قصة استشهاد القديس بوليكاربوس كما جاءت في رسالة كنيسة سميرنا إلى كنيسة فيلوميلوم
أن كل ما حدث في إستشهاد بوليكارب إنما حدث بإرادة الرب الذي أراد أن يرينا من السماء الإستشهاد الحقيقي حسب الإنجيل، إذ بوليكارب إنتظر حتى يُسلَّم مثلما فعل الرب، حتى نصبح نحن أنفسنا بالتالي متشبهين به.
مباركة ونبيلة هي عمليات الإستشهاد التي تتم حسب إرادة الله لأن كل شيء ينسب لقوة الله التي تغبط كل شيء.
ومن لا يعجب بشهامة وإحتمال ومحبة هؤلاء الشهداء لسيدهم؟! فبعضهم مزقته السياط حتى ظهرت الأجزاء الداخلية لأجسادهم بما فيها الأوردة والشرايين وبعضهم سجل بطولة فائقة، فلم يصدر منهم أي بكاء أو أنين، لأن الرب كان يتحدث معهم.
وعندما إنتبهوا لنعمة المسيح، إستهانوا بعذابات العالم وبساعات إحتملوا فيها العذاب، إشتروا الحياة الأبدية، أما نيران معذبيهم المتوحشين فقد إعتبروها بلا حرارة لأنهم وضعوا أمام عيونهم أن يهربوا من النار الأبدية التي لا تنطفئ، وفي وسط اللهيب كانوا يتطلعون إلى الخيرات المعدة للذين يصبرون.
ونفس الاحتمال ظهر بكل وضوح في الذين طرحوا للوحوش، لأنهم احتملوا عذابات وحشية عندما طرحوا أرضاً وسحبواً فوق الحصى والزلط الخشن وضربوا بكل قسوة بمختلف الطرق لعل هذا يؤدي إلى إنكار الإيمان إذا استمر العذاب، وهكذا أستخدم الشيطان كل حيلة ولكنه فشل.
أما بوليكارب العجيب فعندما سمع أن الجموع تطلبه وتبحث عنه، لم يضطرب بل رغب في أن يظل في المدينة، ولكن غالبية الشعب طلبت إليه بإلحاح أن يخرج من المدينة بهدوء، فخرج واعتزل خارج سميرنا، ومكث هناك لا يفعل شيئا سوى الصلاة ليلاً ونهاراً، من أجل الكل ولا سيما الكنائس في العالم كله كما كانت عادته.
وعندما كان يصلي رأى في رؤيا وسادته التي تحت رأسه تحترق بالنار، فالتفت للذين حوله وقال لهم: "يقينا سوف أحرق حيا".
وبالبحث عنه ومطاردته، اختار هو النصيب المعين له ليصبح شريكاً للمسيح والذين أتوا ليقبضوا عليه أعجبوا بشجاعته ودهشوا لشيخوخته، أما بوليكارب فقد أمر بتقديم الطعام والشراب لهم فوراً وطلب منهم أن يمنحوه ساعة واحدة يختلي فيها للصلاة.
فوقف يصلي وهو مملوء بالنعمة الإلهية، مصلياً لمدة ساعتين بصوت مسموع والذين سمعوه يصلي دهشوا وأسفوا جداً لأنهم جاءوا ليلقوا القبض على هذا الشيخ الوقور.
ذكر في صلاته الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء، والكنيسة الجامعة كلها... وجاءت ساعة الرحيل، فأجلسوه على حمار وقادوه إلى المدينة... وهناك حاولوا ملاطفته، ولما وجدوه ثابتاً، ارتفع الصراخ بدرجة استحال على أي منا أن يسمع الآخر.
وعندما دخل بوليكارب الملعب جاء صوت يقول: "تقوى يا بوليكارب وكن رجلاً" ولم ير أحد المتكلم، أما أصدقاؤنا الذين كانوا هناك فقد سمعوا الصوت، وبعد ذلك تقدم إلى المنصة وعلا الصراخ عندما عرف الناس أن بوليكارب قد قبض عليه.
وعندما جئ به وقف أمام الوالي وسأله إذا كان هو بوليكاربوس.... أكد أنه هو، وحاول الوالي إغراؤه بقوله: "أحترم شيخوختك، وأقوال أخرى من نفس النوع.... وعندما جدد الوالي الصغط عليه، قال بوليكارب: "ستة وثمانون سنة وأنا خادمه ولم يسئ إلى قط، فكيف أجدف على ملكي الذي خلصني".
وأجاب أيضاً بوليكارب: "أنك تخدع نفسك إذا ظننت إنني سأحلف بحياة قيصر كما تقول، وإذا كنت تتجاهل بأنك تعرف من أنا فاسمع جيداً: أنا مسيحي، أما إذا كنت تريد أن تعرف تعاليم المسيحية فعين يوماً اشرحها لك".
قال له الوالي: "عندي وحوش ضارية سوف أرميك لها وسوف أرميك في النار إذا كنت تستهزئ بالوحوش"، لكنه لم يخف من النار التي تحرق لوقت قصير وتنطفئ سريعاً، فكان مملوء بالشجاعة والفرح، تشع النعمة من وجهه ولم يَبْدو عليه أثر للإضطراب رغم ما ذكره.
ولما لم ينثن عن عزمه واعترف بمسيحه، صرخ الوثنيون بغضب: "هذا هو معلم آسيا وأب المسيحيين ومحطم آلهتنا. هذا هو الذي يعلم الكثيرين بأن لا يذبحوا ولا يعبدوا الآلهة"، وطلبوا أن يحرق بوليكارب حياً، وكان هذا مؤكدا للرؤية التي رآها عندما رأى وسادته تحترق بينما كان يصلي، والتفت وقال بروح النبوة لمن حوله: "يقيناً سوف أحرق حياً من أجل مخلصي الجزيل العذوبة".
وكان الخشب والحطب والنار قد أعدا له، فخلع بوليكارب -الذي انحنى من الشيخوخة وابيضت لحيته- ثيابه وفك المنطقة التي تمنطق بها وخلع نعليه.
وعلى الفور ربطوه في عمود، وعندما حاولوا تسميره قال لهم: "دعوني حراً، لأن الذي أعطاني القوة لملاقاة النار دون أن اضطرب سوف يعطيني القوة لأظل فيها دون أن أتحرك ودون أن تشدني المسامير".
وهكذا لم يسمروه بل اكتفوا بتقييده ووضع يديه خلف ظهره فربطوهما وصار بذلك مثل حمل كريم من قطيع عظيم، وقرباناً بل محرقة مستعدة مقبولة لدى الله، أما هو فنظر إلى فوق إلى السماء وقال: "أيها الرب الإله ضابط الكل أبو ابنك المحبوب وفتاك المبارك يسوع المسيح الذي به تقبلنا معرفة كاملة عنك، أنت اله الملائكة والقوات وكل الخليقة وكل عشيرة الصديقين الذين يعيشون في حضرتك. أباركك لأنك منحتني في هذا اليوم وفي هذه الساعة أن احسب في عداد شهدائك، وان اشترك في كأس مسيحك للقيامة لحياة الأبد للنفس والجسد في عدم الموت الذي للروح القدس. ليتك تقبلني اليوم مع مصاف شهدائك لأكون في حضرتك ذبيحة ثمينة مقبولة، لأنك أنت الإله الحق الذي لا يكذب، وقد سبقت وأعلنت (هذا الاستشهاد) يا إله الكل ورب الكل... لأجل هذا أسبحك أباركك وأمجدك في رئيس الكهنة السماوي الخالد والأبدي يسوع المسيح فتاك المحبوب الذي به لك المجد معه ومع الروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور كلها آمين".
وعندما نطق بكلمة "آمين" وختم صلاته أشعل الجند النار فارتفع اللهب عاليًا. أما نحن الذين كنا واقفين فقد رأينا هذه الأعجوبة واحتفظنا بما رأيناه حتى نخبر باقي الأخوة بما حدث.
كانت ألسنة اللهب قد ارتفعت وصارت مثل قوس بشكل قلع مركب الذي يدفعه الريح، وأحاطت النيران بجسد الشهيد مثل حائط وكان هو في الوسط ليس كجسد يحترق بل كخبز ينضج أو ذهب وفضة يصفى في البوتقة، وكنا نشم رائحة بخور وعطر نادر.
أما الأثمة فقد رأوا أن جسده لم تأكله النار فأمروا جلادا بأن يصعد إلى حيث كان مربوطا ويطعنه بحربة. وعندما طعنه خرجت من الجسد حمامة، وبعدما سالت دماء كثيرة حتى أطفأت النار، فذهلت الجموع المحتشدة وأدركت أنه يوجد فرق بين نفوس المؤمنين وغيرهم..
لقد كان الشهيد بوليكاربوس من أبرز مختاري الله، كان في أيامنا رسولياً ومعلماً له روح النبوة، وأسقف الكنيسة الجامعة المقدسة في سميرنا، وكل كلمة نطقها بفمه تحققت وسوف تتحقق.
وحاولنا أن نحصل على جسد الأسقف الشهيد الذي بلا لوم من البداية والذي توج بإكليل عدم الموت ونال الجعالة التي لا توصف، وقد تمكنا من أن نحصل على العظام الثمينة الغالية، ووضعناها حيث ينبغي أن تكون.
هذا هو مصير المبارك بوليكارب الشهيد النبيل، الذي غلب ظلم الوالي ونال إكليل عدم الموت وهو الآن يمجد الله الآب ضابط الكل، ويفرح مع الرسل وكل الأبرار، ويبارك ربنا يسوع المسيح مخلص نفوسنا وسيد أجسادنا وراعي الكنيسة الجامعة الكائنة في العالم كله.
نرجوكم أيها الأخوة محبو الإله أن تسيروا حسب الإنجيل وحسب كلمات ربنا يسوع المسيح الذي به المجد لله الآب وللروح القدس،وأن تسيروا معنا في إثر خطوات المبارك بوليكارب، لكي نرث معاً ملكوت يسوع المخلص لكي نخلص مع المختارين، بركة الشهداء الظافرين تكون معنا آمين.