ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ
المزمور الرابع والثلاثون
1. المزمور الرابع والثلاثون هو مزمور ينشده المؤمن للرب ليشكر له خلاصه من الشدائد والمخاطر. وهو مزمور تعليميّ عن ثواب الأبرار العائشين بمخافة الله، وعقاب الأشرار الذين يرضون التأديب. وهو أخيرًا مزمور أبجديّ (22 آية). ينتهي بآية ختاميّة تكوّن خلاصة المزمور: يخلّص الربُّ نفوسَ عبيده، المتّكلين عليه.
2. أبارك الرب كل حين، لأنه يفدي نفوس أحبّائه.
آ 2- 4: يبدأ المرتّل نشيد شكره، فيبارك الرب الذي يخلّص البائس، ثم يدعو الذين حوله إلى مشاركته في نشيده: عظمّوا الرب معي، ولنرفع اسمه جميعًا.
آ 5- 7: يروي المرتّل كيفً اختبر شخصيًا معونة الرب له في حياته: إلتمست الربَّ فاستجاب لي.
آ 8- 11: تأكّد المرتّل هذه المرّة أيضًا أن الرب يحمل الخلاص لأحبّائه: ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ. يذكر المرتّل ملاك الربّ، الذي هو تجسيد لحضور الرب وعونه (خر 14: 19) والذي يحيط بأحبّاء الرب ليحميهم من كل شرّ (زك 9: 8). ثم يذكر القديسين، وهم سكّان صهيون الجديدة الذي ينتظرون من الرب كل خير (أش 4: 3). ويهدّد الأغنياء المنافقين (أي 27: 13- 14) بالجوع والعطش (أش 65: 13). أما من يلتمس الرب فلا يخشى العوز.
آ 12- 13: ثم استخلص المرتّل عبرة ممّا نعم به من خيرات الرب، فحدّثنا حديث معلّمي الحكمة (أم 5: 7؛ 7: 24) وشدّد على مخافة الله التي تملأ قلب الانسان وتقرّبه إلى الله (تث 4: 10: أسمعهم كلامي لكي يتعلّموا مخافتي). وهكذا يعلّمنا المرتّل الحكمة الحقيقيّة المبنيّة على المخافة، وهي وحدها توجّه حياتنا لتكون نشيدَ شكر للرب: إبتعد عن الشر واعمل الخير واطلب السلام، لأن الرب قريب من الصدّيقين.
3. إلتماس وجه الله: إلتمست الربّ فاستجاب لي، لأن عينيه إلى الصدّيقين لترعاهم.
المساكين والبائسون هم حصّة الله، وهو يهتمّ بهم بصورة خاصة: يسمع البائسون فيفرحون. البائس يدعو فيسمع الرب. الرب قريب من منكسري القلوب ويخلّص منسحقي الروح.
مقابلة بين الصدّيق والشرّير. يسمع الرب صراخ المسكين وينقذه من جميع شدائده وينظر بغضب إلى فاعلي السوء ليمحو من الأرض ذكرهم.
4. إن الله قد خلّص، في شخص يسوع، الصدّيق المضطهد، فلم ينكسر عظم من عظامه (يو 19: 36)، وكانت قمّة هذا الخلاص قيامته من بين الأموات. ويحدّثنا هذا المزمور عن طريق البر والقداسة كما ورد ذكرها في رسالة القديس بطرس الأولى (3: 10- 12): "من أراد أن يحبّ الحياة... فليمسك لسانه عن الشرّ"... لأننا عندما نعيش بحسب وصايا الله، نذوق ونعرف ما أطيب الربّ (1 بط 2: 3). وعندما تُنشد الكنيسة هذا المزمور، تشكر لله عطاياه، وتدعو أبناءها البائسين المساكين إلى أن ينظروا إلى الربّ رغم حقارتهم، وهو وحده ينجّيهم بعونه ويسعدهم بحضوره.
5. نسبة المزامير إلى داود
نقرأ في الآية الأولى من هذا المزمور: لداود، تظاهر بالجنون مع أبيمالك، فطرده فانصرف. وهناك مزامير عديدة منسوبة إلى داود. ولكن عمَّم التقليد اليهوديّ هذه النسبة وتبعه في ذلك التقليد المسيحيّ القديم، فنسب كل المزامير إلى داود. فصدّق الناس هذه النسبة، وربطوا إيمانهم بوجود هذه العناوين في بداية المزامير. أما نحن فلن نتوقّف عند هذا القول بحرفيّته، ولكننا لا ننكر نسبة بعض المزامير إلى داود. وسنعود إلى العناوين التي تورد حادثة من حياة داود أو من حياة الله فنبيّن علاقتها بالمزمور.
نحن لا ننكر الموهبة الشعرية عند داود الذي أعطى ولا شكّ نفحة جديدة لشعر وُجد قبله، والذي ألفّ بعضَ المزامير لتُنشد في احتفالات أورشليم. ولكن يجب أن لا ننسى التقليد الحيّ الذي دخل فيه هذه المزامير. فهي صلوات شعب، ولكنها لم تكن جامدة ومتحجّرة يردّدها المؤمنون دون أن يبدّلوا فيها شيئًا. بل كانت صلوات مميّزة يستعيدها كل واحد، ويكيّفها حسب الظروف التي يعيش فيها.
ما اكتفوا بترديد المزامير بل أوّنوها. وأعادوا صياغة بعض المزامير بعد أن عاشوها من جديد، وألّفوا بعضًا آخر بحسب طريقة داود. فمن أراد أن يكتشف كل ما زادته الأجيال على مزمور من المزامير يدخل في متاهة لا يخرج منها.
أما بالنسبة إلى داود، فلها مضمون لاهوتيّ ومسيحانىّ. عاد أحد الكتبة إلى تاريخ الشعب والى تاريخ داود، فأشرك الشعب في هذا التاريخ العظيم. فحين يصلّي المؤمن، يصبح داودًا آخر. لن يعود هو بذاته، بل يحيا فيه داود، ويُنشد فيه داود. وهكذا يصبح كل واحد فاعلاً جوهريًا في تاريخ الخلاص.
ونتساءل في هذا المزمور: لماذا نسب الكاتبُ هذا المزمور الأبجدي إلى داود وهو يتظاهر بالجنون؟ بسبب كلمتين (في آ 9) موجودتين في 1 صم 21: 14. ولكن يتبادر سؤال آخر: كيف أخطأ الكاتب فخلط بين أبيمالك، ملك جرار (تك 20: 1- 2) وأخيش ملك الفلسطيين (1 صم 21: 13- 15)؟ من الممكن أن النصّ كان: أخيش ملك جت، فصار أخيش ملك ثم أبيمالك. إذًا، هناك خطأ يعود إلى الكاتب. ولكن العبرانيّ يتعبّد للنص فلا يمسّه حتى وإن كان هناك خطأ. أما نحن، فنعتبر أن معنى المزمور في كلماته الروحيّة لا في مقدّمته التاريخيّة التي لا تُغني قارئ اليوم بأي غنى.
6. "عظّموا الرب معي". من هو ذاك الذي يحرّضنا على أن نعظّم الربّ معه؟ أيها الإخوة، على كل الذين هم في جسد المسيح أن يفعلوا دومًا ما يستطيعون لكي نمجّد الرب معهم. فكلّهم يحبّون الربّ. وكيف يحبّونه؟ بدون حسد من الذين يجب عليهم أن يحبّوه. فالذي يحبّ بحسب الجسد، يحبّ بالضرورة بجسد يشبه الوباء. لنفترض أنه استطاع بعد جهد جهيد أن يرى عري تلك التي يرغبها حبُّه الموبوء، فهل يرضى أن يراها غيره مثله؟ بل إن الحسد والغيرة تؤلمانه.
ليس الأمر كذلك في ما يتعلّق بحكمة الله: سنراها وجهًا لوجه، ونراها جميعًا، ولن يحسد بعضنا بعضًا. هي تظهر (الحكمة) للجميع، كلها للجميع، عفيفة للجميع. ويتحوّل "عشّاقها" بها. وليست هي التي تتحوَّل إليهم. إنها الحقيقة. إنها الله. وهل سمعتم أيها الإخوة أن الله يتبدّل؟ إنها للجميع الحقيقة الحقيقية، إنها كلمة الله.
ولكن ماذا يقول حبيبها هنا؟ "عظّموا الربّ معي". لا أريد أن أكون وحدي حين أعظّم الربّ. لا أريد أن أكون وحدي حين أحبّه، حين أضمّه إلى صدري. فحين نقبّله، لا نظنّ أن واحدًا آخر لا يستطيع أن يقبّله أيضًا. هذه الحكمة هي واسعة جدًا بحيث يستطيع الجميع أن يضمّوها إلى صدرهم ويبتهجوا بها...
"طلبت الرب بحرارة فاستجابني" (آ 5). أين يستجيب لك؟ في الداخل. أين يعطي ذاته؟ في الداخل. فحيث تصلّي، هناك يستجيب لك، ويمنحك السعادة. أنت صلّيت واستُجبت ونلت السعادة، ولم يعرف قريبك بما حصل لك. كل شيء قد تمّ في الخفية، كما يقول الربّ في الانجيل: "أدخل مخدعك وأغلق بابك عليك، وصلِّ في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك" (مت 6: 6). أن تدخل إلى غرفتك يعني أن تدخل إلى قلبك. طوبى للذين يعرفون الفرح حين يدخلون إلى قلبهم لأنهم لن يجدوا فيه شرًا. (أوغسطينس).