الروح في سفر أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول
- انسكاب الروح
"ويكون بعد ذلك (بعد فرحة القيامة) أنى أسكب (أفيض... أصب) روحى على كل بشر (الأطفال والفتيان والكبار والشيوخ)... أسكب روحى في تلك الأيام (أيام الفرح... أيام إنتظار الميعاد الذي وعد به الرب لتلاميذه) وأُعطى عجائب في السماء والأرض دمًا ونارًا وأعمدة دخان" (يؤ2: 28 - 30).
(ألسنه نارٍ من السماء وسفك دم على الأرض لأجل إسمى، فتصعد هذه الأرواح كأعمدة من دخان مُعطرة بالمر واللبان مستندة علىَّ أنا الديان).
وهنا نرى رد الفعل سريعًا، وعمل الروح مُبهجًا، وإنسكاب الروح مُعلنًا، حينما وقف بطرس في دوره ليتحدث قائلًا: "في الأيام الأخيرة أنى أسكب من روحى" (أع 2: 17) مع أن يوئيل النبي لم يقل في الأيام الأخيرة، بل أضاف وأفاض الروح على معلمنا بطرس ليشير إلى بدء ملكوت الله على الأرض من تجسد السيد المسيح إلى مجيئه الثانى. هذا هو مفهوم الأيام الأخيرة أو ملء الزمان أو ملء الأزمنة، حينما نزع الرب الملك من إسرائيل وأعطاه لإسرائيل الجديد، ونزع مجد الهيكل القديم ليقيم فينا هيكلًا لروحه...
* هذه هي أعلى درجات الحب... هذا هو فعل إنسكاب الروح العجيب... كل من تذوق الفرح المسكوب الذي أفاضه (سَكَبُهُ) بغنى يسوع المسيح، حينما ظهر لطف مُخلصنا وإحسانه لا بأعمال البر بل بمقتضى رحمته، حينما خُلصنا (تعمدنا) وتجددنا (بالنمو المستمر) بالروح القدس. راجع (تي 3: 4 - 7).
* يعلن مع بولس فرحه:
أولًا: فرح الروح الذي إنسكب بغنى فيه، وأفاضت نعمة ربنا به وجعلت منه إناءً للكرامة... هيكل للروح القدس، هيكل ذهبى من صنع روحه وهبة نعمته...
ثانيًا: فرحة الإنطلاق للسماء، فإن كان كعصفور في قفص ذهبى ولكنه سينطلق للفرح الأبدى...
* أعظم إفاضة متكررة: ذبيحة الصليب (الإفخارستيا) التي ترتبط بفرحٍ دائم وسكب بغنى وأفاضة الروح القدس على الكنيسة... وهذا من خلال: الحمل الإلهى الذبيح إذ تُقدمه الكنيسة للآب بالروح القدس. تقدم الابن الوحيد أى جسده المبذول الذي يسكب عليه وفيه الفرح الإلهى بحلول الروح بغنى فائق وفرح حقيقى. ونوضح هذا من بعض الصلوات السرية التي يقولها الكاهن: "يا الله العظيم الأبدى الذي بلا بداية ولا نهاية. العظيم في مشورته والقوى في أفعاله... كن معنا.. وقف في وسطنا... كما كنت مع تلاميذك تُعزيهم وتريهم ذاتك المقدسة في كل حين... وامنحنا أن نقدم أمامك الذبيحة الناطقة الروحية... لأن إسمك هو طيب مسكوب في كل المسكونة... فاقبل من أيدينا بخورًا روحيًا، يدخل إلى الحجاب في موضع قدس أقداسك"... وننحنى أمام الابن ونقول له: "أنت بصوته وحدك... أنت الحالل في وسطنا الآن... أنت بصوتك وحدك...أنت أرسل روحك القدوس علينا وعلى هذا الخبز وهذا الكأس لكي ينتقلا إلى جسد ودم خلاصنا...
2- إشارة للروح:
أشار العهد القديم في تقدمة الأطعمه التي تقدم من الدقيق المطحون الناعم أن يكون:
1 - قربان من دقيق ويسكب عليها زيتًا ويجعل عليها لبانًا (لا 2: 1) اللبان إشارة للصلاة والبخور.
2- قربان مخبوز في تنور تكون أقراصًا من دقيق، فطيرًا ملتوتة بزيت، ورقاقًا فطيرًا مدهونة بزيت (لا 2: 4).
3 - (مخبوز على صاج تقدمه) دقيق ملتوتة بزيت، فطيرًا. تفتها فتاتًا وتسكب (تصب) عليها زيتًا (لا 2: 5 - 6).
4 - (قربان تقدمة) من طاجن (مطبوخ) فمن دقيق بزيت تعمله (لا 2: 7).
5 - (فريك مشوى) وتجعل عليها زيتًا وتضع عليها لبانًا (لا 2: 14 - 16).
* نلاحظ في هذه التقدمات أن منها ما هو إجبارى وما هو إختيارى. منها ما هو مرتبط بذبائح دموية حسب الطقس وهذه كلها إشارة للمسيح الذبيح الكفارة الذي فدانا بدمه وحياته. لأنه قدم لنا الحياة في خبز الحياة لنأكله ونحيا ونشبع به.
* هذا الذي مسحه الله (أع 10: 38) منذ الأزل (ملتوت بالزيت = واحد مع الروح القدس). مسحه بدهن الإبتهاج أفضل (أكثر) من كل (المسحاء والأنبياء).
فالمسيح هو عطية (تقدمة. هبة. هدية) الآب لنا، وجسده المبذول (المسيح) هو هبته وهديته وتقدمته لنا. لقد قدم لنا ذاته لنقترب إليه ونتحد به (الذبائح الدموية إشارة لسفك دم المسيح، والذبائح التي من الدقيق إشارة لجسد المسيح، وكانا الإثنين متوازيين في العهد القديم).
* فإن كنت عاجزًا أن تقدم كل حياتك كذبيحة محرقة أى مكرسة لله... فقدم عملك اليومى قربانًا (دقيق مطحون... تتحمل الآلام) دقيق ناعم (لطيف متواضع) مخبوز (مُتحدًا بإخوتك) ملتوت بالزيت (مُتحدًا بالروح) ممسوح بالزيت (مصلحًا مستنير بنعمة الروح) فاستمر بالجهاد والصراخ والطلب حتى يسكب فيك زيت رحمته، أى يملأك بروحه لكي يضئ ويشرق عليك وفيك بأعماله ويهدى سلوكك وتصرفاتك اليومية، لكي نصير ملوكًا (متسلطين على شهواتنا) وكهنة (نقدم ذبيحة أجسادنا حية مُقدسة مرضية عبادتنا العقلية) (رؤ 5: 10) ونكون أنبياء مُسحاء (نحمل أسرارًا عظيمة جدًا وهامة للغاية خاصة بالأبدية) ونكون شركاء المسيح محاربين به الشيطان. لا ندهن رأسنا بدهن الأشرار (مز 141: 5) أى المكر والشر و... بل حاملين روحه (1كو 6: 17).
* قبل التقدمات: قال الله لموسى: "قدم هارون وبنيه إلى باب الخيمة (ليكن وسيطًا وشفيعًا بين الله والناس) وأغسلهم بالماء (حمام كامل - رمز للتقديس) وخذ الثياب وألبس هارون... (كأنه لبس المسيح) وخذ زيت المسحة وأسكب (صُب) على رأسه وأمسحه (إشارة لمسحة وحلول الروح القدس) راجع (خر 29: 4 - 7) ثم يتقدم للذبح (الصليب).
يلاحظ أن سكب الزيت على رئيس الكهنة فقط؛ لأنه رمزٌ للمسيح الذي بعد أن لبس جسدنا نزل الأردن فظهر واستقر عليه الروح مثل حمامة لكي يتقدم للخدمة والصليب.
ومن هنا نقف ونرجع إلى سفر التكوين لنتعرف على:
3 - بدء فكرة إنسكاب الروح:
"فخرج يعقوب من بئر سبع (خرج من خيمته إلى الحرمان من العطف والتدليل)... وأخذ من حجارة المكان ووضعه تحت رأسه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فاضطجع في ذلك المكان ورأى حُلمًا (قال له الرب:... ها أنا معك وأحفظك حيثما تذهب...) فاستيقظ يعقوب من نومه وقال: حقًا أن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم!... وبكر يعقوب... وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودًا، وصب زيتًا على رأسه" (تك 28: 10 - 18)
ما أجمل فكر أبونا يعقوب وما أروع ما نظره. لقد نظر سلمًا من الأرض للسماء والرب فوق السلم. لقد كان الروح القدس ماشيًا معه ينبهه ويرشده ويعمل به.
وهنا نسأله: ما معنى أنك تصب زيتًا على رأس العمود؟ فيقول: حاولت أن أُمسك الرب فلم أقدر. حاولت أن أجعل له بيتًا أسكن معه وهو معى فلم أقدر، ولكن الرب الذي حفظنى هو الذي جعل خالى لَبان يُضيق علىَّ وغير أُجرتى في عشرين سنة عشر مرات، فقلت له: لولا أن إله إبراهيم وهيبة إسحق معى لكنت قد صرفتنى فارغًا.
ورجع يعقوب إلى بيت إيل حيث العمود الحجرى، "فنصب يعقوب (ثانيًا) عمودًا في المكان الذي فيه تكلم (الله) معه، عمودًا من حجر وسكب عليه سكيبًا وصب عليه زيتًا" (تك 35: 6 - 14)
كان يعقوب مُصممًا على نفس المكان ونفس العمود أن يكون بيتًا للرب، والحجر الذي كان تحت رأسه هو حجر الزاوية الذي صار أساس الكنيسة في العهد الجديد. فوافق الله يعقوب وقبل من يده هذه المسحة ليحل ويسكن ويلتصق بشعبه بأولاده.
4 - إنسكاب الروح:
إنسكاب الزيت في العهد القديم هو إشارة ورمز لإنسكاب الروح في العهد الجديد. ولو قولنا عندما سكب يعقوب الزيت على الحجر كأنه يريد أن يقول أن هذه الحجارة سوف تأتى بأولاد لإبراهيم.
وإنسكاب الزيت على رئيس الكهنة كأنه يشير إلى المسيح المملوء من الروح رئيس كهنتنا، والتقدمة الملتوتة بالزيت أشارت إلى جسد المسيح المتحد بروحه منذ الأزل، إذًا كل هذه كانت رموزًا فقط لإنسكاب الروح، ولكن لم يحدث إنسكاب للروح إلا بعد أن صعد المسيح فانسكب الروح على الكنيسة ومنهم بولس الرسول الذي تغنى وقال: "محبة الله إنسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا" (رو 5: 5)
* الآب يُعطينا حب أبوى حقيقى، وندعوه: يا أبانا الذي في السموات.
والابن عريس نفوسنا يهيئ لنا جميع أنواع الحب وما تحتاجه النفس من عطف وطول أناه ومعرفه و..
والروح القدس يُعطينا أن نحب الله بشدة ونقول: "من سيفصلنا عن محبة المسيح" (رو 8: 35) "ومحبة المسيح تحصرنا" (2 كو 5: 14) ونصرخ: "يا أبا الآب" (غلا 4: 6)
* فبالجهاد المستمر نمتلئ بالروح الذي يسكب كل هذا في قلوبنا.
* من يمتلئ وينسكب فيه الروح يملأ ويسكب ويفتخر، كما أفتخر بولس بأهل فيلبى الذين بشرهم بالإيمان الحى وهم أعلنوا كلمة الحياة. فقال لهم: هذا فخر لي في يوم المسيح، والآن كأننى في ميدان حرب وسباق منتظر مكأفاة، وبما أنكم قبلتم الآلام بسبب الإيمان وقدمتم نفوسكم ذبيحة حية، الآن أسكب حياتى على ذبيحة إيمانكم، والله نفسه يفرح بالحب والبذل؛ لأنه هو سكب نفسه (إش 53: 12) وقدم لنا الحياة بحياته. راجع (في 2)
* لقد رجع بولس الرسول بفكره كناموسي وفريسى قديم إلى كل ما سبق وأشار إليه هنا، وقال: "إنى الآن أسكب سكيبًا" (2تي 4: 6) إنى فرحان بفرح روح إلهى الذي ملأ كيانى وأكمل رسالتى وخدمتى، وساعدنى في جهادى الحسن، ودشننى كبيتٍ لسكناه للأبد. فالآن صرت سكيبًا وذبيحًا أقدم نفسى ذبيحة لله... هأنذا أقدم ذاتى قربانًا لله.
الرب الذي قال: "أنى أسكب ماءً على العطشان وسيولًا على اليابسة، أسكب روحى على نسلك وبركتى على ذريتك" (إش 44: 3).
هو الذي نتضرع إليه مع داود النبي ونقول: "أسكب أمامه قلبى" (مز 62: 9) حتى يسكب فينا الحكمة والمعرفة والإستنارة. راجع (سي 1: 24).