رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
حياة القديسة فيرونيكا جولياني ولدت فيرونيكا إذًا في 27 كانون الأوّل/ديسمبر 1660 في ميركاتيلّو ، في وادي نهر ميتاورو، من فرانشيسكو جولياني وبينيديتّا مانشيني؛ وهي الصغرى بين شقيقات سبعة، اعتنقت ثلاثة أُخريات منهنَّ الحياة الرهبانيّة؛ وأُطلق عليها اسم أورسولا. وفي سنّ السابعة، فقدت والدتها وانتقل والدها إلى بياتشينسا كمُراقب للجمارك في دوقيّة بارما. وفي هذه المدينة، شعرت أورسولا بشكلٍ متزايد بالرغبة في تكريس حياتها للمسيح. وأصبحت الدعوة أكثر إلحاحًا، حتّى أنّها في السابعة عشرة من عمرها دخلت دير الراهبات الحبيسات للكلاريس الكبّوشيّات في مدينة كاستيلّو، حيث بقيت طوال حياتها. وهناك تسمّت باسم فيرونيكا، ومعناه “الصورة الحقيقيّة”، وهي بالفعل سوف تصبح صورة حقيقيّة للمسيح المصلوب. وبعد سنة أبرزت النذور الرهبانيّة: لقد بدأ بالنسبة إليها درب الاقتداء بالمسيح من خلال تكفيرات كثيرة، ومعاناة كبيرة وبعض الخبرات الصوفيّة المتّصلة بآلام يسوع: إكليل الشوك، والعرس الصوفيّ، والجرح في القلب والندبات. وفي عام 1716، في السادسة والخمسين من عمرها، أصبحت رئيسة الدير وبقيَت في هذا المنصب حتّى وفاتها عام 1727، بعد نزاع أليم جدًّا دام 33 يومًا، بلغ ذروته في فرح عميق، لدرجة أنّ كلماتها الأخيرة كانت: “لقد وجدت المحبّة، والمحبّة جعلت نفسها مرئيّة!! هذا هو سبب مُعاناتي. أخبروا الجميع بهذا، أخبروا الجميع بهذا” (Summarium Beatificationis، 115-120). وفي يوم 9 تموز/ يوليو، تركت الحياة الأرضيّة للقاء الله. كان لها من العمر 67 سنة، قضت منها خمسين سنة في دير مدينة كاستيلّو. وأعلنها البابا غريغوريوس السادس عشر قدّيسة في 26 أيار/مايو 1839. كتبت فيرونيكا جولياني كثيرًا: رسائل وسَرد علاقات خاصّة وقصائد. بيد أنّ المصدر الرئيسي لصياغة تفكيرها، هي يوميّاتها، التي بدأت بها في عام 1693: اثنان وعشرون ألف صفحة مكتوبة بخطّ يدها، تُغطّي فترة أربعة وثلاثين عامًا من الحياة الحبيسة. تنساب الكتابة بِعفويّة متواصلة، فلا محوَ أو تصحيحات، ولا قواطِع وفواصِل أو توزيع للمادّة إلى فصول أو أجزاء وفقًا لِتصميم مُحدَّد سلفًا. لم تكن فيرونيكا ترغب بتأليف عمل أدبيّ، بل على العكس، لقد أجبرها على كتابة خبراتها الأب جيرولامو باستيانيلّي، راهب الفيلبّينيّين، بالاتّفاق مع أسقف الأبرشية أنطونيو إوستاكي. للقدّيسة فيرونيكا روحانيّةٌ كريستولوجيّة عُرسيّة بارزة: خبرتُها في أن تكون محبوبة من المسيح، الزوج المُخلِص الصادق، وأن تريد التطابق مع محبّة تُشركها وتُفتِنها أكثر فأكثر. فكلُّ شيء يُفسَّر بالنسبة إليها من خلال المحبّة، ما ينشر فيها صفاءً عميقًا. كلّ شيء يُعاش بِالاتّحاد مع المسيح، وبدافع محبّته، وبفرح إمكاننا إظهار كلّ المحبّة التي يقدر عليها مخلوق تجاهه. إنّ المسيح الذي تتَّحِد به فيرونيكا بعمق هو المسيح المتألِّم في آلامه وموته وقيامته؛ إنّه يسوع في تقديم نفسه ذبيحة إلى الآب كي يُخلّصنا. ينجم عن هذه الخبرة أيضًا المحبّة الشديدة والمتألّمة للكنيسة، في الشكل المزدوج للصلاة والتقدمة. فالقدّيسة تعيش في هذا المنظور: تُصلّي وتتألّم وتبحث عن ”الفقر المقدّس“ كَـ ”تخلية الذات وفقدنها“، وفقدان الذات (المرجع نفسه، القصل الثالث، 523)، كي تكون فعلاً كالمسيح، الذي بذل كلّ ذاته. في كلّ صفحة من صفحات كتاباتها توكل فيرونيكا أحدًا ما إلى الربّ، مُقيّمةً صلواتها التشفعيّة بِتقديم ذاتها في كلّ ألم. فقلبها يتّسع لجميع “احتياجات الكنيسة المقدّسة”، وهي تعيش بِقلق في رغبة خلاص ”كلّ الكون العالم“ (المرجع نفسه، الفصلين الثالث والرابع). وتصرخ فيرونيكا “أيّها الخطأة، أيّتها الخاطئات... تعالوا جميعكم جميعكنّ إلى قلب يسوع؛ تعالوا إلى غَسل دمه الثمين... إنّه ينتظركم بذراعَين مفتوحتين لِيُعانقكم” (المرجع نفسه، الفصل الثاني، 16-17). وإذ تُحيي الأخوات في الدير محبّة متّقدة، تمنحها الاهتمام والتفهُّم والغفران؛ وتقدِّم صلواتها وتضحياتها للبابا وأسقفها والكهنة وجميع الناس المُحتاجين، بمن فيهم نفوس المَطهَر. وهي تُلخِّص مهمّتها التأمّليّة بهذه الكلمات: “لا يمكننا التنقّل في العالم واعظاتٍ من أجل هداية النفوس، لكنّنا مُجبَرات على الصلاة باستمرار من أجل كافّة أرواح الذين أساءوا إلى الله... خصوصًا بِمُعاناتنا، أي بِمبدأ حياة مصلوبة" (المرجع نفسه، الفصل الرابع، 877). وتُدرك قدّيستنا هذه المهمّة كـ ”وقوفٍ بين“ البشر والله، بين الخطأة والمسيح المصلوب. لقد عاشت فيرونيكا المشاركة بالمحبّة المتألّمة لِيسوع بطريقة عميقة، وهي على يقين من أنّ “التألّم الفَرح” هو “مفتاح المحبّة” (المرجع نفسه، الفصل الأوّل، 299.417 ؛ الفصل الثالث، 330.303.871 ، الفصل الرابع، 192). وهي توضِح أنّ يسوع تألّم من أجل خطايا البشر، ولكن أيضًا للمعاناة التي سيضطرّ المؤمنون إلى تحمّلها على مرّ القرون، في زمن الكنيسة، بسبب إيمانهم القويّ والمُلتزم تحديدًا. وتكتب: “لقد أراه أبوه السرمديّ وأسمعه في تلك اللحظة كلَّ معاناةٍ كان عليهم أن يعانوها مُختاروه، أعزّ النفوس عليه، أي تلك التي من شأنها الاستفادة من دمه وكلّ آلامه” (المرجع نفسه، الفصل الثاني ،170). كما يقول الرسول بولس عن نفسه: “إنّي أفرح الآن بالآلام التي أُعانيها من أجلكم، وأُتِمُّ في جسدي ما نقص من مضايق المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة” (الرسالة إلى أهل كولوسّي 1، 24). وتوصّلت فيرونيكا لأن تطلب من يسوع أن تُصلَب معه: هكذا ارادت فيرونيكا ان تسير كل حياتها على درب الصليب ، و تشارك في العذابات ، حُباً بالله وخلاص النفوس. و كانت تردد مراراً لكل من تراه " الصلبان والآلام هي افراح وإنعام." ،، وكم من مرة كانت تـُردد في صلاتها بحرارة من اجل الخطأة قائلة : "ياإلهي ! نفوس! أطلب منك نفوساً " وكان صوت يجيبها:" أشتريها بنقود الألم". فتجيب باسطة ذراعيها، مُظهرة يديها ورجليها وقلبها:" يارب ، لقد أشتريتها . إنني ضحيتك . إصلبني "! و قد استجاب الله لصلاته و تم تحديد ظاهرتان حدثتا في جسد القديسة فيرونيكا وهي التكليل باكليل الشوك يوم ( 4 ابريل 1681) ونَيل سِمات جراح يسوع المصلوب الخمسة يوم (5 ابريل 1697). فتكتب “وفي لحظة، رأيت أنّ شُعاعات ساطعة خرجت من جراحه الخمس؛ وأتت كلُّها صوبي. ورأيت هذه الشعاعات تصير كشعلات صغيرة. كانت هناك في أربع منها المسامير؛ وفي واحدة الحربة، كالذهب مشتعلة بكاملها: واخترقت قلبي، من جهة لأخرى... ومرّت المسامير يديَّ ورجليّ. شعرت بألمٍ كبير؛ ولكن في الألم نفسه، كنت أرى وأشعر بنفسي متحوّلةً كليًّا إلى الله” (مذكّرات، القصل الأوّل، 897). القديسة فيرونيكا جولياني المتألمة مع المسيح المصلوب : كللها يسوع بالشوك مرات عدة مُسبباً لها انتفاخاً غير طبيعي في الرأس ، لم يستطيع الأطباء سوى زيادة خطورته باساليبهم الطبية المؤلمة.... أشواك دخلت الجمجمه ، الراس، الصدغين ، الأذنين ، الع ينين.. حتى إنها سقطت أرضاً كالمائتة :" ستشعرين بهذه الأشواك طيلة حياتك تقريبا" قال لها يسوع وهو ينهِضـُها . ــ تحملت جَلداً بأيدِ غير منظورة حتى سالت دماؤها ... ــ وضع يسوع صليبه الثقيل للغاية على كتفها، حتى إن العظام بقيت ملتوية مدى حياتها ، كما سيؤكد التشريح لاحقا.... ــ تكرار " الاعتراف العلني بخطاياها " ، حيث كان قلبها ينفطر لرؤية كل إهاناتها لله، شاعرة بقلق مميت كانت تـُقدمه لارتداد الخطأة خاصة الذين يجدون صعوبة في التقدم من سر الاعتراف . -- وفي لائحة من النِعًم الخاصه نالتها من الرب ، نجد مايلي : خمسمائة مرة جدد لها يسوع ألم القلب المطعون بالحربة، جارحاً إياها مئة مرة بجرح خفي( واحياناً منظور، بشهادة الأسقف، والطبيب. ) ثلاثاً وثلاثين مرة جعلها تختبر عذابات الآلام بكليتها، شاعرةً بالأوجاع التي قاساها هو : نِعمة لايمنحها إلا للنفوس المختارة المميزة. + عشرون مرة ظهر لها في جسده المجروح و كان ينزف دماً . و لكن الهنا ايضاً هو إله التعزيات دوماً فكانت يعزيها هكذا دائما : *ستون مرة جدد لها الاحتفال بالاعراس الإلهية. * حرر يده عن الصليب ليضمها إليه ثلاث مرات, *ألصق فمها على جرح قلبه تسع مرات. *أعطاها شرابا منعشا من جنبه الأقدس خمس مرات. * غسل قلبها بدم قلبه خمس عشرة مرة. *نزع منها قلبها عشرة مرة ليطهره من أدنى لطخة. *ضم نفسها مئتي مرة إضمامة حُب، ماعدا الإنضمامات الاخرى المنيرة التي هي شبه دائمة. *نورها مرات لاتحصى بأنوار داخلية حول الفضائل والأسرار، وحول معرفة الله ومعرفة ذاتها. القديسة فيرونيكا جولياني و الغاية من الآم المسيح المصلوب : بالرغم من هذا التألم المتواصل للقديسة فيرونيكا ، ومن عدم استطاعة الأسقف حتي من احتمال متابعة شهادتهما العينية لبعض الام المسيح المصلوب المتجلية في القديسة فيرونيكا ، فقد إضطر إلى ا لهروب أمام هَول بعض مشاهد الآلام التي تجددت فيها، فإن يسوع فادينا ومخلصنا المحبوب واللطيف للغاية قد قال لها : "إن الآمك ليست سوى شرارة من أتون آلامي ) يالعظمة الحب الإلهي ! علينا فعلا أن نبقى صامتين ومُنسحقين أمام مقدار حب الله لنا، المتجلي في الإلم العظيم الذي أراد يسوع المسيح، الإله الحق والانسان الحق ، أن يتألمه من اجلنا. فلنسأل الله ولنتوسل إليه، بإستحقاقات مريم المتألمه والكلية القداسة ، وبحق عذابات القديسة فيرونيكا ،أن يمنحنا نِعمَة النِعَم :"أن نمقت الخطيئة بتأملنا نتائجها الفظيعة فينا وفي البشرية بأسرها " . ا اقتنعت القدّيسة بالمشاركة منذ الآن في ملكوت الله، ولكنّها تبتهل في الوقت نفسه إلى جميع قدّيسي الوطن المُبارك كي يساعدوها في بذل ذاتها على الدرب الأرضيّ، بانتظار السعادة الأبديّة؛ هذا هو الطموح الثابت في حياتها (المرجع نفسه، الفصل الثاني، 909 ؛ الفصل الخامس، 246). وبالمقارنة مع وعظ تلك الأزمنة، الذي غالبًا ما كان يركِّز على “خلاص النفس” بِعبارات فرديّة، تُظهِر فيرونيكا حِسًّا “تضامنيًّا” قويًّا، في الشركة مع جميع الإخوة والأخوات في طريقهم نحو السماء، وتعيش وتصلّي وتتألّم من أجل الجميع. أمّا الأشياء الأخرى، الأرضيّة، وإن كانت محطّ تقدير بالمعنى الفرنسيسكانيّ كَهبة من الخالق، فهي دائمًا نسبيّة، وخاضعة بالكامل لـ “ذوق” الله وتحت سِمة الفقر الجذريّ. توضِّح في الشركة المقدّسة communio sanctorum بذلَها الكنسيّ، والعلاقة بين الكنيسة الحاجّة والكنيسة السماويّة. فتكتب: “جميع القدّيسين هم هنالك في السماء بفضل استحقاقات يسوع وآلامه؛ لكنّهم تعاونوا مع ربّنا في كلّ ما قام به، بحيث أنّ حياتهم كانت كلّها مُرتّبة، تنظِّمها أعماله نفسها” (المرجع نفسه، الفصل الثالث، 203). نجد في كتابات فيرونيكا العديد من الاستشهادات المأخوذة من الكتاب المقدّس، بشكلٍ غير مباشر أحيانًا، ولكن دائمًا في الوقت الملائم: فهي تكشف عن ألفتها بالكتابات المقدّسة، التي تقتات منها خبرتها الروحيّة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ الأوقات القويّة لتجربة فيرونيكا الصوفيّة لا تنفصل أبدًا عن الأحداث الخلاصيّة التي تحتفل بها الليتورجيا، حيث لإعلان كلمة الله والاستماع مكانٌ خاصّ. فالكتاب المقدّس يُنير خبرة فيرونيكا وينقّيها ويُثبِّتها، فيجعلها خبرة كنسيّة. لكنّ خبرتها الخاصّة تحديدًا، المرتكزة إلى الكتاب المقدّس بِقوّة غير اعتياديّة، تقود من ناحية أُخرى إلى قراءة أعمق و“روحانيّة” أكثر للنصّ نفسه، فتدخل عمقه الخفيّ. إنّها لا تعبِّر بكلمات الكتاب المقدّس فحسب، بل تعيش أيضًا من هذه الكلمات، فتصبح حياة فيها. تستشهد قديستنا كثيرًا، على سبيل المثال، بِقول بولس الرسول: "إذا كان الله معنا، فمَن علينا؟" (الرسالة إلى أهل روما 8، 31 ؛ راجع يوميّات، الفصل الأوّل، 714؛ الفصل الثاني، 116. 1021، الفصل الثالث، 48). وفيها يصبح استيعاب هذا النصّ البولسيّ، وثقتها الكبيرة هذه وفرحها العميق، أمرًا واقعًا في شخصها: تكتب “ارتبطت نفسي مع الإرادة الإلهيّة وأنا ترسَّختُ وثبتُّ حقًّا في إرادة الله، كان يبدو لي أنّني لن أبتعد عن إرادة الله هذه وَعدتُّ إلى نفسي بهذه الكلمات بالضبط: لا شيء يمكنه أن يفصلني عن إرادة الله، لا ضيق، ولا ألم، ولا شقاء، ولا ازدراء، ولا تجارب، ولا مخلوقات، ولا شياطين، ولا ظُلُمات، ولا حتّى الموت نفسه لأنّني، في الحياة وفي الموت، أريد كلّ شيء، وفي كلّ شيء، إرادة الله" (يوميّات، الفصل الرابع، 272). وهكذا نحن في اليقين أيضًا بأنّ الموت ليس صاحب الكلمة الأخيرة، فنثبت في مشيئة الله و في الواقع، في الحياة إلى الأبد. تبدو فيرونيكا، على وجه الخصوص، شاهدة شجاعة على جمال وقدرة المحبّة الإلهيّة، التي تجذبها وتنفذ إليها، وتُضرم نارها فيها. إنّها المحبّة المصلوبة التي انطبعت في جسدها، كما في جسد القدّيس فرنسيس الأسّيزي، مع ندبات يسوع. “يهمس إليّ المسيح المصلوب: يا عروستي، عزيزةٌ عليَّ التكفيرات التي تقومين بها من أجل الذين هم خارج نعمتي... ثمّ سحب ذراعه من عن الصليب وأومأ إليَّ أن أدنو إلى جنبه... ووجدت نفسي بين ذراعَي المصلوب. لا استطيع أن أُخبركم بِما شعرت به في تلك اللحظة: كان بودّي لو أبقى دومًا في جنبه الأقدس” (المرجع نفسه، الفصل الأوّل،37). إنّها أيضًا صورة عن دربها الروحيّ، وعن حياتها الداخليّة: البقاء في حضن المصلوب، والبقاء بالتالي في محبّة المسيح للآخرين. وعاشت فيرونيكا مع العذراء مريم أيضًا علاقة حميميّة عميقة، تشهد لها الكلمات التي سمعتها يومًا ما من السيدّة العذراء والتي دوّنتها في يوميّاتها: “أنا أرحْتُكِ في صدري، فحصلت على الاتّحاد بنفسي التي حملَتك وطارت بكِ إلى لدن الله” (القصل الرابع، 901). القديسة فيرونيكا جولياني، راهبةٌ من بنات القديس فرنسيس الأسيزي، فقد طُعِنَ قلبُها كما طُعِنَ قلبُ يسوع على الصليب، قالت:"نزلتُ ليلةَ الميلاد سنة 1696 إلى المغارة ورأيتُ فجأةً الطفلَ يسوع بذاتِهِ متألِّقاً ، طرتُ فرحاً فأخذتُهُ وضَمَمْتُهُ إ لى صدري واستحلَفْتُهُ بأنْ يأخذ قلبي، فانخَطَفْتُ بالروح. وأمسكَ يسوع عصا من ذهبٍ كان رأسُها لهيباً وذيلُها حربةً من حديدٍ ووضع اللهيبَ على قلبِهِ والحربةَ على قلبي وبلحظةٍ سريعةٍ اخترقَ قلبي من جهةٍ إلى أخرى، ولما عدتُ إلى ذاتي شعرتُ بألمٍ حادٍ في القلب فوضعتُ قطعةَ قماشٍ على الموضع وسحبتُها فإذا هي مصبوغةٌ بالدم". ومن حينِها كرَّسَتْ للقلبِ الإلهي ذاتَها إذ قالت:"إنَّ الذين يحبّون ليس لهم ملجأ سوى قلب يسوع فهو الذي قال: تعالوا إلى هذا القلب، تعالوا إلى ينبوع المحبة" القديسة فيرونيكا جولياني و المحاربات الشيطانية في الدير : تروي القديسة قائلة : ما إن دخلت الدير بدأت المعركة:" ليلة أرتدائي الثوب، كنتُ مرتبكة قليلاً بسبب هذا الواقع الجديد والتغيير الذي طرأ على حياتي. فحينما رأيت ذاتي ضمن تلك الجدران، لم تعرف "بشريتي" الاطمئنان ؛ لكن الروح من الجهة الأخرى كان فَرِحة بكليتها..... نجد في هذه الكلمات الوجيزة مختصراً لحياتها المستقبلية : صراع بين ما ستدعوه" بشريتي" التي هي " القسم السفلي" ، "عدوة الخير"، مُـحبة لما يـُريحها ، مشتكية، متأففة ، مقاومة للتألم ، للحرمان، للإماتة، للإتضاع، للطاعة، وبين" الروح" الذي هو" القسم العـُلوي الذي ينفتح على النور، وعلى الفعل الإلهي الذي يجتذبه، يسوسهُ ويبث فيه القوة والسخاء ؛ يتوق دوما نحو العلاء ويرغب في التقدم دون توقف في درب العذاب النقي، واقتبال إرادة الله النقية" . معط البشرية" تلتقي الحواس ، حـُب الذات ، الحكمة البشرية، وكل المشاعر الناجمة عن اثبات الذات. أما في المجال الروحي، فتظهر شرهة في التعزيات الروحية ، راغبة في العذوبات والسكينة. وفي المقابل ، ترتجف هذه الروح وترفع الصراخ حتى النجوم ، في كل مرة تـُقدم إليها عذابات الجفاف ، هجر الله والتجارب. " بين الجسد و الروح يستحيل الوفاق". في الحقيقة ، ليس ذلك سوى وجهِ للثنائي جسد ـ روح لدى القديس بولس: "إن رغبات الجسد مُضادة لله لأنها لاتخضع لشريعته ، ولايمكنها حتى ذلك (رومية 8 : 6 ). الجسد هو مجموع الميول الأنانية لدى "آدم العتيق" ؛ الروح: الإنسان الجديد اللابس المسيح ،" إن كنتم قد قمتم مع المسيح فأبتغوا مافوق ..... لاماهو على الارض "(كولوسي3\1-3). لقد كرست فيرونيكا لهذه المعركة الدراماتيكية صفحات وصفحات مليئة بالحيوية، وب" خفة الظل" محتفلة بتمجيد مقاومة المغريات ، ولجم التذمرات وكفكفة الدموع التي كانت تصدر من بشريتها ، وذلك تحت وطأة متطلبات الروح الصارمة. نجدها تردد مرار اً: " كانت بشريتي تبكي بينما الروح يتهلـل". القديسة فيرونيكا جولياني و حروب الشياطين : فنقرأ في يومياتها بأن الشياطين كانت تنتزع من يديها الأباريق وادوات أخرى، وتسكب المياه المغلية عليها في المطبخ. كما كانت تقتلع من يدها القلم، وتسكب الحبر، بينما كانت هي تكتب اليوميات . لم يكن لديها ليلة هادئة تقريبا . كانت الشياطين تُظهر لها بأعداد كبيرة ، بأشكال مرعبة ، مهددة ، بلا حياء... كانت تعوي. تخور، تكفر...تخرج روائح نتنة لدرجة أنها تحملها على الغثيان والغيبوبة.. كانت ترمي في صحنها قبضات من الشعر، العناكب ،الفئران الميتة... كانت ترميها في النار ، ترطمها بالحيطان ، ترميها بحجارة ضخمة ، ترفسها وتضربها بشكل غير معقول. أهي اشباح ؟ تصورات ؟ قد يعتقــد أحدهـم بذلك. لكن ، في الحقيقة لاشيء من هذا القبيل ابداً . كانت الراهبات تارة يسمعن، و اخري يرين . وعندماكان يحدث ذلك ، كانت القديسة تشجعهن وتُطمئنهن. كم إضطررنّ أن يُسرعنّ ليلاً إلى غرفتها ، إلى أن سمحت السلطة بان تنام إحدى الراهبات معها لكي لاتبقى وحدها. لكن القديسة لم تكن خائفة . كانت تتحدى وتؤنب أعداءها : "تعالوا، أضربوني ، أقتلوني ؛ سعادتي هي بأن اتألم لأجل إلهي ... أيها الجبناء، تاتون بهذه الاعداد لمحاربة إمراة ضعيفة مثلي " تجلت مظاهر قداستها منذ الطفولة فقد تجلى باكراً في حياتها ماهو فوق الطبيعة البشرية . من علاماته : أ- رفضها للحليب الأمومي أيام الأربعاء والجمعة والسبت وهي، في الحقيقة الأيام المكرسة ت قليدياً للإماتة الجسدية ب- انزلاقها من ذراعي أمها وهي في الشهر الخامس من عمرها، ثم تهافتها نحو صورة الثالوث الأقدس المعلقة على الحائط في يوم عيد الثالوث ، وركوعها أمامها منتشية و فرحة . ج- تأنيبها لبائع زيت غشاش ، في السنة الثانية من عمرها، وقولها له: " اقم العــدل ! الله يرانا " د- ظهور الطفل يسوع لها وهي تلعب وسط حديقة قائلاً لها " أنا هو زهرة الحقــول " . ه- كم من مرة حملت الطعام إلى الطفل يسوع في لوحة تحمله العذراء فيها وقالت له : " تعال، إن لم تاكل، فلن آكل أنا ايضا" ومن ثم تتوجه نحو العذراء: " يا مريم ، أعطيني إياه، أستحلفك بذلك وقد اضحى حيا بين يديها أكثر من مرة. قال لها:" سأكون عريسك"، ثم خاطب أمه الإلهية :" هذه أورسولتنا ( اسمها في المعمودية ) ستكونين أماً ومرشدة لها " ! و-رؤيتها الطفل يسوع مرات عديدة في القربانة المقدسة ، وهي في سنواتها الأولى ، وشعورها بعطر يخرج من افواه أخواتها بعد المناولة و كانت تقول لهن :" آه لرائحتكنَ العَطرة " كانت تردد"يجب أن نتألم". فبعد أن دعاها يسوع، من خلال العائلة لتـُضحي ذبيحة، هاهو يظهر لها مصلوباً ، مُثخناً بالجراح الدامية: "أنت عروسي، شريكتي في التكفير : الصليب ينتظرك ". أخذت تعتاد على التضحية: إماتتها البشرية تجلت في عدم النظر إلى الأباطيل ؛ إماتة اللذة تجلت ، مثلاً، عندما طلب منها يسوع أن تعطي الفقراء كيساً من الحلوى: ذاقت إحداها، فشعرت على الفور أنها اقترفت خطيئة الشراهة، فقررت التكفير عنها؛ أما إماتة الأباطيل ، فقد تجلت فيها عندما ابتيع لها حذاء جديد ، وقد جاءها فقير يطلب الحسنة حُباً لله ، فتذكرت الطفلة كلمات يسوع . فأهدته الحذاء.... وقد علمت لاحقاً بأن المتسول كان يسوع نفسهُ . تدعونا القدّيسة فيرونيكا جولياني إلى تنمية الاتّحاد بالربّ، في حياتنا المسيحيّة، في تكريس أنفسنا للآخرين، وإلى تسليم أنفسنا لإرادته بثقة تامّة كاملة، والاتّحاد بالكنيسة، عروس المسيح؛ إنّها تدعونا إلى المشاركة في المحبّة المتألّمة لِيسوع المصلوب من أجل خلاص كلّ الخطأة؛ وتدعونا لنحدِّق بالجنّة، هدف دربنا الأرضيّ، حيث سنعيش، جنبًا إلى جنب مع العديد من الإخوة والأخوات، فرحة الشركة الكاملة مع الله؛ وتدعونا لِنقتات يوميًّا من كلمة الله لتدفئة قلبنا وتوجيه حياتنا. يُمكن اعتبار الكلمات الأخيرة للقدّيسة خلاصةَ خبرتها الصوفيّة المولعة: “لقد وجدتُ المحبّة، المحبّة جعلت نفسها مرئيّة!”. شكرًا. |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
حياة القديسة العظيمة فيرونيكا جولياني |
حياة القديسة” فيرونيكا جولياني “ |
سيرة حياة القديسة فيرونيكا جولياني |
حياة القديسة فيرونيكا جولياني |
القديسة فيرونيكا جولياني حياة الله اللامتناهي |