صوم الرسل
نحن الآن نصوم صيام الرسل، وبمناسبة صوم الرسل أود أن أكلمكم عن الآباء الرسل..
وصوم الرسل كان أول صيام صامته الكنيسة المسيحية لأن الرسل صاموا هذا الصيام. ولكن هو ليس أهم صيام. هو أول صيام من جهة التاريخ، لكن ليس أهم صيام. أهم صيام في الكنيسة الصوم الذي صامه السيد المسيح نفسه (الأربعين المقدسة وإسبوع الآلام ويتبعهم الأربعاء والجمعة).
السيد المسيح هو الذي اختار الآباء الرسل:
أول شيء يجب أن تعرفوه عن الآباء الرسل أن السيد المسيح هو الذي اختارهم بنفسه وقال لهم: "لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ" (إنجيل يوحنا 15: 16).
وهذا يرينا أن الوظيفة الكهنوتية تكون باختيار الرب. "لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم" "وأرسلتكم لتصنعوا ثمراً ويدوم ثمركم" (وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ) فجميعهم كانوا مختارين من الرب.
تباين الصفات الشخصية للرسل:
وقد اختارهم الله من نوعيات مختلفة ومتعددة، اختار يوحنا الحبيب الرقيق الذي يتكئ على صدره، واختار بطرس الرسول الشديد الذي يتدخل في كل مناسبة ويتكلم سواء كان كلامه خطأ أم لا. مثلما حدث عندما قال السيد المسيح للتلاميذ: "كلكم تنكرونني هذه الليلة" (كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِىَّ فِي هذِهِ اللَّيْلَةِ) (إنجيل متى 26: 31؛ إنجيل مرقس 14: 27)، فتدخل بطرس وقال: "أبداً. ولو أدى الأمر أن نموت معك". كان بطرس يتكلم بحماس وكلامه حلو. ومرة أخرى عندما قال السيد المسيح: "من يقول الناس أني أنا؟" فرد بطرس قائلاً "أنت المسيح ابن الله الحي" فقال له السيد المسيح: "طوباك يا سمعان". وفي مرات أخرى عندما قال السيد المسيح: "سيقبِض علي رؤساء الكهنة.... وغيرهم، ويقتلونني وفي اليوم الثالث أقوم" فرد بطرس سريعاً: "حاشاك يا رب" "لن يحدث هذا أبداً". فرد عليه السيد المسيح: "اذهب عني يا شيطان أنت تفكر فيما للناس وليس فيما لله" (اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ) (إنجيل متى 16: 23؛ إنجيل مرقس 8: 33). أي أن السيد المسيح اختار هذا الرجل القوي المندفع الذي أحياناً يكون على حق في كلامه وأحياناً يخطئ واختار يوحنا الهادئ الناعم. واختار توما الشكاك الذي قال: "لا يمكن أن أصدق إلا عندما أضع إصبعي مكان المسامير". أي اختار أنواع مختلفة من الناس. منهم أيضاً يهوذا الخائن. واختار أيضاً أناس ضعفاء مساكين صيادي سمك. لذلك بولس الرسول قال كلمة عجيبة في هذا الأمر حيث قال: "اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ" (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 1: 27).. أي الله اختار أناساً بسطاء.. ويقصد بذلك، أنه إذا كانوا جميعاً حكماء ربما إذا تكلموا كلام حكمة سَيُقَال أن هذا الكلام منهم؛ لكن إذا كانوا بسطاء وتكلَّموا هذا الكلام العميق، سيَعْلَم الناس أن هذا الكلام من الله وليس منهم.
الرسل يمكن تقسيمهم لثلاثة فرق:
أولاً: الاثنى عشر رسولاً.
ثانياً: السبعون رسول الذين اختارهم السيد المسيح بعد ذلك. الذين منهم مارمرقس، ومنهم لوقا الإنجيلي، ومنهم برنابا،...إلخ. أيضاً يضاف للرسل فيما بعد النوع الثالث.
ثالثاً: شاول الطرسوسي الذي كان مضطهداً للكنيسة وأصبح عمود من أعمدة الكنيسة.
وإلى جوار الناس الذين كانوا بسطاء في تعليمهم مثل مار بطرس ومار يوحنا كان أيضاً من ضمن الرسل من كان لهم ثقافة كبيرة. خاصة من الرسل السبعين. فمرقس الرسول يقال عنه أنه كان مثقفاً جداً وكان إلى جوار اللغة العبرانية التي يتقنها يعرف أيضاً اللغة اليونانية ويعرف أيضاً اللغة اللاتينية لغة الرومان. ولذلك في بعض كتب الكاثوليك يقولون أن مرقس كان يترجم لبطرس لأن معرفته كبيرة باللغة. ولوقا كان طبيباً وكان رساماً أي له في الناحية الفنية وله في الناحية العلمية.
الرسل أحبوا السيد المسيح محبة فائقة جداً:
هؤلاء الرسل كانوا يحبون السيد المسيح محبة فائقة جداً.. وأكبر دليل على هذه المحبة أن بطرس الرسول قال له: "هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ" (إنجيل متى 19: 27؛ إنجيل مرقس 10: 28؛ إنجيل لوقا 18: 28). فقد رآهم السيد المسيح وهم يصطادون في السفينة وقال لهم: "هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ" (إنجيل متى 4: 19؛ إنجيل مرقس 1: 17) فتركوا السفينة وتركوا الشباك وتركوا الدنيا كلها وساروا ورائه. أيضاً هذا يذكرنا بإبراهيم أب الآباء عندما قال له الله "أترك أهلك وعشيرتك وبيت أبيك وتعال معي إلى الجبل الذي أريك إياه هناك أجعلك شعباً" (اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً) (سفر التكوين 12: 1)، وفعلاً ترك أهله وترك عشيرته وترك بيت أبيه وذهب وراء الرب. كانوا يحبون الرب جداً وتركوا كل شيء من أجله.
هذا يعطينا فكره عما يجب أن يكون عليه الرعاة، فعندما نختار أحدهم للكهنوت لا يجب أن يتكلم فيما يخص السكن والعائلة والماديات وما يكفيه وما لا يكفيه. بل يتمثل بالرسل الذين تركوا كل شيء وتبعوه.
الرسل تسلموا العقائد واللاهوتيات والطقوس من الرب يسوع :
وهؤلاء الرسل الذين تبعوا السيد المسيح أمضوا فترة إعداد خدام أكثر من ثلاثة سنوات. ففترة خدمة السيد المسيح على الأرض كانت أكثر من ثلاثة سنين. وقد ساروا وراءه في الثلاثة سنوات، يسمعون عظاته ويروا معجزاته ويروا مواقفه مع الأعداء والمؤيدين يلاحظوا كل شيء. فكانت فترة تدريب قوية جداً مع المسيح، ومع ذلك المسيح لم يكتفي بها. فبعد القيامة مكث معهم أيضاً أربعين يوماً يحدثهم عن الأمور المختصة بملكوت الله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). أي كل ما لدينا من عقائد ولاهوتيات وطقوس تعلمها التلاميذ في فترة الأربعين يوم ونقلوها إلينا. نقلوها إلينا بأن السيد المسيح قال لهم إكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها وعمدوهم وعلموهم جميع ما أوصيتكم به. لذلك الرسل فيما كتبوا لنا كانوا يعلموننا ما قاله السيد المسيح لهم.
القوانين التي وضعها الآباء الرسل:
من المؤكد أنكم قرأتم الإنجيل والرسائل لكن هناك أمر آخر أيضاً هو القوانين التي وضعها الآباء الرسل. ومنها الدسقولية وهي تقع في 38 باب عن الرعاية من كل جوانبها. وأيضاً قوانين الرسل حيث أصدر الرسل 127 قانون في كتابين أحدهما به 71 قانون والآخر به 56 قانون. هذه القوانين نشرت في مجموعة باترولوجيا أورينتاليس The Patrologia Orientalis أي "أقوال الآباء الشرقيين". هناك أناس كثيرين ممن يتكلمون عن الكنيسة والقوانين لم يقرأوا هذه ولا تلك، (وينطبق عليهم المثل القائل: إللّي على البَرّ عوَّام)!
كانت قلوبهم متفتحة وعقولهم متفتحة وكلها مُرَكَّزَة في الربَ وفي وصاياه. وأيضاً طوال مدة إعدادهم كانوا متفرغين تفرغ كامل للسير وراء الرب.
أما حالياً، فأرى الكثير من الخدام لم يتم إعدادهم للخدمة بطريقة سليمة. وأحياناً ينحرفون في تعاليمهم وينحرفون في تصرفاتهم. وسيكون لنا معهم موقف ليتعلموا ويفهموا، وإذا لم يتعلموا فليمضوا بسلام!
تبعوه وتركوا كل شيء:
هناك شيء جميل فيمن تبعوا السيد المسيح: أنهم تبعوه وتركوا كل شيء. كما قيل عن إبراهيم أبو الآباء أنه سار وراء الرب وهو لا يعلم إلى أين يذهب. والرسل عندما ساروا وراء السيد المسيح لم يكن له بيت، فقد كان يسير من بلد إلى بلد، ومن حقل إلى حقل، ومن مدينة إلى مدينة.. ويقول عنه الكتاب: "لم يكن له أين يسند رأسه" (فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ) (إنجيل متى 8: 20؛ إنجيل لوقا 9: 58). ولم يسأله الرسل أين سنذهب، فهذا لا يهتمون به، بل المهم أنهم يمشون وراءه.. وكان عندهم الإيمان بأن كل شيء سيكون كما ينبغي أن يكون.
سندتهم قوة الرب يسوع:
وبهذا الشكل أخذ الرسل قوة كبيرة. قوة من معاشرتهم للرب وقوة من مساندة الرب لهم. فكانوا يتكلمون ويسند الله كلامهم بالمعجزات، كما ورد في آخر إنجيل مارمرقس.
ومن قوة الآباء الرسل نجد أن عظة واحدة قالها القديس ماربطرس آمن بها 3000 واحد من اليهود، وتَعَمَّدوا في ذلك اليوم كما ورد في سفر الأعمال إصحاح اثنين من آية 38. ويقول الإنجيل: "وَكَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ تَنْمُو" (سفر أعمال الرسل 6: 7). وبعد أن كانوا يعلِمون في أورشليم بدأوا يُعَلِّمون في السامرة وفي كل مكان. والسيد المسيح قال لهم: "متى حل الروح القدس عليكم حينئذ تكونون لي شهوداً في أورشليم وفي كل اليهودية وفي السامرة وإلى أقصى الأرض" (مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ) (سفر أعمال الرسل 1: 8).
هذه هي القوة التي كانت عند الآباء الرسل. ليس فقط عند الاثنى عشر رسول. فمار مرقس عندما جاء مصر كان فيها عبادات لا تحصى، العبادات الفرعونية الكبيرة، والعبادات اليهودية (فقد كان في اثنين من أحياء الإسكندرية عبادات يهودية)، والعبادات اليونانية التي انتشرت من بعد الإسكندر المقدوني وخلفائه من البطالمة وأيضاً عبادات رومانية منذ بدء الحكم الروماني على مصر من عهد اكتاڤيوس قيصر (أكتافيوس) واستمروا في الحكم حتى الفتح الإسلامي، أي كان هناك عبادات كثيرة.. وكان مارمرقس لا يملك شيئاً، ولكنه استطاع بنعمة الله أن يحوِّل الإسكندرية إلى بلد مسيحية قبل أن ينال إكليل الشهادة.
جماهير كثيرة كانت تتبع الإيمان ومن ضمنهم الكهنة أيضاً اليهود. ومَنْ يدرس تاريخ الكنيسة منكم في العصر الرسولي يرى عجباً. حيث كانوا ينادون باسم المسيح فيمنعهم الكهنة ورؤساء الكهنة ويحذروهم من نطق اسم السيد المسيح، فيرد عليهم بطرس الرسول ويقول "يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (سفر أعمال الرسل 5: 29). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وهذه العبارة نرددها باستمرار ونؤمن بها. كانت سمة الكنيسة في العصر الرسولي هى سمة الانتشار على الرغم أنه كان هناك حكام في منتهى العنف مثل نيرون وحتى القرن الرابع، حيث كان هناك دقلديانوس وبعض الولاة في مصر في منتهى العنف، مثل أريانوس والي أنصنه.. ولكن المسيحية وقفت ضد كل هذا قوية بمعونة الله لها.
لولا الرسل ما كنا نعرف الإيمان وما كنا مسيحيين:
أقول بعد كل هذا أن الرسل كان لهم فضل كبير علينا ولولاهم ما كنا نعرف الإيمان، وما كنا صرنا مسيحيين. ومع ذلك يَنْدُر وجود كنائس على أسماء هؤلاء الرسل! فقليل جداً الكنائس التي تحمل اسمهم.. ففي القاهرة توجد كنيسة البطرسية، والمفروض أنها على اسم بطرس الرسول. وأحياناً تكون كنيسة على اسم بولس وبطرس ومارمرقس.. ولكن أين الباقين؟! يَندُر وجود كنائس على أسماء باقي الرسل الإثني عشر.
الرسل سلمونا التقليد الكنسي كما تسلموه من الرب يسوع:
الرسل سلموا إلينا جميع التفاصيل.
فلو سأل أحدهم: أين في الإنجيل تفاصيل ما يحدث في التناول أو المعمودية؟
فأجيب: الإنجيل كان يقدم الخلاص للناس، أما تفاصيل الطقوس فأعطاها الرب للرسل، والرسل هم الذين سَلَّموها إلينا.. ومن هنا نشأت التقاليد الكنسية، وبها نتمثَّل بالرسل، ونعمَل كما عمل الآباء الرسل.
مثلاً الإنجيل يقول: ترسم قسوس. مثلما أرسل القديس بولس لتلاميذه برسامة قسوس. ولكن كيف نرسم القسوس، هذه لا تُذكَر في الإنجيل لأنه ليس كتاب طقوس. ولكنه كتاب المبادئ الأساسية السامية.
أو يسأل شخص: ما الآية التي توصي بعدم شرب السجائر؟
فأقول له:
الإنجيل لم يدخل في هذه الأشياء الصغيرة، ولكنه قال لنا: كل شيء يضرك أو يضر غيرك لا تفعله. كل شيء يسيطر على حريتك وإرادتك وتُسْتَعبَد له لا تسير فيه.. هذه هي المباديء العامة التي يدخل ضمنها أشياء كثيرة لن أستطيع حصرها. لكن المبدأ موجود في الإنجيل، بينما التفاصيل تُرِكَت لنا.. وسبق أن كلمتم كثيراً في هذا الموضوع..
كل سنة وانتم طيبين