رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التلميذ
لقد كان هؤلاء الذين خرجوا من مُدُنِهِم ودخلوا البريَّة مسيحيين غيورين من سائر الطبقات الاجتماعية، كانوا رِجالًا ونساءً من جميع الأعمار ومن كلّ مُستويات التعليم، وبالنظر إلى الدوافِع وراء تركِهِم العالم وخروجِهِم للبريَّة، نجد أنَّ أوَّل هذه الدوافِع هو اشتياقِهِم العميق والقوي لأن يلتقوا مع الله الذي قاد خطواتِهِم إلى البريَّة. أمَّا النُّسَاك اليونان أو الذين كانت لهم رؤية يونانية للحياة، فقد عبَّروا عن سبب خروجِهِم للبريَّة بطريقة أكثر عُمقًا وبلاغة إذ قالوا أنهم يسعون للبلوغ إلى حالة الثيؤريا Theoria أي التأمُّل كما يشرح القديس إيڤاجريوس البُنطي في عمله عن الصلاة وفي أعماله الأخرى، ونفس هذا المُصطلح ”ثيؤريا“ يُستخدم في ”الأقوال“ في سيرة الأنبا أرسانيوس: ”عندما كان الأنبا أرسانيوس في القصر صلَّى إلى الله قائلًا: يارب إرشدني كيف أحيا، فأتاه صوت قائلًا: أرسانيوس اهرب من الناس وأنت تحيا، وعندما كان أرسانيوس يعيش الحياة النُّسكية في الدير، صلَّى إلى الله نفس الصلاة، وأيضًا سمع ثانية صوت يقول له: أرسانيوس اهرب، اصمُت، وعِش حياة التأمُّل الصامِت السَّاكِن“. (28) وترِد كلمة ”تأمُّل“ كثيرًا في كِتابات الإخوة الكبَّادوك باسيليوس وإغريغوريوس، وأيضًا في كِتابات بطرُس الدمشقي Damascene (القرن الثَّامِن) وفيما بعد في كِتابات إغريغوريوس السينائي (من القرن الثَّالِث عشر)، لكنها لا ترِد كثيرًا في ”الأقوال“ لأنَّ هذا الكتاب يتناول بالأكثر الرُّهبان الأقباط، والذين بالتأكيد لم يكُن لهم نفس تعليم اليونانيين هذا، بل استخدموا كلمة أخرى هي ”هيزيخيا Hesychia“ وتعني ”السَّكينة“ وهي مفهوم أبسط يفترِض مُسبقًا التكريس الكامل لله وأخيرًا جحد العالم والخروج منه، وبجانب ترك العالم، كي يبلُغ الراهب حالة السَّكينة، عليه أن يجحد ذاته ويصير ”إنسانًا مائِتًا“ أي إنسان بدون شهوات أرضية، ونقرأ في ”الأقوال“ قصة عن راهب طُلِب منه أن يُعطي كلمات قليلة لينصح بها بعض الناس، فأجاب ”ليس لديَّ ما أقوله، لأني مُتُ، والميِّت لا يتكلَّم“ (29)، وعندما سألوا راهب آخر أن يذهب لقريته ويرِث ثروة أبيه لأنَّ أباه كان يحتضِر، أجاب: ”أنا نفسي مُتُ قبله عن العالم والإنسان الميِّت لا يرِث من إنسانٍ حي“ (30). أمَّا عن الكلمات والمُفردات التي استخدموها ليُعبِّروا عن خروجِهِم من العالم، فنجد أنهم استخدموا مُصطلحات مُتنوعة، وأكثرها شيوعًا ”يهرب - هروب“ وهذه إشارة إلى الهروب الذي قاموا به ليُخلِّصوا أنفسهم مِنْ أخطار ومهالِك هذا العالم، وفي سيرة القديس الأنبا أنطونيوس نقرأ عبارة ”اخرُج من خاصتي“ (32) وقد ردَّدها أيضًا القديس مارِأفرآم السُرياني، واستخدم القديس أثناسيوس الرسولي كلمة apostassein والتي تعني ”أن يجحد“ وهي ترِد أيضًا في رسائل القديس باسيليوس وكِتابات القديس فم الذَّهب وفي التاريخ اللوزياكي لبالاديوس، كما استُخدِمت بالمثل كلمة aparneisthai وهي تعني ”أن ترفُض أو تُنكِر شيئًا“ وتُلازمها دومًا كلمة ”العالم“ أو ”نفس“. وأخيرًا، أكثر الألفاظ التي استخدمها النُّسَاك شيوعًا كانت كلمة anachorein وكلمة anachoresis، الأولى تعني ”أن ينسحِب، أن يتوحد، أن يهرب“ أمَّا الثَّانية فتعني ”انسحاب أو هروب“ ونجد هاتين الكلمتين في سيرة الأنبا أنطونيوس وفي كتاب ”بُرهان الإنجيل“ للعلاَّمة يوسابيوس القيصري، وفي رسائِل القديس إيسيذروس الفرمي، وفي كتاب ”الأقوال“ وفي كِتاب بالاديوس ”حياة فم الذَّهب“ وفي رسائِل نيلوس، وفي العديد من المصادر المُبكرة، كما استخدمه القديس باسيليوس الذي شرح أنَّ ”التوحُّد“ لا يتضمن فقط التغيير المكاني للإقامة بل بالأكثر تغييرًا تامًا في طريقة حياة الإنسان بجُملتها (33). البحث عن أب The Search for an Elder كانت المزية التي يتمتَّع بها المُبتدئ في الحياة الرَّهبانية، وهي في الوقت عينه الواجب الموضوع عليه، أن يقرع أبواب رجال الله القديسين ويطلُب نصائحهم، وقد جعل القديس باسيليوس المُشرِّع الرَّهباني العظيم ذلك واجبًا على كلّ مَنْ يدخُل الحياة الرَّهبانية، أي أن يبحث عن أب مُرشِد ويلتصِق به: ”اطلُب باهتمام كثير وتفكير إنسانًا يكون مُرشِدًا آمنًا لك في طريقة حياتك، (إنسانًا) يعرِف جيدًا كيف يقود هؤلاء المُسافرين نحو الله، غني في الفضائِل... وحكيم في الأسفار المُقدسة“ (34). وكان الراهب يقوم برحلات طويلة على الأقدام، سواء وحده أو مع مجموعة من الإخوة، كي يجد أبًا مشهورًا معروفًا، وكان هؤلاء الرَّحالة يقولون دومًا للأب ”لقد أسرعنا لنأتي إليك لأننا وجدنا في كلماتك أشياء كثيرة لم ترِد قبلًا حتّى على أذهاننا“ (35)، ثم يضعون أنفسهم تحت إرشاد الأب وكلَّهم ثقة عظيمة في أنَّ هذا الأب الروحي يملُك ”كلمات الحياة“ ويُحِب الناس. وكان لابد من اهتمام وتدقيق جل عظيم في اختيار الأب الروحي، حتّى يستطيع الراهب أن يختار الأب المُناسِب الذي يستطيع أن يعينه ليتغلَّب على أخطائه وضعفاته، ولذلك يكتُب القديس يوحنَّا الدَّرجي: ”لنفحص طبيعة أهوائنا وطاعتنا... ثم نختار أبونا الروحي بحسبِهِما“ (36) وكان مسموحًا بفترة تجريبية قبل الاختيار، وبعد ذلك، ليس للراهب أي حق أن يحكُم على منهج الأب على الإطلاق حتّى وإن بدا غريبًا، وإذا لم تكُن أوامر الأب مُخالِفة بوضوح لكلمة الله، فإنَّ على المُبتدئ أن يطيعها حتّى إلى الموت (37)، وكذلك لم يكُن مسموحًا بتغيير الأب بعد الاختيار بل يجب أن يظل الراهب تحت إرشاد نفس الأب مدى الحياة، ويقول يوحنَّا الدَّرجي: ”الراهب الذي وحَّده يسوع المسيح مع رئيسه (أي أبيه) برباطات الإيمان والمحبة، يجب أن يحفظ هذا الاتحاد حتّى لو كان الثمن دمه“ رغم أنه يبدو في موضِع آخر أكثر مرونة (38). وعلى أيَّة حال، كان من المُمكن أن يرفُض الأب قبول المُبتدئ تلميذًا له، والأدب النُّسكي ملئ بهذه الأمثلة، ومن القصص المُميزة في هذا المِضمار سيرة القديس الأنبا بولا البسيط الذي ظلَّ بدون أكل لمُدة أربعة أيام خارج قلاية الأنبا أنطونيوس لأنه رفض قبوله تلميذًا له، وشبيهة بذلك هي أيضًا قصة القديس باخوميوس عندما قرع على باب النَّاسِك الأنبا بلامون: ”يا أبتي أشتاق أن تسمح لي أن أصير راهبًا معك“ فلم يُرحِب الشيخ به بأيدي مفتوحة، بل على النقيض تمامًا حدَّثه حديثًا مُثبطًا عن الدعوة الرَّهبانية وصعوبتها ”لا تستطيع أن تصير راهبًا لأنه ليس أمرًا هينًا أن تقتني الحياة الرَّهبانية“ (39) ومضى بلامون قُدُمًا ليقول أنَّ آخرين كثيرين من الذين جاءوه لنفس الهدف لم يستطيعوا الثبات فيه ورجعوا مخزيين عندما وصف لهم باختصار هدف وطريقة الدعوة الرَّهبانية: ”قوانين الرهبنة التي سلَّمها لنا الآباء الأوائِل الذين سبقونا في هذا الطريق تتضمن السهر الدائم إلى مُنتصف الليل وأحيانًا كثيرة الليل كلّه حتّى الصباح، وقراءة كلمة الله على الدوام، بالإضافة إلى عمل اليدين مثل غزل الصوف أو صُنْع القُفَفْ، حتّى لا ننام وحتّى نُوفي حاجات الجسد، وما يزيد عن حاجتنا نتصدَّق به على الفُقراء... فالآن بعد أن أخبرتك بقانون النُّسْك، اذهب وامتحِن نفسك أولًا في كلّ ما قُلته لك“. (40) ويوحنا الدمشقي أيضًا من (القرن التَّاسِع) واجه نفس الصعوبات عندما قرَّر أن يستبدِل مكتب الوزير بالقلاية الرَّهبانية. ولم يكُن هذا الرفض نابعًا من عدم رغبة الأب في مُساعدة المُبتدئ، بل – كما قُلنا في الصفحات السابقة – كان بسبب وعي آباء البريَّة بأنَّ عمل الأب صعب للغاية، وبسبب اقتناعهم المُخلِص الصَّادِق بعدم قُدرتهم على تحمُّل مسئولية هذا العمل من ناحية، ومن الناحية الأخرى إنطلاقًا من إيمانهم بأنَّ اقتناء الإنسان للحياة الرَّهبانية ليس بالأمر الهيِّن، وكان هذا الرفض في الوقت عينه اختبارًا لرغبة طالِب الرهبنة وصِدق دعوته، فإذا كان حماسه بسيطًا مُؤقتًا فسوف يتلاشى ويخمِد أمام أُولى الصعوبات التي سيُواجهها، ولكن أيضًا هذه الصعوبات تُقوِّي وتُلهِب اشتياق ورغبة هؤلاء الذين يُريدون حقًا أن يترهبوا، ومن هذا المُنطلق، كان ذلك إعدادًا رائعًا للنذر الرَّهباني. وفي أعمال يوحنَّا كاسيان مُؤسِس رهبنة الغرب نقرأ أنَّ: ”طالِب الرهبنة لابد أولًا أن يكون خارج الباب لمُدة عشرة أيام“ وأنَّ ”كلّ واحد (من الرُّهبان) يُنادي طالِب الرهبنة " ذاكَ الذي جحد العالم "“. والخطوة التالية هي اختبار المُتقدِّم للرهبنة إذا كان قد ترك كلّ ثروته وأُسرته أم لا، وبعد ذلك يُعلِّمونه قوانين الدير ويُلبِسونه الزي الرَّهباني الذي كان يتكوَّن من جلاَّبية ومنطقة (41)، ثم يُوضع المُبتدئ تحت إرشاد أحد الآباء دون أن يُسمح له بالاختلاط بالرهبان، وكان عليه أن يخدم الزوار في بيت الضِيافة لمُدة عام، رغم أنَّ المرء يتوقع أن يقرأ أنَّ المُبتدئ لم يكُن له أي اتصال بالمُؤمنين الذين يعيشون في العالم، ولعلَّ ذلك كان أيضًا لاختبار قرار المُبتدئ أن يترهب ومدى ثباته فيه، ولا تزال هذه العادة قائمة في أديُرتنا حتّى الآن. وفي قوانينه القصيرة، يصِف القديس باسيليوس ضرورة أن يُقرِّر سائِر أعضاء الشَرِكَة الرَّهبانية قبول الطالِب أو رفضه، ولابد أن يكونوا حاضرين عند قبول الراهب المُبتدئ، وهكذا لم يكُن لرئيس الدير القُدرة على قبول راهب جديد بدون معرفة الإخوة، وكان القبول في العضوية الكاملة في مجمع الإخوة يأخذ وقتًا لأنَّ الإجراءات كانت مُتدرِجة، وكان لابد للمُبتدئ أن يقضي فترة الاختبار كي يعتاد على حياة الدير ومعناها وهدفها، وأيضًا لكي يُعطي رئيسه الفرصة لمُلاحظته، ويُحدِّد قانون القديس باخوميوس فترة الاختبار هذه بأنها لابد أن تكون ثلاث سنوات. وبعدما يختار المُبتدئ أباه الروحي في حالة الرهبنة التوحُدية، أو يضعه رئيس الدير تحت إرشاد أحد الآباء في حالة رهبنة الشَرِكَة، كان عليه أن يعتبره – بحسب التقليد الرَّهباني – شخصًا سرائريًا تقريبًا وأن يطيعه ”ليس بسبب رِئاسته أو حِكمته أو فضيلته، بل كرمز لربنا نفسه“ (42). كان التلاميذ واعيين ومُدركين تمامًا أنَّ أباهم الروحي يُحِب إخوته كما تُحِب الأُم أطفالها، ولذلك كان المُبتدئ يفتح قلبه لأبيه المُرشِد ويضع نفسه بين يديه تمامًا مثل المادَّة المرنة (العجينة) في يد الفنان، وتُحذِّر ”الأقوال“ التلميذ من إساءة استخدام محبة أبيه أو فُقدان احترامه أو طاعته له، ويقول الأنبا إيسيذروس أنَّ المُبتدئ يجب أن يُحِب مُعلِّمه كأب ويخافه كحاكم. لكن إذا كان هناك أيَّة كلمة تُعبِّر بوضوح ودقة عن علاقة التلميذ بأبيه، فهي كلمة ”طاعة“ فالطاعة هي أحد النذور الرَّهبانية الثَّلاثة، وبحسب يوحنَّا الدَّرجي، كانت الطاعة بين الأمور الأولى التي يجب على الراهب المُبتدئ أن يتعلَّمها بعد جحده للعالم، ويُعرِّفها الدَّرجي بأنها: ”هي الجحد التام المُطلق للنَّفْس، ونُعبِّر عنه بوضوح في أعمالنا الجسدية...“ (43) والطاعة في الفِكْر والمنظور الرَّهباني لا تلغي الحُرية، بل تقود إلى تنقية الذِهن والقلب وهذه هي الحُرية الحقيقية كما يُعرِّفها القديس كلِمنضُس السكندري ”الحُرية هي أن نضبِط شهواتنا“ (44). فطاعة هؤلاء الآباء لم تكُن طاعة عمياء أو سلبية أو غير عاقلة، بل كانت طاعة ثقة في أنَّ أباهم يُعلن إرادة الله ويعرِف الطريق الحقيقي المُؤدي للسلام ونقاوة الذهن والقلب، وهذه بدورها كانت هي الحُرية الحقيقية بالنسبة لهم. ومن الأمثلة المُميزة عن الطاعة، ما أورده يوحنَّا كاسيان في كِتابه الرَّهباني ”المُؤسسات“. ”نسمع عن أخ يُدعى يوحنَّا القصير، عندما أمره أبوه أن يسقي خشبة من حطب النار، قضى عامًا بأكمله في هذا العمل، وهو يحمل الماء لمسافة ميلين، كما لو كان ذلك وصية إلهية“. (45) ويدع يوحنَّا كاسيان الأنبا يوحنَّا القصير يُقدِّم تفسيرًا كِتابيًا لطاعته هذه قائلًا: ”يجب ألاَّ أُفكِر قط في الحُزن (بسبب الطاعة)، إذ في إخضاعي لنفسي تمامًا لرئيس الدير، أقتدي لدرجة ما بذاك الذي قيلَ عنه " وضع نفسه وأطاع حتّى الموت " (فل 2: 8) وهكذا أستطيع باتضاع أن أستخدِم كلماته " لأني قد أتيت ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني " (يو 6: 38)“. (46) ويشرح التعليم اللاهوتي الخاص بالطاعة – والذي تطور فيما بعد – أنه إذ سقط آدم بسبب عِصيانه وعدم طاعته لوصية الله، لذلك يجب علينا نحن أن نسلُك الطريق المُضاد، أي طريق الطاعة لنصل إلى حالة آدم قبل السقوط، والتي كانت – كما رأينا – هدف وغاية الرهبنة (47). وفي بعض الحالات كان يُطلب من المُتقدم للرهبنة أن يُقدِّم طلبًا مكتوبًا للقبول في مجمع الرُّهبان وكان لابد أن يُعلِن في هذا الطلب أنه سيسلُك في حياة الطاعة كما يتضح من إحدى المخطوطات القبطية. (48) |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
إنكار التلميذ (مر 14: 66- 72) |
التلميذ الحقيقي |
يسوع و التلميذ |
سأل المعلم التلميذ |
فيلبُّس التلميذ |