كلمة الله المقدسة بالنسبة لنا هي: نور ? سيف ? نار ? مُعين ? تسبيح ? غذاء ? خلاص ? نموت من أجلها.. وقد يتساءل أحد القراء الأحباء.. هل هذا الوصف ينطبق على كلمات العهد الجديد فقط أم العهد القديم أيضًا؟
وهنا نود أن نبحث معًا الارتباط بين العهدين. خاصة وأن بعض الناس ينادون بأنه يكفي لنا أن نلتزم بالعهد الجديد وأن نلغي العهد القديم، باعتباره الناموس الذي ألغاه السيد المسيح وأكمله ولم نعد ملتزمين به..
(1) السيد المسيح يُكمّل العهد القديم:
وهذا ما علّم به بكل وضوح في موعظته الشهيرة على الجبل "لا تظنوا أني جِئتُ لأنقضَ الناموس أو الأنبياء ما جِئتُ لأنقض بل لأُكمِّل" (مت5: 17).
فليس من المعقول أن الله يهدم ما سبق أن بناه.. بل أن يُكمّل فوقه.. المسيح لم يلغِ بل كمّل البناء.. وهذا أيضًا شرحه معلمنا بولس الرسول عندما قارن بين قيمة الإيمان في التبرير وقيمة الناموس.. واتضح من شرحه أن الإيمان بالمسيح يُبرر بدون الحوجة إلى الناموس "إذًا نَحسِبُ أن الإنسان يتبرر بالإيمان بدون أعمال الناموس" (رو3: 28)، ولئلا يُظن أن بولس يلغي الناموس ويهدمه أضاف قائلاً بالروح القدس "أفنبطل الناموس بالإيمان؟ حاشا! بل نُثبِّتُ الناموس" (رو3: 31).
إذًا بالرغم من أننا لا نتبرر بالناموس بل بالإيمان بالمسيح. ولكن مع ذلك يجب أن نُثَبِّت الناموس.. أي لا نلغيه بل نعتبره، ونحترمه، ونوقره.. تأكيدًا لتعليم السيد المسيح في الموعظة على الجبل.
وقد شرح القديس بولس الارتباط بين الناموس والإيمان بالمسيح عندما قال: "لأن غاية (هدف) الناموس هي: المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو10: 4)، فكيف نصل إلى الغاية (المسيح) بدون الوسيلة (الناموس)؟
فنحن ? المؤمنين بالمسيح ? لا يمكن أن نتجاهل أو نستغنى عن العهد القديم (الناموس)، الذي بُني عليه العهد الجديد برمته. ولكي نفهم العهد الجديد لابد أن نبدأ من العهد القديم، لأنهما وحدة واحدة مترابطة متسلسلة متكاملة.
(2) ناموس الله دائم لا يزول:
الله لا ينقض عهده "لا أنقض عهدي، ولا أُغيِّر ما خرج من شفتيَّ" (مز89: 34)، "زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس" (لو16: 17)، لأن الله - واضع الناموس ? لا يتغير "هي تَبيدُ وأنت تبقى، وكلها كثوب تَبلى، كرداءٍ تُغيرهن فتتغير. وأنتَ هو وسنوك لن تنتهي" (مز102: 26، 27). لذلك فكلمة الله لا تزول مثله "يبسَ العشب، ذَبُل الزهر. وأما كلمة إلهنا فتثبُت إلى الأبد" (إش40: 8).
فنحن نحترم كلمة الله سواء جاءت في العهد القديم أم في العهد الجديد، لأن الله ? واضع الناموس ? لا يتغير.
(3) العهد الجديد يشهد للعهد القديم:
"كل الكتاب هو مُوحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً، متأهبًا لكل عمل صالح" (2تي3: 16، 17). هنا يتكلم عن كل الكتاب وليس العهد الجديد فقط.
وقد مدح معلمنا بولس الرسول تلميذه تيموثاوس، لأنه كان متربيًا بكلام العهد القديم، خاصة وأن وقت كتابة هذه الرسالة لم تكن قد كُتبت كل أسفار العهد الجديد، بل كان المتداول بين المؤمنين هو أسفار العهد القديم فقط "وأنك منذ الطفولية تَعرِف الكتب المقدسة، القادرة أن تُحكِّمك للخلاص، بالإيمان الذي في المسيح يسوع" (2تي3: 15)، فالكتب المقدسة التي للعهد القديم قادرة أن تحكِّم الإنسان للخلاص وتقوده إلى معرفة ربنا يسوع المسيح.
ووصف معلمنا بطرس كلمات العهد القديم بأنها سراج منير "وعندنا الكلمة النبوية، وهي أَثبَتُ التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج مُنير في موضع مُظلم، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2بط1: 19). شاهدًا أنها مكتوبة بالروح القدس "عالمين هذا أولاً: أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص. لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلَّم أُناس الله القديسون مسُوقين من الروح القدس" (2بط1: 20، 21).
فكيف نتنازل عن هذا السراج المُنير الذي أناره لنا روح الله القدوس؟
بل أن السيد المسيح نفسه أمرنا أن نفحص هذه الكتب المقدسة "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية. وهي التي تشهد لي" (يو5: 39). وطبعًا كان يقصد كتب العهد القديم، وقد أمرنا أن نصدقها "لأنكم لو كنتم تُصدِّقون موسى لكنتم تُصدِّقونني، لأنه هو كَتَبَ عني. فإن كنتم لستم تُصدِّقون كُتُبَ ذاك، فكيف تُصدِّقون كلامي؟" (يو5: 46، 47).
فمَنْ لا يُصدِّق كُتب العهد القديم التي تنبأت عن السيد المسيح، كيف يُصدِّق السيد المسيح نفسه؟
(4) أمر قديم:
عندما انتشر في الشعب اللجوء إلى العرّافين والسحرة.. نبّه الله نبيه إشعياء ليوبخ الشعب، وكان العلاج البديل أن نلجأ إلى كلام الله وليس كلام الشيطان "ألا يسأل شعب إلهه؟ أيسأل الموتى لأجل الأحياء؟ إلى الشريعة وإلى الشهادة. إن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر!" (إش8: 19، 20).
لقد كانت الشريعة هي الفجر الذي يشرق على شعب الله منذ القديم، فكيف نستغنى عنها؟ اسمع أمر الله إلى إشعياء من جهة فحص سفر الرب وديمومة هذا الفحص "فتشوا في سِفر الرب واقرأوا. واحدة من هذه لا تُفقد. لا يُغادر شيء صاحبه، لأن فمه هو قد أمَر، وروحه هو جَمَعَها. وهو قد ألقى لها قرعة، ويده قَسَمَتها لها بالخيط. إلى الأبد ترثها. إلى دور فدور تسكن فيها" (إش34: 16، 17).
وقد صادق السيد المسيح على هذا الأمر عندما قال: "عندهم موسى والأنبياء، ليسمعوا منهم" (لو16: 29) وذلك في مَثَل الغني ولعازر. فالأمر القديم بأن نلجأ إلى كلمة الله قد جدّده لنا السيد المسيح بقوله "فليسمعوا منهم".
(5) العهد القديم يشهد للمسيح:
إن العهد القديم برمته هو الوعد بمجيء السيد المسيح، والعهد الجديد هو تحقيق هذا الوعد.. وسنتكلم عن هذا الأمر بأكثر استفاضة فيما بعد.. لكن دعنا الآن نرى بعض الأمثلة التي وردت تصريحًا أو تلميحًا عن السيد المسيح في العهد القديم بروح النبوة والإعلان المُسبّق:
& فمثلاً تكلم موسى النبي بخصوص السيد المسيح قائلاً: "يُقيم لك الرب إلهك نبيًا من وَسَطِك من إخوتِك مِثلي. له تَسمَعُون" (تث18: 15)، "أُقيم لهم نبيًا من وَسَط إخوتهم مِثلَك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلِّمهم بكل ما أُوصيه به. ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه" (تث18: 18 ،19). كان الكلام هنا ينطبق تاريخيًا على يشوع بن نون، ويرتبط نبويًا عن مجيء المسيح الذي دُعي هنا (نبي) بالرغم أنه الله الظاهر في الجسد.. لأن السيد المسيح بتجسده صار إنسانًا كاملاً مثلنا وحمل صفة أنه كاهن ونبي ومَلِك بدون أن يفقد طبيعته أنه هو الله بالحقيقة.
& وكان الكلام النبوي عن السيد المسيح مبكرًا جدًّا في سفر التكوين منذ السقوط، حيث أشير إليه بكلمة (نسل المرأة) "وأضع عداوة بينك (الحية) وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها (المسيح). هو (المسيح) يسحق رأسك (يميت الشيطان) وأنتِ تسحقين عَقبه (الصليب)" (تك3: 15).
إنها من أوائل الإشارات إلى تجسد الله الكلمة، وسحقه للشيطان بالصليب.. فكيف نتجاهل العهد القديم الذي تكلّم هكذا عن السيد المسيح بكل هذا الوضوح؟
وكيف يفهم الإنسان البركة التي بارك بها الله إبراهيم؟ "وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تك12: 3).
كيف تتبارك جميع قبائل الأرض في إبراهيم إلا من خلال نسله الذي هو السيد المسيح؟ كيف نفهم العهد القديم بدون السيد المسيح؟ وكيف نتعرف على السيد المسيح بدون العهد القديم؟ إنه ارتباط عضوي.
& وعندما نسمع يعقوب أبا الآباء يُبارك بنيه، نرى السيد المسيح واضحًا جليًا في نبوة يعقوب حيث قال: "لا يزول قضيب من يهوذا ومُشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب. رابطًا بالكرمة جحشه، وبالجفنة ابن أتانه، غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه" (تك49: 10، 11).
فالسيد المسيح من نسل يهوذا، و(القضيب) يُشير إلى المُلك، و(المشترع) يشير إلى شريعة جديدة يضعها المسيح، و(له يكون خضوع شعوب) يشير إلى دخول الأمم في الإيمان بالمسيح، وذِكر (الكرمة والجفنة والخمر ودم العنب) يشير إلى خلاص المسيح الذي تم بالفداء بالدم الذي نأخذه في الإفخارستيا في صورة خمر، و(لباس المسيح وثوبه) يشير إلى الكنيسة المقدسة التي اغتسلت بدمه الكريم الطاهر.
& السيد المسيح نفسه اهتم بأن يشرح ما يختص به في جميع الكتب من العهد القديم.. وهذا ما حدث مع تلميذي عمواس: "فقال لهما: أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء! أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟ ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يُفسِّر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" (لو24: 25-27).
& وكرّر نفس الشرح مع التلاميذ: "وقال لهم: هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم: أنه لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب. وقال لهم: هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي.." (لو24: 44-46).
& وقد اكتشف بعض التلاميذ شخص السيد المسيح بسبب ما كُتب عنه في الناموس والأنبياء: "وجدنا الذي كَتَبَ عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة" (يو1: 45).
& وكانت كل كرازة الآباء الرسل تنحصر في إقناع اليهود أن السيد المسيح هو الشخص الذي تكلّمت عنه الأنبياء في الكتب المقدسة:
"وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه، أن يتألم المسيح، قد تمَّمه هكذا" (أع3: 18)، "فإن موسى قال للآباء: إن نبيًا مثلي سيُقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم. له تسمعون في كل ما يكلمكم به" (أع3: 22)، "وجميع الأنبياء أيضًا من صموئيل فما بعده، جميع الذين تكلموا، سبقوا وأنبأوا بهذه الأيام. أنتم أبناء الأنبياء، والعهد الذي عاهد به الله آباءنا قائلاً لإبراهيم: وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض. إليكم أولاً، إذ أقام الله فتاه يسوع، أرسله يُبارككم بِردِّ كل واحد منكم عن شروره" (أع3: 24-26).
& وكل الكلام الذي تكلّم به استفانوس الشهيد الأول كان حول هذا المحور.. أن السيد المسيح هو الذي تكلّم من أجله الأنبياء (راجع أع7).
& وكان أيضًا هو الدفاع الذي دافع به بولس الرسول عن نفسه أمام الملك أغريباس: "وأنا لا أقول شيئًا غير ما تكلَّم الأنبياء وموسى أنه عتيد أن يكون: إن يُؤلَّم المسيح، يكن هو أول قيامة الأموات، مُزمعًا أن يُنادي بنورٍ للشعب والأمم" (أع26: 22 ،23).
نحن لا نستطيع أن نلغي العهد القديم.. إذ هو الأساس الذي بُنيت عليه الكنيسة، والأسفار المقدسة في العهد الجديد: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف2: 20).
(6) الكنيسة الأولى عاشت بالعهد القديم:
لقد تقدست الكنيسة الأولى من قراءة ودرس العهد القديم فقط لمدة طويلة، إذ لم يكن العهد الجديد قد دُوّن بعد.. وكانت القراءة المُستخدمة في الاجتماعات الليتورجية كلها فصول من العهد القديم.. إلى حين بداية كتابة أسفار العهد الجديد.
إن العهد القديم الذي درسه مُعلّمنا بولس الرسول بشغف، واعتنقه من صميم قلبه، وبكل حماس الفريسي.. هو الذي قاده في النهاية أن يكتشف سر المسيح.
ولذلك انطلق هذا القديس العظيم يكرز بالمسيح في كل مكان، مُستخدمًا في تعليمه نصوصًا من العهد القديم، سواء وهو يتكلّم مع اليهود أو الأمم، فلم تكن أسفار العهد الجديد قد دُونت في ذلك الحين.
مجامع اليهود منابر للكرازة:
وكانت أولى محطات الآباء الرسل في كرازتهم وانتشارهم، أن يدخلوا مجمع اليهود في أي مكان يصلون إليه في العالم، ويبدأون حوارهم من الأسفار المقدسة من العهد القديم مع اليهود:
& فمثلاً قيل عن شاول الطرسوسي الذي هو بولس الرسول: "وللوقت جعل يَكرِزُ في المجامع بالمسيح "أن هذا هو ابن الله". فبُهتَ جميع الذين كانوا يَسمعون وقالوا: "أليس هذا هو الذي أهلَكَ في أورشليم الذين يَدعُونَ بهذا الاسم؟ وقد جاء إلى هنا لهذا ليَسُوقَهم مُوثـقين إلى رؤساء الكهنة!". (أع9: 20-21).
& وأيضًا قيل عن بولس وبرنابا: "ولما صارا في سلاميس نَادَيَا بكلمة الله في مجامع اليهود. وكان معهما يوحنا خادمًا" (أع13: 5).
& ويظهر أيضًا بأكثر وضوح استخدامهم للناموس والأنبياء في شرح الإيمان المسيحي من دخولهم المجمع في مدينة أنطاكية بيسيدية: "وأما هم فجازوا من بَرْجة وأتوا إلى أنطاكية بيسيدية، ودخلوا المجمع يوم السبت وجلسوا. وبعد قراءة الناموس والأنبياء، أرسل إليهم رؤساء المجمع قائلين: "أيها الرجال الإخوة، إن كانت عندكم كلمة وعظٍ للشعب فقولوا". فقام بولس وأشار بيده وقال.." (أع13: 14-16)، وعندما تقرأ هذه العظة التي ألقاها مُعلّمنا بولس الرسول في (أع13: 16-41) تجدها مليئة بالاستشهادات بآيات وقصص العهد القديم.
& وتتكرر نفس القصة في إيقونية: "وحدث في إيقونية أنهما دخلا معًا إلى مجمع اليهود وتكلَّما، حتى آمَنَ جمهور كثير من اليهود واليونانيين" (أع14: 1).
& وكذلك في تسالونيكي يُقال أن بولس الرسول دخل إلى المجمع حسب عادته، واستمر في ذلك لمدة ثلاثة سبوت: "فاجتازا في أمفيبوليس وأبولونية، وأتيا إلى تسالونيكي، حيث كان مجمع اليهود. فدخل بولس إليهم حسب عادته، وكان يُحَاجُّهم ثلاثة سبوتٍ من الكتب، مُوضِّحًا ومُبينًا أنه كان ينبغي أن المسيح يتألَّم ويقوم من الأموات، وأنَّ: هذا هو المسيح يسوع الذي أنا أُنادي لكم به" (أع17: 1-3).