رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أعماقه تدفعه للتدخل فَإِنَّهُ لَمْ يُوَجِّهْ إِلَيَّ كَلاَمَهُ، وَلاَ أَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَا بِكَلاَمِكُمْ [14]. يقول أليهو: "إنني لست طرفًا في الحوار، فإن أيوب لم ينطق بكلمة واحدة ضدي، لهذا فإن حديثي لا يحمل انفعالات، أو يصدر عن إثارة داخلية، إنما ينبع عن الرغبة في الحق. وفي نفس الوقت سوف لا أتحدث معه بأسلوبكم المملوء عنفًا وجفاءً، فحمل غباوة خرجت من أفواهكم. هكذا دون محاباة، وفي غير تحيز أتكلم معه وأيضًا معكم". تَحَيَّرُوا. لَمْ يُجِيبُوا بَعْدُ. انْتَزَعَ عَنْهُمُ الْكَلاَمُ [15]. يبدو أنه تحول بنظره إلى الحاضرين، وبدأ يتحدث معهم عن موقف الأصدقاء الثلاثة، حيث صاروا في حيرة، لم يستطيعوا أن يجيبوا بكلمة، فقد شعروا بأن كلماتهم لغو لا قيمة لها. يرى Good أن الحديث هنا لا عن الأصدقاء، بل عن كلماتهم التي لم تعد تحمل أية فاعلية، تخرج من أفواههم لتتبدد في الهواء، لا تحمل أي معني؛ لا تقدم شيئًا جديدًا. فَانْتَظَرْت،ُ لأَنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا. لأَنَّهُمْ وَقَفُوا لَمْ يُجِيبُوا بَعْدُ [16]. يقول أليهو أنه ينتظر من الأصدقاء أن ينطقوا بكلمة، ويجيبوا على أيوب، وإذ صاروا بُكم، تقدم هو ليتكلم. يرى البابا غريغوريوس (الكبير)في أصدقاء أيوب رمزًا للهراطقة الذين يثيرون مجادلات كثيرة، يتهمون الكنيسة ويقاومونها، لكنهم في النهاية يسند الرب كنيسته ويُبكم الهراطقة. فَأُجِيبُ أَنَا أَيْضًا حِصَّتِي، وَأُبْدِي أَنَا أَيْضًا رَأْيِيِ [17]. قد حان الوقت ليأتي دور أليهو. الآن صار كمن ينال نصيبه، بأن يكشف عن المعرفة التي كتمها طوال الحوار الذي دار بين أيوب والأصدقاء. حسب هذا نصيبه الذي صار له كعطية لطيفة مقدمة له. يرى البعض أن قوله: "وأبدي أنا أيضًا رأيي" في الأصل العبري يحمل مسحة من الرقةٍ والتواضعٍ، لا تظهر بوضوح في الترجمات إلى اللغات الأخرى. كأنه يقول: "حتى أنا الصغير، إنسان متواضع مثلي، يُسمح له أن يعبر عن آرائه، بينما لم يعد لدى الشيوخ والعظماء ما ينطقون به". لأَنِّي مَلآنٌ أَقْوَالًا. رُوحُ بَاطِنِي تُضَايِقُنِي [18]. يحمل المؤمن الحقيقي روحًا نارية، متشبهًا بالله النار الآكلة، أو نار حب لا تُطفأ (خر 24: 7؛ تث 4: 24؛ عب 12: 29)، فيصير كأحد خدام الله الذين قيل عنهم: "خدامه لهيب نار" (عب 1: 7). يحمل المؤمن كلمة الله - نار الحب المتقد - فيصير كمعلمنا بولس الرسول إذ كان "منحصرًا بالروح" (أع 18: 5)، مملوء غيرة روحية متفدة، يقول: "فإني أغار عليكم غيرة اللَّه، لأني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2 كو 11: 1).ويصرخ مع إرميا النبي: "أحشائي، أحشائي، توجعني جدران قلبي، لا أستطيع السكوت" (إر 4: 19)، "فقلت لا أذكره، ولا أنطق بعد باسمه، فكان في قلبي كنارٍ محرقة، محصورة في عظامي، فمللت من الإمساك ولم أستطع" (إر 20: 9). هكذا شعر أليهو كمن يحصره روح الله، ويلهب نيران حبه نحو أيوب كما نحو أصدقائه وجميع الحاضرين، يطلب في غيرة متفدة من أعماقه ما هو لبنيانهم ومجدهم الأبدي. لقد صمت الأصدقاء الثلاثة ولم يجدوا كلمة ينطقون بها، لأنهم افرغوا الكلمات الصادرة عن حسدهم لأيوب، وصاروا كمن قاموا بتفريغ ما في جعبتهم، أما أليهو الذي صمت إلى حين، ففي داخله كلمات حب لا تفرغ، يود أن يتكلم لا كمن يشتهي التعليم، ولا من كرسي السلطة، ولكن من موقع الحب والحنو على الجميع، تفيض كلماته من أحشائه، أو كما يقول: "روح باطني". * يستخدم بولس هنا كلمة أقوى بكثير من "الحب" المجرد. فالنفوس الغيورة تلتهب بحماس من جهة المحبوبين لها. الغيرة تفترض عاطفة قوية. لذلك فلكي لا يظنوا أن بولس يطلب سلطة أو ثروة أو كرامة يضيف أن غيرته إلهية. فقد قيل عن الله إنه غيور، ليس بطريقٍ بشريٍ، وإنما لكي يعرف كل واحدٍ حقه في السيادة على مَن يحبهم، وأن ما يفعله هو من أجل نفعهم المتزايد. تقوم الغيرة البشرية أساسًا على الأنانية، أما الغيرة الإلهية فهي قوية ونقية. لاحظ الفارق بين العروس البشرية والكنيسة. ففي العالم المرأة العذراء قبل الزواج تفقد بتوليتها بزواجها. أما في الكنيسة فإن الذين كانوا بتوليين إلى حدٍ ما قبل رجوعهم إلى المسيح يتمتعون بالبتولية فيه. لذلك فإن الكنيسة كلها عذراء. * يقال أيضًا عن الله أنه غيور، فلا يظن أحد أن (اللاهوت) به هوى، وإنما لكي يعرف الكل أنه يفعل كل شيء ليس إلا من أجلهم هؤلاء الذين يغير عليهم، لا ليقتني شيئًا بل لكي يخلصهم. القديس يوحنا الذهبي الفم هُوَذَا بَطْنِي كَخَمْرٍ لَمْ تُفْتَحْ. كَالزِّقَاقِ الْجَدِيدَةِ يَكَادُ يَنْشَقُّ [19]. إذ قدم أليهو عذرًا أنه يتكلم في حضرة الشيوخ دخل في مناجاة مع نفسه، بأنه قد امتلأ داخله بغيرةٍ متقدةٍ، حتى كادت نفسه تنفجر كالزقاق الجديد المملوء خمرًا، أو كمنفاخٍ حدٌَاد مملوء هواءً. في مناجاته يعلن أنه لا يحابي أحدًا، ولا يتملق إنسانًا! جاءت أحاديث أليهو ليس كمن يطلب إجابة على تساؤلات أو على اتهامات، وإنما كمن ينظر إلى المشكلة بنظرة عامة، ليهيئ الطريق للحوار بين الله وأيوب. يمكننا تفسير كلمات أليهو رمزيًا، فالبطن تشير إلى أعماق القلب، والخمر الجديدة إلى الروح، كقول السيد المسيح أن تُوضع خمر جديدة في زقاقٍ جديدٍ (مت 17:9). فإذ امتلأ التلاميذ بالروح القدس الذي حلّ عليهم في يوم الخمسين، صاروا كزقاقٍ جديدٍ مملوءة خمرًا جديدة، فانطلقت ألسنتهم تنطق حسب الروح. وإذ لم يدرك اليهود الحق الإلهي اتهموا التلاميذ أنهم مملؤون سلافة كسكرى (أع 4:2). أَتَكَلَّمُ فَأُفْرَجُ. أَفْتَحُ شَفَتَيَّ وَأُجِيبُ [20]. لم يستطع أليهو أن يحتفظ بالصمت، فانفجر بالحديث حتى تستريح نفسه. هذا ما جدث مع إرميا النبي المملوء بالحنو الشديد نحو شعب الله، كيف اشتهى أن يصمت لكن نيران حبه ولهيب كلمة الله التي في أعماقه، ألزماه بالكلام. لست أظن أننا نلوم أليهو على موقفه، بل نتعلم منه متى نصمت ومتى نتكلم، وكما يقول الحكيم: "للسكوت وقت، وللتكلم وقت" (جا 3: 7). * العاقل هو من يسعى في إرضاء الله ويُكثر من الصمت، وإن تكلم يتكلم قليلًا، ينطق بما هو ضروري ومرضي لله. * في الصمت ترى عقلك، ولكن عندما تستخدم عقلك فإنك تتكلم في داخل نفسك. لأنه أثناء الصمت يلد العقل الكلمة، وكلمة الشكر التي تُقدم لله هي خلاص الإنسان. * من يتكلم بغباءٍ ليس له عقل، إذ يتكلم دون أن يفكر في كل الأمور. لذلك امتحن ما هو مفيد لك، لأجل خلاص نفسك، لكي تفعله. القديس أنبا أنطونيوس الكبير لاَ أُحَابِيَنَّ وَجْهَ رَجُلٍ، وَلاَ أَتَمَلَّقُ إِنْسَانًا [21]. كأنه يقول: "أتوسل إليكم، دعوني ألاَّ أحابي إنسانًا من أجل شخصه، ولا أداهن الناس من أجل ألقابهم". هذا ليس حديثًا موجه إلى الحاضرين، ولا صلاة يقدمها لله، لكنه تعبير يكشف عن تصميم قلبه أن يتكلم بروح الحق، دون محاباة للوجوه، ولا مداهنة لأحدٍ أيا كان مركزه أو إمكانياته. يود أن ينطق بالحق دون خوف أو مجاملة أو نفع شخصي له. "هذه أيضًا للحكماء محاباة الوجوه في الحكم ليست صالحة" (أم 24: 23). "محاباة الوجوه ليست صالحة، فيذنب الإنسان لأجل كسرة خبز" (أم 28: 21). "وأنتم أيها السادة افعلوا لهم هذه الأمور، تاركين التهديد عالمين أن سيدكم أنتم أيضًا في السماوات وليس عنده محاباة" (أف 6: 9). "وأما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة" (كو 3: 25). "أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين أن تحفظ هذا بدون غرض ولا تعمل شيئًا بمحاباة (1 تي 5: 21). "يا إخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة" (يع 2: 1). "وإن كنتم تدعون آبا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم بخوف" (1 بط 1: 17). "لأن ليس عند الله محاباة" (رو 2: 11). "ليس عند الرب إلهنا ظلم ولا محاباة ولا ارتشاء" (2 أي 19: 7). إذ أرسل الله ابنه الوحيد من أجل محبته للعالم كله بلا محاباة، وبذله لأجلنا أجمعين، نتلمس عدم محاباة الله. هذا وبكوننا أعضاء في جسد المسيح محب البشرية يليق بنا ألا يكون لنا محاباة. فمن جهة عدم محاباة الله قيل: * الله ليس عنده محاباة من جهة الأشخاص، أنه يحكم بالأعمال. القديس يوحنا الذهبي الفم العلامة أوريجينوس القديس جيروم "إني أنا أيضًا إنسان قابل للموت، مساوٍ لجميع الناس، مُتَّحّدِّرٌ من أولِ من جُبِلَ من الأرض، وقد صُوِّرتُ جسدًا في بطن أمٍّ، وفي مُدة عشرةِ أشهرٍ تكوَّنتُ في الدم، من زرع رجلٍ. ومن اللذة التي تصاحب النوم" (الحكمة 7: 1-2). لأَنِّي لاَ أَعْرِفُ التَّمَلُّقُ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيلٍ يَأْخُذُنِي صَانِعِي [22]. دفاعه عن أيوب ليس صادرًا عن محاباة أو مداهنة، ولا لطلب نفعٍ خاصٍ به، فإنه لم يعد لدى أيوب من سلطةٍ أو إمكانيات حتى يداهنه أليهو، وإنما يدافع عمن هو في وسط المزبلة، وإن كان في دفاعه يشير إلى خطأ أيوب الذي مع برِّه حين أتهم انشغل تمامًا بالدفاع عن نفسه، حتى على حساب تأكيد رعاية الله له وحنوه عليه. كان أليهو يتمتع بالشعور بالحضرة الإلهية، فلا يخشى إنسانًا ما، الأمر الذي يسقط في شباكه كثيرون، كقول الحكيم: "خشية الإنسان تضع شركًا، والمتكل على الرب يُرفع" (أم 29: 25). ما كان يشغل قلب أليهو هو شعوره بسرعة مجيء الرب، حيث يُحمل من هذا العالم ويقف أمامه، ويعطي حسابًا عن كل ما في قلبه وفكره كما عن سلوكه، وذلك أمام الخالق العارف بكل أسرار الإنسان، ولا يُخفى عليه شيء. هذا ما كان يدفعه للصمت ليسمع ويدرس في تأني، وهو ما يدفعه للكلام ليُقدم الحق في بساطةٍ وبدون تنميقٍ. هنا يدعو الله: "صانعي"، فهو الله الخالق المُهتم به شخصيًا، والعارف بأعماقه. هو إله الحق، وهو الحب، يقدم الحق لمؤمنيه، ويكشف لهم عنه أكثر فأكثر، ويسندهم لينطقوا بالحق، ويسلكوا فيه. هكذا يختم أليهو مقدمة حديثة الطويلة بتأكيد أنه لا يتملق أحدًا، ولا يحابي أصحاب الألقاب، إنما يقدم الحق في بساطة من أجل صانعه الذي يقف أمامه في يوم الرب العظيم. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
وهكذا كانت خطايا الناس تدفعه إلى البكاء، ولا تدفعه إلى الإدانة { القديس يوحنا القصير } |
عبٌر أيوب عن المرارة التي في أعماقه |
ذو الرأي الممكن تحفظه |
إذ تحفظه لا يحفظك |
عيش القانون قبل ما تحفظه |