هذا السؤال يدل على أنك مطلع على مذهب النشؤ، الذي تتمسك به طائفة من العلماء. وهذا المذهب، يتركز على القول بأن الكون، بكل ما فيه من كائنات حية وغير حية، نشأ بالتدريج في أدوار متتالية، من مجرد فعل القوات الطبيعية الذاتية فيه، الفاعلة فعل الآلات الميكانيكية. ولذلك فهذا المذهب، مضاد لمذهب الخلق على خط مستقيم. لأنه يزعم أن كل ما في الكون، نشأ من فواعل طبيعية، من دون مداخلة إرادة الله على الإطلاق. بينما مذهب الخلق بحسب الكتاب المقدس، يقول ما يلي:
أن أعمال الخلق قد تمت بالتدريج بموجب نظام الهي، ذكر في سفر التكوين، الذي فيه أعلن أن الله الكلي القدرة، هو خالق الكل.
أن من شأن الكائنات الحية النمو من الجرثومة الأصلية إلى حالة البلوغ. وهذا المذهب يمتاز عن مذهب النشؤ بكونه ضمن دائرة معينة بحكمة الخالق، الذي وضع في الجرثومة الأصلية قوة النمو على كيفية موافقة لطبيعتها.
أن من شأن الكائنات الحية أن كلاً منها يلد نظيره، على نواميس خاصة بأفراد كل نوع. أما مذهب النشؤ، فلا يتقيد بناموس التوالد، بل يزعم أن نوعاً جديداً ينشأ من أنواع أخرى. حتى أنه يذهب إلى الجزم بأن كائنات حية قد تنوعت إلى ما هي عليه الآن بتفرع بعضها عن بعض.
من المسلّم به أن البشر تقدموا من حالة الجاهلية إلى حالة المدنية، ومن دأبهم أن يتقدموا أيضاً. وهذا التقدم يمتاز كثيراً عن مذهب النشؤ، في أن ليس فيه شيء من تحول الأنواع، ولا من نشوء عوامل جديدة بفعل العوامل الطبيعية. لأن العامل فيه، هو ذلك الخالق العظيم، ذو العقل المدبّر.
والآن لنرجع إلى ما نحن بصدده، أي أصل الإنسان، فأقول: يبدو لي أن سؤالك منطلق عن آراء شارلس دارون الإنكليزي. فهذا المفكر اعتقد بأن الجنس البشري على ما هو، ليس من أعمال الله. بل نشأ على ناموس طبيعي من جسد قرد راق جعله الحلقة المفقودة بين البشر والبهائم. ولكن نظريته ليست بأكثر من فرض، احتاج إلى اختراعه، إكمالاً لمذهبه، ومن بديهيات الأمور، أن نرفضه بتاتاً، ليس فقط لأنه يخالف الوحي المقدس كل المخالفة، بل لأن هناك رأي علمي آخر نودي به وهو أن الحلقة المفقودة بين البشر والبهائم، ليست قرداً، بل سمكة زرقاء العينين!!!
الاعتراضات على مذهب دارون
انه لا دليل على تناسل بنية الإنسان الجسدية من الحيوانات. أما ما بين جسده وأجساد بعض الحيوانات من المشابهة، فهذا لا يشكل دليلاً على أن الإنسان توّلد منها. وكل ما وصل لدينا من معلومات عن بنية أجساد قدماء البشر، يبين أنها لا تفرق عن بنية أجساد البشر في عصرنا الحاضر.
واذا قابلنا ما اكتشف من آثار الأقدمين بأناس هذا العصر، ثم قابلناه بالقرود أيضاً، يتضح لنا أن الفرق بين أقدم البشر والقرد، كالفرق بين أحدث البشر والقرد.
خذ مثلاً الجمجمة التي يتبين منها حجم الدماغ. فإن الفرق بين جماجم البشر والقردة هو هو، من أول تاريخ البشر إلى يومنا هذا. وكذلك إذا قابلنا جماجم أقدم البشر بجماجم أهل زمننا، لا نرى فرقاً ملموساً في الحجم.
واليك بعض المقارنات التي أجراها لفيف من الأخصائيين، والتي تؤكد ما ورد آنفاً:
دماغ الغوريلا، وهو اكبر القرود حجماً، يساوي ٣٠ قيراطاً مكعباً، ودماغ أهل أستراليا الأصليين، الذين أدمغتهم أصغر أدمغة جميع البشر، يساوي ٩٩ قيراطاً وثلث. ودماغ الشامبانزي، واوران اوتان يساوي ٢٦ قيراطاً مكعباً. فهذه المقارنات تظهر أن دماغ أكبر القرود، أقل من ثلث دماغ أصغر البشر دماغاً.
صحيح أن البشر تقدموا في التمدن واختراع أسباب المعيشة، وتمتعوا بالرفاهية أكثر من القدماء. غير أنهم لم يتغيروا في بنية أجسادهم. وقد تأكد أن القدماء منهم، لم يكونوا في بنيتهم الجسدية أقرب إلى الحيوانات البكم، وكذلك أهل جيلنا. لذلك تسقط ادعاءات النشؤ في ما يختص ببنية الإنسان منذ وجوده إلى الآن.
موهبة النطق. فإن الإنسان يختلف عن سائر الحيوانات في قدرته على النطق بلغة مفهومة. وقد بذل دارون كل ما لديه من جهد لإثبات زعمه بأن أصوات البهائم تحولت رويداً رويداً إلى تكلم البشر. ولكن اجتهاده ذهب سدى.
وكان ما كتبه في هذا الشأن إسفافاً، يستغربه العقل السليم. لأنه لم يرد أن قرداً في القرون الخالية، تعلم لغة، أو لفظة، بينما امتاز جميع بني البشر بموهبة التكلم بلسان مفهوم.
القوى العقلية. لا دليل لدى دارون أو غيره، على أن قوى البشر العقلية نشأت من غرائز البهائم. صحيح أن لبعض البهائم فطنة غريزية تمكنها من القيام بأعمال غريبة، غير أنه لا برهان على أنها تغيرت بتوالي الأزمنة. فالعصافير تبني أعشاشها، والنحل يصنع خلاياه، والنمل ينشىء قراه، ولكن على نمط واحد طول حياتها. وأما الإنسان، فبواسطة عقله، يرتقي في أعماله من درجة إلى درجة على الدوام. ومن دأبه دائماً البحث في الأمور العقلية، ودرس العلوم والفنون، ونحو ذلك مما لا قبل للحيوانات به مطلقاً.
طبيعة الإنسان الأدبية. فإن الإنسان، يعلو في مواهبه الأدبية على سائر الحيوانات، كما تعلو السماء عن الأرض. ولما كان ذلك مما لا يسع دارون انكاره، حاول لأجل إسناد مذهبه، فقال أن طبيعة الإنسان الأدبية نشأت من انفعالات البهائم وعوائدها. وبذل أقصى الجهود مدة طويلة في البحث عن قبيلة من البشر خالية من الطبيعة الأدبية ومن الميل الديني، ولكنه لم يجد.
ومن الأمثلة التي عول عليها، محبة الكلب لصاحبه وخضوعه لمشيئته وخوفه منه ونحو ذلك. فقد زعم أن هذه المشاعر عند الكلب، تشبه المشاعر الدينية عند الإنسان. فرد عليه الدوق اوف ارغيل قائلاً: مهما قوى الشعور بلزوم الاستناد على شيء أو شخص، أو الاحتياج إليه، فذلك لا يدل على شيء من الشعور الديني. فإذا تمسك الغريق في البحر بقطعة خشب، وعرف أن نجاته متوقفة عليها، فليس معنى ذلك انه ينظر إليها بالشعور الديني. ولا يدل ذلك على ميله الديني إلى الخشبة. فالانفعالات الدينية تختلف كثيراً جداً عن انفعالات البهائم. ولم يظهر قط من البهائم ما يشبه انفعالات الإنسان ونزعاته الدينية والأدبية. وحتى الآن، لم يوجد القرد الديني. أما الإنسان، فقد شهد الكتاب المقدس، أنه وُضِع قليلاً عن الملائكة.
ويقيناً أن السيد دارون، آخر العالم بإدخاله رأياً كهذا فاسداً في فلسفة الأيام الأخيرة، وذلك بإشهاره هذا المذهب الغريب بشأن صدور طبيعة الإنسان الأدبية عن انفعالات البهائم، الأمر الذي لم يستطع لا هو ولا غيره من دعاة النشؤ إثباته بالدليل العلمي. وكل ما هنالك أنهم أوهموا كثيرين بأن الالتزام الأدبي، أو الآداب مبنية على أسس خيالية لا حقيقية. وانه لمن سخف القول أن يزعم أحدهم أن أصل ضمير الإنسان حيواني لا الهي.
وأي إنسان مؤمن بالله، لا يشمئز من قول كريه كهذا في أصل الالتزام الأدبي وأساسه. لا سيما متى قابله بتعليم الكتاب المقدس السامي القائل أن الإنسان خُلق على صورة الله. وأن ضميره ناشئ عن خالقه ونائب عنه في إرشاده والتزاماته الأدبية؟!
إن المذهب الدارويني في أصل الإنسان، مخالف لتعليم الكتاب المقدس بخلاف العلم الصحيح، الذي لا يضاد الكتاب الإلهي مطلقاً. وكل من طالع الأسفار المقدسة، لاحظ أن لا خلاف بين محتوياتها والعلم الصحيح. أما نظرية النشؤ الكفرية الوهمية، فنظراً لخلوها من البرهان والإثبات، رفضها جمهور المؤمنين، ولم يقبلوها، ما دام الدين غالباً الكفر
إن المذهب الدارويني، ينسب إلى المادة الخالية من الحياة قوة عظيمة، وعقلاً وقصداً وغايات سامية، وغير ذلك مما لا يمكن أن ينسب إلا لكائن ذي عقل فائق.
إنه ينسب إلى الكائنات الحية قوة الاستحالة، أي الانتقال من حال إلى حال أخرى تختلف عن الأولى بخواص، لا يمكن أن تنشأ إلا بقدرة خالق عظيم.
في الحقيقة أن التقدم الذاتي، الذي ينادي به مذهب النشؤ، بدون مداخلة الخالق، لا يقبله العقل السليم. ولا يشهد به لسان حال الطبيعة نفسها. وخصوصاً أن الارتقاء التدريجي على هذا النمط، ليس له ما يسنده، حتى ولا ما يرجحه، أو يدل على إمكانه.