رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
نسبة السفر لإشعياء ووحدته: يحاول بعض النقاد المحدثين أن ينكروا وحدة السفر ونسبته بأكمله لإشعياء النبي. فيدّعى البعض أن إشعياء كتب القسم الأول منه (إش 1: 39)، وأن آخر اصطلحوا على تسميته "إشعياء الثاني" كتب بقية السفر. وادعى آخرون أن المدعو إشعياء الثاني كتب فقط الأصحاحات (40-55) بينما ثالث كتب الأصحاحات (56-66). وقد بدأت هذه النظرية (تجزئة السفر) بتعليقات J. C. Doderlein عام 1775 م. وJ. G. Eichhorn عام (1780-1783). ومنذ بدء القرن العشرين بدأ بعض المفسرين يفصلون بين هذه الأجزاء ككتب مستقلة. وأما حججهم في ذلك فهي: 1. الخلفية التاريخية: لا يقبل الناقدون إمكانية روح الله في الكشف عن المستقبل أمام رجال الله لبنيان الجماعة، ولا يدركون قول ابن سيراخ عن إشعياء أنه تحدث عن المستقبل (ابن سيراخ 48: 24). لذا يؤكدون أن كاتب الأصحاحات (40-60) كان معاصرًا للإمبراطورية البابلية وعن انهيارها أمام كورش (إش 44: 28، 45: 1)... كما سبق أن قلنا في مقدمات الكثير من أسفار العهد القديم أن المشكلة تقوم أساسًا على إنكار النقاد للنبوة ورفضهم للمعجزات الإلهية. 2. الخلفية الفكرية: يرى بعض النقاد أن الأصحاحات (1-39) تمثل كتابًا مستقلًا له فكر واحد هو تأديب شعب الله على خطاياهم خاصة اتكالهم على الذراع البشرية وانغماسهم في الرجاسات الوثنية كسائر الأمم المحيطة بهم، ثم فجأة تتحول الأصحاحات (40-66) إلى فكر آخر وإلى طابع مُغاير، فيها يعلن الكاتب عن خلاص جديد خلال عهد جديد يقوم به الخالق المهتم بتجديد خلقته التي فسدت. 3. الخلفية اللغوية والأدبية: يرى بعض الدارسين أن الطابع اللغوي والأدبي في الأصحاحات (1-39) يختلف عما جاء في الأصحاحات (40-66). الردّ على القائلين بإشعياء ثانٍ وثالث: 1. يقولBultema بأنه أمر غريب للغاية أن يُكتشف وجود إشعياء ثانٍ في تاريخ متأخر بواسطة بعض اللاهوتيين العقلانيين بينما لم يخبر بهذا الأمر أحد من حاخامات اليهود القدامى وآباء الكنيسة الأولى حتى الذين قادوا الحركة البروتستانتية لم يفكروا في هذا، فكيف كان إشعياء الثاني هذا مخفيًا عبر كل هذه العصور؟! 2. نسبت الترجمة السبعينية في القرن الثالث ق.م. السفر كله لإشعياء النبي دون تجزئته. 3. يقدم لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس شهادة خارجية عن أصالة هذا الجزء (إش 40-66) ونسبته لإشعياء، وأنه كتب في وقت مبكر جدًا عن عصر كورش، إذ قال أن كورش نفسه قرأ ما ورد في سفر إشعياء فدهش وتحركت فيه رغبة قوية أن يحقق ما كتب عنه في هذا السفر. واضح هنا أن يوسيفوس لم يعرف سوى إشعياء واحد. لو أن الكاتب غير معروف في أيام كورش لكان هذا يعني أحد أمرين، إما أن ما كتبه يوسيفوس عن كورش ليس بذي قيمة، أو أن كورش كان غبيًا خدعه اليهود. 4. نسب يشوع بن سيراخ السفر بأكمله إلى إشعياء النبي، وقد شهدت أسفار العهد الجديد لذلك باقتباس عبارات منه نسبتها إلى إشعياء النبي. 3. من جهة اختلاف الفكر بين أقسام السفر. فكما يقول Oswalt أن محاولة تجزئة السفر في العصر الحديث هي التي خلقت تجاهلًا لوحدة الفكر الذي يجري في السفر كله. وقد قدم لنا مثالًا لوحدة الفكر في السفر نقدمه هنا مع شيء من التصرف. يُجيب السفر كله على تساؤلين هما: ما هي طبيعة شعب الله؟ وما هو مصيرهم؟ في (إش 1-6): يعرض النبي المشكلة: الخطاة مدعوون، والحل هو رؤية الله. وفي (إش 7-39): يكشف عن الاتكال على الله لا على الأمم المجاورة، وأنه عوض الاتكال عليهم في ضعف يلزم أن يدركوا رسالتهم ألا وهي أن يكونوا نورًا للأمم. وقد بدأ بنو يهوذا بالاتكال على الله لكنهم لم يستمروا. وفي (إش 40-48): يُجيب على التساؤل: ما هو الحل لعدم استمرار يهوذا؟ حثهم على ذلك ولو بالتأديب والسبي. فالله يسمح بالسبي لكنه لا يزال يعلن "أنا هنا"، مجده يملأ السماء والأرض كما رأى إشعياء (إش 6). وفي (إش 49-55): يُجيب على التساؤل: هل يمكن لإسرائيل الخاطئ أن يصير عبد يهوه؟ كما فعل الله بإشعياء مقدسًا شفتيه بالجمرة (إش 6) هكذا يفعل بالمؤمنين مقدسًا إياهم بعمله الخلاصي. هنا يقدم مقابلة بين إسرائيل عبد يهوه والمسيا المخلص. في إش (56-60): الله الذي يختار شعبه ويخلصهم من خطاياهم يبقى عاملًا حتى يتحقق مجده فيهم كما سبق ففعل مع إشعياء في الرؤيا (إش 6). هكذا يظهر الخط واضحًا في السفر كله، خط خلاص الله العجيب الذي يحققه بدعوة الخطاة وتقديسهم خلال المسيا مخلص العالم. 4. ما يدعيه النقاد -أي نظرية تفتيت وحدة السفر- يواجه مشاكل كثيرة بلا حل، نذكر على سبيل المثال: أ. أن آراءهم تفقد الوحدة بصورة صارخة، فيرى Radday أن الأصحاحات (49-66) تمثل وحدة لغوية واحدة مقابل الأصحاحات (40-48)؛ فان كان هذا صحيحًا فانه يعارض فكرة إشعياء الثاني (40-55). هذا ويرى أن الأصحاحات (23-35) ليست من قلم إشعياء الأول وهذا يعارض فكر أغلب النقاد. ب. لو كان هذا السفر هو من عمل ثلاثة أشخاص، فإنه يصعب جدًا تفسير كيف جاء السفر بشكله الحاضر. في كل المخطوطات السابقة للمسيحية لم تُوجد قط أجزاء منه قدمت ككتاب مستقل، إنما قدمت الأصحاحات الـ66 كوحدة واحدة. ج. يقول Morgalioth إنه لم تستطع هذه النظريات أن تقدم تفسيرًا لوجود مفاهيم مشتركة بين الأجزاء مثل (إش 1-7) مع (60-66؛ 7-12) مع (36-39)(29). د. وجدت دراسات إحصائية لغوية للسفر تؤكد وحدته مثل عمل L. L. Adam(30). فيما يلي أمثلة قليلة لتشابه الأفكار والأسلوب خلال الأجزاء التي يدعى النقاد أنها كُتبت مستقلة(31): * تسمية الله "قدوس إسرائيل" وردت 13 مرة في (إش 1-39)، 16 مرة في (إش 40-66)، بينما استعلمت 7 مرات في بقية أسفار العهد القديم. * تسمية الله "عزيز إسرائيل" في (إش 1: 24)، وأيضًا في (إش 29: 26؛ 60: 26). * استخدام تعبير: "فم الرب تكلم" (إش 1: 20؛ 21: 17؛ 22: 25؛ 24: 3؛ 25: 8)؛ (إش 40: 5؛ 58: 14). * العلاقة بين الله وإسرائيل في الأصحاحات (1-39) مطابقة في الصور والأفكار بما ورد في الأصحاحات (40-66). من جهة الأفكار: أ. بنو إسرائيل أولاد الله وشعبه المحبوب (إش 1: 2، 3؛ 2: 6؛ 3: 12)؛ (إش 40: 11؛ 41: 8، 9؛ 43: 1،15). ب. عصيانهم (إش 1: 17، 23؛ 3: 12، 15؛ 5: 7، 23)؛ (إش 59: 8، 13). ج. سقوطهم في الوثنية (إش 1: 29؛ 2: 8، 20؛ 31: 7)؛ (إش 40: 19، 20؛ 41: 7؛ 44: 9-20؛ 57: 5). د. سفك الدماء البريئة (إش 1: 15، 21؛ 4: 4) (إش 9: 3، 7). ه. رفض الله لهم لعصيانهم (إش 1: 15؛ 2: 6؛ 3: 8؛ 4: 6)؛ (إش 42: 18-25؛ 43: 28). و. الحكم عليهم بالسبي (إش 5: 13؛ 9: 11، 12؛ 14: 3)؛ (إش 42: 22؛ 43: 5، 6؛ 45: 13). ز. السبي إلى بابل بالذات (إش 14: 2-4؛ 39: 6، 7)؛ (إش 47: 6؛ 48: 20). ح. الرب يُبقى له بقية (إش 6: 13؛ 10: 20-22؛ 11: 12؛ 14: 1، 3)؛ (إش 43: 1-6؛ 48: 9-20). فكرة البقية التي تخلص كخيط ذهبي خلال السفر كله. ط. الوعد بالعودة وغرسهم في الأرض المقدسة (إش 14: 1؛ 35: 10)؛ (إش 44: 26؛ 45: 3؛ 51: 11). ى. انضمام الأمم إليهم (إش 11: 10؛ 25: 6)؛ (إش 42: 6؛ 49: 6؛ 55: 5). ك. الوعد بملك عظيم (إش 9: 6، 7؛ 24: 23؛ 32: 1؛ 33: 17)؛ (إش 42: 1-4؛ 49: 1-12). ل. يملك في جبل الله المقدس (إش 2: 2؛ 11: 9)؛ (إش 56: 7، 57: 13؛ 65: 11). م. يكون فاديًا ومخلصًا (إش 1: 27؛ 25: 9-10؛ 35: 4)؛ (إش 41: 14؛ 53: 5 12؛ 59: 20). ن. استخدام الاسم الرمزي لمصر "رهب" في الجزئيين (إش 30: 7)؛ (إش 51: 9). من جهة الصور والتشبيهات: أ. كثرة استخدام صور النور والظلام كرمز للمعرفة والجهل؛ استخدم النور مجازيا 18 مرة على الأقل والظلام 6 مرات، وقابل بين الاثنين 9 مرات (إش 5: 20، 30؛ 13: 10)؛ (إش 42: 16؛ 50: 10؛ 58: 10؛ 59: 9؛ 60: 1-3). ب. استخدم أيضًا العمى والصمم في حالات متشابهة (إش 6: 10؛ 29: 10، 18؛ 22: 3؛ 35: 5)؛ (إش 42: 7، 16، 18، 19؛ 43: 8؛ 44: 18؛ 56: 9). ج. تصوير البشرية بالزهرة أو ورقة سرعان ما تذبل (إش 1: 30؛ 18: 15)؛ (إش 40: 7؛ 64: 6). د. تشبيه الإصلاح براية (إش 11: 12؛ 18: 3)؛ (إش 49: 22؛ 62: 10؛ 66: 19). ه. دعوة المسيا الغصن أو القضيب (إش 11: 1، 2؛ 53: 2). و. العصر المسياني كعصر ماء (إش 30: 25؛ 33: 21؛ 35: 6)؛ (إش 41: 17، 18؛ 43: 19، 20؛ 55: 1؛ 58: 11؛ 65: 12). ز. تشبيه الله بالفخاري والإنسان بإناء خزفي (إش 29: 16)؛ (إش 45: 9؛ 64: 8). ح. تشبيه أورشليم بخيمة ذات أوتاد (إش 32: 20)؛ (إش 54: 2). ط. تشبيه تطهير إسرائيل بتنقية الفضة (إش 1: 25)؛ (إش 48: 10). هذه أمثلة قليلة من كثير من وجود تشبيهات وتعبيرات مشتركة بين الـ39 أصحاحًا الأولى وبقية السفر... مما يدل على وحدة السفر وأن الكاتب شخص واحد. هذا ويلاحظ أنه لا يخلو أصحاح في كل السفر من تشبيه حيّ وتصوير رائع خاصة في الأصل العبري الذي يعطي سمو اللغة رونقًا خاصًا لهذه التشبيهات والتصويرات. مع هذا إن وُجد شيء من الاختلاف في الأسلوب بين ما ورد في (إش 1-39)؛ (إش 40-66) فانه أمر طبيعي لتطور الأسلوب بالنسبة لنفس الكاتب خلال حقبات حياته المختلفة، خاصة وأن مدة نبوته طويلة، تبلغ حوالي الستين عامًا. 5. كاتب كلا الجزئيين يظهر أنه صاحب معرفة كاملة بتاريخ شعبه. 6. كاتب الجزء الثاني (إش 40-66) ليس كما يدعى النقاد أنه إنسان يعيش في أرض السبي، إنما واضح أنه كان مقيمًا في الأراضي المقدسة، وكما يقول H. Bultema: أ. بينما يكرر إرميا النبي اسم بابل أكثر من 160 مرة نجد هنا في هذه الأصحاحات السبعة والعشرين (إش 40-66) يُذكر ثلاث مرات فقط. كما لم يشر الكاتب إلى المدن المحيطة ببابل ولا إلى قُراها أو حصونها. أما بالنسبة لكنعان فكثيرًا ما يُشير إليها وإلى بعض المناطق التي فيها. ب. لا يُشير الكاتب إلى الأمم المحيطة ببابل بينما يُشير إلى جبال كنعان وتلالها وصخورها وكهوفها وطرقها الجبلية ووديانها. ج. يتحدث عن حجارة لا توجد في بابل بل في كنعان (إش 48: 19؛ 57: 6؛ 62: 10؛ 51: 1؛ 50: 7). د. بالنسبة للنباتات أشار إلى نوع واحد من أشجار بابل "الصفصاف" (إش 44: 4)؛ أما أشجار كنعان فيكررها مرات ومرات مثل الأرز والزيتون والصنوبر والآس والزان والسرو إلخ... ه. بالنسبة للأخشاب، كان البابليون يستخدمون أشجار النخيل في البناء كما في الوقود بينما يُشير إشعياء إلى الأخشاب الكنعانية مثل الأرز والسرو وسنديان والصنوبر (إش 44: 13-16). و. لم تذكر هذه الأصحاحات نوعًا واحدًا من محاصيل بابل إنما أشارت إلى المحاصيل التي تنمو في كنعان مثل البهرات والكتان والقصب. ز. ورد بهذه الأصحاحات أكثر من 25 نوعًا من الحيوانات لا يوجد من بينها نوع واحد من الحيوانات الخاصة ببابل، وهكذا بالنسبة للطيور والأسماك. ح. عندما تحدث عن الأصنام أشار إليها بكونها مُقامة تحت الأشجار (إش 57: 5-7) وفي الكهوف وعلى الجبال والتلال؛ هذا يناسب كنعان أما في بابل فوجدت الأصنام في هياكل ضخمة جميلة. ط. في تشبيهاته المتعددة عبر السفر كله لم يشر إلى عجائب الدنيا في بابل مثل أسوار بابل الفريدة في سمكها، ومعبد بيل والقصر الملكي لNeriglisser والحدائق المعلقة. من هذا كله واضح أن الكاتب يعيش في كنعان وليس في بابل أرض السبي كما أدعى النقاد ليعزلوا الأصحاحات (40-46) عن بقية السفر بكون كاتبها إشعياء آخر في أرض السبي جاء في وقت متأخر عن إشعياء الأول. |
|