ملاك كنيسة ساردس الحى الميت
كان هذا الملاك محسوداً ومضبوطاً من الجميع ، لقد بدت الحياة فى ظاهرها كما لو أنه يتمتع بها إلى أبعد الحدود ، ولم يدر أنه فى نظر الحق لا يزيد عن جثة مكفنة فى تابوت ، قد يكون الكفن من أفخر أنواع الأقمشة ، والتابوت مرصعاً بالجواهر ، .. ومن المتصور أن ملاك كنيسة ساردس سمع المديح من الناس إلى درجة أنه لم يععد يحتمل نفسه ، ولا أود أن أذهب فى هذا الصدد إلى حد المغالاة التى ذهب إليها الكسندر هوايت ، وهو يرى هذا الملاك محسوداً من ملائكة الكنائس الست الأخرى ، لكنه مهما يكن التصور ومهما يكن وصف الدنيا بأكملها له ، فإن المسيح لا يتأثر بأى وصف أو يغير فكره بناء على ما يجمع عليه أغلب الناس أو أعظمهم أو أحكمهم على الإطلاق ، وهو يجرد هنا الرجل من كل مديح ، ولا يرى فيه البتة ، ما يراه الآخرون فيه ، بل هو الإنسان الذى سمح للعالم أن يدخل إليه وإلى كنيسته حتى النخاع ، ولم يعد هناك أدنى فارق بينه وبين العالم على الإطلاق ، .. قال السيد المسيح فى صلاته الشفاعية وهو يفرق بين الكنيسة والعالم : « أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم . لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير . ليسوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم . قدسهم فى حقك . كلامك هو حق . كما أرسلتنى إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم » ( يو 17 : 14 - 18 ) .. كانت جريس ونج فتاة مسيحية صينية تطلب العلم فى الولايات المتحدة ، وقد تحدثت ذات مرة إلى زميلة أمريكية فقالت : هل تسمحين لى أن أسأل ما هو الذى يدل على أنك عضو فى كنيسة المسيح .. فقالت لها الزميلة : إن عائلتنا على الدوام من أعضاء الكنيسة . فقالت الصينية : ولكنى أريد أن أفهم الفرق بينكم وبين الآخرين . نحن فى الصين توجد فروق تميزنا عن غيرنا من الوثنيين . فنحن لا نتعاطى الأفيون ولا نقامر أما أنتم فلا شئ يفرقكم البتة عن العالم ، إذ أنكم تشربون وتدخنون وتلعبون الورق مثل أهل العالم تماماً ولا أعلم لكم وقتاً تقرأون فيه الكتاب المقدس . لقد اشترى أبى عربة من باريس . ويأخذ معه عند ذهابه إلى الكنيسة الكثيرين من الشارع الذى نسكن فيه . أما أنتم وعندكم سيارة فقد أخذتمونى أنا ضيفتكم بعيداً عن الكنيسة!!.. وهل لنا بعد هذا أن نتخيل الملاك المحسود الممدوح المغبوط من الناس فى ساردس !! .. إنه أول كل شئ الراعى الذى يرعى كنيسة يمكن أن تكون تحفة فنية رائعة فى مبانيها ، وقد درج العالم المسيحى على الاهتمام المذهب بفخامة الكنيسة وروعة مظهرها وجمال موقعها وما تتسع له من صالات وقاعات ملحقة بها .. إذا كان الاهتمام بالمبانى يلزم الأخذ به إلى حد كبير ، إلا أن المغالاة فى ذلك تتحول إلى النقيض ، وذلك لأن المبانى فى حد ذاتها ، لا يجوز أن تتحول إلى ما يبهر النظر أو كما ردد التلاميذ أمام المسيح وهم يتحدثون عن عظمة الهيكل : « فتقدم تلاميذه لكى يروه أبنية الهيكل . فقال لهم يسوع أما تنظرون جميع هذه . الحق أقول لكم إنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض » (مت 24 : 1و2) .. وأين كنيسة أجا صوفيا فخر المبانى والتى بذل فيها الإمبراطور جستنيان ما جعله يعتقد أنه تفوَّق على سليمان فى بناء الهيكل ، وأين كنيسة بطرسبرج التى استباحها الشيوعيون وجعلوها وغيرها متاحف تتحدث عن عز دارس ومجد قديم، ... وقد أتيح لى فى زيارتى لروما، وأنا أتطلع إلى المبانى المذهلة لكنائسها الشامخة العظيمة أن أستمع إلى أحد المعجبين الذى كان يقول : هنا عظمة المسيحية ، فأجبته فى الحال: لا يا صاحبى! إن العظمة الحقيقية ليست فى المبانى الشامخة بل تراها أكثر وأعظم فى المدينة عندما تنزل إلى أسفل الأرض فى الكهوف العميقة حيث مقابر الشهداء ، وحيث كان أبطال المسيحية يقيمون العبادة هناك!.. ربما كان ملاك كنيسة ساردس محسوداً من زملائه لعظمة مبانى كنيسته ... وفى الحقيقة قد ينخدع إلى اليوم الكثيرون الذين يذهبون إلى الكنائس الأمريكية الكبيرة والتى تبنى على مساحات شاسعة من الأرض ، وبها كل ما يخطر على البال من جمال النوادى الملحقة بها والقاعات الفخمة ، والغرف التى لا تكاد تحصى وتعد بما فيها من أسباب التسلية وضروب اللهو وما أشبه ، .. ولكن المبانى وحدها لا يمكن أن تكون تعبيراً عن الحياة ، ودليلا عليها ، ... وما أكثر المقابر الأمريكية التى تتفوق على القصور ، ولكن الموت يربض فيها ويستقر ، وتكتب أسماء الموتى على الرخام الفاخر الأنيق فى المكان الظاهر منها !! .. وقد تقاس الحياة عند هذا الملاك بالثروة الباذخة وبحبوحة العيش التى يعيشها ، فالذهب يتدفق بين يديه ، والأموال تدخل الكنيسة بلا حساب ، فإذا كان الرعاة فى الكنائس الست الأخرى يحصلون على الكفاف أو أقل أو أزيد ، فإن مرتبه هو أعلى المرتبات جميعاً ، ودخله هو ربما يتفوق على دخلهم جميعاً ، .. وقد يفاخر بذلك بينه وبين نفسه أو يعد نفسه محظوظاً ، .. وينسى أنه يتبع ذاك الذى قال عن نفسه : « وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه » ( مت 8 : 20 ) ..أليست هذه هى النغمة التى سادت الكنيسة ، وهى تركض وراء الذهب ، وتجد فى البحث عنه إلى حد أن باعت فى سبيله ما أطلق عليه فى التاريخ اسم « صكوك الغفران » .. وألم يقل أحد البابوات للراهب توما الكمبيسى وهو يتجول معه فى أبهاء الفاتيكان : لا نستطيع أن نقول الآن ما قاله القديس بطرس : « ليس لى فضة ولا ذهب » ، وأجاب الراهب الشجاع قائلا : ولا نستطيع أن نقول أيضاً : « باسم يسوع المسيح الناصرى قم وامش » !! ( أع 3 : 6 ) .. فى الحقيقة ما أكثر ما اجتذب المرتب المغرى أو الثروة الطائلة الكثيرين من الخدام لتقتلهم حياة الدعة والترف والخمول ، فيدفنوا تحت الثروة التى بهرتهم !! ... ويظن الناس أنهم أحيـــاء على أروع صور الحياة العصرية ، وما هم عند السيد إلا أمواتاً مدثرين بأكفان زاهية إذ لهم اسم الأحياء دون رمق من حياة أو نبض أو حركة ، أو قد يكون الأمر متعلقاً بالعبادة ذاتها ، ولعل هذا ما رآه دكتور تود عندما حلم أنه يدخل الكنيسة ليرى العبادة فيها فرأى من أولها إلى آخرها أحجاراً تسقط من فم الواعظ أو فم الموعوظين أيضاً ، .. فالواعظ من المنبر يعظ ، وقد تكون عظته منمقة قد بذل الجهد فى إعدادها واحتاج إلى المراجع والكتب المتعددة ، وهو يكتبها ويصقل كتابتها ، ولا يجوز لأحد أن يعكر صفوه فى المكتب وهو مشغول بها ، ثم يلقيها ، ولا تزيد عن أحجار تتساقط من فمه ، والعابدون فى ترانيمهم أو صلواتهم لا يلقون إلا أحجاراً ميتة تتساقط من أفواههم وقد تكون فرق الترانيم وهى تصاحب الأورج الفخم العظيم والأصوات الرائعة ، ليست إلا أغانى موتى لا تصل إلى السماء ، ... ألم يحدث على ما تقول الرواية أن جماعة من الرهبان وهى تتعبد كل مساء وفد عليها رجل كان رخيم الصوت إلى أبعد الحدود ، واشترك معها فى الترنم بصوته الساحر الجميل ، وما أن سمع الرهبان هذا الصوت ، حتى أخذوا يسكتون الواحد بعد الآخر ، لأنهم آثروا أن يسمعوا صوت الضيف الجميل عن أن يسمعوا أصواتهم الخشنة التى لا يجوز أن ترتفع إلى جانبه ، وسعدوا فى تلك الليلة كما لم يسعدوا فى حياتهم بالترنم ، وعندما ناموا جاء اللّه إلى رئيس الدين فى المنام يسأله لماذا لم يرنموا فى المساء ، وذهل الرئيس لأنه كان يعتقد أنهم لم يعرفوا الترنيم كما عرفوه فى تلك الليلة ، واكتشف أنه ليس الصوت أو النغم بل الحياة التى يطلبها اللّه ويرضى عنها فى روح المترنمين !! .. وما أعظم ما يبدو العابدون فى أجمل مظهر ، ولكنهم خواء وموتى أمام اللّه فى السماء !! ... وقد يكون الموت كاملا مع المظهر الإدارى الفخم لملاك كنيسة ساردس ، وقد يغطى الشيطان الموت والعفن ، بالحركة الإدارية الواسعة ، وقد يضحك وهو ممتلئ بالسعادة عندما يرى المؤتمرات العظيمة ، والقرارات التى تتمخض عنها ، ومئات أو آلاف الموظفين الذين يذهبون ويجيئون على وجه السرعة فى مختلف القارات ، وعشرات الألوف من الجنيهات تصرف على ركوب الطائرات والسفر وما أشبه ، ... ومن الطبيعى أن ملاك كنيسة ساردس لم يكن قد عرف الطائرات بعد أو نظام السكرتيرين والسكرتيرات والدخول بمواعيد محددة إلى حضرة الراعى المبجل ، ولكن روحه كانت من هذا النوع الذى تقتله الإداريات ، وتجرده من كافة ألوان التعبد والإحساس بالرسالة الثمينة ، رسالة السعى وراء النفوس الضائعة التى مات المسيح من أجلها على خشبة الصليب !!..
ومن الملاحظ أن السيد المسيح لا يتحدث لملاك كنيسة ساردس عن هرطقة معينة أو تعاليم فاسدة ، كمثل ما كشف عنه فى الكنائس السابقة عن النقولاويين أو بلعام أو إيزابل ، ... فهل يرجع الأمر إلى أن العالمية وحدها هى التى قوضت الكنيسة ، وإلى أن فسادها قد امتد إلى الدرجة التى طوت معها كل المعتقدات بما فيها من صحيح وكاذب ، ... إذ لا نستطيع أن نتصور كنيسة بلغت هذا الحد من الموت أو الضياع دون أن يكون السوس قد نخر فى تعاليمها ومعتقداتها،... أم أن الأمر أمر الأعمال وحدها التى أضحت قبيحة بصرف النظر عن صحة المعتقدات فى حد ذاتها !! على أية حال هناك بقايا من الحياة يخشى أن تنتهى وتموت كما ماتت غالبية الكنيسة، والمسيح مع هذا الضياع كله ، يرسل لها نصيحة أخيرة ، للعودة إلى المعتقدات الأولى والحياة الأولى : « كن ساهراً وشدد ما بقى الذى هو عتيد أن يموت لأنى لم أجد أعمالك كاملة أمام اللّه . فاذكر كيف أخذت وسمعت واحفظ وتب فإنى إن لم تسهر أقدم عليك كلص ولا تعلم أية ساعة أقدم عليك » ( رؤ 3 : 3 ) . وهنا نتبين إلى أى حد يكره اللّه أن يموت الخاطئ ، فهو ينذر ويحذر ويتأنى ، طالما فى الإنسان أقل بادرة من رجاء أو أمل ، ولكن عندما يتمادى الإنسان فى قساوة قلبه فإنه يجرى قضاءه الصارم الذى تحتمه عدالته الكاملة ، ومن ثم فهو يباغت المهمل والعنيد بالقضاء الكامل !! .. كانت ساردس مشهورة بثروتها الباذخة ، وكانت عاصمة ليديا وأهم مدنها فى وقت من الأوقات ، ... وكان ملك ليديا الأخير واسمه كريسوس من أغنى ملوك العالم ، ولقد تحدثنا فيما سبق عن ثروته التى كان يفاخر بها وكان يظن أنه أسعد إنسان على ظهر الأرض ، .. ولكن النهاية القاسية قد أطلت على كريسوس وهو فى أوج مجده بغتة باستيلاء كورش الفارسى على مملكته .. فإن أسوأ نهاية للأشرار عندما يفاجئهم الديان العادل وهم يسكرون ويشربون ويعربدون !! ... كان ملاك كنيسة ساردس على علم بتاريخ بلده ومليكه ، وكان عليه أن يتحذر لئلا يبغته القضاء الإلهى فجأة حيث لا مناص ولا أمل أو رجاء فى نجاة !! ..