- أ. حلمي القمص يعقوب
- هل أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان؟ وما الدليل على ذلك؟
ج: نعم أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان، وإليك بعض الأمثلة التي تشرح وتؤيد هذا الأمر:
1ـ كان الشيطان يعرف أن العذراء ستلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل حسب نبوة إشعياء: "ها العذراء تحْبَلُ وتَلد ابنًا وتدعُو اسْمَه عمانوئيل" (إش 7: 14) فظل منتظرًا هذه العذراء التي ستَلَد المُخلّص، ولكن اللَّه فوَّت عليه الفرصة إذ عند تجسده وُلِد من عذراء مخطوبة ليوسف النجار، وكانت مجرَّد الخطبة عند اليهود تجعل الزيجة قائمة شرعًا لذلك عندما كُتِب الإنجيل بعد إتمام الفداء بعشرات السنين أوضح هذه الحقيقة فقال متى البشير: "لمَّا كانت مريم أُمَّه مخطوبة ليوسف، قبل أن يجتمعا، وُجِدت حُبلى من الرُّوح القدس" (مت 1: 18) ودعى الملاك مريم العذراء امرأة يوسف "لا تَخف أن تأخذ مريم امرَأَتَك" (مت 1: 20) لذلك لم يشكّ اليهود في مريم العذراء، والآباء القديسون يُلقّبون يوسف البار بلقب "حامي الحبَل الإلهي"، فالشيطان لم يعرف حقيقة الحبَل الإلهي، وأيضًا ولادة السيد المسيح في مذود البقر كانت في منتهى التخلّي والتواضع جعل الشيطان الذي لا يفهم التواضع يستبعد تمامًا أن يكون المولود هو المُخلّص الرب.
2ـ عندما سَجَد المجوس لربنا يسوع وقدَّموا هداياهم بعد أن ظهر نجمه في السماء شكَّ الشيطان في شخصية المولود، ولكن عندما رأى الطفل يهرب مع أمه ويوسف النجار إلى أرض مصر عاد وشكَّ في كونه المُخلّص، لأنه كيف يخلّص البشرية من قبضة الشيطان من يهرب من أمام هيرودس؟
3ـ كان الشيطان واليهود يعرفون أن المُخلِّص سيخرج من بيت لحم حسب نبوة ميخا النبي "أمَّا أنت يا بيت لَحْم أفرَاتَةَ، وأنتِ صغيرة أن تكوني بين أُلوفِ يهوذا، فَمِنك يَخرج لي الذي يكون مُتسلّطًا على إسرائيل، ومخَارجُهُ مُنذ القديم، منذ أيام الأزل" (مي 5: 2) وقد تمّت هذه النبوة ولكن ليس بالطريقة التي كان يتوقعها الشيطان، فقد كان يظن أن المُخلّص سيولَد ويعيش ويخرج من بيت لحم، لكن النبوة تحقَّقت بطريقة عابرة لم تلفت نظر الشيطان، فالفترة التي قضتها العائلة المقدَّسة في بيت لحم فترة قصيرة، مضت بعدها إلى أرض مصر. ثم عادت العائلة المقدَّسة وسكنت في مدينة الناصرة التي قيل عنها "أمِن النّاصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟" (يو 1: 46)، وفيها ظل ربنا يسوع حتى سن الثلاثين ولذلك دُعيَ بيسوع الناصري. وحتى اليهود تشكَّكوا في شخصيته فقالوا أنه حسب النبوات لا بد أن يخرج المسيح من بيت لحم، ولكن هذا الإنسان خرج من مدينة الناصرة بالجليل: "آخرون قالوا: هذا هو المسيح. وآخَرون قالوا: ألعل المسيح من الجليل يأتي؟ ألم يَقُل الكتاب أنه من نَسل داود، ومن بيت لحم، القرية التي كان داود فيها، يأتي المسيح؟ فحدث انشقاق في الجَمَع لسَبَبِهِ" (يو 7: 41 ـ 43).
4ـ انبهر الشيطان من عِلم السيد المسيح الذاتي، وأبصره وهو بعد صبي في سن الثانية عشر يقف في الهيكل ويسأل الشيوخ ويناقشهم ويفهم جميع النبوات وأقوال الكتاب، رغم صِغر سنه، وأنه ابن نجار ولم يسلك في التعليم: "وكل الذين سمعوه بُهتُوا من فهمه وأجوبته" (لو 2: 47) فشكَّ أنه المُخلّص. ثم عاد ولاحظ أنه خاضع لوالديه "وكان خاضعًا لهما" (لو 2: 51) وأنه يتدرّج في النمو مثل جميع البشر "وأما يسوع فكان يتقدَّم في الحِكْمَة والقامَةِ والنعمَةِ، عند اللَّه والناس" (لو 2: 52) فيعود الشيطان ويتشكَّك قائلًا: كيف يكون هو اللَّه ويخضع للبشر؟! وكيف يكون هو اللَّه ويخضع لمستلزمات البشرية في النمو والتقدُّم في الحكمة والقامة؟!
5ـ رأى الشيطان أن السيد المسيح قد أمضى ثلاثين سنة من عمره بدون خدمة أو كرازة. ثم رآه يتقدَّم في صف الخطاة التائبين كمن هو محتاج إلى خلاص، لينال العماد من يوحنا المعمدان، فيتعجَّب ويقول: "هل هذا هو المُخلّص؟!.. ثم يراه يصلّي فتنشق السماء وروح اللَّه يحلُّ عليه، ويسمع صوت الآب قائلًا: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرّرت".. فيسأل: هل يمكن أن يكون ابـن اللَّه بالطبيعة؟ ولماذا لا يكون ابنه بالتبني، مثله مثل أولاد شيث الذين دعاهم الكتاب أبناء اللَّه: "إن أبناء اللَّه رأوا بنات الناس أنَّهُنَّ حَسَناتٌ" (تك 6: 2).. ألم يقل اللَّه عن شبعه: "ربَّيت بنين ونشأتُهُم" (إش 1: 2)؟ وألم يقل إشعياء: "فإنك أنت أبُونا.. أنت يارب أبونا" (إش 63: 16) "والآن يارب أنت أبونا" (إش 64: 8).
6ـ في التجربة على الجبل بذل الشيطان قصارى جهده لمعرفة حقيقة الشخصية التي يواجهها، فبعد أن صام السيد المسيح أربعين يومًا "جاع أخيرًا" (مت 4: 2)، وتحيَّر الشيطان.. إن كان هذا ابن اللَّه فكيف يجوع؟ وطرح عليه السؤال "إن كنت أنت ابن اللَّه فقُل أن تصير هذه الحِجارَة خُبزًا" (مت 4: 3).. وربنا يسوع لم يجاوبه بالنفي أي لم يقل له "أنا لست ابن اللَّه"، وأيضًا لم يجاوبه بالإثبات أي لم يقل له "أنا ابن اللَّه"، بل قال له: "مكتوبٌ: ليس بالخُبز وحْدَه يحيا الإنسان، بل بكل كلمَةٍ تخرُج من فم اللَّه" (مت 4: 4) وظل الشيطان قلقًا. ثم أخذه على جناح الهيكل وكرَّر عليه نفس السؤال: "إن كنت ابن اللَّه فاطْرَح نفسَك إلى أسْفَل، لأنه مكتوبٌ: أنه يُوصِي ملائكَتَه بك، فعلى أياديهم يحمِلُونَكَ لكي لا تَصْدِم بحَجَر رجْلَكَ" (مت 4: 6). وربنا يسوع أجاب عليه دون أن يمنحه ما يتمناه. فلم يفعل إرادة الشيطان ويثبت أنه ابن اللَّه، ولم يقل له إني لا أستطيع ويثبت أنه ليس هو ابن اللَّه، ولكنه قال له: "مكتوبٌ أيضًا: لا تُجَرّب الرّب إلهَكَ" (مت 4: 7) وظل الشيطان قلقًا أكثر وأكثر. ثم أخذه على جبل عالٍ وعرض عليه ممالك العالم كله إن خرَّ وسجد لـه، وهنـا قال له ربنا يسوع "اذهب يا شيطان! لأنه مكتُوبٌ: للرب إلهكَ تَسْجُد وإيَّاه وحْدَه تَعْبُد" (مت 4: 10).. ولم يقل له ربنا يسوع أنه صاحب هذه الممالك.