رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بعد أن أعلن السيّد تكميله للناموس معطيًا أعماقًا جديدة للوصايا، يكشف بها عن فكره الإلهي من جهة الوصيّة، وأراد أن يرتفع بمؤمنيه إلى الحياة السماويّة، ليتشبّهوا بأبيهم السماوي، أوضح مفاهيم جديدة للنظام التعبّدي. ففي القديم إذ كان الشعب في طفولته الروحيّة قدّم لهم الله تفاصيل العبادة بدقّة بالغة، أمّا وقد دخل الشعب إلى النضوج الروحي خلال الصليب لم يقدّم الرب تفاصيل جديدة، بل قدّم مفاهيم جديدة للعبادة، تاركًا للكنيسة تحت قيادة روحه القدّوس أن تدبِّر النظام ذاته.
1. الصدقة 1-4. 2. الصلاة 5-8. 3. الصلاة الربّانيّة 9-15. 4. الصوم 16-18. 5. العبادة السماويّة 19-21. 6. البصيرة الداخليّة 22-23. 7. العبادة ومحبّة المال 24-34. 1. الصدقة يقوم التدبير الملوكي royal order على الجوانب الثلاثة التي عرفها الناموس الموسوي من صدقة وصلاة وصوم. الصدقة بما تحمله من معنى عام ومتسع، كعطاء للآخرين مادي ونفسي وروحي، والصلاة بكل ما فيها من عبادة جماعيّة وعائليّة وشخصيّة، وصوم بما يعنيه من كل أنواع البذل والنسك. ما هو جديد أنه يدخل بنا السيّد إلى أعماق النظام لنمارسه لا كفريضة خارجيّة، وإنما بالأكثر كحياة حب عميق يربطنا بالله أبينا. في كل تصرف يقول السيّد "أبوك الذي في الخفاء هو يجازيك علانيّة" [4].وكأن غاية الحياة المسيحيّة من سلوك وعبادة ونسكيّات هو الدخول إلى حضن الآب السماوي في المسيح يسوع ربنا. لقد ركّز السيّد في حديثه هنا على "نقاوة القلب" حتى يقدر المؤمن في حياته وسلوكه وعبادته أن يلتقي بالله ويعاينه! إنه لم يقدّم للكنيسة كمًّا للعبادة، إنّما قدّم نوعيّة العبادة، فإنه يريد قلبها لا مظاهر العمل الخارجي. "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدّام الناس لكي ينظروكم، فمتى صنعت صدقة فلا تُصوّت قدامك بالبوق، كما يفعل المراءون في المجامع وفي الأزقّة، لكي يُمجّدوا من الناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صنعت صدقة، فلا تُعرِّف شمالك ما تفعل يمينك. لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيّة" [1-4]. من الجانب السلبي يحذّرنا الرب من ممارسة الصدقة لأجل الناس: "لكي ينظروكم"، كما من ممارستنا لها لأجل إشباع الذات، قائلًا: "فلا تعرف شمالك (الأنا ego) ما تفعل يمينك". فإن كان اليمين يُشير إلى نعمة الله التي تعمل فينا، فإنّنا نفسد هذا العمل إن قدّمناه ليس من أجل الله، وإنما لإشباع الأنا بإعلان العمل للشمال! حقًا إن الشمال أو "الأنا" هو أخطر عدوّ يتسلّل إلى العبادة ذاتها والسلوك الصالح، ليحطّم ما تقدّمه نعمة الله لنا خلال يميننا، وتفقده جوهره خلال الرياء الممتزج بالكبرياء. كان المراءون يصنعون الصدقة بينما يُصوّت بالبوق قدّامهم، أي تقدّم لهم دعاية؛ سواء في عطائهم العام في المجامع من أجل احتياجات الجماعة أو في الأزقّة، إذ يقدّمون للشحّاذين العاديّين صدقة في الطريق العام. احترزوا من السلوك بالبرّ بهذا الهدف، فتتركّز سعادتكم في نظرة الناس إليكم، "وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات". فقدانكم للأجر السماوي لا يكون بسبب نظرة الناس إليكم، بل لسلوككم بهذا الهدف. في هذا الأصحاح لم يمنعنا الرب من صنع البرّ أمام الناس، لكنّه يحذّرنا من أن نصنعه بغرض الظهور أمامهم. * ماذا يعني السيّد بقوله: "أما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرِّف شمالك ما تفعله يمينك" سوى عدم السلوك مثل المرائين الذين يعرفون شمالهم ما تفعله يمينهم. فشمالهم هو "رغبتهم في المديح"، واليمين هو تنفيذ الوصايا، وعلى هذا فامتزاج الاثنين معًا يعني تعرُّف الشمال ما تفعله اليمين[251]. القدّيس أغسطينوس * الكل يرى اللص "الرياء" يحمل كل شيء أمام عينيّه ويبتهج بذلك! يا لها من لصوصيّة جديدة من نوعها، تجتذب الناس وتبهجهم بينما هم يُسلبون![252]* قد يوجد من يقدّم صدقته قدام الناس لكنّه يتحاشى التظاهر بها، ويوجد أيضًا من لا يقدّمها قدام الناس لكنّه يتباهى بها سرًا. فالله لا يجازي عن الصداقة بحسب صنعها إن كانت أمام الناس أم لا، بل بحسب نيّة فاعلها[253]. القدّيس يوحنا الذهبي الفم * محب الفقراء يكون كمن له شفيع في بيت الحاكم. من يفتح بابه للمعوزّين يمسك في يده مفتاح باب الله. من يقرض الذين يسألونه يكافئه سيّد الكل[254]. القدّيس يوحنا التبايسي لنزرع هنا بوفرة حتى لا نحصد قليلًا. مادام يوجد وقت فلنهتم بأمر خلاصنا الأبدي، كقول الرسول بولس: "فلا تفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنّا لا نكل. فإذًا، حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع، ولاسيما لأهل الإيمان" (غل 6: 9-10)[255]. القدّيس كبريانوس 2. الصلاةما أعلنه السيّد بخصوص السلوك المسيحي خلال حديثه عن الصدقة، يؤكّده أيضًا في العبادة المسيحيّة خلال حديثه عن الصلاة، فلا يحدّد لنا مواعيد للصلاة، ولا نصوص الليتورجيّات تاركًا هذا للتدبير الكنسي، وإنما يقدّم لنا أساس العبادة، ألا وهو الالتقاء بالآب السماوي، والدخول معه في شركة حب داخليّة، تقوم لا على أساس تكرار الكلام باطلًا، وإنما على أساس انفتاح القلب بالإيمان العامل بالمحبّة. "ومتى صلَّيت فلا تكن كالمرائين، فإنهم يحبّون أن يصلّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس. وأما أنت فمتى صلّيت فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك، وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية. وحينما تصلّون لا تكرّروا الكلام باطلًا كالأمم، فإنهم يظنّون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم. فلا تتشبّهوا بهم. لأن أباكم يَعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" [5-8]. يسألنا السيّد أن نحذر الرياء في صلواتنا لئلا يتسلّل كلص يُفقدنا جوهرنا، بل تصير صلواتنا عِوض أن تكون سرّ صلة مع الله عائقًا عن الالتقاء به. إنه كأب غير منظور يريدنا أن نلتقي به على المستوى غير المنظور. * الله نفسه غير منظور، لذا يودّ أن تكون صلاتك أيضًا غير منظورة[256]. القدّيس يوحنا الذهبي الفم * لا تُصلِّ في زوايا الشوارع لئلا يعوق مديح الناس طريق صلواتك. لا تعرّض أهداب ثوبك ولا تلبس أحجية من أجل المظهر، محتقرًا الضمير فتلتحف بأنانية الفرّيسي[257]. القدّيس جيروم صلاة المخدعيأمرنا الله بالدخول إلى المخدع وغلق الباب أثناء الصلاة، ماذا يعني هذا؟ هل لا يجوز لنا الصلاة في الكنيسة؟ يجيب القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا يلزمنا أن نصلّي بكل الطرق، وإنما يليق بنا أن نسلك بروح كهذا. فإن الله يطلب في كل الأحوال "النيّة"، فإنك حتى إن دخلت مخدعك وأغلقت الباب صانعًا هذا من أجل المظهر، فإن الأبواب (المغلقة) لن تنفعك شيئًا[258].] * الله يرغب أن تُغلق أبواب الذهن أفضل من غلق الأبواب[259]. القدّيس يوحنا الذهبي الفم * إننا نصلّي داخل مخدعنا لننزع من قلوبنا الداخليّة الأفكار المقلقة والاهتمامات الباطلة، وندخل في حديث سرّي مغلق بيننا وبين الرب. ونصلّي بأبواب مغلقة عندما نصلّي بشفاهٍ مغلقة في هدوء وصمت كامل، لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات. ونصلّي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتّقدة بحيث لا نكشفها إلا لله وحده، فلا تستطيع القوّات المضادة (الشيّاطين) أن تكشفها. لذلك يجب أن نصلّي في صمت كامل، لا لنتحاشى فقط التشويش على إخوتنا المجاورين لنا، وعدم إزعاجهم بهمسنا أو كلماتنا العالية، ونتجنّب اضطراب أفكار المصلّين معنا، وإنما لكيما نخفي مغزى طلباتنا عن أعدائنا الذين يراقبوننا وبالأخص في وقت الصلاة، وبهذا تتم الوصيّة: "احفظ أبواب فمك عن المضطجعة في حضنك"[260]. الأب إسحق أما تأكيده على عدم تكرار الكلام باطلًا كالأمم، فلا يعني الامتناع عن التكرار نهائيًا، إنّما يُحذّرهم من التكرار الباطل. فقد اعتاد الأمم أن يكرّروا الكلام، ليس بسبب نقاوة قلبهم ولا لحبّهم في الحديث مع الله، وإنما ظنًّا منهم أن الله يُخدع بكثرة الكلام. أمّا إن نبع التكرار عن قلب ملتهب بنار الحب فلا يكون ذلك باطلًا، فقد صلى السيّد نفسه مكرّرا "الكلام عينه" (مت 26: 44)، لكن بأكثر لجاجة وبجهاد أعظم (لو 22: 44). وجاءت صلاة دانيال النبي المقبولة لدي الله تحمل تكرارًا (دا 9: 18-19)، وحوى المزمور 136 تكرارًا منسجمًا جدًا.ويجيب القدّيس جيروم على التساؤل: إن كان الله يعرف ما نطلبه قبل أن نسأله فما الحاجة للحديث معه فيما يدركه؟ أي لماذا نصلّي طالبين ما هو يعلم أننا في حاجة إليه؟ [نجيب باختصار قائلين إننا موجودون هنا لا لنحكي بل لنتضرّع ونستغيث. ففي الواقع يوجد فارق بين أن نحكي أمرًا لمن يجهله وبين من يطلب شيئًا ممن يعرف كل شيء. الأول يوجه من يحدّثه أمّا الثاني فيكرمه ويحمده. الأول يعرض الأمر، أمّا الثاني فيطلب الرحمة[261].] 3. الصلاة الربّانيّة قدّم لنا رب المجد يسوع هذه الصلاة نموذجًا حيًا نتفهّم خلاله علاقتنا بالله ودالتنا لديه. إنه نموذج من وضع السيّد نفسه قابل الصلوات، لهذه تعتزّ به الكنيسة، فتبدأ وتختم به صلواتها الليتورجيّة وعبادتها العامة والخاصة، نردّدها لنحيا بالروح الذي يريده الرب نفسه. يقول القدّيس كبريانوس: [لنصل أيها الإخوة الأحياء بما علمنا إيّاه الله معلّمنا، فإنها صلاة جميلة ولطيفة، إذ نسأل الله بذات كلماته، ونرفع إلى أذنيه صلاة المسيح نفسه. ليعرف الآب كلمات ابنه عندما نرفع الصلاة، وليسكن في صوتنا ذاك الذي يسكن في صدرنا. لقد قبلناه شفيعًا لدى الآب بسبب خطايانا، لذا نتوسّل نحن الخطاة بذات كلمات الشفيع. إنه يقول: "إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم" (يو 16: 23)، فكم بالأكثر إن سألناه باسم المسيح وبذات صلاته[262]؟] أ. أبانا الذي في السماوات الله في حبّه للإنسان يريده ابنًا له، يحيا حاملًا صورته، وسالكًا على مثاله، منجذبًا إليه ليحيا معه في أحضانه. هذا المفهوم فقده الإنسان خلال الخطيّة، فلم يستطع - في العهد القديم - أن يرفع عينيّه ليحدّثه كابن مع أبيه، الأمر الذي يحزن قلب الله فيعاتبه قائلًا: "ربّيتُ بنين ونشّأتُهم، أمّا هم فعصوا عليّ" (إش 1: 2). "أنا قلت أنكم آلهة وبنو العليّ كلّكم" (مز 82: 6). "فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي؟" (مل 1: 6). هذه النصوص كما يقول القدّيس أغسطينوس: [تظهر عدم قبولهم (اليهود الجاحدين) كأبناء الله، كما أنها نبوّة لما سيكون عليه المسيحيّون الذين يتّخذون الله أبًا لهم، وذلك كقول الإنجيلي: "فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله" (يو 1: 12). وقول الرسول بولس: "مادام الوارث قاصرًا لا يَفرِق شيئًا عن العبد" (غل 4: 1)، مشيرًا إلى التبنّي الذي أخذناه "والذي به نصرخ يا أبّا الآب" (رو 8: 15)[263].] * عندما ننطق بأفواهنا أن الله رب كل المسكونة هو أبونا، نعترف أننا قد دُعينا من العبوديّة إلى التبنّي كأبناء. وإذ نردف قائلين: "الذي في السماوات" نتحاشى بكل مخافة إطالة البقاء في هذه الحياة الحاضرة، عابرين هذه الأرض كمن هم في رحلة، فنسرع مشتاقين إلى المدينة التي نعترف بأن أبانا يقطنها، ولا نسمح لأي شيء أن يفقدنا الاستحقاق لهذه المهنة ولشرف التبنّي، ناظرين إليه كعار يحرمنا من ميراث أبينا وبه يحلّ بنا غضب عدله وصرامته[264]. الأب إسحق * تذكّروا أن لكم أبًا في السماوات، تذكّروا أنكم وُلدتم من أبيكم آدم للموت، وأنكم تولدون مرّة أخرى من الله الآب للحي |
|