حياة الفضيلة بين الهدف والوسيلة
كلنا تقريبًا نتفق في الأهداف أو الأغراض، ما دام الهدف سليمًا وخيرًا. ولكننا نختلف في الوسائل المؤدية إلي الهدف..
فما هي أسباب اختلاف الوسائل إذن؟
سببها اختلاف الفكر والعقل. كل منا له فكره الخاص ونظرته الخاصة إلي الأمور. كذلك تختلف الأفكار في درجة الذكاء، وبالتالي في الاستنتاج وفي الحكم والتقدير. ويختلف الناس أيضًا في الطباع وفي نوع النفسية. كذاك يختلفون من جهة البيئة المحيطة بكل منهم ومدي تأثيرها عليه.
لذلك نجد أناسًا طيبين، ويريدون الخير. ومع ذلك فوسائلهم مختلفة.
كل واحد له طريقته وأسلوبه، وله منهجه الخاص في الوصول إلي الغرض. ولهذا كثيرًا ما يحدث خلاف في العمل الجماعي. سواء في كنيسة أو جمعية أو لجنة أو أية هيئة.
أحيانًا يوجد تنوع، وأحيانًا يوجد اختلاف وخلاف.
ونحن لا نعترض علي التنوع، فهو يؤدي إلي ثراء في الفكر وفي الخبرة. أما الاختلاف فكثيرًا ما يتسبب في انقسام وصراعات. وربما يتحول من الموضوعية إلي خلاف شخصي، وربما إلي خصام وإلي عداوة.
ففي موضوع الإصلاح مثلا:
كلنا نحب أن تنصلح الأمور. من منا لا يريد ذلك؟! ولكن يختلف الأسلوب.
* إنسان يقول نصلي ونصوم، والله يتدخل ويصلح كل شيء.. ويري أن هذا هو الأسلوب الروحي السليم.
* وآخر يقول تنصلح الأمور بالصبر، بطول الأناة. فالكتاب يقول "بصبركم تقتنون أنفسكم" (لو19:21)." انتظر الرب. تقو وليتشدد قلبك وانتظر الرب" (مز14:27).
وثالث يري أن الإصلاح يأتي عن طريق الحكمة والتفكير والتفاهم.
* ورابع أسلوبه في الإصلاح هو العنف، عن طريق النقد الشديد، والمنشورات والتجريح والتشهير. ويقول إن هؤلاء المخطئين لا يصلحهم إلا اتخاذ الشدة معهم..
* وخامس يجب أن تنصلح الأمور بالوداعة والهدوء، بأسلوب متضع لا تفقد فيه روحياتنا ولا نفقد فيه علاقتنا مع الآخرين، والكتاب يقول "لتصر كل أموركم في محبة" (1كو14:16).
لا شك أن أسلوب حبيب جرجس في الإصلاح، كان يختلف عن أسلوب غيره وكانت دعامته العمل البناء، والبعد عن السلبيات.
لذلك إن اشتركت مع أحد في عمل ما، أو من أجل خير ما، لا يكفي أن يكون مشتركا معك في الهدف والغرض، وإنما ينبغي أن يكون أيضا مشتركا معك في الوسيلة وأسلوب العمل. لئلا تكون طريقته في تنفيذ المشترك غير طريقتك، فتختلفان معًا، أو يسبب لك مشاكل باعتباركما شريكان في عمل واحد.
لذلك أن اشتركت مع أحد في عمل ما أو من أجل خير ما، لا يكفي أن يكون مشتركا معك في الهدف والغرض، وغنما ينبغي أن يكون أيضا مشتركا معك في الوسيلة وأسلوب العمل. لئلا تكون طريقته في تنفيذ الغرض المشترك غير طريقتك، فتختلفان معا، أو يسبب لك مشاكل باعتباركما شريكان في عمل واحد.
العجيب في مسألة الوسيلة هو المبدأ المكيافيللي:
فيظن البعض أن الهدف الطيب يبرر الوسيلة الخاطئة!
وهذا ما كان يقوله مكيافيللي إن "الغاية تبرر الوسيلة".
فإنسان باسم الغيرة المقدسة مثلا، يستخدم العنف في الكنيسة، ويصيح وينتهر ويوبخ ويشتم، وربما يفع قضايا. وإن عاتبته أو ناقشته في كل ذلك، يحتج بقول المزمور (غيرة بيتك أكلتني) (مز9:69). ولكننا نقول لمثل هذا:
إن الغيرة المقدسة تناسبها وسيلة مقدسة.
وبالمثل أب يقسو جدا علي ابنه يعقده نفسيا، ويحتج بغرض مقدس هو تربية ابنه! إن الغرض سليم، ولكن الوسيلة خاطئة. أو زوج يحبس زوجته في البيت، ويقيد كل تحركاتها وكلامها، بحجة الحفاظ عليها!! الوسيلة أيضا خاطئة..
أو أم تتدخل في صميم الحياة الزوجية لابنتها، وعلاقة هذه الابنة بزوجها. وقد تتسبب في فصلها عن زوجها. وتتخفي وراء هدف مقدس هو الحرص علي ابنتها، وضمان راحتها وكرامتها.
وكثيرا ما ضيع الناس أنفسهم وعلاقاتهم، بالوسيلة الخاطئة.
شخص يسعى إلي مصالحة غيره. هدف سليم بلا شك. ويري أن الوسيلة هي العتاب لا مانع. ولكنه في طرية العتاب، يعيد الأوجاع والجروح القديمة، ويضغط عليها بأسلوب يتعب الطرف الآخر. ويخرج من العتاب وقد ساءت العلاقة عن ذي قبل، لأن طريقة العتاب كانت خاطئة. وبعكس ذلك إنسان آخر يستطيع بالعتاب أن يكسب الموقف بل يجعل الطرف الآخر يتفهم الموقف، ويعتذر له، ويخرجان صديق كأن شيئًا لم يكن..
العتاب هو العتاب. ولكن طريقته عند واحد مقبولة ومُجْدِية. وعند آخر متعبة ومؤذية، وتأتي بعكس المطلوب..
إنسان يعاتب بطرية، والآخر يعاتب بطريقة ساخطة.
الأول يعاتب بحب وعشم. والثاني يعاتب بحقد وانتقام.
هذا يريد أن يصالح. والآخر يريد أن يثبت للطرف الآخر أنه مخطئ، ويستحق ما ناله منه!!
ثلاثة أشخاص مثلًا يصيرون أعضاء في مجلس الكنيسة.
كل واحد منهم غرضه طيب، يريد الخير للكنيسة بلا شك. ولكنهم لاختلافهم في الأسلوب والطريقة لا يستطيعون أن يعلوا معا!! فأحدهم يحب أن يعمل متعاونا مع الأب الكاهن،والآخر يقول: كل إدارة الكنيسة لنا، والكاهن له العمل الروحي فقط، ولا شأن له بالمشروعات والأمور المالية والإدارية والمعمارية. وهكذا يصطدم بالأب الكاهن وبزميله في عضوية الكنيسة. لأن أحدهما كان أسلوبه التعاون. والآخر كان أسلوبه السيطرة..
المجالس الملية كمثال آخر.
هي نفس المجالس منذ أكثر من مائة عام، وبنفس الاختصاصات ونفس طريقة الانتخابات. ولكنها الآن في تعاون مع الإكليروس. وقديما كانت في صراعات وانقسامات وقضايا. والسبب هو أن الأسلوب تغير عن ذي قبل، سواء من
جهة الإكليروس أم من جهة المجالس الملية..
لنأخذ غرضا هو الوصول إلي الله..
إنه هدف واحد يتفق فيه الكل. ولكن تتعدد الوسائل. البعض يريد أن يصل إلي الله عن طريق الرهبنة. والبعض عن طريق الكهنوت. والبعض عن طريق التكريس. والبعض عن طريق الخدمة، مع حياة الزواج المستقر، وبناء المجتمع وتنشئة جيل جديد تنشئة روحية.
نقول: هنا تنوع، ليس هو اختلافًا. ولكن يحدث الاختلاف حينما يري البعض أن طريقه هو الطريق الوحيد السليم، وينتقد غيره من الطرق!! أو يحاول تحطيمها!!
يمكن أن يوجد تنسيق وتكامل وتعاون بين الطرق المتنوعة المتعددة الواصلة إلي غير واحد. ولكن يحدث التصارع بين الطرق المتناقضة.
نتطرق إلي موضوع آخر هو تربية الأولاد..
كل الناس يريدون تربية أولادهم تربية سليمة. إنه هدف يتفق فيه الجميع. ولكنهم يختلفون في أسلوب التربية..
فالبعض يمنحون أولادهم الحرية الكاملة، كما حدث في كثير من بلاد الغرب وحينما يكبر الأولاد لا يصبح لآبائهم وأمهاتهم أية سلطة عليهم. ويبررون أسلوبهم في التربية بأنهم يريدون للابن أن يكون له شخصيته المستقلة التي لا تقع تحت ضغط.
هناك أسلوب آخر يلجأ إليه إلا بإذن، ولا ينضم إلي ناد أو إلي أية أنشطة، وهذا التضييق يوجد عنده كبتا تكون له ردود فعل سيئة في المستقبل.
وهناك طريق وسط في التربية بين هذين الأسلوبين. لا هو بالحرية التي فيها تسبب ولا بالتشديد الذي فيه تقييد..
أسلوب أب يصادق ابنه. ويشرح ويعلم ويقنع ويحاور.
ولاشك أن الإقناع -ولو قد يأخذ وقتًا وجهدًا- إلا أنه يوجد حافزًا في الداخل، أفضل بكثير من الأوامر والنواهي التي هى مجرد ضغوط من الخارج تربية الأولاد إذن هى هدف مشترك. ولكن البعض يستخدم فيه السلطة والهيبة، والبعض يستخدم الصداقة والحب. والبعض يستخدم الحرية والسلبية إنها وسائل مختلفة لهدف واحد.
نفس الوضع نقوله في معاملة المخطئين.
كلنا نكره الخطأ ونأخذ من أصحابه موقفًا معارضًا. هنا غرض واحد، ولكن الوسائل تختلف فالبعض يبعد عن المخطئين، ينعزل عنهم ولا يختلط بهم. والبعض يأخذ منهم موقف المقاومة، ويرد لهم بالمثل، ويحاسبهم على كل خطأ. ولا يترك الأخطاء تمر بسهولة، أو بدون مؤاخذة.
والبعض يحاول أن يصلح هؤلاء ويكسبهم، ربما بالحب والصبر، وربما بالمواجهة والإقناع.. المهم أنه يوصلهم إلى الله وإلى الطريق السليم، ويربح نفوسهم..
هناك نقطة أخرى أقولها في موضوع الهدف والوسيلة وهى أنه:
كثيرا ما تتحول الوسيلة إلى هدف!!!
الهدف الروحي الوحيد هو الله. وما الصلاة والصوم والقراءة والتأمل والوحدة سوى وسائل توصل إلى هذا الهدف. كذلك الفضائل هي مجرد وسائط توصل إلى الهدف الذي هو الله.. ولكن للأسف، قد تتحول هذه الوسائط كلها إلى أهداف..!!
* فإنسان يقرأ الكتب المقدسة والكتب الروحية. والمفروض أن هذه القراءة توصله إلى محبة الله والثبات فيه. ولكن قد تتحول القراءة نفسها إلى هدف. فالمهم عنده أن يقرأ، ولو من غير فهم، ولا تأمل ولا تداريب روحية0
*أو قد يتغير الهدف الروحي في الطريق.
ويقرأ الإنسان لكي يكون عالما، أو لكي يكون معلما. ولكي يبدو كثير المعرفة واسع الإطلاع، يجيد الكلام في أي موضوع يتحدث فيه أو يسألونه عنه.. وأين الله هنا؟ لقد اختفى، لكي تظهر الذات، ولكي تظهر المعرفة والعلم..
* وكما تتحول القراءة إلي هدف، هكذا تتحول الوحدة..
المفروض أن الإنسان يسعى إلي الوحدة لكي يجد وقتا هادئًا صافيًا يجلس فيه الله. فإن لم يجلس في وحدته مع الله، يكون الهدف الروحي الحقيقي قد أختفي. وتصبح الوحدة هدفا في ذاتها، حتى لو كان فيها الشخص نائما أو في ملل أو ضجر، أو في حروب الأفكار..
* أو قد يتغير هدف الوحدة، ويتحول إلي الذات.
فيجلس إنسان في الوحدة، لمجرد أن يقال عنه أمه أنه متوحد.. سعيا وراء الشهرة أو ألقاب. وليس من أجل الله.
أو قد تعطيه الوحدة فرصة لسعي الناس إليه، وتحوله إلي مرشد أو مانح للبركات التي يلتمسونها منه..
لهذا ينبغي أن يراجع الإنسان هدفه.
ويتحقق أن الوسيلة توصله إليه.
ويتأكد أن الهدف سليم وروحي، وأنه لم ينحرف عنه إلي هدف آخر، وأنه يستخدم الوسائل العليمة التي تحقق هدفه الروحي، بحيث تبقي هذه الوسائل مجرد وسائط ولا تتحول إلي أهداف.
*نقول نفس الكلام عن الصمت.
إنه مجرد وسيلة توصل إلى أمرين: أحدهما هو البعد عن أخطاء اللسان. والثاني أن تكون لنا عن طريق الصمت فرصة للصلاة والتأمل.. فإذا كان الإنسان مجرد صامت، دون أن يكون له عمل روحي داخلي، لا يكون الصمت قد حقق هدفه.
وإن كان صامتا، واستبدل الكلام بإشارة أو إيماءة تعبر عما يريد أن يقول، فهو أيضا في مستوى المتكلم.
وإن كانت الأخطاء التي أراد أن يتفاداها بصمته، لا تزال باقية معه، ولكنها تحولت فقط من أخطاء لسان إلى أخطاء لسان إلى أخطاء فكر، فما المنفعة أيضا من صمته؟
إنه قد صمت ليبتعد عن إدانة الآخرين، وهاهو لا يزال يدينهم بفكره وقد صمت ليبعد عن كلام الغضب، ولكنه مازال غاضبًا في قلبه.
الأخطاء موجودة لم يمنعها الصمت، وإنما حولها إلى القلب والفكر. وفى كل ذلك الهدف الروحي لم يتحقق.
* نقول نفس الكلام أو ما يشبهه عن الصوم.
لماذا نحن نصوم؟ هل لمجرد الصوم، كما لو كان الصوم هدفا في ذاته؟ أم نصوم لكي نوجد في فترة روحية تساعدنا على الوصول إلى الله؟؟ نمنع أنفسنا عن أكل ما، فهل نحن نحرص في صومنا أن يوصلنا إلى هذا الهدف الروحي.
أم نصوم لمجرد الصوم، بلا هدف؟ وبلا غاية، وبلا نتيجة
* وكذلك الصلاة: ما هدفها في حياتنا؟ أو ماذا تحققه من هدف؟ هل نصلى بهدف التمتع بعشرة الله والحديث معه؟ أم لمجرد أداء واجب؟ حتى لو كانت صلواتنا بغير روح، ولا عاطفة، ولا حرارة، ولا عمق، ولا حب، ولا أي شعور بالوجود في الحضرة الإلهية
ليت صلواتنا تحقق هدفها الروحي، ونشعر فيها أننا نتحدث مع الله ونتمتع بعشرته.
ونضع الصلاة في موضعها السليم، أنها مجرد وسيلة توصل إلى هدف، ويجب أن نجاهد روحيا للوصول إلى هذا الهدف.
نفس الكلام نقوله عن المزامير والتسبحة والألحان..
نلاحظ أنه كلما ازداد حفظ الإنسان للمزامير والتسبحة، كلما ازدادت سرعته في التلاوة، وعلى هذا القدر ما أسهل أن يقل فهمه لما يقول.. وما أسهل أن ينشد لحنا، أو قطعة من الابصلمودية، أو يتلو مزمورا، دون أن يصل إلي عمق ما يقوله.. وكأن اللحن قد صار هو الهدف. أو قد صارت التلاوة هدفًا..
وهنا نسأل: متى يمكننا أن نحقق في أعماق قلوبنا وفهمنا الهدف الروحي الذي من أجله وضعت المزامير والألحان والتسبحة؟
متى تدخل فيها العاطفة والحرارة والتأمل والفهم وروح الصلاة؟ متى لا نهتم بالكثرة وإنما بالعمق. لا بعدد المزامير، إنما بعمقها وروحانيتها..