رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يشترط يسوع لمن يتبعه ان يزهد في نفسه. وهذا الامر يتطلب منه أن يقطع كل ما يشدُّ الإنسان إلى العالم الأرضي والأسرة والمال ومسرَّات هذا الدهر:" لا تُحِبُّوا العالَم وما في العالَم. مَن أَحَبَّ العالَم لم تَكُنْ مَحَبَّةُ اللهِ فيه. لأَنَّ كُلَّ ما في العالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العالَم. العالَمُ يَزولُ هو وشَهَواتُه. أَمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله فإِنَّه يَبْقى مَدى الأبد." (1 يوحنا 2: 15-17). ويعلق الراهب الدومنيكاني جان تولير "عليك التخلّي أوّلاً عن كلّ خيرٍ خارجيّ أو داخليّ تعلّقتَ به، واضعًا فيه كلّ الرضى. هذا التخلّي صليب مؤلم، وهو أكثر إيلامًا كلّما كان التعلّق أشدّ وأقوى"(العظة 59، الرّابعة بمناسبة عيد ارتفاع الصّليب). فالزهد في النفس معناه أنّنا في كلّ لحظة من حياتنا نقول (لا) للذات، ونقول (نعم) للربّ. فالزهد في النفس يعني إنزال الذات من على العرش، وتمليك الربّ على هذا العرش وبكلمة أخرى هو اتخاذ إنجيل التطويبات قاعدة للحياة. ويشترط يسوع لمن يتبعه ان يحمل صليبه كما حمله، وان يكون مستعداً لحَمْل صليب طبيعته الساقطة ومفتخرا بضعفه التي لا خلاص له إلاَّ بالثبات في المسيح. وبدعوة يسوع تلميذه لحمل صليبه فإنه يدعوه إلى معرفة يسوع وقوة قيامته وشركة آلامه متشبِّهين بموته كما جاء في تصريح بولس الرسول" فأَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشارَكَةَ في آلامِه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه (فيلبّي 3: 10)، وإنّ حَمْلنا لصليبنا هو شركة في آلام المسيح وموته وقيامته. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول " فإِنِّي أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسيح" (2 قورنتس 12: 9). ويستخدم يسوع أسلوب الاقناع مع تلاميذه، حيث ان قبل تقرير المصير لمن يريد ان يتبعه ويصير تلميذا له يطلب منه ان يعرف بمن يقتدي به ويُبرهن عن انه يستطيع ذلك فيشترط عليه الزهد: "فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه"(متى 16: 24). وهناك وجهان للزهد: الوجه الداخلي هو ان يزهد الانسان بنفسه، ويُعلق أحد المفسرين "يزهد الانسان في نفسه عندما يُحبُّ الله، ويُحبُّ الله عندما يُبغض المرء شهواته الجسدية. تكمن في داخلنا وفي أفكارنا وقلوبنا وإرادتنا قوّة غير عادية تعمل دائمًا كل يوم، وفي كل لحظة، لإبعادنا عن الله؛ تقترح هذه القوة علينا أفكارًا ورغبات واهتمامات ونيّات ومشاغل وكلمات، وأعمال باطلة تثُير فينا الشهوات وتدفعها بعنف فينا مثل المكر والحسد والطمع والكبرياء والمجد الباطل والكسل والعصيان والعناد والخداع والغضب". أمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فيُعلق "يزهد الانسان في نفسه عندما لا يهتمّ بجسده متى جُلد أو احتمل آلامًا مشابهة، إنّما يحتملها بصبر". والوجه الخارجي في اتباع يسوع هو ان يحمل صليبه. الصليب الذي عليه أن يحمله: إنه صليبه الخاص؛ صليب طبيعته الساقطة الضعيفة التي لا خلاص لها إلاَّ بالثبات في المسيح والاعتراف الدائم بدونه بعجزه عن البلوغ إلى البرِّ والقداسة كما صرّح يسوع " بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً" (يوحنّا 15: 5). ويعلق القدّيس قيصاريوس ، راهب وأسقف آرل " ما معنى "يَحمِلْ صليبَه"؟ فيجيب باسم يسوع "أن يتحمّل كلّ ما يزعجه، هكذا سيتبعني. حين يتبعني، ملتزمًا بحياتي وبوصاياي، سيجد على الطريق أشخاصًا كثيرين سيعارضونه ويحاولون تغيير مساره، أشخاصًا لن يكتفوا بأن يسخروا منه، لكنّهم سيضطهدونه" (العظة 159). لا ولن يقدر أحد أن يحمل صليب المسيح سواه، وهو الذي حمله وحده بإرادته وكامل رضاه ومسرَّته عن البشرية كلها " لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنّا 3: 16)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " كأن يسوع يقول لبطرس: أنت تنتهرني لأني أريد أن أتألّم، لكنّني أخبرك بأنه ليس فقط من الخطأ أن تمنعني عن الآلام، وإنما أقول لك أنك لن تقدر أن تخلُص ما لم تمُت أنت أيضًا". لا يقدر أحد أن يتبع السيد المسيح ما لم يدخل دائرة الصليب، وقد أكد ذلك يسوع بقوله " مَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 38). ويوضح القدّيس بونافَنتورا من خلال سيرة القديس فرنسيس معنى حمل الصليب " فليس عذاب جسد فرنسيس مَن سوف يحوّله ليتشبّه بالمسيح مصلوبًا، إنّما المحبّة التي تلهب قلبه هي التّي سوف تقوم بذلك "(حياة القدّيس فرنسيس). |
|