانٍ» (1تي1: 13).
  • «فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ ὐπερβολή (فوق القياس beyond measure) وَأُتْلِفُهَا(2) ἐπόρθουν. وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي» (غلا1: 13-14).
إنّ “مفتريًّا” (1تي1: 13) جاءت في اليونانيّة ὑβριστήν والتي تعني العنيف المتغطرس؛ فالمُضطهِد شخصٌ تحركه ثلاثة عوامل، هي: الفهم الخاطئ، العنف الكامن غير المُهذَّب، الكبرياء. هي سلسلة متشابكة. فالفهم الخاطئ القائم على التمييز الإنساني إلى أعداء وأتباع حسب المعتقد يولِّد كبرياء قَبَلي/ عرقي/ ديني، يفرَّغ من خلال العنف اللَّفظي أو البدني. فشاول، بجهلٍ، تلقَّى تعليمه بالأفضليّة اليهوديّة عرقيًّا وأنّ الأمم كلابٌ وأنجاسٌ، ومن ثمّ يكون المتحوِّل عن ديانة الآباء من اليهود على قائمة الشيطان نفسه!! التي يجب أن يُطهِّر الأرض منها ليعيد المجد إلى شعب إسرائيل. هنا يَظْهر بُعدٌ هام في التعليم الخاطئ وهو الاستدلال بالتاريخ والتقوقع في التاريخ مع إخلائه من سياقه ليبقى أحداثُا متناثرة تخدم فكر أصولي مُدعَّم بنصوصٍ انتقائيّة لتأمين النفس ضدّ الضمير. وهنا يلعب القادة الأصوليين على حسّ النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) nostalgia الكامن في النفس الإنسانيّة والمتولِّد من كثرة الحديث عن أمجاد الماضي الغرّاء ولوائه المرفرف بعزِّة على تلِّة التاريخ!!!
لقد كتب أديب مصلح في هذا السياق قائلاً: “من يحبّ الله حقًّا ويعبده، في الحقّ، يتّصف بالرقّة والوداعة. ولكن مَنْ يحبّ نفسه، تحت غطاء الدين، هو دائمًا حادٌّ وعنيفٌ.. معظم أعضاء الطبقة الدينيّة الحاكمة من صدّوقيّين وفرّيسيّين، كانوا قد شوّهوا الشريعة تشويهًا أعماهم، وانحطّ بهم إلى دركٍ سحيق، وأغلق دون الحقيقة نفوسهم، وأفعمها، حيال يسوع، بغضًا عنيدًا وعنفًا شرسًا. لقد صبّوا على يسوع اتهاماتهم، لا استنادًا على الشريعة نفسها، بل على تفسيرهم لها تفسيرًا مغرقًا في التفاهة والحمق، وقد تشبّثوا بتفسيرهم، وأعرضوا عن جوهر الشريعة وروحها. خضعوا لصغارات أفكارهم ونبذوا كلام الله”.(3)
إنّ المُضطّهِد الأصولي (مَنْ يُخطِّط) كثيرًا ما يكون ممّن يمكن أن نسمّيهم “المتفوّقين” في النصوص الدينيّة؛ «وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي». إنّه يجد ذاته في ذاك المضمار إذ يركض ولا يجد من يباريه في القدرة على التحليل والتأويل والاستيعاب لما يتلقّنه تحت المظلّة الظلاميّة التقليدّية التي صنعها بشرٍ لم يتمرّسوا على حياة التقوى ولم يُقدّروا قيمة الإنسانيّة وأهميّة التعددّية في المجتمع. التقليد الذي تربّى عليه شاول بل وبرع فيه على يدّ غمالائيل، كان تفسير وتأويل النصوص الكتابيّة حرفيًّا وسن شرائع وقوانين وعقوبات من خلال ذلك التأويل الوضعي. لذا نجد أنّ النصّ المعني بدفع الإنسان باطنيًّا ومن ثمّ خارجيًّا إلى الله، تحوّل إلى قوانين تنظيميّة خارجيّة ردعيّة للحفاظ على بنية مجتمعيّة ذات صبغة دينيّة!!! من تلك النقطة يبدأ التداخل بين سلطة النصّ على قلب الإنسان داخليًّا، وسلطة القانون الوضعي على بدنه خارجيًّا، وتتحوّل الدولة إلى مؤسّسة ذات مرجعيّة دينيّة بطلب المجتمع عينه لأنّه لا يدري مدار النصّ الكتابي، ومدار القانون الوضعي، وهنا يختار المجتمع (بجهلٍ) القانون ذو الصبغة الدينيّة إذ يرى أنّه السبيل الأوحد إلى إرضاء الله!!!
لقد «صَنَعَ بَعْضُ الْيَهُودِ اتِّفَاقاً وَحَرَمُوا أَنْفُسَهُمْ قَائِلِينَ: إِنَّهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ وَلاَ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَقْتُلُوا بُولُسَ» (أع 23: 12). كانوا يظنون أنّهم بذلك «يُقدّمون خدمة لله»، بحسب كلمات المسيح. كان ذلك الاتّفاق تحت مظلّة الغيرة الدينيّة فكان مريحًا للضمير. إنّ أيّة ديانة عنفيّة هي انحراف عن مفهوم الديانة عينه. إلاّ أنّ العنف المستتر في الدين أسهل لأنّه يُخدِّر الضمير الإنساني ضدّ أيّة ممارسات لاإنسانيّة لإيذاء الآخر. لذا كان المسيح، ومنه تلقَّى إستفانوس الشهيد الخيط ومن بعده القديس بولس ومن بعدهم الكنيسة، يُحاول شرح الإيمان كاكتمال للمسيرة الإيمانيّة لشعب الله. كان يستدلّ بحياة الشعب العبراني عينه ليؤكِّد أنّ الإيمان به مُخلِّصًا هو لحظة كامنة مستترة في قلب النبوّة وفي سياق الدفع الإلهي لشعبه في العهد القديم. لقد جاهد كلّ الآباء بدءًا بالرسل أن يشرحوا الإيمان كانفتاح على الآخر وإن كان أمميًّا وحبّ للآخر وإن كان عدوًّا إلاّ أنّ قوى الانغلاق كانت تقوِّض كلّ دعاوى الانفتاح الإيماني وتلقي بها في مستنقع الأصوليّة الدينيّة والتمايز العرقي لإرضاء كبرياء ذاتي أو للبقاء في حلم مجتمعي يرسِّخ من نفوذهم ومصالحهم وأعمالهم في تلك البلاد.
إنّ الإشكاليّة اليهوديّة أنّها تحوّلت إلى ديانة دوجماطيقيّة (قائمة على نصّ مدوّن هو عينه العقيدة)، أي تستند إلى عقائد مكتوبة دون الإيمان بنسبيّة العقيدة المُصاغة في لغة البشر، ومرحليّتها، وبالأخصّ أنّ الإيمان اليهودي قائم بالأساس على انتظار المسيّا، أي أنّه إيمان يترقّب المستقبل للاكتمال. ولكنّها تحوّلت إلى قوقعة صلبة ترفض مياه جدّة الحياة، وإن كانت كلمات المسيّا عينه، مَنْ ينتظرونه. قد يكون ذلك لأنّ الإسخاطولوجيّة (الأخرويّة) اليهوديّة تتوقّف بامتلاك الأرض وعودة شعب الله لحلم كنعان الموعودة. إذًا فهي إسخاطولوجيّة زمنيّة فقط!!!
الإيمان المسيحي، في المقابل قائم على شخص المسيح؛ الله الكلمة، ومنه يستمد المسيحي، كلّ يوم تحديدًا جديدًا عمليًّا اختباريًّا لمفهوم الإيمان (وليس العقيدة الثابتة على مرّ الأجيال) وتطبيقه، والنصّ المسيحي المُكوِّن للدوجما أشبه بحدود الطريق وضفّتي النهر لئلا تنحرف المسيرة وتتبعثر المياه. لذا فالإيمان المسيحي هو إيمان منفتح لأنّه يقف مترقّب الإعلان الإلهي اليومي. إنّ الإسخاطولوجيّة في إيماننا المسيحي منفتحة بانفتاح الأبد لأنّها قائمة على الاتّحاد بالله الأبدي. بل ويمكن القول أنّها إسخاطولوجيّة ديناميّة لا تتوقّف عند أيّة مرحلة زمنيّة، مهما كانت زاخرة بتحقُّق الوعود لأنّ الوعد الإلهي هو الملكوت اللاّزمني.
إنّ الديانة القائمة على الدوجما تتوهّم امتلاكها الحقّ كاملاً، في نصّ الدوجما، ومن ثمّ فإنّ أي تأويل نصّي مرفوض لأنّه يخرج عن سياق الحقّ عينه!!! وهنا تبرز إشكاليّة استنفاذ الحقّ؛ فالحقّ المُحدّد بكلمات وقوانين يبقَى حقًّا عقيمًا لأنّه لا يمكنه التُجدّد مع تحديّات العصر. لذا فإنّ امتلاك الحقّ يعني أنّه لم يكن يومًا حقًّا لأنّه صار أسير عقلٍ وحرفٍ وقانونٍ.. صار سجين لُّغةٍ وأرضٍ وزمانٍ!!!
لذا لم يكتب المسيح دوجما بالمفهوم الحرفي. بل قاوم الحرف لحساب الروح. جاء مُخلِّصًا، وأعلن حبًّا، وأشار للملكوت، ورسم خريطته بالفضائل. كلّ مَنْ قبله بالموت والقيامة (المعموديّة) دخل دائرة الحقّ لأنّه صار عضوًا في جسد الحقّ، إذ قال الربّ يسوع: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو14: 6). ومَنْ دخل دائرة الحقّ يتلقّن كلّ يوم الحقّ، خبرةً ووعيًا وتلامسًا، والحقّ لا يُستنْفَذ، إذ أنّه مطلق لأنّه الله عينه. إنّه أشبه بمياه يمكنها أن تأخذ شكل أيّة آنية وتتلوّن بأي لونٍ دون أن تتغيّر خصائصها، وبالرغم من ذلك فإنّ ظاهرها تغيّر بتغيُّر الإناء واللُّون. هكذا الحقّ يمكنه أن ينسكب في أي زمنٍ وبأيّة لُّغة وتحت أيّة مظلّة ثقافيّة.. هو هو الحقّ عينه دونما تغيير. هذا هو نمط المسيح في إعلان الحقّ وهذا هو جوهره الذي طالما نادى به بل وبكّت مَن تقيَّدوا بقيود قشوره دون لبابه.
الديانة القائمة على الدوجما تبحث عن حكم ثيوقراطي، تريد أن تُملِّك الدوجما على البشر على اختلاف تنوّعهم الإنساني والثقافي والزماني، تختزل التاريخ في نصوصٍ تمسحها ملكة على رقاب البشر!!! من هنا نفهم الأيدلوجيّة الصهيونيّة المعاصرة التي تتّخذ شعارًا لها: “كمال اليهود ووحدتهم من كمال أرض إسرائيل”. والأرض تعني الحُكم بالشريعة المنغلقة والموّجهة بتفسيرات عنصريّة خطّها الرابيون عبر العصور تحت وطأة حلمهم بالعودة ونوال الميراث المفقود في كنعان.
بينما المسيحيّة لا تريد حُكْمًا ولا تسعى إليه؛ إذ قال المسيح صراحة: «مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» (لو12: 14). وفي سياق آخر، قال: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ» (لو20: 25). ويضيف القديس لوقا أنّ مَنْ سمع هذا الكلام تعجّب منه؛ فمَنْ ذا الذي لا يطمح في مقارعة قيصر على سلطان الزمن؟؟ فقط المسيح وبنيه..
لا يجتمع يسوع مع قيصر تحت قبّة واحدة، إذ أوضح أنّ عمله هو غربلة قلوب البشر من زوان الخطيئة وإعدادها لقبول ملكوت الله، في سياق واقعهم الإنساني. فالمسيحي لا يُغيِّر العالم بالسلطة بل بالصلاة. أيُّ انحراف عن الباطن ومحاولة لدمج المسيح مع قيصر لا يُعبِّر عن المسيحيّة على الإطلاق بل وضدّ مسيرة الإنجيل.
من هنا نفهم أنّ الشهادة هي في صميم واقعنا المسيحي وقناعتنا الإنجيليّة وتاريخنا الممتدّ. لأنّ المسيحي هو شخص لاثوري بمنطق السيف والحركات العُنْفيّة الدمويّة. ثورته يطلقها من مخدع الصلاة ونقاوة الحياة وإعلان الحقّ دون إراقة دماء. المسيحي يُسطِّر كلمات الحقّ بألمه لا بإيلام الآخرين، لذا فالحقّ المسيحي فعّال ومثمر لحياة أفضل.
_____
الحواشي والمراجع :

(1) الأصوليّة والعلمانيّة، الدكتور مراد وهبه، دار الثقافة، 1995، ص40
(2) تلك الكلمة وردت عند هوميروس كمصطلح حربي بمعني “تدمير وتخريب المدن”.
Burton, Ernest De Witt. A Critical and Exegetical Commentary on the Epistle to the Galatians. New York: C. Scribner’s sons, 1920; 45
(3) أديب مصلح، يسوع في حياته، الجزء الأول (منشورات المكتبة البولسيّة: 2006)، 443
رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:08 PM   رقم المشاركة : ( 2 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

ضدّ العالم

وأنتم أيضًا إذا ما شُتمتم أو أُهنتم أو أُفتري عليكم وتَقبلتم اللّطمات،
يجب أن تفرحوا يقينًا في قلوبكم
لأنّكم قد اقتنيتم أرباحًا كبيرة وضاعفتم مكاسبكم..
القديس مكاريوس الكبير (الرسالة الثالثة)
أثناسيوس ضدّ العالم Athanasius contra mundum، مقولة شهيرة انتشرت عبر الآفاق عن القديس أثناسيوس، إزاء موقفه إبّان تصاعد حدّة المقاومة له شرقًا وغربًا. ولكن العبارة في حقيقتها تعبير عن حقيقة إنجيليّة بالأساس إذ تتناغم مع كلمات القديس بولس: “صُلِبتُ للعالم”.
والعالم cosmos لا يعني هنا البشر فهم محبوبو الله، إذ يبقى دومًا مُحبًّا للبشر، كما ندعوه في صلواتنا. العالم يعني قيم الماديّة المُجرَّدة materialism، يعني قيود السلطة والمال والجنس التي يُجمِّل فيهم الشيطان ليحافظ على شبابهم في عقولنا وخيالنا، ومن ثمّ نظل رهن شباك قيم الاستهلاك العنكبوتيّة، يعني عبودّية الحسّ الذي يُفقد الإنسان القدرة أن يتّخذ قراره دونما ضغوط بإلحاح الشهوة، يعني رداء الظلمة الذي يُخيِّم على الجميع بظلِّه حتى يبقوا في ظلال الموت بعيدًا عن دفئ النور.. هذا هو العالم الذي علينا أن نبغضه. إجمالاً، هو العالم الساقط دون فداء المسيح. “لا تحبّوا العالم”، لعلّ تلك هي الدعوة الوحيدة للبُغضة!! فبُغضّة العالم يعني انفتاحنا على سرّ الحبّ الأبدي المُستعْلَن في المسيح.
إنّ المسيحي يوم معموديّته، حينما يغطس في المياه، المُقدَّسة بالكلمة والصلاة، ويخرج، يُعْلِن للعالم أنّه منذ تلك اللّحظة ليس مِلْكًا للعالم، وأنّ تطلُّعاته المستقبليّة ليست كتطلّعات العالم؛ فالمستقبل عنده لم يعد يعني تحرُّك زمني إلى الأمام، بل تجاوز الزمن إلى الإسخاطولوجيا (الأخرويّة).
في المعموديّة يجتاز المسيحي، الموت مع المسيح حينما يُغطَّس في المياه، وكأنّه يغرق!! ولكن يدَّ الكاهن التي تنتشله من المياه، تُعبِّر عن يدِّ الله التي تُنجّيه من الغرق ومن الموت، وتهبه حياة جديدة في المسيح القائم من الأموات. فالمعموديّة هي الإعلان العملي الذي يطلقه المسيحي للعالم أنّه قد مات عن الخطيئة وعن العالم المادّي، ليحيا للبرّ الذي في المسيح يسوع، أي ليحيا لملكوت السماوات، منذ تلك اللّحظة من الزمن.
وهذا الفعل يُزعِج رئيس العالم كثيراً؛ فهو يريد أن يستولي على كلّ مخلوقٍ يطأ بقدميه أرض الحياة، في جسدٍ، يريد أن يُصيِّره ابنًا للشهوة والخطيئة والتراب والموت، يريد أن يُكبّله بقوى الماديّة الجاذبة للحاسّة الإنسانيّة غير المُهذّبة، بيد أنّ المعموديّة تُحرِّر الإنسان من بنوّة الشيطان المُزمِع أن يعلنها، ليصير آنذاك ابنًا للنور والبرّ والحياة والأبديّة.
حينما يرى الشيطان ولادتنا من الله بالنعمة والتبنّي، ويلحظ أنّ أبصارنا لا يجتذبها بريق العالم المُنعكِس على مرآة الخطيئة، ويرى في المقابل، أعيننا مثبّته على رجاء وعد الحياة بتلك المدينة الباقية إلى الأبد؛ ملكوت النور والفرح والسلام، يبدأ في إشهار أسلحته في وجوهنا، في محاولات مستميتة لترويعنا وإرهابنا، حتى نترك الطريق الذى يعبر بنا إلى غايتنا؛ قدس الأقداس السمائي.
لقد أعلن لنا المسيح صراحةً:
”إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنّه ابغضني قبلكم،
لو كنتم من العالم لكان العالم يُحبّ خاصّته،
ولكن لأنّكم لستم من العالم،
بل أنا اخترتكم من العالم،
لذلك يبغضكم العالم” (يو 15: 18 - 19)
إنَّ قيام العالم ضدّ أولاد الله هو في حقيقته حربٌ ضروس يشنّها ضدّ الله ذاته، ضدّ فكرة انتصار الله في البشريّة رغم سقوطها القديم، ورغم انحصارها في جسدٍ ماديٍّ وزمنٍ ماديٍّ، تلك الحربّ بمثابة رد فعلٍ متواصل ومستمر على الهزيمة التي مُني بها رئيس العالم حينما دخل المسيح، متجسِّدًا، في عباءة العالم المادّي، ووطئ سلطان العالم يوم قام قاهرًا قوى الموت، ساخرًا بالزمن، مُبطلاً سريان الخطيئة، مُقيِّدًا الشيطان.. من تلك اللّحظة والعالم، كأداة للشيطان، يحاول أن ينال من المسيح في كنيسته، بإبعادهم عن الطريق تارةً وتزييف الحق أمامهم تارةً أخرى، وكذا بمحاولات حثيثة لإماتة وهج الحياة في قلوبهم. ما يزال يحاول أن يُخضِع الكنيسة لصولجانه المادِّي، مازال يهيِّئ لها سياط الضيقة إن أبت السجود، ويَنصِب لها الصلبان إن أشهرته جهارًا كظلمةٍ، بقوّة النور الكامنة فيها. جلّ مبتغاه أنْ تستسلم وتُحوِّل عينيها إليه عوضًا عن المسيح القائم، وتنتهج طرقه ووسائله، فتفقد قوّتها وقدرتها على الشهادة في الزمن وبين أروقة التاريخ. يريدها ألاّ تصير ملحًا منثورًا على كلّ غذاء إنساني، لئلا تصير شبعًا، يريدها أن تنزوي وتتقوقع وترهب إطلاق النور!!!
هناك حقيقة علينا أن نتذكّرها على الدوام وهي أنَّ المسيح قد أُهين وضُرِبَ ولُطِمَ وشُتِمَ وجُرِحَ وصُلِبَ، بيد أنّ شُعلة الحياة التي جاء، ليُشعِل بها العالم، لم تنطفِئ ولم تخبو، بل مافتئت تلك الشعلة تتأجّج إذ بلغ لهبها عنان السماء، من فرط آلام المسيح المُحيية، بل وطال لهبها المحيي، الكنيسة، فتذوّقت الألم مع المُخلِّص وأحبّته لأنّها تبعت المُخلِّص، وصار صليبه هو افتخارُها، ترفعه فوق قباب الكنائس وتعانقه في صلواتها كعلامة نُصرةٍ، مستهينة بالعالم الذي وُضِع في الشرير والذي يتوعدها بالألم، كلما وقع بصره على صليبٍ مُنْتصبٍ.
ألمنا الحقّ يكمن في مواجهتنا نار الضيقة بقطرات مجهودنا الإنساني الهشّ. ولكن إنْ طرقنا أبواب منابع النعمة، انفتحت، وفاضت مياه الحبّ والعون والسلام، لتُطفئ لهب الشيطان المرتعش. فما أجمل الألم لمن يغتسل في آبار النعمة الإلهيّة، لن تترك النيران آثارًا على روحه، ستنطفئ النيران وتنتصر الحياة. بل وسيخطو مسرعًا نحو النيران، وهي ستفرّ منه مهرولة إلى خلفٍ، فهي خدعة شبه الموت الذي لا يملك على مَنْ مَلَكهُ المسيح.
“ضدّ العالم” ليست كراهية حاقدة على العالم ولكنّها موقف إيجابي من العالم، موقف من قيمه الأخلاقيّة حينما تتدنّى. إنّها حالة من يسيرون على الطريق الضيِّق الذي لن يتقاطع قط مع الطريق الرحب. “ضدّ العالم” تعني خيارًا للجميع بأن يعيد قراءة واقعه ليبحث هل ينعم بحريّة حَقّة أم عبوديّة مُقنّعة، ويبقى الخيار مفتوحًا وتبقى الدعوة قائمة من المسيح: إلى أي فريق تنتمي، مع أم ضدّ.. الإجابة قد تعني أبديّة ضدّ المسيح، وقد تعني أبديّة مع المسيح في شركة الثالوث..
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:09 PM   رقم المشاركة : ( 3 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

هويّتنا المسيحيّة على المحك..

بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض
(يو13: 35)
إحدى الإشكاليات التي تواجهنا الآن هي إشكالية الهويّة المسيحيّة؛ فالحراك المجتمعي يفرز تحديات للوجود المسيحي ويفتح السبيل للعديد من الخيارات. ولعلّ مشكلة هويتنا المسيحيّة تظهر مع ظهور أصوات مسيحيّة جهورة مطالبة بالحقوق لأوّل مرّة بعد فترة صمت طويلة صنعتها نُظُم وتوازنات ومصالح ومخاوف.. إلخ.
إنّ الهويّة المسيحيّة تستند على قواعد أساسيّة لا يمكن إعادة صياغتها.. قواعد من الحب الباذل والغفران الصادق والانفتاح الكامل. لقد أصبحت تلك القيم المسيحيّة في خطر الآن إذ يرى البعض أنّها تعادل الخنوع والخوف والجبن والموائمات السياسيّة. ولعلّ البعض يريد (بوعي أو بدون وعي) أن يقايض الهويّة المسيحيّة بالحقوق المسيحيّة؛ فلا يجدون غضاضة في استخدام العنف أو الإيذاء اللّفظي أو البدني أو التجريح أو رفض الآخر ومعاداته من أجل الحصول على بعض الحقوق!! إنّها مقايضّة المسيح بالعالم!!! وانطلاق من مبدأ المصلحة الحقوقيّة لا ملكوت الله.
وهنا يخرج البعض بالسؤال: وهل المطالبة بالحقوق ضدّ الهويّة المسيحيّة؟؟؟ هذا السؤال هو نتاج الخلط بين الوسيلة والغاية.. بين الهدف والطريقة.. فالهدف والغاية هما الوصول للحقوق وهو لا يتعارض مع الهويّة المسيحيّة بأي شكل من الأشكال ولكن الوسيلة يجب أن تكون مُعبِّرة عن الهويّة؛ فمثلاً وسيلة جماعة القاعدة تعبِّر عن هويَّتهم.. وسيلة الحركة الصهيونيّة تُعبِّر عن هويَّتهم.. إلخ..
إن ما يجعلني أشعر بالحيرة أنه كانت هناك حركات نضاليّة حقوقيّة لاعنفيّة في العالم دون سند كتابي، ونحن لا زلنا نريد حقوقنا بمنطق طَرْق الحديد وننتهج أحيانًا سُبل هجوميّة تُمهِّد السبيل للكراهية التي هي أولى لبنات العنف مع أنّ دستورنا المسيحي الإنجيلي يطالبنا بالنقيض!!!!
ولمن لم يقرأ سيرة المهاتما غاندي(1) نجده استلهم نضاله اللاّعنفي من الإنجيل وأطلقه في المجتمع الهندي وأصرّ عليه مهما كان الاستفزاز الإنجليزي ومهما كانت الخسائر البشريّة في الطرف المسالم لأنّ نظريّته كانت قائمة على أنّ السلم يُحرِّك أنبل ما في الأعداء حينما يقاومون عُزَّل لا يسيئون إلى أحد، بل ويحشد المجتمعات والحقوقيين ضدّهم، وهو ما تحقَّق ونالت الهند حرّيتها السياسيّة من الاستعمار الإنجليزي. إن هذا السمو نتج عن قريحة إنسانيّة استلهمت مقاطع من الإنجيل، فكم بالأحرى الذين قبلوا الإنجيل دستورًا لحياتهم وقدّموا ذواتهم لله مختومة بطاعة الروح لله الآب، كيف يرتحلون بعيدًا عن المنطق الإلهي الذي يُحدِّد أشكال التواجد المسيحي في العالم من خلال قيم الحبّ والغفران والانفتاح الكامل؟!!
حينما تسأل البعض ما هو مطلبك؟ يجيب الحقوق، وحينما يمتد السؤال لبحث المدى الذي يمكن أن تمتدّ إليه تلك المطالبة تجد نبرة عالية تنذر بإمكانيّة التصعيد حتى العنف!!
لا أعرف ممّن نستلهم المثال؛ فالمسيح لم يجرح أحدًا حتّى مخالفيه.. لم يقسو على أحد حتى أعداءه.. لم يُعمِّم خطأ أحد حتى لو أشترك في الخطأ الكثيرون.. لم يرفع سيفًا في وجه أحد وإن صُوّبت عليه سهام الجميع.. لم يقابل الإساءة بالإساءة وإن كانت جارحة وتُشكِّك في كينونته الإلهيّة.. لم يرفض البدء في عهد جديد مع أحد وإن كان تاريخه مُحمَّل بالجرائم.. لم يتوقَّف عند التاريخ ليُصيِّره سدًّا منيعًا أمام إمكانيّة الغفران.. بل لم يتوقَّف أمام الحاضر والواقع الملوَّث بل كان دائمًا يرى ما يمكن أن يصيره الإنسان داعيًا إياه إلى الحياة..
إنّ مسيحنا كما نعرفه يُعلن الحقّ ولكنّه لا يجرح أحد لانتزاع الحقّ...
الرسالة المسيحيّة النابعة من هويتنا المسيحيّة هي رسالة إنسانيّة تستهدف الإنسان لا الحصول على بعض الحقوق من الإنسان.. تستهدف تحويل البشر إلى أحجار حيّة في الكنيسة لا رصّ أحجار ميّتة فوق بعضها لنحصر فيها الكنيسة.. تستهدف خلق مجتمع أفضل من خلال أعضاء الكنيسة الأحياء وسط العالم لا من خلال أوراق وقوانين تخضع لتوجُّهات السياسة وتتبدّل بتبدُّل النُظُم..
فلنتخيَّل أنّ مطالبنا الحقوقيّة النابتة من الذاكرة الشعيبّة بحثت عن الأعداء الذين آذوا الكنيسة طوال التاريخ؛ فسنبدأ باليهود والرومان واليونان والعرب والأتراك والفرس.. إلخ، لن يتبقى أحد إلا ونصنِّفه كعدو ونطالبه بالحقوق التاريخيّة.. وماذا سنجني؟؟ مزيدًا من الشعور بالظلم والقهر.. مزيدًا من الانحسار والتراجع والتقوقع..
إنّ الغفران ليس وسيلة ننال بها معاملة بالمثل من إلهنا الحبيب فقط ولكنّه وسيلة لشفاء أنفسنا التي هشّمتها نيران الرغبة في الانتقام ونحرتها سكاكين المرارة حتى تركتها متقطِّعة الأوصال.. جريحة.. لا تستطيع البناء الحقيقي. إن غفرنا للآخر اندملت جراح نفوسنا المتقيَّحة، وإن اندملت الجروح تحوَّلنا إلى قوّة بنّاءة في المجتمع...
فالهويّة المسيحيّة القائمة على الغفران والحبّ غير المشروط هي هويّة غير قابلة للتفاوض، تمامًا كحقائق الإيمان. إن سألت أي مسيحي عن ردّة فعله أمام شخص يريد إجباره على إنكار ألوهيّة المسيح يسوع، ستكون الإجابة بالاستعداد للموت والاستشهاد من أجل الاعتراف بألوهيّته، ولكن إن سألته عن ردّة فعله أمام من يريد أن يطالب بحقوق بطريقة خاليّة من المحبّة، قد يوافق!! وفي أفضل الأحوال سيرفض ولكن بهدوء؛ فتلك القضيّة بالنسبة له تالية للإيمان!!! مع أنّ الوصيّة الأولى والعظمى والتي جاء بها المسيح، مُجدَّدة بالتجسُّد، هي الحبّ، من خلال الحبّ فهمنا الألوهة والفداء والثالوث والأبديّة، فكيف نتخلَّى عن الحبّ في خطابنا أو مطالبنا أو علاقاتنا!!!
قال أحدهم: «إنّ الحبّ يعطي الإنسان جذورًا وأجنحة». تلك الجذور هي انتماء شديد وصادق وانطلاق من الواقع، والأجنحة هي حريّة حقيقيّة لا تُوهب بنضالٍ خارجي فقط ولكنّها تتحقَّق بصراعٍ ضدّ كلّ قوى شريرة في الداخل والخارج، لتنضج الحريّة كثمرة نتمتّع بها. لا يمكن لقوى الشرّ أن تنهزم إلاّ بالحبّ ولا يمكن لقوى البُغضة أن تندحر إلاّ بالغفران؛ فالشيطان لا يخرج شيطانًا، وكلّ مملكة منقسمة على ذاتها تخرب، هكذا قال المسيح.
مرّة أخرى لمن يتهمون المحبّة بالتخاذل، فإنّ الهويّة المسيحيّة لا تقف ضدّ المطالبة بالحقّ المشروع ولكنّها تنهي بشكلٍ قاطع عن انتهاج وسائل العالم وأدواته للحصول على الحقوق..
حقوقنا تجتذب أنظار العالم حينما نرفعها على رايّة المحبّة ونُذيِّلها بحتميّة الغفران.. لا طريق آخر..
_____
الحواشي والمراجع :

(1) أدعو الجميع لقراءة الكتاب الرائع عنه الذي أصدرته سلسلة النوابغ للكاتب أديب مصلح (السياسي القديس: المهاتما غاندي - 1992).
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:10 PM   رقم المشاركة : ( 4 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

ثقافة الأقطاب

أكثر ما يقلقني في اللّحظة الراهنة التي يمرُّ بها مجتمعنا هو الانحصار في الأقطاب.. وتخلُّق حالة مجتمعيّة جديدة لا تقبل بالتحليل الموضوعي العاقل، ولعل ذلك مفهوم في سياق الثورة، التي هي بتكوينها دفقة شعبويّة مدفوعة بالمشاعر لها صفة الجمعيّة، وهو ما يجعل رأي الفرد أو العقل غير مسموع في صخب الأصوات المتلاطمة؛ فتكوين الثورة قائم على هدم الخطأ وليس بناء صروح الحق والعدل، تلك مرحلة تالية تحتاج إلى هدوء وتعقُّل ووضع خطط وبحث متأنّي لئلا يدفعنا إيقاع الثورة المتلاطم لبناء بناء رملي مُزيَّن من الخارج لكن دونما أساس.
ولعل الخوف يتصاعد من إمكانيّة دخول تلك الرؤية إلى كنائسنا فنتحوَّل إلى فِرَق لا نستمع فيها إلى الآخر، ونرى الحق في الأقطاب فقط، ونتبنّى منهج امتلاك الحقيقة!! مطبقين منهج الثورة المجتمعيّة داخل كنائسنا!! بيد أنّ المجتمع غير الكنيسة وطُرق الإصلاح والتغيير ليست واحدة والقياسات للخطأ والصواب ليست متشابهة ومن ثمّ فإنّ النتائج لن تكون واحدة.
علينا أن ندرك أن دستور الكنيسة هو الإنجيل.. لن يتغيّر.. لذا فليس هناك ما يُسمَّى بشرعيّة ثورية تُسقط الدستور القديم داخل الكنائس أي الإنجيل والإنجيل يضع أساسات لا تقبل الجدل ولا المواربة مؤسَّسة على السلام والمحبّة واحترام الآخر وقبوله.. وليس معنى إخفاق البعض في تطبيق تلك الأُسُس الإنجيليّة أن نهدم المعبد ونعامله بالمثل!!! فالعين بالعين ليست منطق العهد الجديد، فقط أن نُحِبّ الآخر وأن نمد له يدَ المساعدة وأنْ ننزع، بكلمات مُملّحة بالنعمة والرقّة الإنجيليّة، من على عينيه الغشاوة ليرى حقّ الإنجيل وبهاء وصيّة المسيح..
لن نُغيِّر إلا بإعلان حقٍّ منزوع البُغضة والكراهية..
لن نُغيِّر إلا بتوسُّل للمسيح أنْ يلمس القلوب الحجريّة لتصير صلصاليّة تقبل التشكُّل من جديد بأيدي المُخلِّص..
لن نُغيِّر إلاّ بتحرُّرنا من منطق الزعامة والزعامة المُعارضة..
لن نُغيِّر إلاّ بقبول ميزان الإنجيل الدقيق..
لن نُغيِّر إلاّ حينما نتغيَّر عن شكلنا بتجديد أذهاننا لنعكس الحقّ كما يريده المسيح لا كما تصرخ به غضبتنا الشعبيّة..
إنّه لا يأتي في عصف الرياح ولا في زلزلة الصخور ولا في لهب النار ولا في بروق اللّيل!!!
يأتي مع النسيم الهادئ.. مع طيف الحبّ والسلام..
وإنّ جاء تغيَّر كلّ شيء حلمنا به..
فهل نقبل مجيئه...
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:11 PM   رقم المشاركة : ( 5 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

الخوف مرض الأحاديّة

من الضروري بل ومن الطبيعي أن نواجه مشكلاتنا المجتمعيّة بصراحة ووضوح إن أردنا أن نخرج من أزمات تتفجَّر كل يوم في أروقة مجتمعنا؛ تلبس ثياب أخلاقيّة تارة، وأيديولوجيّة تارة، وسياسيّة تارة، ودينيّة غالبًا. ولكن الأزمة الخفيّة خلف طبقات الأعراض الظاهرة هي الثقافة الأحاديّة ولا أعني بها أحادية الفرد، ولكن الأحاديّة قد تكون أحاديّة الفكرة أو المعتقد أو الجماعة أو الحركة أو التنظيم.. إلخ. إنه موروث ثقافي بامتياز، إذ هو نتاج حكم فرعوني قديم، لم يعد مقبولاً في المجتمعات المعاصرة والتي تبغي نموًّا إنسانيًّا قبل أي شيء آخر. والأحادية تقوم أساسًا على إقصاء الآخر وتهميشه بل وتشويهه إن أمكن حتى لا يكون له أي مكان في الصورة المجتمعيّة التي نلتقطها لبلدنا كلّ يومٍ. والإقصاء قائم، على ما أرى، على أرضية من الخوف المتأصِّل والمتجذِّر في الطمي المصري. الخوف هو أصل كلّ كارثة يشهدها المجتمع؛ فالخوف من الآخر يجعلني أقصيه، والخوف من التبعات يجعلني مستكينًا، والخوف من النظام يجعلني خانعًا، والخوف على الدين يجعلني قاسيًا، والخوف من الرأي يجعلني أصمًّا، والخوف من الفشل يجعلني انتهازيًّا... إلخ. الخوف مرضٌ إن التهم مجتمع ناله العطب وتركه جثّة هامدة تتقطّع أوصالها. والخوف ينتج الشائعات التي بدورها تعود إلى حضن الخوف محمّله بمغانم التقسيم في بنية المجتمع. لذا يجب أن نثق في أنفسنا ونثق في بعضنا البعض ونحلّل مخاوفنا ونعقلها ولا نبادر بردود أفعال قائمة على المشاعر المندفعة التي تزيد من جراحنا وتفتتنا. فالمسلم لا يجب أن يخشى من حديث المسيحي عن حقوق ضائعة، والمسيحي لا يجب أن يخشى من حديث إسلامي عن هويّة إسلاميّة، الليبرالي لا يجب أن يخشى من عنف السلفيّة، والسلفي لا يجب أن يخشى من فجور الليبراليّة، المنقبّة لا تخشى من اتهام بالانغلاق، ومسدلة الشعر لا تخشى من اتهام بالسفور، رجل الدين لا يخشى من طرح الرأي الموضوعي بعيدًا عن حشد فوقي، ورجل المجتمع لا يخشى من اختلافه مع رأي رجل دين...
ولكن متى يحدث هذا؟؟!!!
إنّ تمّ تفعيل القانون الأعمى الذي لا يبصر الاختلافات بين البشر ولكنه يبحث في الأدلة.
يحدث إن تبنّى المجتمع مبدأ الحوار القائم على إمكانية تعديل المواقف وعدم الوقوف عند مصطلحات بعينها، وهو ما سيخلق في مجتمعنا تجربة فريدة خاصّة لها مفرداتها الجديدة وتطبيقاتها الجديدة.
يجب أن نتحرّر من مخاوفنا لنتلاقى في نقاط مشتركة وما أكثرها، وحينما نتلاقى ستصبح لنا التعدُّدية عقيدة بل عقدًا يُجمِّل أعناقنا المرتفعة إلى فوق لأنّها مصريّة الواقع لا مصريّة في ظل ذكريات التاريخ.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:12 PM   رقم المشاركة : ( 6 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

طيف الحريًة يعبر الآن..

إنّ أقسى ما نلمسه الآن في وطننا هو الشعور بالحريّة!!! ذلك الشعور الذي لم نتهيّأ له بصدق من قبل؛ فالحرية التي بلا سقف كانت حلمًا لم يحطّ على أرض الواقع من قبل. كلّ حرياتنا القديمة كانت مسقوفة بمخاوفنا من النُظُم وبطشها، التي أصبحت بديهيّات تعايشنا معها وارتديناها ثوبًا التصق باللّحم وتوحّد معه. وفجأة أبرقت الحريّة من بين صخور الاستكانة، والخنوع أمام الفساد. أبرقت فأحببنا طيفها على جلودنا وعقولنا وأرواحنا. بدأت تفترش حياتنا بسرعة مخيفة لتُحرِّر من قيود الخوف التي لم نجرؤ على ملامستها من قبل. لقد ولّدت فينا الحريّة، مشاعر القيمة والمعنى. الحياة أصبحت خيارات نملك فيها يدًا بعد أن كانت طريقًا واحدًا، جلّ ما نملكه هو انتقاده ونحن مرتادوه.
لقد بَدَت قيمة جديدة في أفقنا الجديد المُتّسع باتساع الحريّة وهي: إنّ موالاة الظلم والانكفاء أمام نظراته المرعبة، له نهاية. إن اختبار لحظات سقوط الأقنعة يفجّر فينا طاقات إعلان الحقّ تحت أيّة مصاعب. تلك خبرة لم نستطع تذوّقها من قبل. أجمل مذاقة داعبت قلوبنا كانت الصبر والرجاء، أمّا الآن فالمذاقة هي معاينة انكسار الظلم والفساد والتجبُّر الذي لا يُمثَّله شخص بل كان عقيدة مجتمع قبلها أو اقتبلها طوعًا أو كرهًا. لقد أصبحت كلمات المسيح: «الحقّ يحررّكم» لها بريق خاص؛ فإعلان الحقّ يُحرّر من قيد الخوف، وإن انهزم الخوف انهزمت قوى ظلاميّة لا حصر لها وحلّ مكانها مجد الله، نور العهد الجديد، شاكيناه يسوع وسكناه.
لا نعرف ما سيأتي به الغد ولكن بالتأكيد سيكون لنا فيه يد فاعلة ومؤثِّرة، لأنّ الغد أصبح لنا. من يتراجع أمام مسؤوليّته سيتحمَّل عواقب اختياره، ومن يشارك بفاعليّة مشروعة، له أن يفخر بمصريّته، ويقتبل البركة التي أطلقها الله لشعب مصر الحيّ.
إنّه وقت لنعمل معًا لبناء بيتنا الجديد. جماله أو قبحه هو خيارنا جميعًا. فلنُجمِّل بلادنا بلؤلؤة ماسيّة هي سواعدنا العاملة وقلوبنا المصليّة..
نعم.. لنعمل من أجل مصرنا..
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:13 PM   رقم المشاركة : ( 7 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

الجرح اللّيتورجي

إذا كان كل شيء يزول
ويحمل موته في طيّه
هب لنا أن نكون الجسد
المسرور بتأدية الشكر
ديديه ريمو
إنّ الكنيسة هي دائمًا موضع الحياة، يحدث في نطاقها ذلك التحوُّل الكياني في الإنسان ليتحوَّل إلى المثال الإلهي بحسب الدعوة العليا التي جاء من أجلها ابن الله، ففيها يتم التعرُّف على الله القائم من خلال خبرة المعمودية، حيث يعبر الإنسان العتيق بحر الموت إلى شاطئ الحياة، على مثال إسرائيل العتيقة التي جازت في الماء لتعبر إلى النجاة، ومن هنا كانت المياه هي رمز الموت وطريق الحياة.. موضع الظلمة والمعبر إلى النور.. محك الإيمان ورجاء الخلاص.. ولكن الحياة في المسيح لا تتوقّف عند نهر الأردن حيث يولد الإنسان من الماء والروح، ولكنّها تسير لتصِل إلى العُليّة الضيّقة، حيث المسيح والكنيسة ملتئمين معًا بشكلٍ فائق للوصف، هناك يدخل الإنسان الجائع إلى الله في خبرة جديدة وضروريّة ضرورة الحياة نفسها.. إنّها خبرة الاتّحاد بالربّ عبر المادة.. عبر نتاج الكرمة وحصيد القمح. فمن بين سنابل القمح وعناقيد العنب يشرق الله بوجهه على البشريّة، وسط اندهاش الكنيسة وعثرة العالم!! يدعو: خذوا كلوا.. اشربوا.. إنّه يُعطي حياته لنا بشكلٍ جديدٍ لم يكن يتوقّعه العالم ولم يكن يتقبّله العقل قبل مسحة الروح القدس، إنّه سرّ الأسرار.. وسرّ الحياة المتدفّق من خزائن غنى الله التي لا تستقصى، ولكن يبقى تفاعلنا مع الله الذي يُقدِّم لنا ذاته هو محور عملنا وموضوع جهادنا.
"بدون جسد الرب، تستحيل الحياة"
(ق. كيرلس الأورشليمي)
فالنهضة الليتورجيّة التي يشهدها العالم اليوم واضحة، ولكن يخُشَى أن تكون تلك النهضة هي امتداد أفقي يرتبط بالأرقام والإحصائيّات دون الجوهر واللُّباب. فالإفخارستيا كانت في الكنيسة الأولى وسيلة للابتهاج بالرب القائم عبر تلامس حي معه في جو من الصلاة والإيمان.. كانت وسيلة فعّالة لمعانقة المسيح بشكلٍ شخصي.. كان يسودها دائمًا بهجة الحضور الإلهي وسط الكنيسة، فكانت التسابيح التي تتخلَّق في خضمّ الليتورجيا هي تعبير الكنيسة عن شعورها بالمسيح الكائن في وسطها، وكانت الطلبات (الأواشي) هي صرخات الإيمان باحتياجات البشريّة، وبلغة العصر، طالما هي تفترش من الأرض مسكنًا لها، كما أنّ الاتّحاد الذي كان يتمّ بين الكنيسة ورأسها كان مصدر سلامها ونبع أفراحها في أحلك الظروف وأقسى الشدائد. فـ“عمانوئيل إلهنا في وسطنا الآن..” هي تلك الأنشودة التي ما تزال الكنيسة تنشدها كل يوم كرد فعل لتعاينه من حضور في حاضرها الليتورجي.
لذا فإن الليتورجية إن لم يرى فيها المسيحي نبعًا للفرح.. وصرحًا للإيمان.. وزادًا للمسير.. وإطلاقًا للعالم، فإن هذا يعني أنّ هناك خلل ما في التعامل مع هذا السر العظيم الذي للتقوى.
فالحضور الكمّي ليس هو المعيار والمقياس الذي ينبغي أن نزن به الأمور، ولكن وعى الصلاة ومسرّة تذوُّق الحياة الجديدة ومعاينة الأبدية ببصيرة الإيمان، وتأثيرنا في العالم، هي البوصلة الأمينة لتوجيه دفّة المسيحي في علاقته بالليتورجيا الكنسيّة بشكلٍ عامٍ وبالإفخارستيا بشكلٍ خاصٍ.. فالمسيرة المسيحيّة ليست مسيرة فرائض وطقوس مجرَّدة ينبغي علينا أن نؤديها استرضاءً لإله لا يقنع إلاّ بالتواجد الإنساني في مكانٍ ما وزمانٍ ما، ولكنّها مسيرة تجدُّد دائم بالروح القدس الساكن فينا.. مسيرة لا تنتهي لأنها ستظل ترافقنا أبديًّا بعد أن نعبر إلى الشاطِئ الآخر من الحياة. تلك المسيرة نحياها هنا في عالمنا بالدموع والآلام التي هي سمة حياة الجسد الترابي، فتتحوَّل فينا إلى إشراقات من النور والفرح، نتذوّقها هنا كعربون ونحياها هناك كواقع لا يتوقّف ولا ينضب ولا ينتهي.
إن ما يحدث فعليًّا في الإفخارستيا حينما نواجه ذواتنا ونتلاقى مع الله، هو أنّنا نصمت فأمام هيبة الحضرة الإلهيّة تتوقّف ثرثرة الكلمات وينحسر تلاطم الأفكار التي أصبحت تسيطر على عقولنا وعالمنا. الإفخارستيا تؤهلنا لندخل مخدع السكون والخلوة، لنترك خارجًا كل أعذارنا وتبريراتنا التي نجعل منها قناع يخفى حقيقتنا، لنتعرّى أمام الله ليكسونا هو ببرّه المجاني، ونعمته الغنيّة..
والصمت في محضر الله هو الحاجة العظمى لإنسان اليوم. ولكن لا يفهم هذا الصمت كموقف سلبي من الحياة أو كردّة عن الفعل والتأثير في المجتمع أو كهروب من الواقع إلى عالمٍ آخر.. ولكنّه احتياج إنساني لكي نرصد الله في حياتنا. فالشكوى العظمى التي نعانى منها جميعًا هو عدم قدرتنا على معاينة الله ورصد حضوره، ممّا يجعلنا نتوهّم الحضور في أمور غيبيّة بعيدة كل البُعد عن نسيج الإنجيل ودعوة الروح القدس في قلوبنا، ويتبقّى الصمت وحده بمثابة نظارة مكبّرة تمكننا من رصد حركة الروح القدس حتى نستطيع أن ندركها ونستشعر عملها في إنساننا الداخلي، ونرى تلك العملية التي يتم فيها إماتة الإنسان العتيق وخروج الإنسان الجديد إلى نور الحياة.
ويتبقى أن نعي أن سر الخبز والخمر هو سر الحياة، أي أنه يُبقي على الصلة بيننا وبين النبع الإلهي الحي لتسري فينا دفقات الحياة الإلهيّة، ولو حدث أن توقّفت تلك النبضات الإلهيّة عن ضخ الحياة إلى كياننا الإنساني، فهذا يعنى الموت.. وتصبح الحياة جرحٌ دامٍ يفقدنا وجودنا الأصيل وينزع عنا قيمتنا في المسيح يسوع. ويبقَى الخطر الأكبر هو تحويل الليتورجيا إلى فريضة، والإفخارستيا إلى تعويذة، وحضور المسيح إلى غيبيّة.. هنا يتقيّح وجودنا بجرحٍ جديد؛ جرح ليتورجي، ينزف طالما كانت أعيننا منشغلة بذواتنا واحتياجاتنا وممارساتنا بعيدًا عن حضور المسيح، الذي يريد أن يتواجه مع خليقته المحبوبة ويداعبها بحبّه الأبوي..
قومي يا حبيبتي، يا جميلتي وتعالى
لأن الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:14 PM   رقم المشاركة : ( 8 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

العبث بالعقول

إنّ ما يموج به الشرق اليوم من غليان، هو نتاج تفكير مبتور، مزدوج المعايير، سابق التوجُّه، يتحكّم فيه الموروث النقلي الشعبوي والديني أكثر من ارتباطه الموضوعي، بالعقل الواعي والتحليل المنطقي، الذي ينظر إلى الإشكاليّات الحالية ككلٍّ.
إنّ الخطر الحقيقي الذي يواجه مجتمعاتنا الشرقية في هذا الزمن هو انطماس الملامح الشخصيّة للفرد، والتبعيّة العمياء لآخرين يحتكرون لأنفسهم حقّ الفهم والتقرير وقيادة الآخرين، الذي تركوا عقولهم وقلوبهم في أيدي هؤلاء ليعبثوا بها ويعيدوا صياغة العقل البشري كي لا يستوعب إلاّ تراث وثقافة وفكر أحادي البُعد، كما أصبحت جهالة الفرد بمثابة الضمان لسطوة تلك الفئة التي تتربّح من إثارة الضغينة في القلب البشري، وأصبحوا بمثابة عقل مُفكِّر لجمهور مُغيّب ينحصر دوره في الصراخ والهدم والتكفير!!!
إنّنا في هذه الحقبة نعاني بشدّة من تحويل الديانة التي تهدف إلى الارتقاء بالإنسانيّة، إلى أقنعة سياسيّة، أي جعل الدين واجهة شرعيّة لخلفيات ومطامع سياسيّة وسلطويّة تخدم مَنْ ينسجون من العقيدة والدين ثوب فضفاض يصلح لأغراض مُتعدِّدة (حسب الطلب)، وقد يكون ذلك لتوغُّل الوازع الديني في كيان الإنسان الشرقي ممّا يجعل من النُصرة للدين قضية وجود، حتى وإن كان الثائر من أجل الحقّ لم يعرف طريق الله، إلاّ أنه يستشعر أن عليه أن يحامي عن إلهه!! ضدّ أي خطر ينتقص من سموه وتعاليه، وكأنّ في ذلك تعويض عن إقامة علاقة شخصيّة واعية مع الله، وبالتالي يصبح الانتصار لله على أشلاء الآخرين هو المُسكِّن الذي يلجأ إليه الإنسان عندما يثور الضمير ويصرخ من كثافة الظلمة التي يختزنها القلب.
ولعل أول طرق الإصلاح الديني ومن ثمّ السياسي، في بلدنا، هو تنمية القدرة الشخصيّة على التفكير واتخاذ القرار بهدوءٍ وتروٍ، بعيدًا عن انفعالات الخطباء، واستثارة العاطفة الدينيّة المُرهفة بحسب التكوين، فيصبح الموقف الذي يتّخذه الفرد موقف شخصي يتحمّل مسؤوليّته وتبعاته، ويتحوّل الإنسان إلى قوّة دفع للمجتمع نحو الصدق والرقي والتقدُّم، بدلاً من كونه أداة صمّاء في أيدي آخرين، يُفجّرونها في المجتمع وقتما شاءوا ليرهبوا بها عدو الله، وليقضوا على كل بادرة أمل خضراء تحاول شق الصخور لترى نور الحياة في مصرنا الحبيبة.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:14 PM   رقم المشاركة : ( 9 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

الحبّ المناضل

إنّ ما نمرُّ به كمسيحيّين شرقيّين من تهميش وتمييز وتفرقة واضطهاد علني في بعض الأحيان، يجعل الكثيرين يقفون في حيرة أمام دعوة الإنجيل التي تؤكِّد وتُشدِّد على الحبّ كضرورة وجود، إنْ أهملناها أو أبطلنا عملها نكون بذلك توقّفنا عن أنْ نصير بشرًا على صورة الله ومثاله. ولكن أمام دعوة المحبّة نتساءل: هل المحبّة تفترض ألاّ أُطالب بالحقِّ؟ هل تتطلّب الصمت أمام الظُلم والاضطهاد؟ هل تتنافَى مع النضال من أجل المواطنة في بلدنا؟ وغيرها من التساؤلات ذات الصلة التي تستوقفنا وتلقي بنا في حيرةٍ وتخبُّط ليل نهار!!
إنّ أول ما يجب أن نلتفت إليه، هو أنّ المحبّة لا تعني تلاشي واندحار الأعداء؛ فالمسيح كان موضع عداء وكراهية الكتبة والفريسيّين والصدوقيّين والناموسيّين، وكثير من فئات الشعب!! ولم يكن يومًا يتخلَّى عن رسالته الخلاصيّة والتعليميّة مقابل استرضاءٍ ذليلٍ لرؤساء الشعب. حتى إنّه دفع الثمن غاليًا على خشبة الصليب، وكان موته ثمن الخلاص للبشريّة لاهوتيًّا، كما أنّه ثمن الصراع من أجل الحقّ إنسانيًّا. فالمسيح لم يتوقّف يومًا عن الدعوة للحقّ حتى لو كان الموت هو الضريبة التي يتحتّم عليه دفعها.
إنّ الحياة بتنوّعها الإنساني والفكري والثقافي والديني والطبقي والعرقي.. إلخ، تفترض الاختلاف، والاختلاف يظهر في وجهيْن؛ وجه مع الحقّ، ووجه يدّعي الحقّ، ولكلٍّ مريديه ومؤيديه. ولكن العالم دائمًا ما يستقطب أعداء الحقّ ويرفعهم في المناصب ويُغدِق عليهم الأموال ويضع في أياديهم صولجان السلطة، لكي ما يستطيع أن يقضي على صوت الحقّ الصارخ في بريّة العالم الموحشة، ولما لا فالعالم كلّه قد وضع في الشرير، كما أعلن المسيح.
من هنا كان النضال الإنساني من أجل الحقّ هو أعظم فعل محبّة نحو خير البشر والبشريّة، فالاستسلام للظلم ليس مرادفًا لمحبّة الأعداء. كما أنّ الخنوع هو صمت العاجزين أمام الظُّلم، بينما محبّة الأعداء هي حركة الأقوياء التي تسمو فوق الغضب الإنساني العشوائي، بالسلام، الذي يسكبه روح الله في أعماقنا، كعطيّة من عطايا التبنّي، التي صارت لنا في المسيح يسوع.
والنضال ضدّ الظُلم لا يجعل من العدو هدفًا ولكنّه يستهدف الشرّ الذي يصدر من العدو، أو بمعنىً آخر، إنّه يفرِّق بين الشخص وأفعاله، بين الإنسان وشرّه، إنّه ضدّ اختزال الإنسان فيما يفعله أو فيما يقوله، وإن كنا ضدّ ما يفعله وما يقوله، فالقلب يرى الإنسان إنسانًا، موضع عمل الله ورجاؤه، على الدوام، بينما الفكر يُناضِل ضدّ استفحال شرّ الإنسان وانتشاره في جسد البشريّة.
ومحبّتنا لأعدائنا لا يجب أن تُفهَم في إطار المشاعر، فالمشاعر الإنسانيّة يصعب عليها التخلُّص من ذكرَى المُسيئين التي نُقشت في الوجدان، ولكن تلك المحبّة في جوهرها هي موقف تجاه الآخر، فيه نُصلِّي من أجله، ونسعَى من أجل انفتاح بصيرته. إنّه موقف مَنْ لا يُجازي عن الشرّ بالشرّ، ولا عن العنف بالعنف، ولا على الإهانة بالإهانة. كما يقتضي هذا الموقف التصدّي لمحاولات الظُلم والعبث الذي يُشوِّه الوجود الإنساني، ولعلّ كلمات جوستافو جوتياريز توضح هذا المفهوم، إذ يقول:
محبّة الظالمين تكون بتحريرهم من وضعهم اللإّنساني
الذي يجعلهم يتصرّفون على هذا المنوال،
إنّها تكون بتحريرهم من ذواتهم..
فمحبة المريض تقتضى أن نستخدم الحقن الحادّة، والأدوية المُرّة، والمشرط المؤلم، للتخلُّص من المرض الذي يُهدِّد حياة الإنسان. هكذا فالمحبّة الحقيقيّة تفترض المواجهة بقلبٍ نقيٍّ وحياة مُقدّسة واتّضاع صادق وصراخ جريء يستوقف الجميع حتّى تنصلح مسيرة الإنسان ويدرك أصله الإلهي الذي يرفض الشرّ والظلم والعدوان. والمحبّة في المسيحيّة لا تستخدم سيفًا ولا رمحًا لفرض سلطانها -كما ذكرنا أيضًا هنا في ولكنّها تصرخ بالحقّ.. تتألّم وتُجرَح وتُصْلَب، لكنّها لا تتوقّف، لأنّها محبّة مصدرها المسيح القائم الذي لم تُبكِمه المؤامرات ولا الاضطهاد ولا الموت، ولكنّه قام بمجدٍ، ليُدشِّن لنا طريق الحريّة بالنصرة؛ نُصرة الحبّ على الكراهية..
أن نكافح حقيقة وبطريقة فعّالة دون أن نحقد،
ذلك هو التحدّي الجديد،
وجدّة الإنجيل،
إنّها محبّة الأعداء
(جوستافو جوتياريز)
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 12:15 PM   رقم المشاركة : ( 10 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,272,135

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي

أيها النور

الحياة جراح
والنصرة جراح
والميناء ضمادة الجرح المشقق بخنجر قُوى المجهول..
جراحٌ
أذابها نسيم الفجر المترقرق في دعابة النور..
دعابة على ليل مضى وخلع عباءته انكسارًا واندحارًا
فهل سيستسلم الليل لغمر النور
المُرسل من العوالم الأبدية!!
أم سيلقي بسهامه عبر طاقةٍ،
انتزعها نجم، من ثوب الليل؟؟
أيها النور،
فلتكن درع الرجاء،
لجنودك الذين يمخرون عباب الليل الأدهم..
ولتترنم في آذانهم بنشيد الفجر،
حينما يتردد صدى همهمات الليل،
ولتغمرهم وتحصرهم بومضات عالمك السري
حتى يسيروا في قافلتك المرتحلة
متشبثين بثوبك،
ويصيرون أبناءَ، مضيئون في بهاء موكبك المحلِّق
نحو شمس الوجود..
  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
نحتفي بك،، أبونا الراهب سارافيم البرموسي
- قام لنقوم.. مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي
العبث بالعقول ( أبونا الراهب سارافيم البرموسي )
اللاّوعي والإدانة (أبونا الراهب سارافيم البرموسي)
ميلاديات أبونا الراهب سارافيم البرموسي


الساعة الآن 10:34 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024