قداسة البابا تواضروس الثاني
يعيش البشر في هذا العالم الكبير
والذي يسمونه Macro-Cosmos منذ قرون وقرون في جماعات وشعوب وأمم وأجيال وراء أجيال، بينما يسمون كل إنسان Micro Cosmos أي “العالم الصغير”. فكل إنسان منا هو “عالم” بحياته الداخلية والخارجية وشخصيته وطباعه وأحاسيسه المتنوعة والمتعددة وسلوكياته وتصرفاته وما يصدر عنه من كلام وألفاظ وتعبيرات ونظرات وغير ذلك والذي يرسم معالم “عالمه الصغير” في هذا “العالم الكبير”.
وعبر رحلة الحياة تتكون مشاعر عديدة عند الإنسان مثل الحب والكره والحقد والانتقام والخبث والنقد والحنان والتذمر والطموح والعند والطمع والأنانية وغير ذلك الكثير..
ونقف نتساءل ما هو أعظم شعور يمكن أن يمتلكه الإنسان ليعيش سعيدًا يمارس إنسانيته التي خلقها الله، حين وضعه في هذا الكون الواسع. وإذا بحثت يا صديقي في حياتك لن تجد أفضل من “الشعور بالرضا” ليكون هو أعظم شعور يحيا به الإنسان حسب قصد الله ضابط الكل وضابط البشر وضابط الخليقة على الأرض وفي البحر وأيضًا في السماء… ضابط ما نراه وما لا نراه…
يقول القديس بولس الرسول وهو في السجن: “…قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ…” (فيلبي 4: 10-13). وهذه صورة الشعور بالرضا باعتباره شعور إيماني وإيجابي ينساب في قلب هادئ ونفس هادئة. لأن النفس المتذمرة دائمًا صاخبة ومتمردة ولا يعجبها أي شيء أو أي إنسان. الشعور بالرضا يعني الإحساس الدائم بقبول “حياتي” التي يقدمها الله لي كل يوم كما يقول داود النبي: “جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ” (مز 16: 8).
إن الشعور بالرضا هو سلوك المؤمن المسيحي في حياته اليومية ليس عن سلبية أو استكانة أو عدم عمل أو كسل، بل عن قبول داخلي بأن الله الذي خلقني هو مدبر حياتي بكل ما فيها من تفاصيل، مثل ما صدر عن العذراء مريم حين تلقت البشارة السماوية المدهشة وقالت: “هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ” (لوقا 1: 38) دون اعتراض أو رفض أو تذمر أو صد أو عدم قبول. وأسلوب الحياة الراضية يحتاج من الإنسان أن تكون له العين النقية وهذا يبدأ من التربية للصغار وغرس هذه المفاهيم في أفكارهم.
كذلك الشعور بالرضا هو علامة نجاح في مراحل حياة الإنسان لأن هذا الشعور يرفعه من مرحلة إلى أخرى بكل اجتهاد، لأن التذمر يعرقل خطوات الإنسان بل ويصيبه بالتوهان والحيرة وإضاعة الفرص المتاحة والشلل في قدرات التفكير.
ومن المهم أن نلاحظ أن قصة سقوط الإنسان بدأت بعدم الرضا، وبصفة عامة فإن حياة الخطية تبدأ بعدم الرضا. ويمكن أن تتذكر معي صديقي القارئ مثل الابن الضال وكيف ترك بيته وانحدر إلى حياة الخنازير وقاع الخطية. ويُعبِّر سليمان الحكيم في أمثاله قائلاً: “النَّفْسُ الشَّبْعَانَةُ (الراضية) تَدُوسُ الْعَسَلَ، وَلِلنَّفْسِ الْجَائِعَةِ (المتذمرة) كُلُّ مُرّ حُلْوٌ” (أمثال 27: 7). لقد قال أحد الفلاسفة إن كل إنسان هو بئر من الرغبات، أما الشعور بالرضا فإنه يغلق هذا البئر.