رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
ضرورة وجود الله كثالوث يؤمِن المَسيحِيُّون بالتَّعَدُّدِيَّة في الوَحدانِيَّة الإلهِيَّة. فالآب والاِبن والرُّوح القُدُس هُم ثَلاثَة أقانيم مُتَساوِية في الجَوهَر وهُم في وِحدة أزَلِيَّة أبَدِيَّة. هذهِ التَّعَدُّدِيَّة ضِمن الوَحدانِيَّة هي الوَحيدة التي تَضمَن وُجود صِفات الله مُنذُ الأزَل، وتَضمَن عمَل هذهِ الصِّفات سَرمَدِيّاً فيما يتَوافَق مع طَبيعَة الله الثَّابِتة والكامِلة. يصِف الكِتاب المُقدَّس الله بأنَّهُ الإله الحَيّ الذي يَبني عَلاقات مُختَلِفة مع البشَر، وهذهِ العَلاقات هي مؤشِّر على وُجود صِفات مُتَعَدِّدة في الذَّات الإلهِيَّة. “صِفات الله هي وَصف تَحليلي وتَفسير أقرَب لِجَوهَر الله”¹ هكذا عبَّرَ أحَد اللَّاهوتِيِّين، فمَعرِفَتنا بصِفات الله سَوفَ تُعَرِّفنا على طَبيعَة الله، حتَّى لو أنَّ هذه المَعرِفة ستَبقى مَحدودة بسَبَب مَحدودِيَّة بَشَرِيَّتنا وعَدَم قُدرتنا على استيعاب عَظَمَة الله، لكِنَّها رغم مَحدودِيَّتها هي مَعرِفة كافِية لنا وكَفيلة بأن نَعلَم ما هو لِخَلاصِنا. فيما يَختَصّ بطَبيعَة الله أيضاً، يؤمِن المَسيحِيُّون بالثَّالوث لأنَّ هذا ما يُعَلِّمهُ الكِتاب المُقدَّس، وهذا ما آمَنَ بهِ المَسيحِيُّون الأوائِل وهو الإيمان الذي ما زِلنا مُستَمِرّين عليهِ لِغايَة اليَوم. والتَّعريف البَسيط للثَّالوث هو: أنَّ الله كائِن واحِد قائِم في ثَلاثَة أقانيم منذُ الأزَل وإلى الأبَد. إن كانَ الله كائِن منذُ الأزَل أي قَبل وُجود الخَليقة وبِمَعزِل عَنها ولهُ صِفات نَعرِفهُ من خِلالِها كالصِّدق والمَحبَّة والأمانة والقَداسة، فهَل هذه الصِّفات هي “سَرمَدِيَّة” أي قائِمة منذُ الأزَل بِمَعزِل عن الخَليقة؟ أم أنَّها دَخَلَت حَيِّز التَّنفيذ حينَما أوجَدَ الله الخَلق؟ أي إن قُلنا أنَّ الله أَمين فهَل هذه الصِّفة مُتَأصِّلة فيهِ منذُ الأزَل أم أنَّهُ صارَ أميناً عندما أَوجَدَ (مَخلوقات عاقِلة) يَستَطيع أن يُظهِر أمانَتهُ لَهُم؟ وإن قُلنا أنَّ الله مَحبَّة فهَل يعني ذلك أنَّ المَحَبَّة كائِنة فيهِ قبلَ الخَلق أم بَعدهُ؟ إن كانَت الإجابة أنَّ صِفات الله دَخَلَت حَيِّز التَّنفيذ عند بَدء الخَلق لأنَّهُ لم يَكُن يوجَد أحَد يُظهِر الله صِفاتهُ أمامهُ، فهذا يَطرَح مُشكِلة كَبيرة جِدّاً وهي أنَّ تَغييراً قَد طَرَأَ على الله فَتَغَيَّرَ مع أنَّهُ ثابِتٌ لا يَتَغَيَّر، وأنَّ تِلكَ الصِّفات لَيسَت مُتَأصِّلة في الله لأنَّهُ لم يَعرِفها اختِبارِيّاً قبلَ أن يُوجِد الخَليقة، أمَّا إن قَبِلنا أنَّ هذه الصِّفات سَرمَدِيَّة فكيفَ كانَت فاعِلة إذاً قبلَ وُجود الخَليقة؟ أي إن كانَ الله مَحَبَّة فمَن كانَ يُحِبّ؟ وإن كانَ عَليماً فماذا كانَ يَعلَم؟ سَنُبَيِّن الآن إحدى ميزات الثَّالوث وهي كيفَ أنَّهُ يَستَطيع أن يَحُلّ هذه المُعضِلة المُتَعَلِّقة بأزَلِيَّة صِفات الله، مِمَّا يُشَكِّل دَليلاً قَوِيّاً على صِدقهِ. أورَدَ القِسّ عِماد شحادة في كِتابهِ “ضَرورَة التَّعَدُّدِيَّة في الوحدانِيَّة الإلهِيَّة”² ثَلاث رَكائِز يُبنى عليها هذا المَفهوم الذي سَوفَ نَتَوَسَّع فيه: أوَّلاً: وُجود الله سَرمَدِيّاً يَتَطَلَّب عَمَل صِفاتِهِ سَرمَدِيّاً. ثانِياً: عَمَل صِفات الله سَرمَدِيّاً يَعتَمِد على وُجود عَلاقة سَرمَدِيَّة. ثالِثاً: وُجود عَلاقة سَرمَدِيَّة يَتَطَلَّب وَحدانِيَّة. أولا: ضرورة عمل الصفات سرمديا إنَّ وَصفَنا لله على أنَّهُ “لا يَنسى ولا يَعسُر عليهِ أَمر” هو وَصف صَحيح لكِنَّهُ يُبنى على مَعرِفة بحَقيقَة الصِّفة، فلا يَنسى يَعني أنَّهُ كُلِّيّ العِلم، ولا يَعسُر عليهِ أَمر يعني أنَّهُ كُلِّيّ القُدرة، فصِفات الله ليسَت مُستَوحاة من شَخص آخَر لأنَّ الله لا يَتَّكِل على الخَليقة بوُجودهِ، وصِفاتهُ أزَلِيَّة لأنَّهُ إن كانَت هُناكَ صِفة قَد اقتَناها من خَليقَتِهِ فهذا يَعني أنَّهُ يَتَعَلَّم ويَتَغَيَّر في حين أنَّ الله ثابِت لا يَتَغَيَّر وهو كُلِّيّ العِلم والمَعرِفة، وإن كانَ الله مَوجوداً في مَرحَلة ما من الزَّمَن بِدُون تِلكَ الصِّفات، فهذا يُلغي أنَّ صِفاتهُ قائِمة منذُ الأزَل وباقِية إلى الأبَد. لا يُمكِن أن تَكون صِفات الله مُجَرَّد صِفات كامِنة غَير فاعِلة ودَخَلَت صيغَة الفَعاليَّة في الخَليقة، لأنَّها ستَكون حينَها صِفات ناقِصة غَير مَعروفة اختِبارِيّاً وقَد اختَبَرَها الله فقَط في الخَليقة، وبذلك تَكون صِفات الله مُعَرَّضة للتَّغيير لا بَل قَد تَغَيَّرَت فِعلاً مع بِدايَة الخَلق. وإن قالَ أحَد بأنَّ هذه الصِّفات ليسَت أزَلِيَّة أو أنَّ القُدرة على مُمارَسَتِها أزَلِيَّة لكن الله لم يَستَخدِمها قبلَ الخَليقة لأنَّهُ لم يَرَ ولَم يَسمَع ولم يَعرِف أحَد ليُمارِسها مَعهُ. فهذا يَعني أنَّ الله اكتَسَبَ عِلماً في الخَلق لم يَكُن يَملكهُ سابِقاً. وهذا غَير مُمكِن لأنَّ كَمال الله يَشمل على كَمال صِفاتهِ فلَيسَ هُناك شَيء في الخَليقة يَقدِر أن يُكمِل الله أو يُضيف إلَيهِ صِفة جَديدة. يَقول عَوَض سمعان في هذا الصَّدَد: “حَقّاً قَد يَكون هُناكَ شَخص بَصير دونَ أن يَكون هُناكَ شَيء يُبصِرهُ. لكن إن أدرَكنا أنَّ الله كامِل في ذاتهِ كُل الكَمال وأنَّهُ لذلك لا يَتَغَيَّر أو يَتَطَوَّر أو يَكتَسِب لِذاتهِ شَيئاً على الإطلاق، تَبَيَّنَ لنا أنَّهُ لا يُمكِن أنَّ صِفاتهُ كانَت في الأزَل عاطِلة، ثُمَّ أصبَحَت بعدَ ذلك صِفات عامِلة، بسَبَب وُجود الكائِنات التي خَلَقَها في الزَّمان، بَل من المؤكَّد أنَّ صِفاتهُ كانَت عامِلة من تلقاء ذاتِها أزَلِيّاً لِدَرَجَة الكَمال قبلَ وُجود أيّ كائِن من الكائِنات سِواه.”³ ثانيا: ضرورية التعددية في الوحدانية عدَما أوضَحنا أنَّ وُجود الله سَرمَدِيّاً يَتَطَلَّب عَمَل صِفاته سَرمَدِيّاً، سَننتَقِل إلى النّقطة الثَّانِية وهي أنَّ عَمَل صِفات الله سَرمَدِيّاً يَعتَمِد على وُجود عَلاقة سَرمَدِيَّة. فأن تَكون صِفات الله عامِلة هذا يَفتَرِض وُجود فاعِل ومَفعول بهِ. لا يُمكِن أن تَكون صِفات الله فاعِلة تجاه نَفسِه طالَما أنَّنا نؤمِن بالإله الواحِد. هذا يَضَعنا أمام احتِمال وَحيد وهو حَتمِيَّة وُجود تَعَدُّدِيَّة ضِمن الوَحدانِيَّة الإلهِيَّة وهذه التَّعَدُّدِيَّة تَتَفَرَّد المَسيحِيَّة في الإيمان بِها على عَكس كُل الفَلسَفات والمُعتَقَدات الأُخرى، فتؤمِن المَسيحِيَّة بالإله الواحِد في الجَوهَر المُثَلَّث الأقانيم. يَقول عماد شحادة: “لا يُمكِن أن يَحدُث ذلك ضِمن وِحدة مُجَرَّدة. فمَثلاً لا يُمكِن لِكائِن واحِد في عُزلة كامِلة عن أيّ كائِن آخَر ودونَ أيّ مَعرِفة عن وُجود كائِن آخَر أن يَختَبِر القوَّة والمَحبَّة والشَّرِكة. فإن كانَت صِفات الله مَوجودة وفَعَّالة ضِمن الخَليقة، وَجَبَ وُجود فاعِل ومَفعول بهِ دونَ الخَليقة أيضاً. ولا يُمكِن اعتِبار الخَليقة مَفعولاً بهِ، لأنَّهُ لا يُمكِن تَحديد صِفات الله ضِمن ما هو عَرَضِيّ أو مُتَوَقِّف على غَيرهِ وكذلك لا يُمكِن تَحديد صِفات الله ضِمن عَلاقة مع إله آخَر.”⁴ هذه العَلاقة يجِب أن تَكون بينَ شَخصِيَّات عاقِلة وفي تَفاعُل فيما بينَها منذُ الأزَل وهذا ما تُعَلِّمهُ المَسيحِيَّة. الآب أُقنوم بِذاتهِ في عَلاقة مع أُقنوم الاِبن وأُقنوم الرُّوح القُدُس، هذه العَلاقة تَضمَن أزَلِيَّة صِفات الله وثَباتها سَرمَدِيّاً دونَ تَغيير أو إضافة أو نقصان. فالآب يُحِبّ الاِبن والرُّوح القُدُس أزَلِيّاً وفي عَلاقة سَرمَدِيَّة مَعَهُما وهو مَحبوبٌ مِنهُما أيضاً. لا يُمكِن لهذه العَلاقة السَّرمَدِيَّة أن تَكون مع الصِّفات، لأنَّ الله لا يَتَعامَل مع الصِّفات ولا تَستطيع هي أن تَتَعامَل مَعهُ. فَلا يُمكِن للصِّفات أن تَأخُذ دَور العاقِل في العَلاقة مع الله. يُضيف عماد شحادة تَعليقاً حَولَ هذه النّقطة: “…التَّعامُل لا يَكون إلَّا بينَ الشَّخصِيَّات العاقِلة، والصِّفات مَعانٍ وليسَت شَخصِيَّات. ولذلك فوَحدانِيَّة الله لا يُمكِن أن تَكون هي ذاته وصِفاته مَعاً.”⁵ ثالثا: ضرورة الوحدانية ضمن التعددية على الرَّغم من أنَّ ضَمان أزَلِيَّة صِفات الله يجِب أن تَكون عَبر التَّعَدُّدِيَّة كَما أشَرنا سابِقاً إلَّا أنَّ هذه العَلاقة لا يُمكِن أن تَكون بينَ آلِهة مُختَلِفة. بل يجِب على هذه العَلاقة السَّرمَدِيَّة أن تَكون ضِمن الوَحدانِيَّة الإلهِيَّة الجامِعة المانِعة، ليَكون بذلك أنَّ الله عالِم ومَعلوم، مُدرِك ومُدرَك، مُحِبّ ومَحبوب. وَجَبَ على هذه الشَّخصِيَّات أن تَكون واحِدة في الجَوهَر، فهذه الوَحدانِيَّة في الجَوهَر مع تَمايُز الأقانيم تَضمَن أزَلِيَّة صِفات الله دونَ التَّعليم عن تَعَدُّد الآلِهة، المَسيحِيَّة تُشَدِّد على الإيمان بالإله الواحِد خالِق كُل الأشياء ولا تَقبَل أيّ فِكرَة تَعَدُّد آلِهة وتؤمِن أنَّ الأقانيم الثَّلاث هي جَميعها الإله الواحِد. يُعَلِّم الكِتاب المُقدَّس أنَّ هذه العَلاقة هي بَين ثَلاثة أقانيم (شَخصِيَّات) وهذه الشَّخصِيَّات هي واحِدة في الجَوهَر، وهذا يَضمَن أزَلِيَّة صِفات الله دونَ تَغيير، وتُمَكِّنهُ من التَّعامُل مع الخَليقة وفق صِفاته المُتَأصِّلة فيه والنَّابِعة مِنهُ دونَ أن يَطرأ عليها أيّ تَغيير، الأَمر الذي سَيُمَكِّننا من الثِّقة بوُعود الله، لأنَّ إحدى صفاتهِ هي حافِظ العَهد⁶، والله يَحفَظ عَهدهُ مَع شَعبه كَما نَرى في الكِتاب المُقدَّس وكَما نَعرِف أنَّهُ سَيحصُل أيضاً في المُستَقبَل لأنَّ الله بطَبيعَتِهِ حافِظٌ لعُهودهِ ومُحِبٌّ لِشَعبِهِ دونَ أيّ إمكانِيَّة لِتَغيير هذه الصِّفات.. |
|